زائر الليل!
لا يدري «أحمد» كم من الوقت انقضى … عندما فتح عينيه على صوت «إلهام» يقول له: لقد وصلنا «طوكيو» …
والتفت «أحمد» حوله، كان الركاب يستعدون للهبوط من الطائرة، ومعنى هذا أنهم الآن على أرض المطار، ونظر إلى ساعته ثم قال: الثانية صباحًا!
إلهام: يجب أن أتصل ﺑ «سايو» الآن …
أحمد: عليكِ الاتصال بها من المطار كسبًا للوقت …
وحمل كلٌّ منهما حقيبة اليد، وخرجا … كان الجو ممطرًا وعاصفًا في المدينة الكبيرة «طوكيو»، وأسرع جميع الركاب يجرون إلى صالة الاستقبال الدافئة … وشملت «إلهام» المكان بنظرةٍ سريعة لقد تركها «أحمد» مرةً أخرى حسب التعليمات، ووقف بعيدًا يتظاهر بشراء بعض المجلات، وأحسَّت «إلهام» بشيءٍ من الطمأنينة تغزو قلبها؛ فقد شاهدت من بعيدٍ ثلاثة وجوه تعرفها وتحبها … «قيس» و«عثمان» و«هدى»، إنهم الثلاثة المسئولون عن تغطية العملية، إنها تعمل وحدها … ويقوم «أحمد» بتغطيتها … ويقومون هم الثلاثة بتغطية «أحمد» … عملية معقدة … ولكنها ضرورية للتأكُّد من سلامة العملية ولكن هل تمر العملية ببساطة؟!
أسرعَت «إلهام» إلى كشك التليفون، أدارت القرص بالرقم الذي حفظته عن ظهر قلب وانتظرت عشر دقائق، ثم سمعت صوتًا ناعمًا يرد … قالت «إلهام»: إنني من طرف «إيدو» … كانت كلمة السر هي «إيدو»، وعلى الفور سمعت الصوت الجميل يقول: أنا «سايو» … مرحبًا بكِ، لقد تأخرتِ كثيرًا!
إلهام: كانت هناك مشاكل في الطريق، نزلنا في «سنغافورة» …
سايو: لقد سألنا في المطار وعرفنا ذلك …
إلهام: إن البضاعة معي …
سايو: عظيم … علمت أنكِ ستنزلين في «طوكيو برنس أوتيل».
إلهام: نعم … أعتقد ذلك.
سايو: إن غرفتكِ هي رقم «٢٤٢»، وسأتصل بكِ بين العاشرة والحادية عشرة صباحًا، إنكِ يجب أن ترتاحي قليلًا …
استقلَّت «إلهام» «تاكسي» وحدها وخرجت إلى شوارع «طوكيو» المزدحمة رغم المطر … «طوكيو» أكبر مدن الشرق الأقصى، وأكثرها ازدحامًا بالسكان، لكن كان كل شيءٍ يسير بنظامٍ دقيقٍ كما هي عادة اليابانيين، والإشارات الضوئية تعمل بكفاءةٍ، ورجال الشرطة يلبسون معاطفهم البلاستيك تحت المطر، وكانت مئات من سيارات المازدا والسوزوكي والتيوتا تملأ الشوارع … وأخذ التاكسي الصغير يشق طريقه على الأرض الممطرة، ونظرَت «إلهام» من النافذة الخلفية، كانت متأكدةً أن «أحمد» يتبعها في إحدى سيارات التاكسي الكثيرة التي كانت خلفها، ولكن أي تاكسي منهم؟! …
وصل التاكسي إلى ميدان واسع، حيث شاهدت من نافذة سيارتها التاكسي «برج طوكيو» الفخم، وبجواره موقف السيارات، ورأت لافتة النيون الملونة التي تحمل اسم الفندق الذي يتكوَّن من ١١ طابقًا، ويقع بين البرج وموقف السيارات … وتوقَّف التاكسي أمام الفندق، وتحدَّث إليها السائق الياباني بأدبٍ شديدٍ معلنًا وصولهم. ودفعت له «إلهام» أجرة مع بقشيش سخي، ثم حملت حقيبتها الوحيدة واتجهت إلى باب الفندق، ثم توقفت لحظاتٍ متظاهرةً بأنها تُصلح ثيابها، ولكنها استطلعت الساحة الواقعة أمام الفندق بنظرةٍ سريعةٍ، وعلى الفور لاحظت أن «أحمد» ينزل من سيارة أخرى … وأحست ببعض الاطمئنان؛ فهو الذي يحميها في هذه البلاد الغريبة … واجتازَت الباب ثم اتجهت إلى موظف الاستقبال، وكما قالت لها «سايو» كانت الغرفة رقم «٢٤٢» محجوزةً باسمها، وسرعان ما حملت حقيبتها، ومعها المفتاح وصعدت إلى الغرفة.
