الدراسة الأولى: الإنسان آلة أم ذات؟
١
يطرح عنوان هذه الدراسة سؤالًا حاسمًا في كلِّ بحث عن وحدة الإنسان، وسوف أتخذ لردِّي عن هذا السؤال، ولبحثي ذاته، منطلقًا من قضية حاسمة وأساسية بدورها. فالمُسلَّمة الأساسية التي سوف أستهل بها هذه الدراسات هي أن الإنسان جزء من الطبيعة.
هذه القضية البسيطة تبدو شديدة البراءة ومحايدة، ويكاد يقبلها الآن كل إنسان متعلِّم، سواء أكان من قُرَّاء الإنجيل أم من اللاأدريين، وسواء أكان يقضي يوم عطلته الأسبوعية متسكِّعًا، أو يقضيه بين أروقة متحف يتطلَّع إلى محتوياته بجِدٍّ واهتمام. وهكذا يبدو أن من الأمور الواضحة بذاتها في النصف الثاني من القرن العشرين أن نقول إن الإنسان جزء من الطبيعة، بنفس المعنى الذي يكون به الحجر، أو شجرة الصبار أو الجمل جزءًا منها، والواقع أن من أيسَر الأمور أن ننظر إلى تلك الفئات الثلاث التي كنا في طفولتنا نقسِّم إليها الكائنات، وهي الحيوان والنبات والجماد، على أنها تستنفد كل ما في الكون. ومع ذلك فإن هذه القضية البسيطة تحتوي على الشحنة المتفجرة التي أدَّت في القرن الحالي إلى انشطار ثقة الإنسان الغربي بنفسه وانهيارها.
ذلك لأن القول بأن الإنسان جزء من الطبيعة يؤدي حتمًا (أو يبدو أنه يؤدي) إلى إنكار فردانيته … هذه هي الشحنة الخفية التي تقلقنا، ولكنها تخرسنا. وهي الهرطقة القديمة العهد التي ذهب من أجلها أناس إلى المحرقة منذ عهد يرتد إلى عام ١٦٠٠م على الأقل. ففي ذلك الوقت طُلب إلى «جوردانو برونو» أن يتخلى عن اعتقاده الجامح بأن الأرض التي نقف عليها ليست هي العالم الوحيد، وبأننا لسنا المخلوقات المختارة الوحيدة في العوالم الكثيرة؛ ولكنه رفض. ولقد كان اعتقاده هذا مظهرًا من مظاهر تعلُّق عصر النهضة الأوروبية بالآراء غير المألوفة التي تمتنع عن إعطاء الإنسان دور السيد أو العبد إزاء القدر، بل تكتفي بالانطلاق في رحاب الطبيعة الفسيحة؛ وتطلق الإنسان والطبيعة معًا من عقالهما. غير أن مثل هذه الآراء لم تلقَ قبولًا — وما زالت لا تلقى قبولًا — لدى الإنسان الغيور الذي يود المحافظة على الشعور بمركزه الأدبي في الكون. فهو يتوق إلى الإحساس بأنه منذ ولادته قد شكل في قالب خارق للطبيعة أعظم من الحياة، أو أعظم من الطبيعة على الأقل.
وهكذا فإن القول بأن الإنسان من الطبيعة، الحيوانية أو النباتية أو الجمادية ما زال يحمل طابع الهرطقة الذي كان يحمله دائمًا؛ وإن كان شكل هذه الهرطقة قد تغير من قرن إلى آخر. ولقد كانت هناك ثلاثة أشكال رئيسية على مرِّ التاريخ، لم تكُن في أيامها هرطقات دينية فحسب بل كانت أيضًا هرطقات عقلية؟ وكانت تصدم الحس السليم فضلًا عن الوحي الديني. على أن اثنتين من هذه الهرطقات قد أصبحتا اليوم مألوفتَين إلى حدِّ أنهما لم تعودا تصدمان أحدًا. وقد سبق أن حارب من أجلهما عمالقة العلم وأثبتوهما على نحوٍ قاطع، ولذلك فإن كل ما سأفعله هو أن أذكِّر القارئ بهما في إشارة سريعة. أما الثالثة، فما زالت تؤرقنا. وسوف نتخذ منها موضوعًا لهذه الدراسة، وللكتاب بأسره في النهاية.
كانت الهرطقة الأولى هي التي نادى بها بروتو، وقال فيها إن عالمنا ليس استثناءً، بل إن كل ما يوجد في الكون مصنوع من مادة واحدة في كل مكان. على أن أتباع أرسطو لم يكونوا يؤمنون بذلك، وإنما اعتقدوا أن السماء المرصَّعة بالنجوم مليئة بشيء مختلف وألطَف من المادة الأرضية، هو العنصر الخامس؛ الجوهري. وقد جعلت الكنيسة من هذه الصورة الوثنية جزءًا من العقيدة المسيحية على أن جاليليو قد هدم هذا الاعتقاد حين كسَّر الأفلاك البلورية بأن تطلَّعَ بمنظاره فوجد بقعًا في الشمس وجبالًا في القمر، كما هدمه حين لاحظ في عام ١٦١٠م أن للمشتري أقمارًا تدور حوله كعقارب الساعة (وقد اقترح جاليليو استخدام هذه الأقمار لتؤدي عمل الساعة). وبالتدريج أخذت قوانين الميكانيكا الأرضية تحكم السماء حتى لم يعُد أحد يشك في أن النجم والحجر شيء واحد، فهما معًا جماد.
أما الهرطقة الثانية فقد هاجمت الجانب الآخَر من مجموعة الحيوان والنبات والجماد؛ فقد أكدت أن الإنسان ليس فريدًا، لأنه يندرج تحت الفئة الأولى. وذهبت على وجه التحديد إلى القول بأن الإنسان قد تطوَّر من أصل مشترك تنتمي إليه حيوانات حية أخرى. وقد قدَّم تشارلس دارون في عام ١٨٥٩م أدلة مفصَّلة على هذه الهرطقة، ودافع عنها توماس هكسلي بعده بقوة، مما أتاح لها بدورها أن تصبح جزءًا لا يتجزَّأ من معلوماتنا العلمية المعتادة. فلا أحد منا يشك في أن إجابة السؤال عن الإنسان تبدأ بالحيوان.
