سر الوردة الحمراء
في العاشرة صباحًا دقَّ جرس التليفون في غرفة «إلهام» وكانت تجلس في انتظاره … ورفعت السماعة، وعلى الطرف الآخر سمعت صوت «سايو» الناعم يقول لها: صباح الخير هل «إيدو» مستيقظ؟
كانت «إيدو» هي كلمة السر، وهو الاسم القديم لمدينة «طوكيو» … وردت «إلهام» على الفور: «إيدو» استيقظ منذ الصباح الباكر …
سايو: أرجو أن يذهب في الحادية عشرة، أي بعد ساعةٍ إلى محطة «طوكيو» الرئيسية، ويأخذ من هناك القطار «سوبر إكسبريس» على خط «توكايدو» الجديد … وعند «توكايدو» سينزل في المحطة، وسيكون في انتظاره رجلٌ يلبس بدلة رمادية اللون، ويضع على عينيه نظارةً سوداء، وفي عروة الجاكتة وردة حمراء، ويمسك بيده سلسلة مفاتيح …
وسكتت «سايو» قليلًا ثم قالت: هل ستتذكرين كل هذا؟
إلهام: نعم … خط «توكايدو» … «السوبر إكسبريس» … الرجل ذو البدلة الرمادية، والنظارة السوداء، والوردة الحمراء، وسلسلة المفاتيح في يده.
سايو: عظيم … إنه سيدير سلسلة المفاتيح، وسيكون في طرفها قطعة من البلاستيك الأخضر، وهذا يعني أن كل شيء على ما يرام … أما إذا أدار سلسلة المفاتيح وفيها قطعة بلاستيك حمراء فلا تتحدثي إليه …
إلهام: الإشارة خضراء، أتحدث … حمراء، أسكت …
سايو: تمامًا … واذهبي معه، فمعه التعليمات اللازمة …
إلهام: ولكن ما هي الضمانات؟
سايو: ليست مهمتي أن أتحدث عن الضمانات … هذه كل الرسالة التي عليَّ أن أبلغها، أرجو لكِ حظًّا طيِّبًا.
وأغلقت «سايو» السماعة … وقامت «إلهام» بالاتصال بالاستقبال، وطلبت إحضار تاكسي يُقلها إلى محطة السكة الحديد، ثم قامت إلى المكتب الصغير الموجود في جانب الغرفة، وجلست تكتب رسالةً سريعةً إلى «أحمد» … ثم نزلت واتجهت إلى قسم الاستقبال، وتركت الرسالة والتفتت حولها ونظرت في المكان المزدحم بالناس، وأحسَّت على الفور أنها مراقبةٌ … أحسَّت بعيونٍ تُحيط بها، وأدركت أن مهمتها صعبة، وكانت قد وضعت الوردة البلاستيك في عروة فستانها، ولكن حسب تعليمات رقم «صفر» لم تكن هذه الوردة تحوي سوى فيلم مزيف، أما الفيلم الحقيقي فكان في حقيبة يدها … ولم تجد «أحمد» بين الموجودين … ولا «قيس» أو «عثمان» أو «هدى» وهي مجموعة التغطية التي ستقوم بحمايتها … لم يكن في إمكانها أن تنتظر، وسرعان ما كان التاكسي يقطع بها الطريق إلى محطة السكة الحديد.
في محطة سكة حديد «طوكيو» الضخمة، استطاعَت بواسطة الإرشادات المكتوبة أن تصل إلى خط سكة حديد «توكايدو»، حيث شاهدت لأول مرةٍ القطار «السوبر إكسبريس» الذي يشبه الصاروخ … كان أبيض اللون، طويلًا حتى لا تكاد ترى نهايته … وقطعت تذكرة من الماكينة الأتوماتيكية، ثم استقلَّت القطار … مرة أخرى أخذَت تنظر حولها، دون أن تُشاهد أحدًا من مجموعة التغطية … وفكرت أن «أحمد» لا بد أن يكون قد تأخَّر في استلام الرسالة، وربما يكون الرجل الذي صرعَتْه ليلًا قد فعل شيئًا ضده.
جلست في مقعدها وقد توترت أعصابها، ولكن خبرتها وتدريبها والمغامرات الكثيرة التي خاضتها أعادت إلى نفسها السكينة … وقالت في نفسها: مهمة خطيرة مثل كل المهام.