وضعت «إلهام» الحقيبة، ثم استلقت على الفراش كانت آثار المخدر ما زالت مؤثرة … وأخذت تتذكر أحداث اليوم، عندما دق جرس التليفون بجوارها، ورفعت السماعة وسمعت صوت «أحمد» يتحدث … قال لها: هل تم الاتصال؟
إلهام: نعم … إنهم يعرفون أين أنزل، قالت لي «سايو» إنها ستتركني أرتاح الليلة، وستتصل بي غدًا صباحًا بين العاشرة والحادية عشرة …
أحمد: معقول جدًّا … اتركي لي رسالةً بالتفاصيل عند موظف الاستقبال عندما تتصل بكِ «سايو» في الصباح … من المهم أن تكتبي كل شيءٍ؛ لأنني سأتبعكِ في أشكالٍ متغيرةٍ؛ فقد لا تعرفينني …
إلهام: لا أفهم!
أحمد: سأتنكَّر … إنهم حتى الآن لا يبدون أي ريبةٍ فيك، ولكن من يدري؟ من ناحيةٍ أخرى، لا تنسي أن عصابة «كوجانا» لن تقبل الهزيمة بسهولة، وهم يعرفون أنكِ مسافرةٌ إلى «طوكيو»، ومن المؤكد أنهم يبحثون عنكِ الآن في كل مكان …
وسكت «أحمد» لحظات ثم قال: ولكن، على كل حال هذا لا يدعو إلى القلق … لقد تعوَّدنا كل المخاطر.
إلهام: هل تحب أن أكتب لك الرسالة بالشفرة؟
أحمد: لا داعي … فقد اكتبي بأسلوب خطاب عادي وسأفهم كل شيء …
إلهام: هل هناك تعليماتٌ أخرى؟
أحمد: لا … ولكني حتى الآن لم أرَ مجموعة التغطية … «هدى» و«قيس» و«عثمان» …
إلهام: ألم ينزلوا في نفس الفندق؟
أحمد: لا أدري … ولكن على كل حالٍ سوف أعرف غدًا صباحًا، نامي جيدًا … وغرفتي رقم «٢٢٢»، فإذا حدث شيء فاتصلي بي فورًا.
وأغلقت «إلهام» السماعة، وقامت إلى الدش، فأخذت حمامًا ساخنًا، ثم تناولت بعض الفاكهة الموجودة في الغرفة واستلقت على الفراش، وسرعان ما ذهبت في سباتٍ عميق، ولكن فجأة استيقظَت «إلهام» … شيء ما أيقظها وتنبهت على الفور … لكنها لم تتحرك من مكانها وتظاهرت بالنوم … ثمة شيء يحدث لا تدريه، ولكن من المؤكد أن شخصًا ما يحاول دخول الغرفة، وبهدوءٍ شديد مدَّت يدها ونقلت التليفون إلى الفراش، ثم ضغطت على الزر الأحمر وهو يجعلها تتصل بأي غرفةٍ تريدها في الفندق، وتحسَّست الأرقام بأصابعها وهي تضع عينَيْها على أكرة الباب …
ورأت على الضوء الخفيف أن هناك من يحاول فتح الباب … وأدارت قرص التليفون على رقم «٢» ثلاث مرات، وسمعت الجرس الخفيف في الجانب الآخر، ومرَّت ثوانٍ والتليفون يدق دون أن يجيب أحد … وأدركَت أن «أحمد» ليس في فراشه … فكل الشياطين متعودون على أن يستيقظوا عند أي حركةٍ بالقرب منهم … إنهم يستشعرون الخطر وهم نائمون …
قفزَت من الفراش في خفةٍ … كان الشخص الذي يحاول الدخول يجرِّب بعض المفاتيح ثم يُدير الأكرة في كل مرة. أسرعت «إلهام» إلى ملابسها فلبستها في ثوانٍ قليلة ووقفت خلف الباب، ولم تكد تفعل ذلك حتى كان الباب قد فُتح، وأخذ يدور ببطء … وظلَّت «إلهام» مكانها ساكنة … انفتح جزء من الباب ثم خطا شخص داخل الغرفة، وظلت «إلهام» واقفة وقد حبست أنفاسها، لقد كان رجلًا طويل القامة … وتذكرت الأوصاف التي قالها «أحمد» عن «كوجانا»، فهل يكون هو؟ … إن اليابانيين قصار القامة ومن المستبعد أن يكون ياباني بهذا الطول … وعندما دخل الرجل إلى الغرفة، كانت يده تمتدُّ بمسدس ضخمٍ مصوَّب إلى الفراش.