٢
وهكذا أصبح المسرح معدًّا للفصل الأخير من عملية إزالة الفوارق. فنحن نشعر بعدم وجود انقطاع في السلسلة المتصلة للطبيعة بعد أن أصبح النجم، في أحد أطرافها، مرتبطًا بالحجر، وأصبح الإنسان في الطرف الآخَر متدرِّجًا ضمن الحيوانات، ولم يتبقَ إلا أن نضع سلسلة واحدة من الحيوان والنبات والجماد بين هذين الطرفين، تصبح خلالها الطبيعة هي ومخلوقاتها شيئًا واحدًا، فهناك خط متصل يسير من الحجر إلى شجرة الصبار، ثم إلى الجمل. وليس ثمة قفزة خارقة للطبيعة في هذا الخط. فلم تكن ثمة حاجة إلى عملية خاصة، أو إلى شرارة للحياة من أجل تحويل المادة الجامدة إلى أشياء حية. ذلك لأن الاثنين معًا يتكونان من الذرات نفسها، وكل ما في الأمر أن الترتيب الهندسي لهذه الذرات يختلف في الحالتين. هذا هو الشكل الثالث والحديث لتلك الهرطقة القديمة العهد.
«إن إيماني باتصال الطبيعة وعدم وجود انقطاع فيها يمنعني من التوقف فجأة، حيث لا تستطيع مجاهرنا أن تنفعنا، فهنا يحق للبصيرة العقلية أن تُتم عمل إبصار العين. فبفضل نوع من الضرورة يولده العلم ويبرره، أعبر حدود الأدلة التجريبية. وأرى في تلك المادة التي كنا حتى الآن نكيل لها اللوم والاتهام نتيجة لجهلنا بالقوى الكامنة فيها، وبرغم ما نعلنه من تبجيل لخالقها، أرى فيها المنبع والقوة الباطنة التي تتولد منها كل حياة أرضية.»
وبعد أربعة أيام من هذا الخطاب، أي في ٢٣ من أغسطس عام ١٨٧٤م، قدَّم أحد تجار لندن ملتمسًا إلى وزير الداخلية البريطاني يُطالبه فيه بمحاكمة تندال لتجديفه؛ بموجب قانون يرجع إلى القرن السابع عشر.
ولم يكن تجديف تندال دينيًّا فحسب، بل إنه أثار نقمة الكثيرين ممَّن كفوا عن الاعتقاد بأن الإنسان قد وُهب الحياة بفعل خلق إلهي. فقد كان هؤلاء بدورهم يودون أن يشعروا بأن الحياة — ذلك الشيء الرفيق الدقيق، اللطيف القصير الأمد — متميزة عن التراب الذي منه وُلدت وإليه تعود. وحتى يومنا هذا ما زال الشكاك والفلاسفة، فضلًا عن المتدينين، يتوقون إلى الاعتقاد بأنه لا بد من شيء خارج العمليات الطبيعية للفيزياء، من أجل بعث الوهج في المادة وإنارة شعلة الحياة فيها.
على أنني لست أشارك هؤلاء حرصهم الشديد على الاهتداء إلى نظام خاص وراء قوانين الطبيعة، ينفخ الحياة في بعض التشكيلات غير المتوقعة للذرات. بل إنني لأعتقد أن هذا من قبيل خداع الفلاسفة. صحيح أن الإنسان رائع، وكذلك الحياة، غير أنهما رائعان بصورتين مختلفتين، وإنه ليبدو لي أن الإنسان الذي نُزع عن عرشه، يحاول في هذه الحالة أن يستعيد كرامته بثمنٍ بخس؛ هو الالتجاء إلى معجزة الحياة. فأيًّا كان الشيء الذي يجعل الإنسان فريدًا، فإنه ليس القبس الإلهي للحياة، أو تلك «السورة الحيوية» التي استحوذت على مُخيلة هنري برجسون. بل إن الإنسان يعلو على الحيوانات الأخرى، لا لأنه حيٌّ مثلها، بل لأن لديه حياة مختلفة عن حياتها.
٣
«إن ذراتك منفردة، تفتقر إلى الإحساس وهي أكثر افتقارًا إلى العقل. ولذلك فإني أسألك أن تُعمل الفكر في هذه المشكلة، خُذ ما لديك من ذرات هيدروجين منعدمة الحياة، ومن ذرات أكسجين، وكاربون ونيتروجين. وفوسفور، منعدمة الحياة وكل الذرات الأخرى التي يتألف منها المخ، والتي هي منعدمة الحياة مثل غبار الرصاص. لتتخيلها وهي منفصلة ومنعدمة الإحساس، ثم لاحظها وهي تتدافع معًا وتكون كل التجمعات التي يمكن تصورها. هذه العملية من حيث هي آلية صرف يمكن أن يدركها الذهن، ولكن هل يمكنك أن تدرك، أو تحلم أو تتخيل على أيٍّ نحو، كيف ينشأ الإحساس والفكر والعاطفة من هذا الفعل الآلي، ومن هذه الذرات التي هي فرديًّا منعدمة الحياة؟ أمن الممكن أن تستخلص هوميروس من رميات النرد، أو حساب التفاضل من تصادم كرات البلياردو؟»
ها نحن أولاء قد انتقلنا في قفزة واحدة من أدنى أنواع الأعشاب عبر الصبَّار والجمل؛ حتى عقل الإنسان، وهنا تكمن الدعامة التي ترتكز عليها مخاوفنا: أعني خوفنا من أن يتضح أن الإنسان بوصفه نوعًا حيًّا، ونحن بوصفنا أناسًا مفكرين، لسنا إلا كتلة متحركة من الذرات. صحيح أننا نعترف بأطراف ألسنتنا بأهمية حياة الأميبا والعثة، ولكن ما ندافع عنه هو حق الإنسان في تأكيد ما لديه من إرادة وأفكار وانفعالات، تؤلف كلها مركبًا واحدًا هو الذهن.
