الحمض النووي: ملف الحياة
إنَّ معظم الناس يعتقدون على نحوٍ غامضٍ أن حروف «دي إن إيه» شيء مهم بعض الشيء، والبعض يعرف أنها تشير إلى الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (الذي سنشير إليه هنا بالحمض النووي)، لكن القليل من غير المتخصِّصين يعرف قيمةَ المادة التي تحمل هذا الاسم الصعب. وقد أُطلِق على معرفة تركيبه الجزيئي ووظيفته البيولوجية سرُّ الحياة.
في عام ١٩٦٢، تقاسم جيمس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكينز جائزةَ نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب نظير بحثهم الذي كشف النقاب عن تركيب الحمض النووي. وكان واتسون عالِم أحياء، وكريك فيزيائيًّا، وويلكينز اختصاصيًّا في تصوير البلورات بأشعة إكس. وتفصيل بحثهم مذكور في كلِّ مرجع للكيمياء العضوية والكيمياء الحيوية؛ لكن لم يذكر أيٌّ من تلك المراجع أن حدثًا سرنديبيًّا متعلِّقًا بكيميائيٍّ كان هو مفتاحَ هذا الاكتشاف الذي فتح الطريق إلى جائزة نوبل. كشف واتسون نفسه عن هذا الحدث في كتابه الذي حكى فيه قصة الاكتشاف الخاص بالحمض النووي، والذي كان بعنوان «الحلزون المزدوج». ويقدم هذا العنوان وصفًا تصويريًّا لتركيب هذا الجزيء المهم.
حصل جيمس واتسون على درجة الدكتوراه في علم الأحياء من جامعة إنديانا في عام ١٩٥٠ وكان عمره وقتها ٢٢ عامًا فقط. انتقل إلى أوروبا لاستكمال دراسات وأبحاث ما بعد الدكتوراه، وفي العام الثاني، كان في جامعة كامبريدج في معمل السير لورانس براج الذي حصل على جائزة نوبل في عام ١٩١٥ لاستخدامه أشعة إكس في تحديد تركيب البلورات. وفي كامبريدج، قضى واتسون معظم وقته في العمل مع فرانسيس كريك الذي كان فيزيائيًّا بارعًا وغير تقليدي بعض الشيء. وقرَّرَ الاثنان توحيدَ جهديهما اللذين كانا في مجالين مختلفين بهدف الفوز بجائزة نوبل عن طريق حل لغز الحمض النووي.
واسترشدا بطريقة لينوس بولينج في اكتشاف تركيب حلزون الألفا للبروتينات (وهو صف خطي حلزوني أو لولبي في الجانب الأيمن من الذرات في الجزيئات الكبيرة). حصل بولينج على جائزة نوبل في عام ١٩٥٤ على عمله، وكان واتسون وكريك يتوقَّعان ذلك حتى منذ عام ١٩٥٢. وكانت طريقة بولينج تعتمد على قوانين الكيمياء البنيوية التي طوَّرَ الكثيرَ منها بنفسه وطبَّقَها على نماذج البروتينات التي تشبه ظاهريًّا الألعاب التي تُقدَّم لأطفال الحضانة. لكنَّ نماذج بولينج كانت مصمَّمةً لتناسِب أحجام وأشكال البروتينات التي تم تحديدها اعتمادًا على صور البلورات بأشعة إكس.
كان من المعروف عن الحمض النووي أنه جزيء ضخم مثل أي بروتين، والبيانات المتاحة عن طريق أشعة إكس كانت متوافِقةً مع تركيب على هيئة حلزون أو ملف. وقد حصل واتسون وكريك على أفضل بيانات متاحة باستخدام أشعة إكس من معمل موريس ويلكينز في كلية كينجز التي هي جزء من جامعة لندن، وتم التوصل إلى تلك البيانات بالتعاون بين روزاليند فرانكلين وويلكينز. وجزيئات البروتينات مصنوعة من وحدات أحماض أمينية متعددة (مونومرات) ترتبط معًا لتصنع جزيئًا كبيرًا أو بوليمر، وقد أظهرت تحليلات الحمض النووي بحلول عام ١٩٥٢ أن البوليمر مصنوع من أكثر من نوع من المونومرات. وكانت وحدات المونومرات المتكررة هي الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (وهو نوع من السكر) وحمض الفسفوريك بالإضافة إلى أربع قواعد عضوية مختلفة، وهي: الأدينين والثيمين والجوانين والسيتوزين.
