نظام الحِسْبة ومراقبة الأدوية عند العرب
من خصائص النظم الاجتماعية في القرون الوسطى مراقبة المصالح العامة للتأكد من أنها تسير طبقًا للمبادئ الدينية كما جاءت في القرآن وفسرتها الشريعة، وهذه المراقبة كانت تُسمى بنظام الحِسْبة، وهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما فُرِضَ على من ولي أمور المسلمين، فكان يجب عليه أن يعين لذلك محتسبًا يراه أهلًا للقيام بهذه الوظيفة، وعلى المحتسب أن يتخذ الأعوان لمراقبة ما يجري من المنكرات، وتعزير الناس وتأديبهم وحملهم على التمسك بأهداب الشريعة، وتجنُّب كل ما من شأنه أن يضر بمصلحة الجمهور.
وليس للمحتسب «إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقًا، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضًا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتُدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء» (ابن خلدون، المقدمة ص٢٢٦-٢٢٧).
- (١) نهاية الرتبة في طلب الحِسْبَة: تأليف عبد الرحمن بن نصر الشيرري المتوفَّى سنة ٥٨٩ﻫ/١١٩٣م، وقد نشره سنة ١٩٤٦م الأستاذ السيد الباز العريني.١
- (٢) معالم القربة في أحكام الحِسْبة: لضياء الدين محمد بن الإخوة الذي عاش في مصر، وقد نشره الأستاذ روبين ليفي في لندن سنة ١٩٣٨م.٢
- (٣) رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة.٣
- (٤)
رسالة أحمد بن عبد الرءوف في آداب الحسبة والمحتسب.
- (٥)
رسالة الجرسيفي في الحسبة.
كل هذه الرسائل تبدأ بذكر ما يجب أن يكون عليه المحتسب من حسن الخلق لكي يقوم بوظيفته خير قيام؛ فيقول مثلًا ابن عبدون: «يجب أن يكون المحتسب رجلًا عفيفًا خيِّرًا ورعًا عالمًا غنيًّا نبيلًا عارفًا بالأمور محنكًا فطنًا، لا يميل ولا يرتشي فتسقط هيبته ويُسْتَخف به ولا يُعْبَأ به ويتوبخ معه المقدم له، ولا يُستعمل في ذلك خساس الناس، ولا من يريد أن يأكل أموال الناس بالباطل والمهونة؛ لأنه لا يُهاب إلا مَنْ كان له مال وحسب» (ص٢٠).
وقبل أن نتكلم بالذات عن مراقبة الصيادلة أذكر أسماء الصناعات التي وردت في كتاب نهاية الرتبة للشيزري.
الباب الأول مخصص لذكر ما يجب على المحتسب من شروط الحسبة ولزوم مستحباتها، والباب الثاني في النظر في الأسواق والطرقات، والثالث والرابع في معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم والموازين والمكاييل وعيار الأرطال والمثاقيل، وابتداءً من الباب الخامس يخصص الشيزري بابًا على حدة لكل من رجال الصناعة الآتي ذكرهم:
الحبوبيون والدقاقون، الخبازون، الفرانون، صناع الزلابية، الجزارون والقصابون، الشواءون، الرواسيون، قلاءو السمك، الطباخون، الهرائسيون، النقانقيون، الحلويون، الصيادلة، العطارون، الشرابيون، السمانون، البزارون، المنادون والدلالون، الحاكة، الخياطون، القطانون، الكتانيون، الحريريون، الصباغون، الأساكفة، الصيارف، الصاغة، النحاسون، والحدادون، البياطرة، نخاسو العبيد والدواب، الحمامات وقوامها، الفصادون والحجامون، الأطباء والكحالون والمجبرون والجرائحيون، مؤدبو الصبيان، أهل الذمة.
(١) في الحسبة على الصيادلة
تدليس هذا الباب والذي بعده كثير، لا يمكن حصر معرفته على التمام، فرحم الله مَنْ نظر فيه وعرف استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه تقربًا إلى الله تعالى، فهي أضر على الخلق من غيرها؛ لأن العقاقير والأشربة مختلفة الطبائع والأمزجة، والتداوي على قدر أمزجتها، فمنها ما يصلح لمرض ومزاج، فإذا أُضيف إليها غيرها أحرقها عن مزاجها فأضرت بالمريض لا محالة، فالواجب على الصيادلة أن يراقبوا الله — عز وجل — في ذلك.
وقد أعرضت عن أشياء كثيرة في هذا الباب لم أذكرها لخفي غشها ولامتزاجها بالعقاقير، مخافة أن يتعلمها مَنْ لا دين له فيدلس بها على المسلمين، وإنما ذكرت في هذا الباب وفي غيره ما قد اشتهر غشه بين الناس ويتعاطاه كثير منهم، وأمسكت عن أشياء غير مشهورة قد ذكر أكثرها صاحب كتاب كيمياء العطر، فرحم الله مَنْ وقع في يده ذلك الكتاب فمزَّقه وحرقه تقربًا إلى الله — عز وجل.
فقلت: «أعز الله الأمير، إن يوسف لقوة الكيميائي كان يدخل على المأمون كثيرًا ويعمل بين يديه. فقال له يومًا: «ويحك يا يوسف ليس في الكيمياء شيء.» فقال له: «بلى يا أمير المؤمنين، وإنما آفة الكيمياء الصيادلة».»
قال له المأمون: «ويحك، وكيف ذلك؟»
فقال: «يا أمير المؤمنين، إن الصيدلاني لا يتطلب منه إنسان شيئًا من الأشياء كان عنده أو لم يكن إلا أخبره بأنه عنده ودفع إليه شيئًا من الأشياء التي عنده، وقال: هذا الذي طلبت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يضع اسمًا لا يُعرف ويوجه جماعة إلى الصيادلة في طلبه ليبتاعه فليفعل.»
قال له المأمون: قد وضعت الاسم وهو «سقطيتا». وسقطيتا ضيعة تقرب مدينة السلام، ووجَّه المأمون جماعة من الرسل يسألهم عن «سقطيتا» فكلهم ذكر أنه عنده، وأخذ الثمن من الرسل ودفع إليهم شيئًا من حانوته، فصاروا إلى المأمون بأشياء مختلفة، فمنهم مَنْ أتى ببعض البذور، ومنهم من أتى بقطعة من حجر، ومنهم مَنْ أتى بوبر، فاستحسن المأمون نُصْحَ يوسف لقوة عن نفسه، وأقطعه ضيعة على النهر المعروف بنهر الكلبة، فهي في أيدي ورثته ومنها معاشهم، فإن رأى الأمير أن يمتحن هؤلاء الصيادلة بمثل محنة المأمون فليفعل.
فدعا الأفشين بدفتر من الدفاتر الأسر وشنية فأخرج منها نحوًا من عشرين اسمًا ووجَّه إلى الصيادلة مَنْ يطلب منهم أدوية مسماة بتلك الأسماء فبعضهم أنكرها، وبعضهم ادَّعى معرفتها وأخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئًا من حانوته، فأمر الأفشين بإحضار جميع الصيادلة فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفة تلك الأسماء منشورات أذن لهم فيها بالمقام في عسكره ونفى الباقين عن المعسكر، ولم يأذن لأحد منهم في المقام ونادى المنادي بنفيهم وبإباحة دم مَنْ وُجِدَ منهم في معسكره، وكتب إلى المعتصم يسأله البعثة إليه بصيادلة لهم أديان ومذهب جميل ومتطببين كذلك، فاستحسن المعتصم منه ذلك ووجَّه إليه بما سأل.»