وعندما اقترب موعد تحرك القطار زادت حركة الركاب وجلست أمامها سيدة يابانية شابة ومعها ابنتها، وبجوارها جلس رجل عجوز … وفي الحادية عشرة تمامًا كان قطار «توكايدو» الصاروخي ينطلق … وسرعان ما غادر محطة «طوكيو» المزدحمة، ولم تمضِ دقائق قليلة حتى انطلق في الريف الياباني الجميل، وكان الجو مشرقًا، والمطر ينزل رذاذًا على الحقول الخضراء الواسعة التي تقع على مرتفعات جبال اليابان … كانت «إلهام» تعرف أن اليابانيين — هذا الشعب المنظم العامل — قد استطاعوا الاستفادة من كل شيءٍ في بلادهم الفقيرة، حتى أصبحت اليابان — بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩–١٩٤٥م) — ثالث دولةٍ في العالم في الإنتاج الصناعي.
أحسَّت بالراحة تتسلل إلى نفسها، واستلقت إلى الخلف في مقعدها، وأخذت تنظر من خلال الزجاج إلى المناظر الطبيعية … ودهشت لأن الذين كانوا يراقبونها في الفندق لا أثر لهم، فهل فقدوا أثرها؟ لم يكن هذا ممكنًا؛ فقد كانت خطواتها واضحة، وهي لم تحاول تضليلهم … فالتعليمات أن تتصرف بطريقةٍ طبيعية، وأن تؤديَ مهمتها في حدود سلامة الطفل «أدهم»، وأن تترك لمجموعة التغطية مشاكل الأمن.
مضت ساعة ونصف ساعة والقطار «السوبر إكسبريس» يشقُّ طريقه، وهو يسير على قضيب واحدٍ في وسطه، بسرعةٍ عاليةٍ، دون أن يهتزَّ، حتى إن كوب الشاي ثابت أمامها على المائدة الصغيرة وكأنه موضوعٌ على مائدة في غرفة صالون.
أخيرًا ظهرت لافتةٌ لامعةٌ مضاءةٌ في نهاية عربة القطار، تشير إلى قرب وقوفه في «توكايدو» … وأخذ الركاب الذين سينزلون في المحطة التالية يستعدُّون للنزول … وكان الرجل العجوز الذي يجلس بجانب «إلهام» قد أخذ هو الآخر يستعدُّ لمغادرة مكانه، فطوى جريدته ووضعها تحت ذراعه، وأمسك بالشمسية استعدادًا لتوقِّي المطر في الخارج … وأحنت «إلهام» رأسها بالتحية للسيدة التي أمامها ثم غادرت مقعدها، وأخذت تسير في الممر وهي تنظر حولها باحثةً عن واحدٍ من الشياطين الأربعة … «أحمد» أو «عثمان» أو «قيس» أو «هدى» دون أن ترى أحدًا.
أخيرًا وقف القطار تمامًا عند محطة «توكايدو»، وفتحت الأبواب أوتوماتيكيًّا … ووقفت «إلهام» في الصف تنتظر دورها في النزول، وما كاد يأتي الدور عليها وتقف على السلم، حتى أحست بمن يدفعها من الخلف بقسوةٍ، واختلَّ توازنها وكادت تسقط على وجهها، ولكن رجلًا آخر كان خلفها سندها، واكتشفت أنه الرجل العجوز الذي تمكن وهو يسندها — وقد تدلَّى وجهها إلى أسفل — من أن يجذب الوردة البلاستيك التي تُزين بها صدرها، ثم يختفي في الزحام … وعندما وقفت «إلهام» شاهدته من بعيد وهو يغادر المحطة، وعرفت من خطوته النشيطة السريعة أنه لم يكن عجوزًا، وإنما هو شاب متنكر … ورغم ما حدث، فقد أحسَّت بشيءٍ من الإعجاب بتنكره فقد كان متقنًا جدًّا، وفي نفس الوقت لقد تصرف كعجوز حقًّا … وبالطبع كانت «إلهام» مطمئنة فإن ما حصل عليه لم يكن سوى شريطٍ لا يساوي خمسة مليمات … وسارت ببطء وهي تنظر حولها، وسرعان ما شاهدت الرجل المقصود … بدلة رمادية اللون، نظارة سوداء، وردة حمراء، سلسلة مفاتيح … وتعلقت عيناها بسلسلة المفاتيح … كانت الإشارة حمراء … ودُهشت «إلهام»، لماذا الإشارة حمراء؟ لقد حصلت عصابة «كوجانا» على الزهرة البلاستيك المزيفة، وما زالت معها الوردة الثانية، وبها الفيلم الحقيقي … اكتشفت على الفور السبب، فإنها لم تضع الوردة في عروة الجاكتة حسب الاتفاق … وسرعان ما انحنت جانبًا، ثم أخرجت الوردة من حقيبتها، ووضعتها على صدرها، ثم مضت تمشي أمام الرجل … كان شابًّا يابانيًّا متوسط القامة نظر إليها لحظات، ثم وضع يده في جيبه، وفي لحظاتٍ كانت الإشارة الخضراء في يده، فتقدمت منه، فابتسم لها قائلًا: إن «إيدو» في انتظارك …
وسارت بجانبه … خرجا من باب المحطة، ووجدَت سيارة في انتظارهما … ودون كلمة واحدة ركبت السيارة وجلس بجوارها، وسرعان ما انطلقت السيارة تقطع الطريق الريفي الجبلي … لم يتبادلا كلمة واحدة حتى وصلا إلى مزرعة على جانب الطريق … كانت المزرعة تقوم على تلٍّ مرتفعٍ وقد انبعثت منها رائحة الزهور، وارتفعت حولها الأشجار الخضراء … وأخذت السيارة تصعد بهم طريقًا متعرجًا حتى أشرفوا على فيلَّا صغيرة، ودارت السيارة دورةً واسعةً ثم دخلت في جراج في قلب الجبل وتوقفت، وفتح الرجل الباب وأشار لها بالنزول، ونزلت «إلهام» وسارت بجوار الرجل في دهليز طويل مضاء، حتى وصلت إلى مصعدٍ في بطن الجبل ركبت فيه، وصعد بهما.
