الدراسة الثالثة: معرفة الذات
١
«لست أعرفُ أيَّ لون أخضر في الدنيا، كما أن اللون الوردي والأزرق الفاتح هما في نظري سواء. والأحمر الداكن، وكذلك الأخضر الداكن، يتساويان عندي، حتى إنني كثيرًا ما حسبتهما متكاملين. أما الأصفر بدرجاته الخفيفة والثقيلة والمتوسطة. وكل درجات الأزرق ما عدا الدرجة الفاتحة جدًّا، التي تُسمى عادةً بالسماوي، فإني أعرفها حق المعرفة، وأستطيع تمييز أي عيب في أيٍّ من هذه الألوان بقدرٍ كبيرٍ من الدقة، وإن كان القرمزي الداكن والأزرق الغامق يختلطان عندي أحيانًا، ولقد حدث منذ بضع سنوات أن زوَّجت ابنتي لرجل محترم ذي مكانة، وفي اليوم السابق للزواج حضر إلى بيتي مرتديًا حلة جديدة من قماش ممتاز، فساءني كثيرًا أن يأتي مرتديًا حلة سوداء (كما اعتقدت)، وطلبت إليه أن يعود لكي يغير ملابسه بأخرى من لون آخر، غير أن ابنتي قالت إن اللون لائق إلى أبعد حد، وأن عيني هما اللتان خدعتاني. ولقد كان اللون الذي ارتداه هذا السيد وهو من رجال القانون أرجوانيًّا جميلًا، ولكنه كان في عيني أشد الألوان كلها سوادًا.»
هذا الكلام يعد واحدًا من أول الأوصاف في التاريخ البشري لذلك العيب الشائع إلى حدٍّ بعيد، وهو عمى الألوان المشترك بين الأحمر والأخضر. ولقد كان ما عجل بظهوره رواية متعلقة بحالة أشد حدة من حالات عمى الألوان، رويت قبل بضعة شهور خلال العام نفسه، أما الخطاب الذي تحدث عنه فهو أول وثيقة مؤكدة نملكها في هذا الموضوع. وفي ذلك القرن نفسه، ولكن في وقت لاحق، قدم العالم الكيميائي الكبير جون دالتون وصفًا مفصلًا للخلط الذي يعانيه هو ذاته بين الأحمر والأخضر، وأصبح العيب الذي يعاني منه (والذي كان مماثلًا للعيب الذي عانى منه المستر سكوب، إذ لم يكن يرى «فارقًا كبيرًا في اللون بين عصا رفيعة من شمع الختم الأحمر وبين نصل من النجيل») يُسمى باسمه، وبقدر ما نعلم فإن أحدًا لم ينتبه إلى هذه العيوب الملحوظة التي تقلِّل إلى حد بعيد من مدى التجربة البصرية، قبل القرن الثامن عشر.
تلك بلا شك حالة تسترعي النظر؛ لأن ذلك الخلط بين الأحمر والأخضر ربما كان في بعض أشكاله، أكثر عيوب الذكور شيوعًا. وقد تبين في الحالات التي بحث فيها عن وجود هذا العيب، أن ما يتراوح بين ستة وثمانية في المائة من الرجال يعانون منه، أي حوالي رجل واحد من بين كل خمسة عشر رجلًا. والمعلومات التي نعرفها عن طريقة وراثته، وهي ذاتها طريفة، توحي بأن هذه النسبة المئوية ظلت ثابتة على مر العصور، أي إن واحدًا من كل خمسة عشر رجلًا كان غير حساس بدرجة أو بأخرى، للفرق بين الأحمر والأخضر طوال العصور التي كان الأدب فيها يكتب عن جمال الطبيعة وروعة قوس قزح والغروب، والألوان البديعة للأزهار والأطيار. فالألوان في قطع الفسيفساء القديمة، والأصباغ البديعة التي استخلصها صناع البحر المتوسط من نباتات وحيوانات بعيدة عنها كل البعد لكي يزينوا بها الملابس التي يؤدون بها الشعائر، والأحجار الكريمة على صدور كبار الكهنة في أورشليم، كل هذه قد اختيرت من أجل — وأحيانًا على يد — أناس كان الكثيرون منهم، على حد تعبير المستر سكوت المليء بالحيوية، يرون الأحمر الداكن والأخضر الداكن سواء، حتى إنهم كثيرًا ما حسبوهما متكاملين. وربما لم يكن السبب الذي وصف من أجله هوميروس البحر بأنه «في لون النبيذ الغامق» هو رغبته في تنويع الألوان، بل كونه مصابًا بعمى الألوان وقد قال شكسبير على لسان ماكبث قبل أقل من مائتي عام من كلام المستر سكوت:
«أيقدر محيط نبتون العظيم، بأسره على أن يغسل هذا الدم من يدي؟ كلا، إن يدي هذه هي التي ستخضب البحار الواسعة وتحيل أخضرها أحمر قانيًا.»
ومع ذلك فإن واحدًا من كل خمسة عشر من الرجال الذين سمعوا هذه الأبيات كانوا دائمًا عاجزين عن التمييز بين الأخضر والأحمر.
هذا العجز لم يكن راجعًا إلى أي جهل عام بالعلم. فقد أجريت ملاحظات واسعة وتجارب دقيقة قبل أيام المستر سكوت بوقت طويل، وشيدت على أساس هذه الملاحظات والتجارب نظريات عميقة. فالأعمال العظيمة التي قام بها، في ميدان الميكانيكا، جاليليو، ويوهان كيلر، وإسحق نيوتن، قد تمت في القرن السابع عشر، وكان وليام جلبرت قد ألَّف كتابه عن المغناطيس قبل ذلك بوقت طويل، وأخذ يفكر في الكهرباء، بل إن بنجامين فرانكلين كان قد جعل طائرته الورقية تحلق في عاصفة كهربية قبل عام ١٧٧٧م.
بل إن كشوف هؤلاء العلماء لم تقتصر على العلوم الطبيعية. فقبل التاريخ المذكور بحوالي مائتي عام كان جاليليو قد أمسك بنبضه وضبط عليه توقيت بندول، وكان وليام هارفي قد تتبع الدورة الدموية، بل لقد كان من الشائع أن يبدأ العالم في تلك القرون حياته مشتغلًا بالطب، يلاحظ الناس ويجري تجاربه عليهم قبل إجراء التجارب على الطبيعة. فالرجال المتميزون بالنشاط والبحث عن المعرفة كانوا دائمًا يحولون حب استطلاعهم إلى أنفسهم، وعمى الألوان عيب خاص بالرجال وحدهم، فهو نادر بين النساء.
