مقدمة
(١) فوائد دراسة تاريخ الصيدلة والعقاقير
- (١)
هناك أولًا دافع مهني وإنساني في الوقت نفسه نستطيع أن نسميه بالكرامة المهنية، إذ إن الصيدلي ليس بتاجر خردوات أو بقالًا، وإنما هو رجل عالم فني يحل في المجتمع محلًا مرموقًا لا من الوجهة المادية أو الاجتماعية فحسب، بل من الوجهة العلمية والثقافية أيضًا، فلا بد له إذن من أن يوسع أُفُقه وأن يكون رجلًا مثقفًا إنسانيًّا غير محصور في حدود مهنته الضيقة، وليس أجدر من تاريخ مهنته بأن يرفع مستواه الثقافي وأن يجعله يشعر بما يخرج عن نطاقه المهني.
- (٢) ويمكننا أن نضيف إلى هذا الدافع الشخصي سببًا يمت إلى مصريتنا بصلة وثيقة، فقد ترك لنا أجدادنا قدماء المصريين تراثًا علميًّا مجيدًا تشهد به الكنوز الفنية التي تغص بها متاحف العالم، وعدد لا يُحْصى من الآثار المتفرِّقة في صعيدنا الشاسع، ولا نقول ذلك بدافع الحماسة الوطنية، فإليك بعض ما يذكره علماء غربيون في هذا الصدد: «مصر القديمة في غاية الأهمية في تاريخ الحضارة بوجه عام وفي تاريخ الطب بوجه خاص، وفي وثائقها الغزيرة أوضح دليل على أقدم حياة ثقافية وصلت إلينا، ولقد أثَّرت ثقافتها تأثيرًا مباشرًا في الإغريق وفي الحضارة الأوربية.»١
- (٣)
وتتصل النقطة الثالثة بعروبتنا إذ قد نص الدستور على قوة هذا المبدأ، فمن هذه الناحية يجب أن نشعر بمسئوليتنا أمام التاريخ وأمام العلم، ولقد كتب العرب في ميدان العلوم الطبية والصيدلة صفحات رائعة في تاريخ معالجة الآلام البشرية، ولا تزال أسماء الأطباء من أمثال حنين بن إسحاق والرازي والكندي والمجوسي وابن سينا مسجَّلة في صفحات التاريخ كأشخاص أسهموا في ميادين التقدم العلمي والاجتماعي، ومعرفة هذا التراث والتعريف به وديعة ثمينة وُضِعَت في أعناقنا؛ لأننا — من حيث إن اللغة العربية هي لساننا — نستطيع أن نفهم مؤلفات هؤلاء العلماء وأن ندرسها درسًا عميقًا لكي نوضِّح بجلاء الدور الذي أدَّاه أطباء العرب أو المستعربون في تشييد صرح العلم العالمي.
- (٤) هذا وهناك نقطة لا تقل خطورة عن النقط السابقة: ألا وهي الكشف عن بعض الإمكانيات الكامنة في بطون الأسفار القديمة، وعلى الرغم من أن الجزء الكبير منها مبني على مبادئ فسيولوجية أو بيولوجية غير صحيحة أتى عليها الدهر، فليس معنى هذا أن كل ما في هذه الكتب قد حُكِمَ عليه بالفناء، بل تشتمل على بعض التجارب التي سجَّلها التاريخ ويمكننا الإفادة أو الاستيحاء منها، ونذكر على سبيل المثال أن العالم هملي Himly بعد قراءة نص من «بليني» Pliny٢ المؤرخ الروماني القديم، الذي يذكر فيه استعمال عصير الأناجليس anagallis قبل عملية الكتركتا (إظلام عدسة العين)، تبادر إلى ذهنه أن يدرس فعل السكران hyocyamus وست الحسن belladonna على حدقة العين.
(٢) اشتقاق الكلمات الدالة على الصيدلة والعقاقير
فتاريخ الصيدلة هو إذن نفس تاريخ الأدوية وطريقة استعمالها وحفظها.
ومن المستحسن أن نبدأ بفحص الألفاظ المختلفة التي تُسْتَعمل في اللغات الأكثر انتشارًا لتسمية الصيدلة والأدوية، ولنبدأ بالعربية ثم ننتقل إلى الكلمات المشتقة من اللاتينية واليونانية.
ولا شك أن الصيدلة كانت في بدء أمرها متصلة اتصالًا وثيقًا بالطب، حيث كان الطبيب يحضِّر بنفسه الأدوية التي يصفها لمرضاه ثم أخذت شيئًا فشيئًا تنفصل عنه.
ويرى البيروني أن كلمة «صيدلاني» تعريب لكلمة «جندلاني» بقلب الجيم صادًا، وكلمة «جندن» وصندل تدل على أفواه الطبيب العطر، أو ينسبون الكلمة أيضًا إلى «الصندل»، وفي كلا الحالتين يظهر جليًّا أنها كانت تدل أصلًا على أن الصيدلي هو الشخص الذي يجمع الأعشاب النافعة للتطبب.
ولا شك أن الكلمة أخذت عند العلماء العرب في القرون الوسطى مدلولًا دقيقًا هو «الأدوية المركبة»، فالكتاب الخامس من «القانون في الطب» مثلًا مخصَّص «للأدوية المركبة وهو أقراباذين»، وهو يشتمل على اثنتي عشرة مقالة في الترياقات والمعاجين والأيارجات والجوارشنات والسفوفات والقمايح واللعوقات … إلخ.