رفعت «إلهام» يدها إلى فوق، ثم قفزت فجأةً وهوَتْ بيدها على عنق الرجل … كانت قد تعلَّمت في المركز الرئيسي للشياطين كيف يمكن إسقاط شخصٍ ما بضربةٍ واحدة، لقد هبطَت الضربة كالصاعقة على عنق الرجل الذي ترنَّح ثم سقط على وجهه … ثم أسرعَت «إلهام» إلى المسدس أولًا، فجذبته من يده المرتجفة، ثم وقفت مبهورة الأنفاس … وفي هذه اللحظة ظهر «أحمد» عند الباب ثم أغلقه خلفه بسرعةٍ … ودون كلمة واحدة أزاح الجسد المستلقي على الأرض داخل الغرفة، وأسرعت «إلهام» تساعده، ثم انحنى دون أن يتحدث مع الرجل وأخذ يفتشه بسرعة ومهارة، وفي لحظات كان قد جرَّده من كل ما معه، ثم أعاد فتح الباب وخرج فنظر في الردهة لحظات كان كل شيء هادئًا ولم ير أحدًا هناك، وأشار إلى «إلهام»، فساعدته على نقل الرجل بسرعة عبر الردهة حتى أوصلوه عند رأس السلم ثم تركوه.
عادا مسرعين إلى الغرفة وأغلق «أحمد» الباب ثم قال: لقد كنت أتبعه منذ أول الليل؛ فقد نزلت إلى صالة الفندق لشراء بعض الصحف بالإنجليزية، وسمعته وهو يصفكِ لموظف الاستعلامات، ثم خرج من الفندق، وقام بجولةٍ واسعةٍ في المدينة، وظللت أتبعه … ولا أدري هل كان يُضيع وقتًا حتى يضمن أنكِ نمت أم كان يقوم بعملية تمويه … وقد فقدت أثره منذ نحو ساعة، ثم توقعت أن يكون هنا.
إلهام: لقد طلبتك منذ فترةٍ، عندما أحسستُ بمحاولة دخوله من الباب …
ابتسم «أحمد» رغم الموقف وقال: كانت ضربة مباغتة … أليس كذلك؟!
إلهام: بلى … فلم أكن أريد إثارة ضجة …
أحمد: عظيم …
إلهام: هل تتوقع أن يكرر المحاولة؟
أحمد: لا أعتقد … إنه يعرف الآن أننا يقظون وأقوياء، وبعد أن جردناه من أوراقه سيكون من الصعب عليه البقاء في «طوكيو» …
وتحرك «أحمد» نحو الباب قائلًا: أغلقي الباب جيدًا، ولا تنسي أن تتركي لي رسالةً مع موظف الاستقبال، رسالة عادية فيها الاتفاق بينكِ وبين «سايو» والمواعيد، وأية تفاصيل أخرى.
وخرج «أحمد» وأغلق الباب وراءه، وعندما استدار ليتجه إلى غرفته، فُوجئ بالرجل الذي صرعته «إلهام» يقف في الممر، وقد وضع يديه في وسطه، ثم قال ﻟ «أحمد»: إنني أنصحكم بالتعامل معنا.
أحمد: من أنت؟
الرجل: إنك تعرف من أنا … إننا نريد شريط الفيلم …
أحمد: إنني لا أعرف عن أي شيء تتحدث!
الرجل: أنت تعرف جيدًا، ما دمت صديقًا لهذه الفتاة!
أحمد: دعني أمر … وإلا أبلغت السلطات اليابانية بما فعلت …
الرجل: إذن أعطني أوراقي …
أحمد: ليس معي شيءٌ لك …
وتجاوز «أحمد» الرجل الذي وقف وشرر الغضب يتطاير من عينيه، دون أن يحاول مهاجمة «أحمد» … فقد عرف نوع الأشخاص الذي يتعامل معهم.