ولقد كان من المستحيل قطعًا أن يظل عمى الألوان دون أن يلاحظه أحد طوال ألوف السنين لو كان يسبب لمَن يعانونه متاعب كتلك التي يسبِّبها وجع الأسنان والاستسقاء. ولكنه في الواقع لا يسبِّب آلامًا كهذه، فهو ليس علة ثقيلة تصرخ مطالبة بالعلاج. ذلك لأن الإحساس باللون يكمل تجربتنا بطريقة أكثر تواضعًا، فهو ينسج علاقة بيننا وبين العالم لا تثقلها أوامر تدعو إلى الفعل، مثلما يحدث في حالة الإحساسات الأخرى. وبطبيعة الحال فنحن لا نحب أن نحيا في عالم الأبيض والأسود كالصورة الفوتوغرافية، ولكننا كنا نستطيع أن نفعل ذلك كما تفعل معظم الحيوانات بالفعل، وكما تفعل الآلات قطعًا.
إن اللون ينتمي إلى ذلك الميدان من الخبرات الذي يستكشفه الفن والشعر. ففي أواخر القرن السابع عشر كان للدراسة العلمية التي قام بها روبرت هوك عن الألوان المشعة في أجنحة الحشرات والطيور وتحليل نيوتن الرائع للطَّيف، كان لهذه الدراسات تأثيرها العميق في الشعراء، بحيث جعلتهم يستخدمون المزيد من الكلمات المتعلقة بالألوان. ولكنها لم تجعل الشعراء وقراءهم يلاحظون الحالات الشاذة في خبرة الرؤية لأن هذه ليست هي الطريقة التي يشغل بها الشعر خبرتنا. وهكذا ظل عمى الألوان دون أن يلاحظه أحد؛ لا لأن الشعراء عاجزون عن الملاحظة، بل لأن الأسئلة التي يطرحونها عن الخبرة أو التجربة مختلفة في النوع عن تلك التي يطرحها العلماء.
٢
هنا نجد الإحساس بالهستيريا قويًّا محكمًا. وفي كل موضع من المسرحية يشيع ذلك الرعب الطاغي، المتصاعد، الذي يغرق في النهاية ماكبث وزوجته. لقد فهم شكسبير شخصيتهما فهمًا تامًّا. فهما أشبه بسجينين في قفص التدبير التي أحكمته الزوجة، وحين تنهار أعصابهما، ينقلب القفص عليهما.
وتأتي سخرية القدر الأخيرة قرب نهاية المسرحية، حين تدور الأحداث، دورة كاملة، ويسمع ماكبث، وهو في حالة الحصار النفسي الخانق، صوتًا آخر مفاجئًا:
تلك هي أكثر أقوال المسرحية إثارة للحزن: إنها شاهد القبر الكابي للزوجة التي حركت سلسلة الحوادث الدامية المتدرجة. تلك الحوادث التي حطمت آخر الأمر اللحم والعظم والتفكير والإحساس.
وفيما بين الضجة الأولى والأخيرة، بدل الزوج والزوجة موضعيهما وأخذا ببطء يتبادلان شخصيتيهما. وفي المسرحية نقطة انتقال أو عبور يوجه فيها ماكبث سؤالًا إليهما معًا:
أهذا سؤال عملي؟ أجل؛ إنه معقول وذو دلالة عميقة، إنه نوع السؤال الذي يوجهه زوج المريضة إلى الطبيب هامسًا، وهو يغادر حجرة كل طبيب من ألوف الأطباء الذين يستشيرهم. ومن الطبيعي أن يرد عليه الطبيب ردًّا جافًّا، فيقول إنه ليس محللًا:
غير أننا نعلم حق العلم أن هذا ليس جوهر سؤال ماكبث، وأن الجواب ليس جوابًا طبيًّا علميًّا يُقال فيه إن ذلك غير ممكن. فالحقيقة هي أن ماكبث يسأل سؤالًا تستحيل الإجابة عنه، وهو سؤال لا يتعلق بزوجته، بل بنفسه، وهو لا يوجهه إلى الطبيب، بل إلى نفسه، فكيف وصل إلى حيث هو الآن؟ أكان ذلك مكتوبًا على جبينه، وكأنه قدرٌ لا يُرد؟ وأية مؤامرة أغرته من خداع للناس أو للذات إلى خداع آخر؟ إن ماكبث يعرف بنفس الوضوح الذي تعرف به زوجته في نومها أن من المستحيل الرجوع في أية خطوة، وأن كل خطوة كانت من صنع الأقدار، وأنه لا يوجد الآن ولم يكن هناك في أي وقت طريق آخر يمكنه السير فيه. هذا هو جوهر سؤال ماكبث، وهذا ما يمزقه. ولقد كان جوابه على حكمة الطبيب المهنية المتزمتة يتسم بالبرود واللامبالاة والعناد، ولكنه كان مع ذلك يتسم باليأس:
وربما كنا ميالين إلى الاعتقاد بأن هذا خيال مسرف، غير أننا قد رأينا بأنفسنا هتلر وهو يسلك هذا الطريق المؤدي إلى الدمار، دون أن يتلفَّت حوله وكأنه يسير في أثناء النوم، حتى احترقت برلين على رأسه.
لذلك ينبغي أن نستنتج من هذا شيئًا آخر؛ هو أن التصوير الشائق للشعر هو الأداة الصالحة للكشف عن أحاسيس الخوف والطموح والهستيريا واليأس، وللتعبير عنها، ولكنه مع ذلك أداة غير صالحة للكشف عن أحاسيس اللون وتوصيلها إلى الآخرين. وسوف أقتبس فيما يلي حديثًا آخر لماكبث تشيع فيه الصور المتعلقة بالألوان:
إن ما يجيد ماكبث الحديث عنه، حتى أدق التفاصيل، هو الأيدي الملطخة وألوان الخوف. وهنا كان شكسبير متوحدًا مع أبطاله، وكان يعرف أن ما يدور في رأسه يدور أيضًا في رءوسهم. غير أن ما لم يكن يعرفه هو أنه من بين هذه الرءوس، كان واحد في كل خمسة عشر عاجزًا عن أن يُكوِّن لنفسه صورة كاملة للشكل الذي يتبدى عليه البحر حين يمتلئ بالدماء.
