الرعب في سنتشوزا
عندما أنزلت الطائرة عجلاتها وجرت على مطار «سنغافورة» الدولي … لاحظ «أحمد» على الفور أن ثمة إجراءات أمنٍ وإسعاف كبيرة تجري على أرض المطار، واستطاع أن يلمح أكثر من خمس سيارات إطفاء ومثلها للإسعاف، واستنتج على الفور أن الطائرة معرضة لانفجار … وربط بين هذه الإجراءات وابتسامة الرجل ذي السيجار الأسود … نعم هكذا فكر «أحمد»، هناك أشياء تجري في الخفاء.
وكما توقع «أحمد» بالضبط، فلم تكد الطائرة تقف وتتوقَّف محركاتها الضخمة حتى قال صوتٌ في الميكروفون: على حضرات الركاب سرعة مغادرة مقاعدهم، مع المحافظة على النظام …
ودُهش الركاب جميعًا، ما عدا «أحمد» فهذا ما توقعه بالضبط … وأخذ الركاب ينزلون بمساعدة رجال الأمن في المطار، وقد التفَّت سيارات الإطفاء حول الطائرة وبدا رجالها جاهزين لإلقاء آلاف الأطنان من المياه والمواد الرغوية في حالة نشوب حريقٍ بالطائرة.
نزل «أحمد» بعد أن نزلت «إلهام»، وكان الرجل ذو السيجار الأسود يتبعهما، وعرف «أحمد» أن الأمور لا تسير على ما يرام … لم يكن معه سلاح، ولكنه لم يكن خائفًا؛ فمعه سلاح ذكائه وعضلاته وخبرته بالقتال … وخرج الركاب من أبواب ساحة المطار إلى قاعات المطار نفسها، وسأل «أحمد» أحد رجال الشرطة: لماذا نزلت الطائرة؟!
قال الرجل ببساطة: لقد أبلغنا شخصٌ ما أن بالطائرة قنبلة زمنية ستنفجر بعد مرور سبع ساعات على طيرانها، وكانت الطائرة قد قطعت سبع ساعات بالضبط وهي فوق جزيرة «سنغافورة»، فأبلغنا قائد الطائرة أن يهبط فورًا لتفتيش الطائرة، وقد صعد إليها الآن خبراء المفرقعات … رغم أهمية هذه المعلومات ﻟ «أحمد» إلا أنها أضاعت منه لحظاتٍ ثمينةً غفل فيها عن مراقبة «إلهام»، فعندما التفت بعد انتهاء حديثه مع رجل الشرطة كانت «إلهام» قد اختفت عن عينيه … وأحس بأعصابه تتوتر، وأخذ يسير مسرعًا متنقلًا بين أبهاء المطار الضخم باحثًا عنها … ولكن دون جدوى …
وقف «أحمد» في الصالة الرئيسية للمطار وقد اجتاحه الخوف … ماذا حدث ﻟ «إلهام»؟! إنه لم يضع أكثر من ثوانٍ قليلة في حديثه مع رجل الشرطة … فجأةً لمح من بعيدٍ الرجل ذا السيجار الأسود يتجه إلى باب الخروج من المطار، وفي لحظاتٍ كان هو الآخر عند الباب، وطلب من موظف الباب كارت خروج وسلمه جواز السفر، ثم قفز إلى الخارج … كانت هناك سيارة تتأهب للتحرك، ولمح الرجل وهو يركبها، فأسرع إلى سيارة تاكسي وطلب من السائق متابعة السيارة.
كان الظلام الكثيف قد هبط على «سنغافورة» … وكان المطر يهطل بشدةٍ على هذه الجزيرة الاستوائية التي لا تكف سماؤها عن الأمطار … وقد كان هذا المطر في مصلحة «أحمد» فقد اضطرَّت السيارات إلى السير ببطءٍ، مما أتاح لسائق التاكسي الفرصة لأن يكون قريبًا من السيارة الزرقاء التي كان يستقلُّها الرجل.
لا يدري «أحمد» ما الذي جعله يربط بين اختفاء «إلهام» المفاجئ، وبين الرجل ذي السيجار … ولكنها غريزة المغامرة هي التي جعلته يتصور العملية بهذه الطريقة … لقد اختفت «إلهام»، وفي نفس الوقت غادر الرجل المطار، ولم يكن في برنامج الطائرة أن تنزل في «سنغافورة»، فلا بد إذن أن تكون اللعبة كالآتي … الرجل يريد أن يحصل على شيء من الطائرة، وينزل في «سنغافورة»، أحد أعوانه يبلغ مطار «سنغافورة» بوجود قنبلة في الطائرة، وبالطبع ليست هناك قنبلة، ولكن عملًا بمبدأ السلامة أولًا، ستنزل الطائرة في «سنغافورة»، ويحصل الرجل على الشيء الذي جاء من أجله، ثم يغادر الطائرة … فما هو الشيء الذي كان الرجل يسعى للحصول عليه؟
إن الإجابة واضحةٌ بعد اختفاء «إلهام» المفاجئ … لقد كان هذا الشيء هو الوردة البلاستيك التي تحوي الفيلم السري الثمين.