هنا يكمن جوهر المشكلة التي تُعكر صفو كرامتنا، وهي مشكلة قديمة؛ ولكنها في الوقت ذاته حديثة إلى حدٍّ يبعث على الدهشة. هذه المشكلة قد صيغت في العصور الأخرى على نحوٍ مختلف؛ إذ أطلقت عليها تلك العصور اسم مشكلة النفس تارة، أو حرية الإرادة تارة ثانية، أو مشكلة الذهن والجسم تارة ثالثة. أما اليوم فإننا نعيش معها من خلال استعارة جديدة وضعناها ببراءة لكي نصف بها أكثر الآلات تعقيدًا في عصرنا. فالسؤال الذي أصبحنا نطرحه الآن هو: إذا كان مخُّ الإنسان مليئًا بالشبكات الكهربية، فكيف يمكن أن يختلف عن العقل الإلكتروني؟
وبطبيعة الحال فإن السؤال في صورته العامة ليس جديدًا؛ فقد ذهب ديكارت إلى أن الحيوانات آلات، أما الإنسان فلا. كذلك فقد حدث في الاجتماع نفسه الذي كنا نتحدث عنه، والذي عُقد في بلفاست عام ١٨٧٤م، أن أضاف توماس هكسلي إلى متاعب صديقه تندال بقراءة بحث عنوانه «في الفرض القائل بأن الحيوانات آلات»، ثم توسع في العنوان، لكي يناسب المقام، بحيث أصبح يدرج الإنسان ضمن الحيوانات. غير أن أمثال هذه التأملات ذات الطابع الشديد العمومية يمكن أن تترك الآن جانبًا. والحقيقة هي أن ما نعرفه الآن عن الآلات يُضفي مزيدًا من الأهمية والدقة على السؤال: إلى أي مدى يكون المخ الإنساني آلة؟
إني لأرى من واجبي ألَّا أمضي إلى معالجة هذا السؤال الجاف بدون كلمة وداعٍ إلى تندال، الذي طرح هذا السؤال ولم يَجنِ من ورائه إلا العواصف في العلن والبغضاء في السر؛ ذلك لأن هذا البطل المسكين لم يُحاكَم بتهمة التجديف، بل كان القدر قابعًا في انتظاره بصبر؛ وفي جعبته حيلة أشد نكرًا … فبعد عامين من خطبة بلفاست، تزوَّج امرأة تصغره بخمسة وعشرين عامًا. وبمُضيِّ الوقت أخذا يعيشان حياة أكثر خفاءً في الريف، ودأب تندال على تعاطي العقاقير الموجودة في ذلك الحين. وفي أحد أيام ديسمبر عام ١٨٩٣م أعطته زوجته خطأً ملعقة كاملة من الكلورال أدَّت إلى قتله، ولكن السِّتَار لم يكن قد أُسدل على خطة القدر الساخر، فقد قررت زوجته بدافع تأنيب الضمير أن تكتب سيرة حياته بالطريقة اللائقة، بحيث لا تُغفل أيَّ جزء تفصيلي (وكانت تختزن لديها كل وريقة لمسها تندال). وهكذا ظلَّت تتلكأ، دون أن يُنشر شيء خلال ذلك، وعاشت حتى بلغ عمرها خمسة وتسعين عامًا، ثم ظهرت سيرة حياته بعد خمس سنوات من وفاتها، أي في عام ١٩٤٥م؛ وعندئذٍ كان جون تندال وعمله العلمي قد أصبح نسيًا منسيًّا.
٤
إن من واجبنا أن نقبل الأدلة المعقدة، التي هي مع ذلك محكمة النسج، والتي تثبت أن الإنسان لا يختلف في النوع عن أشكال الحياة الأخرى، وبالتالي إن الإنسان إنما هو مجموعة من الذرات التي تخضع لقوانين طبيعية مماثلة في نوعها لتلك التي تخضع لها النجوم. وقد أصبحت هذه الحقيقة ظاهرة جلية في العقد الأخير، وذلك بفضل الكشف عن البناء الذي للمادة الوراثية في الإنسان أولًا، وبفضل التقدم الذي تم إحرازه أخيرًا في تحليل العمليات الكهربية والكيمائية في المخ.
إن الذرات الموجودة في المخ شأنها شأن تلك الموجودة في الجسم تؤلف نظامًا آليًّا يسوده نفس الانتظام، ويخضع لنفس القوانين التي يخضع لها أي تجمع متشابك من الذرات. ولقد دأب الناس على استبعاد هذه الفكرة من أذهانهم، لأنهم أرادوا تجنُّب ما تنطوي عليه من تعارض مع اعتقادهم الراسخ بأن الإنسان فاعلٌ حرٌّ لا يسير إلا وفقًا لما تُمليه عليه إرادته، غير أننا لا نستطيع أن نخفي هذا التناقض إلى الأبد.
إن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها هذه الدراسات هي أزمة الثقة التي تنجم عن رغبة كل إنسان في أن يكون شخصًا وعقلًا، في وجه الخوف المستمر من أن يكون جهازًا آليًّا. والسؤال الجوهري الذي أطرحه هو: هل يستطيع الإنسان أن يكون آلةً وذاتًا في آنٍ معًا؟
إن هذا السؤال، على النحو الذي طرحته به، محدَّد بدقة، فهو متعلق بالإنسان، لا بأي حيوان آخَر، وهو متعلق بمخه وجهازه العصبي، لا بسائر الوظائف الجسمية التي يشترك فيها مع الحيوانات الأخرى اشتراكًا تامًّا. فأنا لا أسأل هنا عن شُعلة الحياة الحيوانية، بل عن طريقة عمل الذهن الإنساني.
وإني لأعتقد أن من حُسن حظنا أننا طرحنا السؤال على هذا النحو بوصفه سؤالًا عن آلية الذهن، ذلك لأن السؤال، في صورته هذه يمكن في اعتقادي أن يُجاب عنه، ولقد كان الهدف من هذه الدراسات هو أن نشيد مثل هذه الإجابة خطوة فخطوة. وبهذه الصورة فإن ما سأقوم بتشييده — على سبيل المثال الإجابة — إنما هو فلسفة للإنسان الحديث، ولست أعني بذلك فلسفة تقتصر على أن تضمن لنا الراحة مع الآلات الحديثة، بل أعني فلسفة كاملة تبيِّن كيف يفكر الإنسان ويشعر، وكيف يضع قيمه، وتحدد ماهية الإنسان، التي تعني أنها فلسفة تبعث التكامل وتحدِّد ماهية الإنسان، إنها فلسفة تبعث التكامل من جديد في تلك التجارب التي كانت على الدوام، وما زالت، إنسانية وعلى هذه الفلسفة يمكننا أن نبني أخلاقًا معاصرة تتسم بالتكامل، لأنها لا تشطر وحدة الإنسان إلى ما هو ذو قيمة وما ليست له قيمة، أو ما هو غير مسئول وما هو مسئول: أي إلى آلة وذات. والواقع أن ما هو حديث في هذه الفلسفة إنما هو الجو التي تظهر فيه، فمن حُسن حظنا أننا نتلقى الجواب عندما أصبح من الممكن تقديمه لأول مرة.
