مركبات البولي كربونات: مادة متينة
تدخل المصادفة في مجال البحث الكيميائي بطرق شتى لتوفِّر فرصًا للاكتشافات. وهي تتمثَّل أحيانًا في الوجود غير المعروف لملوِّث في مادة بادئة، كما في اكتشاف الإثيرات التاجية الذي أدَّى إلى حصول كلٍّ من تشارلز جيه بيدرسين ودونالد جيه كرام وجون-ماري لين على جائزة نوبل في عام ١٩٨٧ (انظر الفصل السادس والثلاثين). وأحيانًا، تتمثل في الوجود العَرَضي لعامل محفِّز كما في بلمرة الإثيلين التي أجراها الكيميائيون البريطانيون استجابةً للضرورة المُلحة لإنتاج العازل المثالي المطلوب لأجهزة الرادار (انظر الفصل السادس والعشرين). وأحيانًا، تكون بسيطة مثل عدم وجود المادة الكاشِفة المطلوبة في المخزن واستبدال مادة أخرى بها.
إن عامل المصادفة الأخير هو ما أدَّى إلى اكتشاف فئة مفيدة من البوليسترات في معمل بحثي تابع لشركة جنرال إليكتريك. والبوليستر المكتشَف ليس النوع الذي نصنِّع منه ملابسنا، لكننا رغم ذلك نصادفه كل يوم تقريبًا. وربما لا تعرفه باسم البولي كربونات، لكن ربما يكون لديك ممتص صدماتٍ، أو مصباح خلفي في سيارتك مصنوع منه، أو ربما تجلس في طائرة نفَّاثة بجانب نافذة مصنوعة منه، أو قد تشاهد الرؤساء أو الزعامات الدينية وهم يستقلون سيارة محميَّة بغطاء مصنوع منه. عندما تصادف هذا المركب في أية صورة من الصور السابقة، كُنْ ممتنًّا لدانيال فوكس الذي لم يعثر على المادة التي كان يريدها في المخزن في ذلك اليوم في عام ١٩٥٣.
عُهِد إلى الدكتور فوكس — الذي أتمَّ رسالة الدكتوراه الخاصة به في جامعة أوكلاهوما قبل ذلك بعامين — في المعمل البحثي لشركة جنرال إليكتريك في مدينة سكنيكتدي؛ بمهمة إنتاج مادة عازلة للأسلاك الممغنطة الكهربائية حتى لا تتحلَّل في درجات الحرارة والرطوبة العالية. وفي إحدى الجلسات التخطيطية الخاصة بمجموعة العمل، أعرب أحدهم بصوتٍ عالٍ عن أمنية له قائلًا: «ليتنا نكتشف بوليستر مستقرًّا مقاومًا للتحلُّل المائي (أيْ لا يتحلل بالحرارة والرطوبة)!» ولامَسَ هذا وترًا في ذاكرة فوكس: ففي مشروع بحثي له بعد حصوله على درجة الدكتوراه في العام السابق على ذلك، اندهش حين وجد أن إستر كربونات لمركب فينولي اسمه الجاياكول كان مُقاوِمًا على نحوٍ غير متوقَّع للتحلُّل المائي (اندهش لأن معظم المركبات من هذا النوع تتحلَّل بفعل الماء)؛ لذا، ذهب إلى المخزن للحصول على مركب كيميائي قريب كيميائيًّا إلى الجاياكول، وهو ثنائي الجاياكول، وهو مركب اعتقدَ أنه سيكوِّن روابط عند طرفَيْ جزيئاته، وبالتالي يُنتِج البوليستر المطلوب.
لحسن الحظ — كما اتضح فيما بعدُ — أنه لم يكن يوجد ثنائي جاياكول في المخزن، وهذا ما جعل الدكتور فوكس يستقر على مُركَّب قريب كيميائيًّا اسمه ثنائي الفينول-إيه. وكان هذا المركب رخيصًا ومتاحًا؛ لأنه أحد المكوِّنات في الراتنجات الإيبوكسية، التي ظهرت توًّا بالأسواق في ذلك الحين. وبعد عدة تجارب تم فيها تسخين ألكيلات الكربونات مع ثنائي الفينول-إيه وفشلت في تقديم أي شيء مبشِّر، سخَّنَ فوكس مركبًا أروماتيًّا هو ثاني فينول الكربونات مع ثنائي الفينول-إيه، ومع تقطير المنتج الفرعي المتوقَّع للتفاعل، وهو الفينول (الذي هو سائلٌ درجةُ غليانه عالية) من إناء التفاعل، أصبحت محتويات الإناء أكثر لزوجةً. وتم رفع درجة الحرارة وتخفيض الضغط تدريجيًّا لإزالة الكثير من الفينول ذي درجة الغليان العالية، واستمر هذا حتى توقَّفت القلَّابة الميكانيكية عن اللَّف بسبب تعطُّل المحرك الذي يشغلها.