٣
إن نوع المعرفة الذي بدأتُ أتتبعه في «ماكبث» هو النوع المميز للأدب، وسوف أقوم ببحثه في هذه الدراسة، وفي اعتقادي أن نفس النوع من المعرفة، الذي سأطلق عليه اسم معرفة الذات. يكمن من وراء كل الفنون، ومع ذلك فسوف أقتصر في الأمثلة التي أقدمها على الأدب، وعلى الشعر بالذات في معظم الأحيان. والسبب الذي يدفعني إلى ذلك ذو طابع عملي: فالأدب يقبل المناقشة، ويكشف عن معانيه بطريقة أكثر شفافية من التصوير والموسيقى مثلًا، ومن المؤكد أنني أستطيع الكلام عما يقوله الأدب لي بطريقة أوضح مما أستطيعه في أي فنٍّ آخر.
والأدب، بوجه خاص، يُكتب بلغة قريبة من لغة العلم، ومن ثَم كانت المقارنة بينهما مباشرة وحاسمة. وإني لأعتقد أن أي شيءٍ يتضح لنا في هذه المقارنة أنه مميز للأدب، سيكون أيضًا مميزًا للفنون الأخرى.
ولكن حتى لو كنت على خطأ، وكان الأدب أكثر خصوصية مما ذكرت، فليس هذا بالأمر الهام. ذلك لأن غرضي في هذه الدراسة هو أن أعرض نوعًا من المعرفة يُستخدم فيه الخيال بقدر ما يُستخدم في العلم، وإن كان مع ذلك نوعًا مختلفًا: فهو ليس معرفة بشيء آخر فحسب، بل هو معرفة تتم بطريقة مختلفة. وبالنسبة للهدف الذي أضعه في ذهني، يكفيني أن أجد نوعًا آخر من المعرفة في فنٍّ واحد، وليكن الشعر.
إن الصور المستخدمة في هذه القصيدة تنتمي إلى صميم عصرنا. فهي تستخدم تعبير «نجمة آفلة»، لا لإحداث تأثير شعري، ولكن لكي تصف فقط ما يحدث لإحدى المشهورات في هوليوود. وفي مواضع أخرى تستخدم عبارات مباشرة تنتمي إلى عالم اليوم، كالأمر الذي توجهه بأن تجعل بورصة الأوراق المالية كلها ملكها. أي إن القصيدة قد صيغت بطريقة متعمدة ترمي إلى الاستعانة بمجالات للتجربة نشعر بأنها ذات تأثير في حياتنا الراهنة، وتقوم بدور فيها.
كذلك فإن القصة التي تحكيها القصيدة واضحة، ومعاصرة فالشاعر يقابل امرأة كانت نجمة في ماضيها، وأصبحت الآن لا شيء. مثل هذه القصص لم تكن تحتاج، ولا تحتاج، إلى اختراع. ففي الوقت الذي أكتب فيه هذه الدراسة أعلن عن موت «كارولين أوتيرو» في نيس، وكانت كارولين هذه آخر نجمة من نجوم الرقص في التسعينيات من القرن الماضي، وقد صورها «تولوز لوتريك» في لوحة إعلان ما زالت تطبع منها نسخ إلى الآن، وكانت باريس تحتفل بها وتعبدها وتغدق عليها الأموال، ثم نسيتها بمُضيِّ الزمن. وقد عاشت حتى سن السادسة والتسعين، فقيرة فقرًا مدقعًا، ويُشاع أنه لم يتبقَ لها في النهاية شيء سوى حزمة مخزونة من السندات الروسية القيصرية التي لا تساوي شيئًا. فإن كانت هذه الشائعة صحيحة، فإنها تلخص قصتها في سخرية أكثر مرارة من قصة فروست.
لقد طاف بتفكير فروست، واقعيًّا، أن الناس يخافون مما يصيبهم في شيخوختهم من تدهور، ويواجهونه على أنحاء شتى، ومثل هذا الخوف يمكن تجنبه بالموت مبكرًا، ولكن إن كان يتحتم أن نصل إلى الشيخوخة، فخير لنا أن نضمن احتفاظنا بكرامتنا بأي ثمن، حتى لو كان علينا أن نشتريها، وهكذا يكون الدرس المستخلص (إن كان ثمة درس) هو: لا تصبح نجمًا آفلًا: أمِّن نفسك في شيخوختك، أيًّا كان الثمن، بأية وسيلة، حتى لو كانت تجارية، أو وضيعة، أو مظهرية.
ولكن أنعتقد حقًّا أن القصيدة ترمي إلى أن تلقننا درسًا؟ هل تعرف في أي جانب نحن، أو في أي جانب كان فروست؟ وهل نؤمن حقًّا بأن فروست يقصد وضع قاعدة مفادها أن تأمين المرء لشيخوخته بشراء الأصدقاء أفضل من أن يعيش بذكرى الشهرة التي كان فيها نجمًا؟ كلا بالطبع، فالشاعر لا يقدم هذه النصيحة، كما أنه لا يقدم النصيحة المضادة، فذروة القصيدة ليست تلك المصافحة الساخرة اللاذعة التي هي أشبه برسالة إلى رجل متوسط العمر يتجه غربًا، والتي تتضمنها الأبيات الأخيرة.
بل إن الذروة أتت قبل ذلك ببيتين حين عرض بموضوعية أزمة الإنسان وخبرته، دون ادعاء بأنها يمكن أن تحل بواسطة أية قاعدة ذات طابع أخلاقي.
إن الشاعر لا يُسدي نصحًا على الإطلاق، وهو لا يطلب إلينا أن نقبل عبرة أخلاقية، ولا يطلب إلينا حتى أن نستخلص هذه العبرة لأنفسنا؛ ذلك لأن عالم الفن عالم يوجد فيه إرجاء أو تعليق للقرارات، أعني ما أسماه صمويل تيلور كولريدج بالإرجاء الإرادي لعدم التصديق: إرجاء ملكة الحكم.