ولا جدال في أنه ليس ثمة جدوى من تطلع المرء إلى أن يصبح ذاتًا، ما لم تكن لديه فكرة واضحة عما يتوقع أن تكون عليه بالذات. كذلك فإنه لا معنى لتأكيد أن نظامًا معينًا هو آلة أو ليس بآلة، ما لم يكن في وسعنا أن نصف تعاقُب العمليات التي تشكل آلة بالمعنى الحديث، لذلك فإن هذين التعريفين، تعريف الذات وتعريف الآلة، أساسيان في الدراسات التي نقدمها. غير أنهما تعريفان يختلف كلٌّ منهما عن الآخر تمام الاختلاف، ومن ثم فلا بدَّ أن نكون الآن على استعداد لمتابعة بحث هذين التعريفين بحثًا متأنيًا.
٥
حين نسأل: هل في استطاعة الإنسان أن يصبح أكثر من مجرد آلة، فإننا لا نعود نتكلم عن النوع الإنساني في مجموعه، فليس الإنسان هو الذي يبحث عن ذات، وإنما كل واحد من بني الإنسان. فأنا أريد أن أكون ذاتًا، وكذلك تريد أنت، ونحن معًا نريد أن نكون ذاتين مختلفتين. وعندما ننظر إلى البشر على أنهم يؤلفون نوعًا مستقلًّا من الكائنات الحية، هو النوع الإنساني، فإنما ننظر إلى هذا النوع بوصفه ذلك الهيكل غير المتميز، الذي تكسو فروقنا الفردية عظامه. فنحن لا نطالب لأنفسنا بذاتٍ كلية، بل بذات خاصة بنا. إنني أودُّ أن أكون ذاتًا، وأنت تودُّ أن تكون ذاتًا أخرى، ونحن معًا نودُّ أن تكون ذاتانا قابلتين للتميز، إذ لا يودُّ واحد منا أن يكون نسخة طبق الأصل من الآخر، فسواء أكنا آلات أم لم نكن، فمن المؤكد أننا لا نودُّ أن نكون نسخًا لآلات.
ومن هنا فإنَّ من المفيد أن نسأل، في البداية: هل في وسع كل الناس الذين يعيشون الآن أن يكونوا آلات؟ ويكونوا مع ذلك مختلفين بوصفهم آلات؟ فهل من الممكن أن نكون كلنا نتاجًا لعملية تجميع من عدد محدود من المواد الكيمائية الجسمية؟ أو من نماذج متنوعة لتلك الأجزاء الأساسية التي تؤلف النوع كله، دون أن يكون أي اثنين منا متماثلين؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو: نعم، فهناك من النماذج المتنوعة للمواد الكيمائية الجسمية ما يكفي لكي يصبح كل إنسان مجموعة منتقاة فريدة من هذه النماذج. والدليل على ذلك أن الجسم لا يقبل إلا مجموعته المختارة الخاصة، ويرفض كل ما عداها، وهذا ما كان يغدو مستحيلًا لو لم تكن المجموعات الممتازة الأخرى مختلفة على نحوٍ يستطيع الجسم التعرف إليه.
إن في استطاعة كل إنسان، بوصفه آلة بيولوجية فحسب، أن يميز تمييزًا قاطعًا بين مجموعة البروتينات الخاصة به والمجموعة الخاصة بأي فرد آخر. مثال ذلك أنني إذا جرحت وجهي وأردت إصلاح العطب فلا بدَّ لي من استخدام شريحة من جلدي أنا نفسي (أو من توءمي المماثل) ولا أهمية للجزء الذي آخذ فيه الجلد من جسمي، إذ إن وجهي سيقبله بوصفه جلدي الخاص، حتى لو كنت قد أخذته من ظهري. أما إذا رقَّعت وجهي بقطعة من جلدك، فسوف يرفضها حتى لو كانت قد أُخذت من نفس المكان في وجهك. إن المواد الكيمائية في جسمي يمكنها أن تصنع وجهًا آخَر، ولكن ليس عن طريق استبدال وجه بوجه، بل عن طريق استبدال جزء مني بجزء منك، وأنت لست أنا. فنحن متميزان، ولسنا متفقَين، بوصفنا آلتين كيميائيتين.
والسبب الثاني هو أن الذات، بالمعنى الكيميائي، ليست فريدة، إذ توجد ذوات متماثلة، وهي توجد بانتظام: فالتوءمان المتماثلان هما ذاتان من هذا النوع، تقبل كلٌّ منهما، مثلًا، شريحة للترقيع من الأخرى، ولا شك في أن إنكار وجود ذات مستقلة للشخص المستقل من حيث المبدأ هو قضاء على كل ما هو مميز للذات الإنسانية، ذلك لأن التوءمين السياميين اللذين قيل إن لهما دورة دموية واحدة، كانا مختلفين اختلافًا ملحوظًا بوصفهما شخصين؛ وكذلك نجد توائم، «دبون»، الخمسة. إن الناس يودُّون أن يكونوا ذواتًا، أي ذواتًا مختلفة، وهم يودُّون أن يكونوا ذواتًا مختلفة حتى لو كانوا توائم متماثلة.
وبطبيعة الحال فإن التوائم على حقٍّ في ذلك. فالاعتقاد بأن المرء لكي يكون فريدًا، ينبغي أن يولد فريدًا هو مغالطة (مغالطة دائمة). ولقد أخفقت المحاولات التي بذلتها الهرطقات السابقة لكي تقضي على هذه المغالطة بالذات، أعني افتراض أن الإنسان أو الحياة، لكي يكونا فريدين ينبغي أن يوهبا الفردانية منذ الميلاد، وكأن هذه الفردانية هبة مادية.