كانت القصة واضحة جدًّا ولا تحتاج لتفسير أكثر … وقال «أحمد» للسائق: هل يمكن الحصول على سلاح من أي مكان؟
رد الرجل في ذعرٍ: لا يا سيدي، إن الحكومة هنا تمنع أي شخصٍ من حمل أي سلاحٍ … إن القوانين هنا صارمة جدًّا في هذا الخصوص.
أحس «أحمد» بخيبة أملٍ شديدةٍ … فأسلحته كلها في الحقيبة المشحونة على الطائرة «الجامبو» وهو لا يستطيع حمل سلاح في الطائرة؛ لأن القوانين الدولية تمنع هذا، وهو الآن في قلب مغامرة في مكانٍ مجهولٍ … وهذا الرجل ذو السيجار الأسود له أعوان، من المؤكد أنهم من رجال عالم العصابات السفلي، وهم يحملون أسلحة من كل نوع.
ظلَّت السيارة الزرقاء الكبيرة تَشُق طريقها عبر شوارع «سنغافورة» الخضراء دون أن يدريَ «أحمد» إلى أين تتجه … ولكن السائق تحدَّث إليه قائلًا: إن السيارة متجهةٌ إلى جزيرة «سنتشوزا» أيها الشاب!
أحمد: إنني لا أعرف هذه البلاد، فما هي جزيرة «سنتشوزا»؟
ضحك السائق قائلًا: إن «سنتشوزا» تعني بلغتنا «السلام» … فهي أجمل منطقة في بلادنا، وتقع جنوب «سنغافورة»، ويُقيم فيها أغنى السوَّاح من جميع أنحاء العالم؛ لما تتميز به من جمالٍ وهدوءٍ ومَلاهٍ من كل نوع، حتى إنهم يُطلقون عليها اسم «الفردوس»!
أحمد: هل بقيت مدة طويلة على الوصول إليها؟
السائق: إذا صحَّ ظنِّي وكانت هذه السيارة متجهةً إليها حقًّا، فلم تبقَ سوى دقائق قليلةٍ ونصل إلى هناك …
وانحرف السائق يسارًا، ثم مضى في طريقٍ جبليٍّ منحدر ناحية البحر، حتى وصل إلى ساحل «سنغافورة» الجنوبي، وتوقَّف عند حافة الشاطئ … وكانت السيارة الأولى قد توقفت ونزل الرجل ذو السيجار، وأسرع «أحمد» ينقد السائق أجره مع بقشيش سخي، ثم اختفى خلف الأشجار العالية التي تغطي الشاطئ مراقبًا ذا السيجار حتى لا يغيب عن بصره، ووجده يتجه إلى مرسى للقوارب، فأسرع يخرج من مكمنه ويتبعه … وحمد الله أن الظلام كان كثيفًا، والمطر يهطل باستمرار، ونزل الرجل إلى أحد القوارب، ونزل «أحمد» إلى قارب آخر وطلب من السائق أن يتبع القارب الأول، وعندما جلس في القارب شاهد أضواء «سنتشوزا» تلمع أمامه … كانت على مسافة لا تزيد على نصف كيلومتر من شاطئ «سنغافورة»، ولم تستغرق الرحلة إلا دقائق قليلة، وتوقَّف القارب الأول، وخلفه القارب الثاني، وكما قفز الرجل إلى الشاطئ قفز «أحمد» أيضًا، وأصبح الاثنان على أرض السلام «سنتشوزا» …
لاحظ «أحمد» أن الرجل لم يستقل سيارة، فعرف أن المكان الذي يقصده قريبٌ، وكان عليه أن يتَّخذ قراره … إما أن يهاجم الرجل الآن، وإما أن ينتظر حتى يدخل المكان الذي يقصده ثم يضع خطته … وفضل أن يهاجمه على الفور؛ فهو لا يدري إلى أين يتجه الرجل، ولكن من المؤكد أن المكان الذي يقصده سيكون به حراسة قوية … أخذ «أحمد» يقترب مسرعًا من الرجل الذي كان يسير واضعًا يديه في جيوبه هادئًا وواثقًا من نفسه، وظلَّت المسافة تتناقص بينهما حتى أصبحت أقل من مترَيْن … وأحس الرجل بالأقدام التي تسير خلفه رغم صوت هطول المطر، ورغم أن «أحمد» كان يخفِّف من وَقْع أقدامه … واستدار، ولكن قبل أن يتصرَّف كان «أحمد» قد طار في الهواء، ووجه ضربةً قويةً من قدمه أدارت وجه الرجل ودار حول نفسه ثم سقط على الأرض سقطةً داوية، ولم ينتظر «أحمد» بل انقضَّ عليه وأخذ يفتِّشه، ولم يجد في جيوب بذلته شيئًا، وتذكر أن الرجل كان حريصًا على وضع يدَيْه في جيبَيْ معطفه، فمد يده، ووجد أصابع الرجل المتشنجة ممسكة بعلبةٍ صغيرة، لم يشك «أحمد» أنها العلبة التي بها الوردة البلاستيك.