فليس ثمة دروس أخلاقية في أية قصيدة، وليس ثمة دروس أخلاقية في أيِّ عملٍ فني، وليست هناك عِبر محدودة يمكن استخلاصها، أو نصيحة ينبغي اتباعها، بل إن القصيدة تحوي متضمنات متعددة تثري خبرتنا في الحياة، غير أنها خبرة متعددة الجوانب، والشاعر لا يطلب منا أن ننحاز إلى هذا الجانب أو ذاك. إن روبرت فروست، بروح الدعابة المقبضة، يلخِّص طبيعة الفن؛ إذ يدَّعي أنه يعلمنا درسًا لا يريدنا أن نتعلمه. ففي الفن يستطلع الخيال مختلف بدائل السلوك البشري دون أن يتخذ أبدًا أيَّ قرارٍ في صف هذا البديل أو ذاك، وبهذا التردد المتوتر الموفق، وبه وحده، يختلف العمل الفني عن العمل العلمي.
٤
ويظهر ذلك بمزيد من الوضوح في العلوم المنطقية، فإذا أكد المنطق القضية س، فإنه بذلك ينكر القضية لا-س. فالمنطق يعطينا الحرية في أن نقول إن الحب بسيط، أو إنه نعمة، أو إنه جسدي، إن كنا نعتقد أن ذلك صحيح، ولكنا لا نستطيع، منطقيًّا، أن نقول بعد ذلك عن هذا الحب نفسه إنه معقد، أو إنه نقمة، أو روحاني، وحتى لو كان لدينا منطق أكثر رحابة، يوجد فيه بديل ثالث إلى جانب س ولا-س، فإن هذا البديل يؤكد أن الجمع بينهما لا معنى له. أما في الشعر فإن تأكيد س ولا-س معًا ليس أمرًا لا معنى له. فليس مما لا معنى فيه أن نقول إن الحب عادي وغير عادي في الآن نفسه. بل إن الشعر على عكس ذلك، يعطي نفسه فضل التعبير عن المعنى الباطن لخبرة الحياة ذاتها.
ولكن عندما يصلان إلى بيت أبيها، تغلق الباب في وجهه، وتنصرف عنه برشاقة، وتقدم إليه نصيحة عملية:
هذه القطعة ساحرة إذا نظرنا إليها على أنها أقصوصة شعرية لمغنٍّ جوال. أما بوصفها قصيدة، فإنها لا تقل سطحية عن قانون السلوك الذي تدعو إليه: فكلاهما يفتقر إلى التفاعل والتوتر الذي تتسم به الحياة البشرية. فهي تؤكد س، وعنصر التهكم فيها (على خلاف ما نجده في قصيدة فروست) لا يتضمن إلا السخرية؛ إذ إنه يضيف نتيجة تقول إن كل مَن يؤمنون بعكس س مغفلون.
٥
وعلى العكس من ذلك فإن القصيدة العميقة ليست تدريبًا على كيفية التصميم واتخاذ القرار الفوري ولا تعلمنا أن ننحاز إلى نوع معين من الفعل بدلًا من نوع آخر. والمعرفة التي نكتسبها منها لا تخبرنا كيف نسلك، بل كيف نكون، فالقصيدة تخبرنا كيف نكون إنسانيين. إذ توحد بيننا وبين الآخرين، وأن نهتدي من جديد في أنفسنا إلى المشكلات التي تحيرهم. فما نتعلمه منها هو معرفة الذات.
ولست أعني بذلك معرفة ضيقة بعيوبنا فحسب، بل إن الذات التي نكتشفها في هذا الضرب من المعرفة هي كل ذات وهي شاملة أعني الذات الإنسانية. أو بتعبير أفضل، فإن كلًّا منا يكتشف الخطوط العامة لذاته داخل الكل الإنساني الشامل. ونحن نتعرف أنفسنا في الآخرين، كما نتعرف شخصية الآخرين في أنفسنا. إننا نقارن أنفسنا بالآخرين، وتكشف لنا المقارنة عن كنهها، كما تكشف في الوقت ذاته عن كُنه الإنسان، في عمومه وخصوصيته.
«لو سألني شخص إن كنت أشعر بألم وأجبته بالإيجاب. فإن ردِّي، كما أفهمه ليس إجابة عن سؤاله. ذلك لأنني أحكي حدوث شعور معين، على حين أن سؤاله لم يكن من الممكن إلا أن يكون سؤالًا عن حالتي الصحية. وكذلك فإن قال هو إن ردِّي كان باطلًا، فإنه لا يناقضني بالمعنى الصحيح؛ إذ إن كل ما ينكره في هذه الحالة هو إظهاري لعلامات الألم المميزة، على حين أن هذا ليس ما قلته، إنه ما فهم أنني قلته، ولكنه ليس ما فهمته أنا ذاتي.»
من هذه النقطة تنطلق وجهة النظر التي أودُّ أن أعبِّر عنها في هذه الدراسة. فالحل الذي أتينا به للصعوبة السابقة يتحول إلى مبدأ يُسترشد به في العمل. ذلك لأنه إن كان ذهنك يعمل مثل ذهني فعندئذٍ لن يكون الأمر مقتصرًا على تصديقك لما أقول إنني أشعر به، بل إنك تتعلم منه، فعن طريق توحيد نفسك معي، تستطيع أن تتعلم أشياء جديدة عن الذات الإنسانية، وعن نفسك، لا بوصفك شخصًا، بل بوصفك مثلًا واحدًا للإنسان. وأنك لتتعمق على نحو أكمل في ذهنك الخاص عن طريق تعمقك من خلالي في الذهن البشري. وبطبيعة الحال فأنت لن تكتسب هذه المعرفة من نصيحتي الفلسفية العميقة، لأن هذه النصيحة لن تُنبئك إلا بالطريقة التي تسلك وتفكر بها. أما المصدر الذي ستكتسب منه هذه المعرفة بحق فهو الشعر الذي أقدمه، إن كان جيدًا.