٦
ومع ذلك فإننا نشعر بأن هذا لا يكفي من أجل تكوين ذات. صحيح أننا نرى الآلة تتغير، وأن أي آلتَين لا تظلان، خلال عملية التغير، متماثلتين، وإن كلًّا منهما تكتسب بهذا المعنى شخصية خاصة بها، كما فعلت سيارتي، ومع ذلك فإن أحدًا منا لن يعتقد بأنه يستحق أن يكون ذاتًا لمجرد كونه — مثل سيارتي — يُصدر صوتًا خاصًّا حين يجري. كما أن أحدًا منا لن يؤمن بأن خط يد «الجرهيس» قد اكتسب طابعه بفضل نفس القوى التي جعلت آلته الكاتبة تبلى وتتقادم.
إن الإنسان حين يقول عن نفسه أنه ذات، يعني بالفعل أن أسلوبه في السلوك خاص به وحده، وأن أفعاله مميزة له، وهي التي تجعل له شخصية فريدة، ولكنه لا يقول ذلك كله عن نفسه بالمعنى الذي يقوله عن قبعة قديمة أو سيارة، ذلك لأنه يعتقد أن سلوك القبعة أو السيارة يمكن التنبؤ به، وهو بهذا المعنى سلبي، أما هو فإنه يتطلع إلى أن يكون ذاتًا، لا لشيء إلا لأنه لا يريد أن يكون سلبيًّا، وهو يؤمن بأن أفعاله لها منطقها الخاص الذي هو خاص به، والذي لا يمكن التنبؤ به. فهو لا يريد أن يكون فريدًا وأن يكون ذاتًا مختلفة عني وعنك فحسب، بل يريد أيضًا أن يكون لغزًا لا يستطيع أن يحلَّه أحد غيره. لذلك فإنه لا يقبل أن ينظر إلى مجموعة المواد الكيميائية في جسمه على أنها هي التي تحدد الذات، ولا يقبل لهذا الغرض أية آلة أخرى تخضع لقانون. ولهذا السبب أيضًا فإنه لن ينظر إلى شخصيته على أنها هِبة قدَّمتها تلك التجارب الفريدة، التي هي مع ذلك آلية، والتي تنطبع على كل الأشياء نتيجة للاستهلاك وسوء الاستعمال. أما لماذا يرفض مثل هذا التعريف، فلأنه لا يؤدي إلى تحرير الذات من ذراع القوانين الطبيعية الطويل.
٧
لقد ظللت حتى الآن أطرق باب طرف واحد من أطراف تعريف الذات، هو ذلك الذي يُطالبنا بألا تكون الذات جهازًا آليًّا. ولقد أوضحت أن هذا المطلب لا يمكن التخلص منه عن طريق التلاعب البارع بمعنى لفظ «جهاز آلي»، فلن يجدينا أن نعرف الذات عن طريق آليتها الكيميائية، على الرغم من أن هذه الآلية فردية في العادة، ولن يكون ذلك مجديًا حتى لو أكدنا أهمية التغيرات التي يحدثها الزمن في كل آلة. فمهما تكن دقة السمات التي تتسم بها الآلة، فإن أقصى ما تؤدي إليه هو أن تجعل القوانين التي يخضع لها الجهاز الآلي أكثر تعقيدًا. غير أنها لا تغير طبيعتها، وهي أن تكون خاضعة للقانون: فهي لا تغير الآلة من كائن سلبي إلى كائن إيجابي. والأهم من ذلك أنها لا تفسر قدرة الإنسان على التخلص من قهر الغريزة والشهوة والعادات الآلية التي حبست الطبيعة كل حيوان آخر بين جدرانها.
هذه الاعتراضات تنقلنا إلى الطرف الآخر في تعريف الذات، فالإنسان لا يودُّ أن يكون خاضعًا لقانون. حسنًا، لقد حان الوقت إذن لكي نوجه إليه السؤال الذي قد يكون شديد اللهجة، ولكنه مع ذلك ضروري: أتودُّ أن تكون خارجًا على القانون؟ إنك ترفض أن تكون قابلًا للتنبؤ كالآلة أو الحيوان، فهل تتطلع إلى أن تكون غير قابل للتنبؤ؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل أنت غير قابل للتنبؤ بالنسبة إلى نفسك، بوصفك فاعلًا، مثلما أنت بالنسبة إليَّ، بوصفي مشاهدًا؟ أتبني رغبتك في أن تكون ذاتًا على تأكيدك في زهو أن أفعالك عشوائية؟
على أنه لا ينبغي أن يتوقع أحدٌ مني، وأنا الذي أنظر إلى الطبيعة على أنها مغامرة، لا على أنها ضرورة قاهرة، أن أكون متعاطفًا مع هذه الفلسفة، فهي في نظري تأكيد مسرف للذات من جانب أُناس فقدوا الإحساس بالوحدة مع العالم، وافتقروا إلى ذلك الانفعال السعيد الذي يلهب العالم والمصور وعاشق الطبيعة الذي يقضي إجازته على شاطئ البحر. لذلك فان الفلسفة الوجودية ليست في نظري مقبولة، لاعتبارات متعلقة بالذوق، كما أنني لا أعتقد أن من الممكن الأخذ بها على أساس اعتبارات الواقع. والحق أننا لسنا في حاجة إلى أن نجادل لإثبات وجهة نظرنا في هذه الفلسفة من حيث اعتبارات الذوق؛ ذلك لأن من الواضح أن الوجودية لا تقدِّم توجيهًا واقعيًّا لسلوك أي فرد. فليس لأحد أن يأمل في أن يسلك اعتباطيًّا في كل لحظة، وأن يثير من حوله على الدوام عاصفة من الأفعال العشوائية، وليس في استطاعتنا لا أنا ولا أنت أن نأمل في أن نكون ذاتًا بهذا المعنى، ولذلك فما زال علينا أن نتساءل عن معنى الذات الذي نبحث عنه.
إنني، حين أقول إنني أريد أن أكون ذاتي، أعني كالوجوديين أنني أريد أن أكون حُرًّا لكي أكون ذاتي. وهذا معناه أنني أريد بدوري أن أتخلص من القهر (سواء منه الداخلي والخارجي) لكي أسلك على أنحاء غير متوقعة. ومع ذلك فأنا لا أعني أنني أودُّ أن أسلك خبطَ عشواء، أو على نحو يستحيل التنبؤ به، فأنا لا أريد أن أكون حُرًّا بأي معنًى من هذه المعاني، بل بمعنى أنني أريد أن يسمح لي بأن أكون مختلفًا عن الآخرين. إنني أودُّ أن أسلك طريقي الخاص، غير أنني أودُّه أن يكون طريقًا يمكن التعرف إليه بوصفه طريقي الخاص، وليس مسارًا متعرجًا متخبطًا. إنني أريد أن يتعرف إليه الناس ويقولوا: إنه هو طريقه المميز!