مرت ثوانٍ و«إلهام» في المصعد … كانت تفكر في «أحمد»، وبقية مجموعة الشياطين الذين يقومون بالتغطية … أين هم؟ … وإذا وقع لها حادث الآن من الذي سيقوم بنجدتها … أسئلة لا يمكن الإجابة عليها.
توقف المصعد بعد حوالي ١٥ مترًا صعودًا … وفتح الباب ووجدت «إلهام» نفسها تخطو في صالة مفروشة على الطريقة الأوروبية … ووجدت خادمًا يابانيًّا ينحني لها في احترام، ثم أشار لها فسارت حتى وصلت إلى بابٍ مغلق … دق الخادم الباب دقًّا خفيفًا، ثم فتحه وأشار لها بالدخول، ووجدت نفسها في غرفة مكتب صغيرة، ولكن فاخرة، وكان ثمة رجلٌ يقف بجوار النافذة ينظر إلى المشهد الطبيعي وقد أولاها ظهره، وخطت «إلهام» خطواتٍ داخل الغرفة حتى وصلَت إلى المكتب والتفت إليها الرجل، كان رجلًا في حدود الخامسة والخمسين من عمره شديد الأناقة، يلبس نظارة سوداء ويضع في عروة جاكتته وردةً حمراء … وابتسم لها في أدبٍ قائلًا: آسف إذا كنا قد أتعبناك …
ردت «إلهام»: إنني على ما يرام …
الرجل: هل الفيلم معكِ الآن؟
إلهام: نعم … أين «أدهم»؟
رد الرجل: إنه موجود، وسترينه حالًا … فقط سنقوم بفحص الفيلم …
وأحسَّت «إلهام» بقلبها يدق بشدة، إن الورقة التي أعطاها لها رقم «صفر» قبل أن تسافر فيها معلومات عن هذا الفيلم لو عرفها هذا الرجل الأنيق لتعرضت هي و«أدهم» للموت.
ببساطة مدَّت يدها إلى الوردة البلاستيك وقدمتها له، وأمسك بالوردة لحظاتٍ يتأملها وقد رسمت على شفتيه ابتسامة انتصار، ثم قال: والوردة التي خُطفت منك؟
ردَّت إلهام: لقد كانت وردةً مزيفةً …
الرجل: لقد توقعنا هذا، فلم نطارد الرجل.
إلهام: لقد تعرضت لمضايقاتٍ أخرى في «سنغافورة».
الرجل: لقد عرفنا كل شيءٍ، ولكن بعد فوات الأوان على كل حال لن يستغرق الأمر سوى لحظاتٍ قليلة …
فتح الرجل الوردة، وأخرج الميكروفيلم الصغير، وأمسكه بين أصابعه لحظات ثم دق جرسًا وعلى الفور ظهر رجل عند الباب، وقال الرجل الأنيق: خذ هذا إلى «ويب» أريد أن يقول لنا رأيه في دقائق …
أشار الرجل إلى «إلهام» أن تجلس، وسرعان ما دخلت عربة الشاي تدفعها فتاة جميلة، قامت بسرعةٍ وإتقان بتقديم فنجان الشاي إلى «إلهام» التي كانَت في حاجةٍ إليه …
عاد الرجل إلى النافذة يتأمَّل المشهد الطبيعي … ومرَّت الدقائق ثقيلة، ثم سمعت الباب يُفتح، ودقَّ قلبها سريعًا، والتفت الرجل الأنيق … وسمعت «إلهام» الرجل الذي فتح الباب يقول: كل شيءٍ على ما يرام، يا سيدي …
وابتسم الرجل … وأحسَّت «إلهام» بالراحة تغمرها، ونظر الرجل إليها ونظرَت إليه …