٦
إن ما أؤكده هو أن القصيدة الشعرية تقدِّم إلينا معلومات بضربٍ من المعرفة يتميز بأنه متعدد القيم، على حين أن البحث العلمي يقدم إلينا معلومات بضربٍ من المعرفة يتميز بأنه أحادي القيمة، وهذا رأي يختلف كل الاختلاف عن الرأي التقليدي (الذي أحياه ألدوس هكسلي) القائل إن لغة الشعر فيها غموض والتباس، وأنها لغة شخصية مشحونة بالانفعالات، على حين أن لغة العلم دقيقة، لا شخصية، عامة. فليس من الصحيح (كما قلت من قبل) أن العلم بوصفه لغة للفكر، متحرر من الغموض والالتباس. فلو كان كذلك، لما كان فيه مجال للخيال، ولكان مغلقًا وجامدًا. ففي كل اللغات الحية، يتلاعب الذهن البشرى بالالتباسات التي تكمن مستترة في كل فكرة عامة، أي في كل لفظ، ويستطلع هذه الالتباسات. والواقع أن الفارق ينحصر في شيء آخر، هو اختلاف الهدف بين العلم والأدب. فالتجربة العلمية تخطِّط لكي تكون فاصلة، بحيث تصبح لدينا أسس لتفضيل مسلك على آخَر. أما التجربة الأدبية فتعرض أمامنا بدائلها بحيث ننغمس نحن فيها، ونتعلم معرفة أنفسنا والآخرين في الآن نفسه.
ومع ذلك فان اختلاف الهدف بين العلم والأدب يتمثل في اختلاف استخدامهما للغة. فلدى العلم في أي وقت لغة جاهزة يعرض بواسطتها ما هو معروف عندئذٍ، كأنه شيء نهائي. أما الأدب فليست لديه لغة كهذه، إذ لا يمكن تقديم عرض كهذا، حتى لو كان ذلك عرضًا مؤقتًا. ففي الأدب يكون الفكر هو واللغة التي تُعبِّر عنه شيئًا واحدًا، إذ يعمل الفكر في الآن نفسه على تشكيل العبارة وإضفاء معنًى عليها، وهذا عين ما يفعله معنا بدورنا.
هذا الكلام لم يعُد مضحكًا لأنه مرير أكثر مما ينبغي، ولكنه يتضمن الجوهر الساخر للدعابة، الذي يكمن في التلاعب بمعنيين متضادين، لا يقصد من أي منهما أن يستبعد الآخر، حتى لو كانا متعارضين، كما هي الحال هنا. فالأمر في هذه الحالة يبدو كما لو كنا نجمع بين أزواج من الحِكم الشعبية، فنقول مثلًا: «رأسان خير من رأس واحد»، ثم نقول: «المركب الذي به رئيسان يغرق» أو نقول: «قدِّر لرجلك قبل الخطو موضعها»، ثم نقول «من تردَّد ضاع». وبطبيعة الحال فليس المقصود أن نتلقى تعليمات من هذا أو ذاك، تمامًا كما أنه ليس المقصود أن نتلقاها من لير أو من «الأحمق المر» الذي يخاطبه.
٧
إن مسرحية الملك لير تضم شخصيتين تعبران عن نظرتين متضادتين إلى العالم مألوفتين في الفلسفة كما في الأدب، هاتان الشخصيتان هما ابنا جلوستر: إدموند، الابن غير الشرعي، وإدجار، الابن الشرعي الذي ينبغي — وفقًا لنظام الطبيعة — أن يكون هو وريث العرش. وتُعد العلاقة بينهما والخلفية التي ترتكز عليها المسرحية، نوعًا من «القافية»، التي تظل دائمًا غير مستقرة، والتي يقف فيها المعنيان المتضادان للطبيعة كلٌّ في مقابل الآخر. فإدموند يُعبر عن الطبيعة الأبيقورية، أي عن الحركة العشوائية للذرات التي لا يسودها قانون سوى بقاء الأصلح. فأولى الكلمات التي يقولها هي:
وبطبيعة الحال فإن هذه الطبيعة التي يؤمن بها اللقيط (والتي هي مشئومة مثل طريقة ظهوره إلى الدنيا) تقف في الطرف المضاد لذلك التنظيم الرواقي الكامل الذي يكون فيه لكل شيء مكان طبيعي؛ أعني مكانًا تفرضه طبيعته، والطبيعة كلها. وهكذا تتعاقب الحوادث غير الطبيعية؛ فالملك لير يتخلى عن مكانه لبناته، وإدجار يُخدع ويضطر إلى الهرب من موقعه، وإدموند يتسلق إلى أعلى (إلى فراش الفتيات الشرهات) ويفقد جلوستر بصره بطريقة وحشية.
وفي دوامة العقوق بين الآباء والأبناء وبين الأبناء والآباء، يُصاب لير بالجنون، ويصيح في وجه العاصفة:
ولقد استمد شكسبير هذين الرأيين عن الطبيعة، الأبيقوري والرواقي، من أقاويل كانت سارية في زمانه؛ إذ كان مفهوم الطبيعة مفهومًا يشيع تداوله والجدل حوله عندئذٍ، بل إن تعبير «الابن الطبيعي» قد تغير معناه تغيرًا أساسيًّا خلال حياة شكسبير، فكان يعني ابنًا وُلد لزوجين شرعيين، وقبل وفاته كان يعني لقيطًا أو ابنًا غير شرعي. ولقد كانت الطبيعة — كما عُرفت في عصر النهضة الأوروبية — متنافرة مع تراث النظام والترتيب الطبيعي الموجود في ذهنه. وفي الوقت الذي كان يكتب فيه «الملك لير» عام ١٦٠٦م كانت نسمات من العلم الإيطالي تهب على إنجلترا. وإذا كان من غير المحتمل أن يكون شكسبير قد سمع عندئذٍ عن جاليليو، فمن المؤكد أنه سمع عن وجوردانو برونو، الذي أثار ضجة كبرى في أكسفورد، عندما حاضَرَ عن علم كوبرنيق الجديد في عام ١٥٨٣م، وأحدثَ صدمة في أوروبا عندما أحرقته محاكم التفتيش في عام ١٦٠٠م.