وبطبيعة الحال، فلو كان كل فعل أقوم به مميزًا لي لأصبحت شخصية محددة لا ذاتًا. أي إن أفعالي تُصبح في هذه الحالة قابلة للتنبؤ بها في كل لحظة، وعلى نحو قاطع، وحينئذٍ أُصبح، في أعين المشاهد الخبير، أشبه بالآلة، ولكن يلاحظ كذلك، في الطرف الآخر، أن المطالبة بأن يكون كل فعل غير قابل للتنبؤ به، تؤدي أيضًا إلى هدم مفهوم الذات. ذلك لأنني لو كنت غير قابل للتنبؤ على الإطلاق، فلن أصبح عندئذٍ إلا صفحة في كتاب من الأرقام العشوائية، وهذا شيء لا شخصي تمامًا، شأنه شأن الآلة، وليس هذا ما نقصده بلفظ الذات. فالذات لا بد أن تتسم بقدر من الاتساق، ولا بد أن تكون أفعالها غدًا متمشية على نحو ملحوظ، مع الأفعال التي قامت بها أمس. ولقد كان هذا ما قاله اسبينوزا منذ ثلاثمائة عام، ووجد فيه الأساس اللاشخصي الذي أمكنه به التوفيق بين حرية الإرادة والحتمية.
على أنني لم أذكر اسبينوزا من أجل الشكل الذي اتخذه قراره السابق (الذي كان يتصف بجمود مفرط لا نقبل به)، وإنما من أجل المنهج الذي اتبعه. فقد رأى أن الإنسان لا بد أن يعرف بحيث تنبع أفعاله عن شخصيته وتصب فيها. غير أنه لم يبحث عن هذا التعريف في التفاصيل الواقعية والعملية لأنه كان مشغولًا بالانسجام الكلي للطبيعة وكان كغيره من فلاسفة القرن الذي عاش فيه، ينظر إلى الزمن العابر الذي يستغرقه سلوك الإنسان نظرةً أوسع وأكثر جمودًا مما ينبغي. غير أنه أدرك ما ندركه نحن الآن، وهو الإنسان لا يستطيع أن يشتري وجوده، ولا يستطيع أن يشتري ذاته على حساب اتساقه وتماسكه.
٨
فإذا أردنا أن نكون عمليين إلى حدٍّ يزيد على ما كان عليه اسبينوزا، فلا بد لنا أن نلتمس معنى الذات في تفاصيل السلوك بالذات. فما الذي يجعل فعل الواحد المنفرد — لا المجموع الكلي لأفعالي — فعلًا منتميًا إليَّ، لا إلى غيري؟ والأهم من ذلك، ما الذي يجعلني أدرك أن هذا فعلي، وليس فعل أحد غيري، وأنه يعكس ويتضمن في تفاصيله، على نحوٍ ما، ذلك الكل الذي أمثله، والذي ينمو طوال الحياة؟
هذا سؤال يتعلق بي وبيئتي معي، فأنا أسلك كما أفعل الآن، وأقلب الصفحة أو أخرج منديلي، استجابة لبيئتي (التي تشمل أيضًا بيئتي الداخلية)، فهل لو كررت هذه البيئة نفسها غدًا، بحيث أصل إلى آخر الصفحة نفسها أو أشعر بنفس الرغبة في العطس، هل سأكرر بدوري نفس الفعل؟ هل سأقلب الصفحة أو أخرج منديلي بنفس التفاصيل في المرة الثانية؟
إن البعض يقول أحيانًا إن فيزياء الكم (الكوانتم) قد أجابت عن هذا السؤال بإنكار المقدمة التي يبدأ منها: فنحن نعلم الآن أن احتمال تكرار البيئة نفسها ضئيل إلى أبعد حد، ولكن هذا الاعتراض، في السياق الذي نتحدث منه، ليس جديدًا، ولا هو ذو صلة بالموضوع فقد قال هرقليطس ما يقرب جدًّا من ذلك منذ أكثر من ألفَي عام. كما أن الحوادث التي تغير إطار أفعالي هي جزء من تجربتي، وهي كذلك، سواء أكانت تغييرات ضخمة أم تغييرات دقيقة تنتمي إلى المجال الذي تتحدث عنه فيزياء الكم. فليس هذا هو لُب الموضوع.
وحقيقة الأمر أن لُب الموضوع هو أن المرة الثانية التي أقوم فيها بالفعل مختلفة على الأولى اختلافًا ضروريًّا، لا عرضيًّا. فمهما يكن مقدار تشابهها في جميع النواحي الأخرى، فإنها مختلفة لأنها مرة لاحقة. إن ما أفعله غدًا ستكون وراءه خبرة تزيد عما أفعله اليوم، وسيكون وراءه بوجه خاص خبرة إخراجي المنديل مرة من قبل. وسيكون القائم بهذا الفعل في المرة الثانية ذاتًا أكبر على نحو ما من الذات التي استعملت المنديل في المرة السابقة.
وهناك نتيجة أخرى لفيزياء الكم أعمق من السابقة، لا تؤثر بدورها في الاستنتاج الذي توصلنا إليه، وهي النتيجة القائلة إن البيئة الواحدة لا يتعين عليها أن تؤدي إلى طريقة فريدة في إخراج المنديل، بل إن هناك مجموعة كبيرة من الطرق، قد تؤدي البيئة إلى اختيار أية واحدة منها، ذلك لأن التجربة ستظل مع ذلك تجعل المرة الثانية التي أسلك فيها مختلفة عن الأولى، وستغير بذلك مجموعة الطرق الممكنة أمامي. والواقع أن الرأي الذي ندافع عنه لا يرتكز على فردانية فعلي، في كل مرة، بل يرتكز على فردانية تجربتي بين كل فعل وآخَر.
ومجمل القول أنني لست شخصية ثابتة، لأن تجاربي تعمل دائمًا على توسيع نطاق كياني، ولا بدَّ لأي تعريف للذات أن يعمل حسابًا لهذا التوسيع. فطبيعة الذات تستمد من الطريقة التي تحول بها التجربة إلى معرفة؛ أي إلى استعداد للفعل.