من الأدلة التي ساعدت واتسون وكريك في حل لغز الحمض النووي ما قدَّمَه كيميائيٌّ نمساوي المولد في جامعة كولومبيا يُدعَى إروين شارجاف. ذكر شارجاف أنه من خلال دراساته للحمض النووي من مصادر حية متعددة كان يجد علاقة واحدٍ لواحدٍ بين الأدينين مع الثيمين من جهة، والجوانين مع السيتوزين من جهة أخرى. وبعبارة أخرى، فإن الأدينين يرتبط دائمًا مع الثيمين، والجوانين يرتبط دائمًا مع السيتوزين.
طوَّرَ واتسون وكريك نموذجًا للحمض النووي به شكلان حلزونيان أو ملفان، مصنوعان من وحدات حمض الفوسفوريك والحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين من الخارج، اللذين يرتبطان معًا بطريقةٍ ما من خلال القواعد العضوية الموجودة داخل الحلزون المزدوج. وخطَّطَا لاستخدام نماذج الوحدات المكوَّنة المصنوعة في المشغل الصناعي لمعمل كافنديش بجامعة كامبريدج، ولتجميع أجزاء النموذج معًا بطريقة تتوافق مع المقاييس المحددة من خلال صور أشعة إكس لبلورات الحمض النووي. وأثناء انتظاره العمال حتى ينتهوا من صنع وحدات النموذج المعدنية، شغل واتسون نفسَه برسومات القواعد وصنَعَ نماذجَ من الكرتون، فوصل إلى نتيجة مفادها أن القواعد — التي كان من المعروف أنها مكونات متكررة بانتظام من الملفات الخارجية من الجزيء البوليمري — تربط الملفات معًا بطريقة ما من خلال روابط الهيدروجين بين أزواج القواعد في علاقة تربط المتشابه معًا؛ الجوانين مع الجوانين، والسيتوزين مع السيتوزين وهكذا.
لكن واتسون عرف أن قواعد الحمض النووي يمكن أن توجد في صور مختلفة؛ وهذا يعني أن ذرة الهيدروجين المسئولة عن صنع رابطة يمكن أن تكون في أكثر من موضع في جزيء القاعدة. واستخدم واتسون صِيَغًا مأخوذة من كتاب معاصِر ادَّعى أنه وضع ذرات الهيدروجين الخاصة بالقواعد في المواضع الصحيحة، وربط أجزاء الملفات معًا بروابط هيدروجينية بين القواعد في علاقة تجمع الأشباه معًا. وراقَ النموذج المنتَج على هذا النحو لواتسون؛ لأنه رآه طريقةً لتفسير عمليةِ تناسُخ الجينات المعروفة، لكنه فشل في التوافق مع الأبعاد الجزيئية التي حدَّدتها البيانات المأخوذة من أشعة إكس أو قاعدة شارجاف الخاصة بحدوث ربط بين الأدينين والثيمين من جهة، والجوانين والسيتوزين من جهة أخرى. ومع عدم رضائه بعضَ الشيء عن التركيب المقترَح، وبسبب العجلة من أجل التفوُّق على لينوس بولينج وربما على آخَرين للوصول إلى جائزة نوبل؛ فإنه أرسَلَ خطابًا إلى زميل ادَّعَى فيه أنه «صمَّمَ لتوِّه تركيبًا رائعًا للحمض النووي.»