والواقع أن مفهومَي الطبيعة هذين، أي اختلال النظام على المستوى الأصغر وسيادة النظام على المستوى الأكبر وما بينهما من تأثير إحصائي متبادل، هذان المفهومان هما لب العلم الحديث. ولكن من الضروري في العلم أن يحل التناقض بينهما، وما الجدل بين الموجات والجسيمات في فيزياء الكم إلا جزء من هذا الحل. فنحن لا نعلم إن كانت الطبيعة تتألف من موجات أو من جسيمات، ونحن لا نعلم في الواقع ما هي المادة الأساسية التي تتألف منها، ولو عرفناها فلن نستطيع فَهْمها إلا على سبيل التشبيه والتمثيل، غير أننا في العلم نقرِّر بعزمٍ في وجه هذه المعلومات غير المستقرة، ونكوِّن نظريات ترفع الصراع بين هذين المفهومين على المستوى المحلي ومن أجل أغراض محددة.
٨
إن الاختيار الذي يظل بدون حلٍّ بين اتجاهين للفعل، وهذه بعينها هي محنة الإنسان، يكمن وراء كل عمل أدبي. وهو يظل قائمًا حتى عندما توجد شخصية يبدو أنها صُوِّرت كأنها شريرة كلها. فإدموند في «الملك لير» يجتذب تعاطفنا (وما أعنيه هو أنه يوقع هذا التعاطف في شراكه) حتى عندما نفضل مصاحبة أخيه إدجار. وعندما تسير الليدي ماكبث في أثناء نومها، فإننا لا نقول باعتدادٍ إنها كان ينبغي أن تعرف أنها تدفع بنفسها إلى انهيار عصبي. ونحن لا نفكر في جرائمها، بل فيها هي ذاتها؛ إذ نرى أنها أصبحت ضحية جرائمها هذه، وضحية نفسها، كما أننا نفكر في أنفسنا من خلالها، ونقول ما قاله طبيبها: فليسامحنا الله!
قد نعتقد أن هذه الصورة المحرجة لا يمكن أن تُثير صدًى من التعاطف في أي واحد منا، فالعيوب المنسوبة إلى فروست ليست حتى عيوبًا بطولية وإنما هي عيوب تدل على تفاهة. على أننا لو اعتقدنا ذلك لكنا على خطأ. فالصورة على عكس ذلك، إنسانية، وهي تجعلنا نشعر بأننا نحن بدورنا نعاني من نفس العيوب، ونستسلم لنفس الإغراءات، إن هذه الرذائل، وهذه الرذائل بالذات، هي جزء من إنسانيتنا بقدر ما هي جزء من إنسانية روبرت فروست. وفي نهاية القصيدة يتحدث الشاعر بلهجة ساخرة أكثر منها قاسية، حين يداعب فروست بأنه ليس وحشًا ولا إنسانًا من نوع أعلى من البشر، وإنما هو «إنسان غير عادي» يتسم بنفس الشخصية العادية.
في هذه الأبيات نشعر بصراع الحرب بين ازدراء الشاعر وإعجابه الحسود، وينتهي بنا الأمر إلى تجاهل الازدراء لأنه شخصي؛ إذ كان درايدن يبغض الرجل، ولكن ما كان يبغضه في الرجل ليس تلك الصورة، وليس في أساسه تلك الشخصية التي يجعلنا نراها فيه؛ ذلك لأن رذائل الشخصية تطغى على الجسم القزم وتتحول إلى وحش ضخم، وفي هذا الوحش الضخم نتعرف سماتنا الخاصة مكبرة إلى أقصى الحدود.
٩
إن المعنى الذي نقصده مختلف عن ذلك، ففي رأيي أن لكل إنسانٍ ذاتًا وأنه يوسع ذاته بخبراته، أي إنه يتعلم من الخبرة؛ من خبرات الآخرين، مثلما يتعلم من خبراته الخاصة، ومن خبراتهم الداخلية مثلما يتعلم من خبراتهم الخارجية ولكنه لا يستطيع أن يتعلم من خبراتهم الداخلية إلا بالتغلغل فيها، وهذا أمر لا يمكن القيام به بمجرد قراءة سجل مكتوب عنها، فلا بدَّ أن تكون لدينا الموهبة التي تتيح لنا أن نوحد أنفسنا مع الآخرين وأن نعيش خبرتهم من جديد.
ونشعر بأن ما فيها من صراعات هي صراعاتنا الخاصة. والواقع أن الصراعات هي جوهر الخبرة، فنحن نكتسب معرفة بأنفسنا عن طريق توحيد أنفسنا مع الآخرين، ولكن هذا غير كاف، إذ إن كل ما يؤدي إليه ذلك هو أن يعطينا تخيلات الجنس وأوهام القوة وحماقات أحلام اليقظة التي تقدمها إلينا الأفلام البوليسية وروايات المغامرات. والواقع أن من واجبنا أن نتغلغل في الآخرين لكي نشارك في صراعاتهم، ولا بدَّ أن يتبين لنا وجود صراعات خطيرة في داخلهم، لكي نحس في حياتهم بما نعرفه في حياتنا، وأعني به المعضلة الإنسانية المحيرة، فمعرفة الذات لا يمكن أن تُصاغ صياغة شكلية، لأنها لا يمكن أن تكون مقفلة ومنتهية ولو بصورة مؤقتة، إنها مفتوحة على الدوام، لأن المعضلة المحيرة تظل دوامًا بلا حل.