لذلك فإني أومن بأن تعريف الذات يرتكز على دراسة التجربة البشرية. فلدى الإنسان تجربة في الحياة أكثر ثراءً مما لدى الحيوانات الأخرى، لأن عقله وحده يعمل دوامًا عن طريق صور، ويهبه بذلك حياة ملؤها الخيال. ويعمل الإنسان مثل لاعب الشطرنج حسابًا وتخطيطًا لحركات عديدة لا يلعبها بالفعل، تكون خلفية للمباراة، وعلى الرغم من أن هذه الحركات لا تُرى، فإنها لا تقل انتماءً إلى المباراة عن الحركات المرئية، ففي التذكر، وفي التخيل، وفي التأمل والتكهن والتنبؤ، تكون لدى الإنسان تجارب لا تحدث بالفعل، أي لا تشكل حوادث خارجية، وليست الذات سوى العملية التي تثبت فيها كل تجارب الإنسان الجسمية والذهنية بوصفها معرفة. لذلك فإن الفكرة الرئيسية التي أدافع عنها هي أن ما يجعل الإنسان فريدًا هو طبيعة معرفته. ومن هنا كان تحليلي للذات استطلاعًا لأبعاد المعرفة البشرية، وكانت الدراسات التي أقدمها في هذا الكتاب دراسات في نظرية المعرفة.
٩
والآن علينا أن ننتقل إلى الطرف المقابل في مناقشتنا للذات ونتساءل عن كيفية تعريف الآلة. هذا التعريف يبدو للوهلة الأولى أمرًا غايةً في البساطة. فنحن قطعًا نعرف ما تعمله الآلة، وكيف تقوم بعملها. فحين نضغط على زرٍّ ونُدير قرصًا، تقوم الآلة فورًا بالعملية رقم س، فتختار قناة للإرسال، أو تغلف رغيفًا من الخبز، أو تتابع بطريقة آلية مسار صاروخ. غير أن هذه الصورة غير صحيحة لأنها أبسط مما ينبغي، ومن وضوحها الزائف هذا تنبثق كل مظاهر سوء الفهم التي تكتنف الجدل الدائر بين الإنسان والآلة.
كذلك فإن هذا التصوير للآلة لا يكتسب مزيدًا من العمق لو أدخلنا (كما يفعل البعض) عنصر الاتفاق والمصادفة في الآلة، عن طريق استحداث أسلوب معين يجعلها تسير بطريقة غير متوقعة في واحد من طرق متعددة، إذ يظل من طبيعة هذه الأساليب، وضمنها أساليب فيزياء الكم، أن يكون للمصادفات التي تؤدي إليها نسبة معينة يمكن التنبؤ بها. فإذا كنا لا نعرف قناة الإرسال التالية التي سنحصل عليها، فإننا نعرف أننا سنحصل على القناة الثانية، مثلًا، بنسبة تبلغ ضعف نسبة حصولنا على الأولى ونصف نسبة حصولنا على الثالثة، أي إن هذه الصفة لا تجعل الآلة مختلفة، أو أكثر إنسانية، في أي شيء أساسي.
والأمر الذي لا يزال يعيب هذه الصورة التي نقدمها للآلة هو أنها تظل تُقدِّم وصفًا لآلة من الطراز الشائع المألوف، تكتفي بإطاعة أوامر آلية. صحيح أننا نتناقش مناقشة متعمقة جدًّا حول تركيباتها الداخلية، غير أننا نقبل عن طيب خاطر الفكرة الساذجة القائلة إن الأعضاء الحسية التي تؤثر بواسطتها البيئة فيها هي مجموعة من الأزرار. والواقع أن نقطة الضعف في الفلسفة التقليدية إنما تكمن في هذه النقطة بالذات. أي في افتراض أن العالم الخارجي يدفع الأزرار الخمسة لحواسنا، وبعد ذلك يتعين على حرية الإرادة وعلى الحتمية أن يخوضا معركتهما داخل ذلك الصندوق الأسود الذي هو نحن.
إن الآلة ليست مجرد مجموعة هادرة من التروس أو مجموعة هامسة من الدوائر الكهربية، بل إن هذه الأسلاك الجامدة التي لا تكف عن النشاط والحركة ليست سوى المرحلة المتوسطة والرابطة المرئية في عمليةٍ ذات خطوات ثلاث، تؤلف الخطوتان الأخريان فيها جزءًا لا يقل أهمية عن هذه الخطوة الوسطى. فالخطوة الأولى هي المدخل أو التعليمات، التي هي الصيغة الحديثة للزر الذي يجعل الآلة تبدأ عملها. وهذه الخطوة ينبغي أن تكون دقيقة وآلية، وهي تتألف من مجموعة لا لَبْس فيها من الثقوب أو العلامات على شريط يوجه الآلة نحو فرع معين من شبكة الطرق الممكنة الموجودة فيها. وبعد ذلك يأتي الجهاز الآلي المادي الذي ينفِّذ هذه التعليمات بحذافيرها ويحوِّلها إلى أفعال، والخطوة الثالثة هي النتيجة أو المخرج، الذي هو بدوره حاسم وقاطع، وهو في الحاسب الإلكتروني مجموعة أخرى من الثقوب أو العلامات المسجلة على شريط.
ومما له أهمية قصوى في هذا الصدد، وفي الوصف الذي أقدمه للآلة، أن مخرج الآلة، أو الناتج عنها، ينبغي ألا يقل في دقته وعدم التباسه عن مدخلها … ذلك لأن الآلة الحديثة شأنها شأن الإنسان، مطلوب منها جزئيًّا أن تنظم نفسها، ولابدَّ لهذا الغرض أن تكون قادرة على توجيه التعليمات إلى ذاتها، ولا بدَّ أن تكون مثل هذه الآلة، أو أن يكون الإنسان قادرًا على تغذية ناتجة تغذية مرتدة إلى ذاته على أساس أن هذه التغذية تعليمات جديدة. ومن هنا كان من الواجب أن يكون ناتجها أو مخرجها قاطعًا، بقدر ما تسمح الآلة، وأن يكون قابلًا للتعبير الرمزي، محدَّد المعالم، موحد الاتجاه، بدرجة لا تقل في ذلك كله عن مدخلها.