انتزع «أحمد» العلبة الصغيرة، وفي نفس الوقت سمع حوله أصوات أقدام، ثم شاهد ضوءًا قويًّا يقع على قدمي الرجل الممدودتين … وقفز «أحمد» جانبًا في الوقت الذي سمع فيه شخصًا يقول: إنه «كوجانا»!
ودار الضوء، ولكن «أحمد» كان قد اختفى خلف شجرةٍ كبيرةٍ ووقف ينتظر … وظهر ثلاثة أشخاصٍ انحنوا على الرجل المسجى على الأرض، وأخذوا يفتشون ثيابه، بينما أخذ الرجل الذي يحمل البطارية يديرها هنا وهناك … وعلى الأرض الموحلة قليلًا لاحظ اتجاه أقدام «أحمد» وسرعان ما كان يتقدم ببطاريته ناحية «أحمد» خلف الشجرة، ولم يكن هناك وقت ليضيع؛ فقد انتظر «أحمد» حتى اقترب الرجل منه تمامًا ثم أطلق قدمه في ضربةٍ أصابت بطن الرجل، وجعلته يصرخ ثم يترنح ويسقط على الأرض … وانطلق الجحيم من عقاله؛ فقد تنبَّه الرجلان الآخران لما يحدث، وسرعان ما أخرجا مسدسيهما، وأطلقا سيلًا من الطلقات في اتجاه «أحمد» الذي تسلق الشجرة مسرعًا، وتوقف على غصن سميكٍ، وجلس هادئًا … وأخذ الرجلان يدوران حول الشجرة ويتحدثان بغضب، كان أحدهما يقول: إن الزعيم لن يغفر لنا، إننا لو عدنا إليه دون هذا الصندوق اللعين فسوف يقتلنا …
قال الآخر: إنه خطأ «كوجانا» … لقد وصل مبكرًا بضع دقائق، وكان يجب عليه أن ينتظرنا ولا يسير وحده دون حراسة، هكذا كانت التعليمات!
قال الأول: ولكن الزعيم لن يصدق شيئًا، إنه سيقول إننا اللذان تأخرنا، وبالطبع فإن «كوجانا» وهو أكبر كذَّاب في العالم سوف يوافق الزعيم على ما يقول …
قال الثاني: ولكن أين هؤلاء الأوغاد الذين هاجموا «كوجانا»؟!
وقبل أن يجيب الرجل الآخر على هذا السؤال، مرَّت سيارة ووقعت أضواؤها على الرجل الملقى على الأرض، وعلى الآخر الذي كان يضع يديه على بطنه ويحاول النهوض، وتوقفت السيارة مكانها … كانت إحدى سيارات الشرطة، وقال أحد الضباط وهو ينزل: ماذا يحدث هنا؟!
أسرع أحد الرجلين يقول: إنهما صديقان يا سيدي … اختلفا على بعض الأمور فتشاجرا، وضرب أحدهما الآخر …
أخرج الضابط بطارية ضخمة من السيارة، وأخذ يتجول بالضوء هنا وهناك ثم قال: لقد تبادلا إطلاق الرصاص أيضًا، إن هذا ممنوع تمامًا … هيا معي …
كان الضابط وحده، وكان السائق ما زال يجلس أمام عجلة القيادة، ولدهشة «أحمد» البالغة أخرج أحد أصدقاء «كوجانا» مسدسه، وأطلق الرصاص على الضابط ثم على السائق أيضًا … وانتهز «أحمد» الفرصة، فنزل مسرعًا، وغادر المذبحة وهو يشعر بالدماء تغلي في عروقه، وعرف أنه أمام مجموعة من عُتاة المجرمين، فليس هناك مجرم يجرؤ على إطلاق النار على ضابط شرطة إلا إذا كان من أسفل المجرمين وأحطهم وأخطرهم.
وصل إلى الشاطئ ووجد قاربًا (فيري بوت)، مما ينقل السائحين بين الجزيرة و«سنغافورة»، قفز إليه في آخر لحظة، وجلس على الكرسي، وأحس بأنه في حاجة شديدة إلى النوم، ولكن كيف ينام وما زال الطريق طويلًا أمامه إلى «طوكيو» … وحماية «إلهام» بعين لا تغفل هذه المرة …
ووصل إلى الشاطئ … وأدهشه أن السائق الذي أحضره ما زال موجودًا، وعندما ركب نفس السيارة مرة أخرى قال السائق مبتسمًا: كنت متأكدًا أنك ستعود أيها الشاب … فلست من رواد هذه الجزيرة …