سُحِقت تلك المطرقة (كتلة المنتج) وأُلقيت على الأرض الأسمنتية دون أن يظهر لها تأثير، كما أنها استُخدِمت لطَرْق بعض المسامير على لوح من خشب الصنوبر. وفي النهاية، نُشِرت أجزاء منها وضُغِط البعض الآخَر في صورة فيلم خام عند درجات حرارة تقترب من ٣٠٠ درجة مئوية … وعلى الرغم من وجود عدد من الكيميائيين المتخصصين في البوليمرات في المؤسسة، فإن أغلب الفريق لم يكن لديه خلفية أو كانت لديه خلفية محدودة في تصنيع البوليمرات ذات التلدُّن الحراري، ولم يكن لديهم أي تقدير للأهمية التجارية لبوليمر مختلف مثل هذا البولي كربونات؛ لذا أُهمِلت مركبات البولي كربونات لفترة قصيرة …
لكن، كان هناك قسم للتطوير الكيميائي، أُنشئ حديثًا في بيتسفيلد بغرض تطوير أعمال جديدة، وكان يبحث عن مشروعات. كان مدير هذا القسم في ذلك الوقت، الذي يُدعَى إيه بيتشوكس، قد التحق بشركة جنرال إليكتريك من شركة بيتسبيرج بليت جلاس، حيث اكتسب خبرةً لا بأس بها في العمل مع مركبات البولي كربونات الأليفاتية. ونظرًا للفرق بين مركبات البولي كربونات الأليفاتية (الهشة، ذات درجة الانصهار المنخفضة) الخاصة بشركته القديمة، ومركبات البولي كربونات الأروماتية (المتينة، ذات درجة الانصهار العالية) الخاصة بشركته الجديدة؛ أصبح على الفور هو القائم على التطوير الأولي لمركبات البولي كربونات.
إنَّ تطوير نوع البلاستيك الجديد لم يكن سريعًا أو بسيطًا، لكن نجحت شركة جنرال إليكتريك في عملية التطوير ووجدت العديد من الاستخدامات المبتكرة له. ولم تكن الشركة هي الوحيدة التي تطوِّر مركبات بولي كربونات أروماتية؛ فقد كانت الشركة الألمانية باير إيه جي أيضًا في الصورة، مع أن عملية التطوير لديها كانت مختلفة بعض الشيء. وحتى أكون عادلًا، فقد كان اكتشاف فوكس في واقع الأمر إعادةَ اكتشافٍ؛ لأنه تم تحضير بوليمرات مماثلة في ألمانيا في عام ١٩٠٢، مع أنه لم يكن هناك استخدام لها، ولم يكن أحد يعرف على وجه الدقة ما هو البوليمر في تلك الأيام.
أكَّدت شركة جنرال إليكتريك على شفافية مركبات البولي كربونات ومتانتها، وسرعان ما تم الترويج لأنواع البلاستيك الأخرى على أنَّ «لها تقريبًا نفسَ متانة مركبات البولي كربونات» أو أنها «ذات متانة مماثلة لمركبات البولي كربونات».
تتميز مركبات البولي كربونات بأنها شفافة وذات متانة عالية وقادرة على العمل في نطاقات مختلفة من درجات الحرارة. وأصبحت الهياكل الشفافة المضادة للرصاص ممكنة، بما في ذلك الدروع الواقية التي تحمي الرؤساء أو الزعامات الدينية أو أبنية السفارات الأجنبية وأقسام الصرافة بالبنوك، والنوافذ التي بلا قضبان في السجون، والأغطية الواقية للنوافذ الثمينة المصنوعة من الزجاج الملوَّن، وحواجز حماية المشاهدين في ملاعب الهوكي، والأغطية الشفافة لمقصورات الطيَّارين بالطائرات التي تفوق في سرعتها سرعة الصوت، وأقنعة الغوص والدروع الخاصة بفِرَق التدخُّل السريع.
إنَّ خصائص القوة والشفافية والقابلية للتعقيم بالبخار التي تتمتع بها هذه الأنواع من البلاستيك تجعل لها استخدامات عديدة، بدءًا من زجاجات الرضاعة إلى زجاجات المياه التي تصل سعتها إلى خمسة جالونات، ومن المعدات الطبية إلى النظارات الواقية والخوذات.
لقد صُمِّمت ألواح رقائقية للزجاج الأمامي لقطارات شركة أمتراك قادرة على مقاومة الاصطدام بالقوالب الخرسانية، وللأغطية الشفافة لمقصورات الطيَّارين بالطائرات القادرة على مقاومة الاصطدام بالطيور في الطائرات التي هي أسرع من الصوت. وتتضمن الاستخدامات الأقل إلحاحًا نوافذَ السيارات والحافلات والقطارات والطائرات، ورفوفَ الأمتعة في الطائرات، والمصابيحَ الخلفية والأمامية ذات التصميمات الحديثة بالسيارات.
استُخدِم مزيج من هذه الأنواع من البلاستيك ومن أنواع أخرى من البوليسترات لتصميم مصدَّات للصدمات مقاوِمة للاصطدام في ٣٥ طرازًا مختلفًا من السيارات عبر أنحاء العالم.
أنهى الدكتور فوكس خطابه في عام ١٩٨٧ قائلًا: «إنه لمن بواعث المتعة والرضا الذاتي أن أرى المدى الذي وصلت إليه الكتلة التي في القلَّابة، والتأثير الكبير لذلك في حياة الناس!» وأعتقد أننا جميعًا ممتنون لفشله العَرَضي في العثور على المادة البادئة التي كان يريد الوصول إليها والاختيار السرنديبي لبديلتها، وفطنة الدكتور فوكس وزملائه.