الطب والسحر والأدوية السحرية
لقد لازم السحر الإنسان منذ طفولته في المدنية، وهو لا يزال منتشرًا في بعض الطبقات الشعبية التي تتمسك بطفوليتها من الوجهة العقلية.
وأمام الأمراض الغامضة يحس الإنسان بضعفه ويؤمن بوجود قوًى خفية هائلة تسيطر عليه من كل حدب وصوب، فيحاول بكل الوسائل أن يستعطفها ويسالمها، وإذا غضبت فهو يهدِّئ من بطشها بتقديم قرابين مختلفة، وهذه القوى ذات الفعل السيئ قد تأتي — في نظر الرجل العامي الساذج — من النجوم البعيدة تنقلها الطيور، أو من جوف الأرض حيث الموت والفناء وحيث تُدفن الأموات، وتنقلها الأفاعي والثعابين الفتاكة حاملة السموم.
ولذا نرى الإنسان البدائي أو الذي يتصرَّف مثله يحاول تقديم القرابين لتهدئة هذه النفوس الشريرة التي تتسلَّط على الإنسان، وقد يذهب الجهل ببعض الجماعات إلى أن تقدِّم قرابين بشرية استرضاءً لقوى شريرة يعتقدون أنها تهدِّد حياتهم وهم يحاولون بواسطة سحرتهم أن يتصلوا بهذه القوى الشريرة، أو يلجئون إلى طرق خفية رمزية يتخفون بها من هذه الأرواح الشريرة، فيحملون مثلًا قلائد كتمائم من العاج أو من المعادن لمنع تلك الأرواح من الوصول إليهم، أو أحيانًا يغيرون أسماءهم ظنًّا منهم أن الروح الشريرة ستُخدع بهذا التخفِّي.
وقد يتوارث هؤلاء السحرة علمًا تجريبيًّا خاصًّا بمعرفة الأعشاب وخصائصها، ومنهم من يلجأ إلى البعض منها لإبعاد وباء أو لشفاء مرض، ومع هذه الأعشاب يستعملون بعض الشعائر ويحملون بعض الأحجبة مثل فكوك حيوانات أو أسنانها حول أعناقهم.
فُوجئ المارَّة بشارع الجيش في ساعة مبكرة من صباح أمس بدماء غزيرة تنساب من داخل أجزاخانة في هذا الشارع، فرُوِّعوا بهذا المنظر، واعتقدوا أن في الأمر جريمة، وتجمَّع عدد كبير منهم أمام الأجزاخانة وأبلغوا بوليس النجدة كما أبلغوا قسم بوليس باب الشعرية، وأسرع إلى الأجزاخانة بوليس النجدة وقام أحد الضباط بتحطيم بابها فوجد دماء غزيرة داخلها، فأمر بمحاصرة المكان وأخذ في البحث.
ولشد ما كانت دهشة رجال البوليس حينما علموا أن صاحب الأجزاخانة قام بذبح خروف داخلها، وقال عند سؤاله: إنه استأجر الأجزاخانة منذ سبعة شهور، وقد سبق أن استأجرها عدة صيادلة ولكنهم كانوا لا يمكثون فيها سوى بضعة أشهر ثم يتركونها لأنها «نحس»، ومنذ انتقل إليها والحظ مقبل عليه فخشي عليها عيون الحاسدين، وأشار عليه البعض بذبح خروف بالأجزاخانة وترْك الدماء بعض الوقت!
ولعل أكثر الكتب دلالة على هذه الخرافات المنتشرة في العالم العربي هو الكتاب المنسوب خطأً لجلال الدين السيوطي وعنوانه «الرحمة في الطب والحكمة»، وقد طُبِعَ مرارًا في القاهرة وفي بلاد المغرب، وهو في الواقع للشيخ جمال الدين محمد المهدي بن علي بن إبراهيم الصنبوري اليماني الهندي (٨١٥ﻫ/١٤١٢م)، فإنه بجانب معلومات طبية قديمة قد لا يخلو من الفائدة مثل الكلام في الأخلاط والأمزجة والطبائع والأدوية وحفظ الصحة والأغذية، نجد وصفات هي أقرب إلى الخزعبلات السحرية منها إلى الطب والصيدلة.
- أولًا: ما قد توارثته الأجيال من خبرة في معالجة بعض الأمراض بواسطة الأعشاب، ومن هذه الناحية قد يستطيع الشخص العاقل أن يستفيد منها إذا عرف أن يميز بين ما هو خرافة وما هو معقول.
- ثانيًا: تحوي هذه الكتب كثيرًا من الخزعبلات والتعاويذ التي لا قيمة لها البتَّة، إني مؤمن طبعًا وأؤمن بالمعجزات وبقوة الإيمان وبقوة الصلاة والدعوات، ولكني أؤمن أيضًا بالعقل الذي هو قبس من النور الإلهي، فقد وهبنا الله — عز وجل — هذا العقل لكي نسلط نوره على الطبيعة ونكتشف أسرارها، وكل الاكتشافات الطبية الحديثة تدل دلالة ساطعة على أن الإنسان يستطيع أن يتقدَّم تقدُّمًا ملموسًا في علاج الأمراض، وهناك فرق بين التوكل على الله والتسليم لإرادته السامية مع القيام بكل ما في وسعنا لدرء المرض واستئصال الداء، وبين الالتجاء إلى طرق ليست إلا آلية أوتوماتكية نعتقد بها أننا سنسيطر على الكون، وقد خصَّص ابن خلدون المؤرخ الإسلامي الشهير بابًا في مقدمته للسحر (ص٥٠٢) ينتهي فيه إلى هذه النتيجة فيقول: «وأما الشريعة فلم تفرِّق بين السحر والطلسمات وجعلته كله بابًا واحدًا … لما فيه من الضرر وخصَّته بالحظر والتحريم.»