١٠
«لما كنا نرى الحياة مجرد حركة للأطراف تكمن بدايتها في جزء رئيسي معين منها. فلماذا لا نقول إن كل الآلات (أي الماكينات التي تحرك ذاتها بزنبركات وعجلات كما تفعل الساعة) لها حياة صناعية؟ إذ ما هو القلب؟ أليس زنبركًا؟ وما هي الأعصاب، أليست أسلاكًا؟ وما هي الأطراف، أليست عجلات تعطي الحركة للجسم بأسره وفقًا لما شاء صانعها؟»
غير أننا نعرف اليوم أن هذا ليس إلا وصفًا لنوع بدائي من الآلة على حين أن الإنسان ليس نوعًا بدائيًّا، بل إنه معقَّد التركيب كالحاسب الإلكتروني على الأقل، وهو كالحاسب يوصف من خلال السمات الخاصة لما ينتجه (لمخرجه). فإذا كان من الممكن تسجيل مخرجه بطريقة لا لبس فيها ولا غموض على شريط، عندئذٍ يكون في عمله مماثلًا للحاسب الإلكتروني، أما إذا لم يكن، فإنه يكون أشد تعقيدًا من الحاسب.
إن الحاسب الإلكتروني لا يعمل عن طريق دفعه أو جذبه أو تحريكه بواسطة «دوَّاسة»، كما أنه لا يُغذَّى بأي مدخل آخر ثابت، بل هو آلي، ولكنه يتسم بالمرونة في جميع المراحل: أي في مساراته الداخلية، وكذلك في التعليمات التي يقبلها، وفي المخرج الذي يمكن أن يحوِّله إلى تعليمات جديدة. وجوهر الحاسب، شأنه شأن الآلات جميعًا، هو أن المدخل والمخرج آليان بدورهما. فإذا أمكن تسجيل التعليمات، وضمنها تلك التي يمكن أن تصدر عن المخرج على شريط، عندئذٍ تكون لدينا آلة، أما إذا لم يكن ما في داخلنا آلة، فلا بدَّ أن يكون ذلك راجعًا إلى أننا لا نستطيع أن نضع ونختزن على شريط بعض تعليماتنا الموجهة إليه بطريقة لا لبس فيها ولا غموض.
١١
إن علينا — إذا شئنا أن نعرف إن كان في الإنسان ذات غير آلية — أن ننظر في أفعال الإنسان التي يأتيها بخبرته، لا أن ننظر داخل مخه، فعلينا أن نُحلِّل طبيعة الخبرات المختلفة وكيف تتحول إلى معرفة. وهذا أمر ذو أهمية حاسمة، إذ إنه بمجرد أن تثبت المعرفة على نحو قاطع من أجل الفعل، فلا بدَّ أن تبدأ الآلة البيولوجية في العمل. والمهمة التي نأخذها على عاتقنا في هذه الدراسات هي البحث في نوعين من التجربة، وفي المعرفة التي نستمدها منهما.
وسوف أوضح أن الإنسان هو في بعض أفعاله ذات؛ لأن الأساليب التي يتبعها من أجل اكتساب المعرفة لا يمكن أن تُصاغ كلها صياغة شكلية. والرسائل التي تأتيه من العالم الخارجي ومن عالمه الباطن معًا لا تؤثر كلها فيه كأنها ثقوب في شريط، أو علامات ممغنطة منطبعة عليه. بل إن مجموع انطباعاته الحسية، وذكرياته المختزنة من الماضي، وتفاعُل الفكر فيما بين هذه وتلك، كل ذلك يشتمل على نوع من المعرفة لا يمكن صياغته في رموز، وكأنه المدخل الجديد لآلة من الآلات.
فالآلة ليست شيئًا طبيعيًّا، وإنما هي شيء من صنع الإنسان يحاكي فهمنا الخاص للطبيعة ويستغله، وليس في استطاعتنا أن نتنبأ بمدى التغيير الذي سيطرأ على فهمنا هذا. فنحن لا نستطيع أن نتنبأ بجميع الآلات الممكنة أو أن نتصورها، هذا إذا كان للفظ «جميع» أي معنى في هذه العبارة. وكل ما يمكننا قوله، وكل ما أستطيع تأكيده، هو أننا لا نستطيع الآن تصور أي نوع من القانون أو الآلة التي يمكنها التعبير عن المجموع الكامل لضروب المعرفة البشرية تعبيرًا شكليًّا رمزيًّا.
وما دمت قد تحدثت على هذا النحو عن ضروب المعرفة البشرية، فلا مفرَّ لي من أن أتوقف قليلًا لإيضاح ما أعنيه بها؛ ففي هاتين الدراستين سأتحدث عن طريقتين يمكنني بهما أن أقرر استخدام منديلي غدًا بطريقة تختلف عن تلك التي استخدمته بها اليوم. إحدى هاتين الطريقتين أُلخِّصها في قراري الآتي: «لن أبسط منديلي بهذه الطريقة ثانيةً لأنه في المرَّة السابقة أصاب زوجتي … ولا شك أن هذه غلطة فيزيائية، وأن المعرفة الصورية بقوانين نيوتن كفيلة بتجنبها.» وهكذا يمكن جعل الآلة تقدر هذه الغلطة وتصححها.
غير أن هناك نمطًا آخر للقرار أقول فيه: «لن ألوِّح بمنديلي بهذه الطريقة ثانية لأنه في المرة السابقة أحرج زوجتي.» هذا القرار مبني على نوع آخر من المعرفة ليس شكليًّا، وإن كان له مع ذلك (في رأيي) مكانة مساوية في أذهاننا. هذا الضرب من المعرفة أطلق عليه اسم معرفة الذات؛ إذ إنه يستلزم أن أتعرف ذاتي في زوجتي، بحيث إن ما أتعلمه على هذا النحو يُلقي ضوءًا على ذاتي وعلى ذاتها معًا. مثل هذا التعرف، الذي يحتل في عالم الإنسان مكانة حقيقية هامة، لا يوجد شيء يناظره في الآلات. وإذا كان تشارلس دارون قد قال عن نفسه بأسف: «يبدو أن ذهني قد أصبح نوعًا من الآلة»، فلنذكر أن هذا الضرب الآخَر من المعرفة هو الذي دفعه إلى ترك كتابه «أصل الأنواع» غير منشور طوال عشرين عامًا، وذلك لأسباب منها، على الأقل، معرفته بأنه سيحرج زوجته.