بعد أقل من ساعة من إرساله الخطاب، قابَلَ واتسون جيري دونوهيو، وهو أمريكيٌّ متخصِّص في الكيمياء الفيزيائية وتصوير البلورات، في مكتبه وبدأ يشرح النظرية له. وتصادَفَ أن دونوهيو كان يشارك واتسون وكريك نفس المكتب في ذلك الوقت. هاجَمَ دونوهيو على الفور تركيبَ واتسون، وقال إن واتسون قد استخدم الصور غير الصحيحة في تشكُّل القواعد للربط الهيدروجيني الذي يربط السلاسل الحلزونية معًا، فردَّ واتسون أنه ليس فقط الكتاب الذي رجع إليه هو ما صوَّر القواعدَ في صور التشكُّل التي استخدمها، ولكن هناك أيضًا كتب أخرى صوَّرتها كذلك، فقال دونوهيو إنه تم نشر صور تشكُّل غير صحيحة للقواعد منذ سنوات دون وجود دليل مؤكَّد لدعم صدقها. ولأن دونوهيو قد قام بدراساتٍ قائمةٍ على تصوير البلورات بأشعة إكس على الجزيئات مثل قواعد الحمض النووي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (مقر عمل بولينج)، فقد كان يتكلم بثقةٍ عندما قال لواتسون إنه استخدَمَ صورَ التشكُّلِ غير الصحيحة.
عاد واتسون إلى مكتبه وصنع نماذجَ كرتونية جديدة اعتمادًا على صور التشكُّل الأخرى (الصحيحة، من وجهة نظر دونوهيو)، فوجد أنها غير ممكنة على الإطلاق. وعندما عرض على كريك التركيبَ بعد تعديله حسب وجهة نظر دونوهيو، أدرك كريك أيضًا أنه غير مرضٍ؛ لأنه لا يتناسب مع أبعاد الصور المأخوذة بأشعة إكس ويتعارَض مع قاعدة شارجاف.
عندما وصلتُ إلى مكتبي الهادئ الخالي في صباح اليوم التالي، أفرغتُ بسرعةٍ الأوراقَ الموجودة على سطح مكتبي حتى تتوافر لي مساحة كبيرة مسطحة لتكوين أزواج قواعد ترتبط معًا بروابط هيدروجينية. ومع أنني انحزْتُ في البداية إلى آرائي الخاصة بالربط بين الأشباه، فإني أدركتُ بعد ذلك أنها لن تؤدي إلى شيء. وعندما دخل جيري، نظرتُ إليه ورأيت أنه لم يكن فرانسيس، وبدأت أحرِّك القواعد وأجرِّب احتمالات الترابط المختلفة. وأدركتُ فجأةً أن زوج الأدينين والثيمين المرتبطين معًا برابطتَيْ هيدروجين كان متطابقًا في الشكل مع زوج الجوانين والسيتوزين المرتبطين معًا بِذَرَّتَيْ هيدروجين على الأقل. وبَدَا الآن أن كل ذرات الهيدروجين تتكوَّن على نحو طبيعي؛ فلم تكن هناك حاجة للتلاعب لجعل نوعَيْ أزواج القواعد متطابقين في الشكل. وسرعان ما استدعيت جيري كي أساله إن كان لديه هذه المرة أي اعتراض على أزواج القواعد الجديدة الخاصة بي أم لا. وعندما لم يعترض، ارتفعَتْ معنوياتي إلى عَنان السماء؛ لأنني اعتقدتُ أننا توصَّلْنا الآن إلى حل اللُّغز.
قدَّمَ واتسون وكريك بسرعةٍ ورقةً بحثية قصيرة إلى مجلة «نيتشر»، بدأت بعبارة بسيطة قالَا فيها: «نودُّ أن نقترح تركيبًا لملح الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين. ولهذا التركيب سمات جديدة ستكون لها أهمية بيولوجية كبيرة.» وفي الواقع، كانت الجملة الثانية عبارة خجولة لا تفي هذا الإنجاز حقه.
قرب نهاية الكتاب، كتب واتسون قائلًا: «إن المصادفة التي أدت إلى مشاركة جيري المكتب مع فرانسيس وبيتر (بولينج) وإيَّاي أمرٌ مسكوت عنه، مع أنه واضح للجميع. ولو لم يكن معنا في كامبريدج، لَكنتُ ما زلتُ متمسكًا بوجهة نظري فيما يتعلق بتركيب الأشباه.»
وهكذا فإن السرنديبية في قصة الحمض النووي تتمثَّل في «مشاركة جيري المكتب مع فرانسيس … وإيَّاي.» وهذا مثالٌ آخَر على أهمية السرنديبية في اكتشافٍ حصل أصحابه على جائزة نوبل.