لهذا السبب كان الشعر دائمًا حافلًا بالأسئلة وهذه الأسئلة ليست بلاغية بقدر ما هي أسئلة يستحيل الإجابة عنها، فسواء تساءل الشاعر:
أو:
وسواء تساءل:
أو:
فسنجد أن الآفاق التي يمتد إليها السؤال عندما نتتبعها آفاق لا قرار لها. ذلك لأن الأسئلة في الشعر لا تطرح بشأن أفعال محددة ولا يمكن البت فيها بنصيحة محددة. ومعرفة الذات التي نتعلمها منها هي مجرد طرح السؤال، الذي لا يكون قد خطر ببالنا في معظم الأحيان … فليس ما يدعو إلى الدهشة هو صورة السؤال، بل كونه سؤالًا، وهذا أمر لا يمكن مواجهته بأي ردٍّ شكلي، فعندما تساءل وليم وردزورث:
لم يكن سؤاله الحائر شديد العمق، وكان يستحق سخرية الدعابة التي تقول:
١٠
إن نوع الأدب الذي يتمثل فيه ما أقوله بوضوح كامل هو الدراما، ولهذا السبب اقتبست منها كل هذه الاقتباسات في الدراسة الحالية، فلم تكن المصادفات هي التي جعلت الناس يجدون على خشبة المسرح مغامراتها الضائعة واليائسة في اليونان القديمة، أو التي تجعلنا لا نزال نشعر إزاءها وكأننا نغرق. إن الدراما تدعونا صراحةً إلى أن نتغلغل في حياة الآخرين، وأن نتوحد، لا مع شخصية واحدة، بل مع كل الشخصيات، وأن نشعر في ذاتنا المنفردة بالصراعات التي تفرِّق بينهم وتطغى عليهم. إننا نقوم حتى بتمثيل الأطفال، ونمثل دور أشخاص آخرين، وهو ما تختلف فيه الحيوانات، ذلك لأن الحيوانات أقرب بكثير إلى الطابع المباشر من أن تفعل ذلك، فهي لا تمثل أي دور سوى أنفسها، سواء في اللعب وفي الجد، إنها لا تحاكي بوعيٍ حيوانًا مختلفًا في النوع ولا تستطيع أن تتخيل ما نوع الإحساس الذي تحس به إذا تغلغلت فيه.
هذا هو البُعد الإنساني الباطن الذي تفتقر إليه طقوس الحيوانات، فالحيوانات تسلك فعلًا بطرق غير عملية وشعائرية، فالطائر الغطاس ذو العرف الكبير يدعو وليفته إلى التعاون بأن يقدِّم إليها (كما تقدم هي إليه) قطعًا من العشب، كما أن السرطان الطنان يقوم بعملية تمثيل صامت يضرب فيها مخلب خصمه بمخلبه المزخرف، ويختبئ أيامًا إذا شعر بأنه انهزم. وأيًّا كان الهدف العملي الذي كان لهذه الحركات من قبل، فلا بدَّ أنه اختفى منذ وقت طويل، وأصبح تأثيرها الحالي رمزيًّا؛ أي إنها تضفي ما يمكن أن يُعد تماسكًا نفسيًّا على مجموعة من الحيوانات، وبذلك تجعل من هذه المجموعة مجتمعًا. ومع ذلك فليس في هذه الأفعال الشعائرية ما يجعلها مشابهة للمسرح اليوناني، فبرغم غرابتها وسحرها، تظل مع ذلك وسيلة شكلية للاتصال. وهي إشارة تعبر عن قصد حيوان بالنسبة إلى حيوان آخر، وتتضمن دعوة إلى الموافقة، ولكنها لا تتضمن دعوة إلى التوحد.
أما الدراما، من حيث هي شعائر إنسانية فتكسر نطاق هذا التحديد. ذلك بأن الممثل شخص ينبغي أن يضع نفسه في جلد شخص آخر، حتى لو كان الشخص الآخر امرأة شابة، كما هو الحال في المسرح الإليزابيثي. وليس يكفي أن يحاكي حركات الشخص الآخر ويتحرك جسميًّا مثلها، فمثل هذه البراعة الآلية يمكن تعويد آلة عليها، كما أنها تتمثل في ألعاب صغار الحيوانات. فالقط الصغير الذي يدفع بمخلبه كرة من الصوف، والجرو الذي يصارع جروًا آخر، يجربان القيام بحركات لم يتحكما فيها بعد. وعن طريق هذه المحاولات يكتسبان بالتدريج مهارتهما المقبلة: فهما يتطلعان إلى مرحلة النضج. وإنَّا لنجد في حركات الطفل الذي يقوم بالتمثيل بعض الشبه بهذه الحركات البديعة غير المتقنة، ففيها الدافع الذي يحفز القط الصغير إلى أن يصبح قطًّا ناضجًا. والإحساس المضحك بالعجز عن المحاكاة الدقيقة. غير أن هذا ليس إلا نصف ما يقوم به الطفل وهو يلعب. والنصف الثاني هو أنه يندمج بفكره وبإحساسه في الرجل، وإذا أخفق في إقناعنا بذلك، فإن إخفاقه لا يكون إلا في هذا الإقناع.
إن الممثلة الشابة قد تمثل جميع حركات سيدة عجوز، ومع ذلك فإنها تخفق في تمثيل دور العجوز، لأنها لا تستطيع أن تندمج بتفكيرها في هذه التجربة، ما دامت لا تتصور المواقف التي تمر بها عجوز، وعلى العكس من ذلك فإن «سارا برنار»، قامت في شيخوختها بتمثيل دور فتاة صغيرة مدلهة بالحب، ويقال إنها مثلت الدور بطريقة مؤثرة إلى أبعد حد. ومن الجائز أن تمثيلها كان أفضل مما تستطيع فتاة صغيرة أن تقوم به، وبعاطفة مفرطة لا تلائم الدور، ولكنها كانت ملائمة في نظر المشاهدين؛ لأنهم بدورهم كان لديهم في وقتٍ ما آمال في الحب تتجاوز ما تحقق بالفعل.
إن الآلات لا تمثل مسرحيات، والحيوانات لا تزعم أنها حيوانات أخرى، فهي لا تعرف كيف تكون كذلك. فالشيء الذي لا تستطيع أية وسيلة يمكننا حتى الآن التنبؤ بها، أن تصبغه بالصبغة الآلية، حتى من حيث المبدأ هو قدرتنا على توحيد أنفسنا بالعالم الباطن للآخرين. إننا نعرف ما يشعر به الإنسان حين يكون غاضبًا، لأننا كنا نحن أنفسنا غاضبين، وكذلك نعرف الإحساس بالرقة، والخوف، وحب الاستطلاع والقسوة، والمتعة. ولقد عرف شكسبير كيف تشعر الزوجة بالهستيريا على الرغم من أنه لم يعرف كيف يرى الإنسان الألوان. وعرف تشارلس دارون كيف تشعر زوجته لو أحرجها. وإذا لم يكن الشعور بالارتياح مَلَكة كالإبصار، فإن الشعور بالحرج ليس عيبًا كعمى الألوان، بل هو أقرب إلى الهستيريا. وليذكر القارئ ما قلته في الدراسة الأولى عن المنديل، وعن الحرج الذي تشعر به زوجتي من طريقة استعماله: ففي هذا المثل كنت أثير في أذهاننا صورة المشاعر المتصارعة فيها، وقد أصبح ذلك أمرًا مفهومًا في نظرنا لأننا قد شاركنا جميعًا في مشاعرها المتصارعة هذه.
هذا الضرب من المعرفة لا يمكن إخضاعه لصياغة شكلية، فليس في وسعنا أن نصنع شريطًا من هذه التجربة، يحمل معه في الوقت ذاته إحساسنا بأننا نعرف نوع التجربة. أما في العلم، فإن وصف ملاحظة علمية — أعني حركة لكوكب الزهرة مثلًا — يمكن أن يحل محل التجربة فالوصف — المسجل على شريط — هو ذات التجربة، وذلك في حدود هامش من الاختلاف متفق عليه، سواء بالنسبة إلى الكاتب أم إلى القارئ. وبطبيعة الحال فأنا لا أعني بالتجربة هنا، تجربة الكشف، إذ إن لحظة الخلق هذه لا يمكن أن تُصاغ شكليًّا بأية لغة، وإنما أعني تجربة ملاحظة الطبيعة، غير أننا لا نستطيع أن نلاحظ الناس ونقدِّم وصفًا لملاحظتنا مثلما نفعل في حالة ملاحظتنا للطبيعة. ذلك لأن القصيدة والمسرحية لا تصبح هي التجربة إلا بقدر ما نوحد أنفسنا بها ونشعر بمذاقها، والأمر المميز للأدب هو أنه لا يمكن أن يُفهم إلا إذا فهمنا معنى كون المرء إنسانًا.
١١
ولا شك أنني سأكون قد انحرفت بفكرتي عن طريقها لو أنني أنهيت هذه الدراسة باللهجة الظافرة لعالم بيولوجي اكتشف الفرق بين الرجال والنساء، فالرجال والنساء يختلفون حقًّا، ولكن التشابه بينهما أقوى بكثير من الاختلاف، ذلك لأن ما يجعلهما مختلفين هو التعبير عنهما في الفعل العلمي. أما ما يجعلهما متشابهين فهو الأصل الذي يرجعان إليه في الخيال، وليس الاتفاق في أصلهما بالأمر العرضي، ذلك لأن العلم والأدب، والعلم والفن، يرتبطان بوصفهما أنصافًا متوافقة يتألف منها ما هو فريد في التجربة البشرية.
ولقد أطلقت على المَلَكة الفريدة التي يبدآن معًا بها اسم الخيال، أي تلك المَلَكة الإنسانية التي تجعل الذهن يتعامل مع صور للأشياء ليست ماثلة للحواس. وفي اللغة يوجد أكبر حشد من الصور التي نخلقها، وأقوى طريقة نملكها لاستخدام هذه الصور. ذلك لأن اللغة البشرية ليست مقتصرة على الاتصال، كما هي الحال في لغة الحيوانات فلغة الحيوانات قوامها إشارات قد يصل إلى أربعين صوتًا وحركةً لتوجيه الفعل أو الانتباه (بما في ذلك الانتباه لانفعالات من تصدر عنه الإشارة) أما موهبة الإنسان فتكمن في أنه يملك لغةً ثانيةً يتخاطب فيها الإنسان مع ذاته.
وفي رأيي أن هذه العمليات التخيلية هي قوام تلك الحالة العامة التي نسميها بالوعي. وحين أقول ذلك، فإني أُنكر وجود وعي كامل لدى أي حيوان آخَر عدا الإنسان. ويبدو لي أنني في هذا على حق، إذ لا يوجد حيوان آخر قادر على أن يرسم حدًّا واضحًا بينه وبين بيئته. فذاكرة الحيوان أقصر، وعاداته أقوى من أن تجعله يميز على نحو قاطع بين ما يفعله وما يحدث له. وبهذا المعنى يكون هناك أساس للقول إن الإنسان وحده هو الذي يملك وعيًا كاملًا بذاته.
إن الوعي ليس إحساسًا بالذات فحسب، بل إنه يقتضي أيضًا أن نعرف أين ننتهي نحن وأين تبدأ البيئة المحيطة، ولهذا السبب كان الوعي هو منبع فهمنا للطبيعة مثلما هو منبع فهمنا لأنفسنا. بل إننا نكتسب أوضح جوانب معرفتنا لأنفسنا من فهم تجارب الناس الآخرين، الذين هم جزءٌ من البيئة المحيطة بنا، وليسوا جزءًا من أنفسنا. وربما قيل إنه لو لم يكن هناك أناس آخرون، وكانت تجربة الإنسان تنمو من خلال اتصاله بالأحجار والنجوم فحسب (دون عمل حساب الصبار والجمل) فربما ظل الإنسان آلة، ولا يكون له وعي. غير أن هذا تخيل لا جدوى منه، فالبيئة التي تحيط بنا منذ الطفولة تشمل بالفعل أناسًا آخرين، وحيث لا تشتمل عليهم يكون وعينا هزيلًا بحق.
كذلك لا يكفي أن يقتصر الوعي على الحاضر. بل إن ما يجعل الحيوانات تصطبغ بالطابع اللاشخصي هو أنها لا تستطيع أن تعود أية مسافة إلى الوراء في ماضيها، فليس لديها العادة لتقوم بعمل الذاكرة، أما الإنسان، فلكي يكون على وعي بما هو عليه الآن، ينبغي أن يحمل في ذهنه ما كان عليه في الماضي، وبالتالي ينبغي أن يتذكر أيضًا ما لم يكن عليه؛ أي ما كانت عليه بيئته. وينبغي أن يكون قادرًا على تذكر ما لا يعود يراه، وتلك هي الخطورة الحاسمة التي يتخذها الرضيع، ويتحول بها — إن جاز التعبير — من جرو صغير إلى طفل. ففي حوالي الشهر السادس من العمر، يتجاوز التحدد الذي يتصف به الحيوان، وأعني به: «ما غاب عن العين غاب عن العقل.»
ويهتدي إلى صيغة الذاكرة البشرية: الغياب يزيد القلب هيامًا.
فالذاكرة هي التي تعطينا القدرة على التطلع إلى المستقبل، وذلك إذ نُدفع إلى المستقبل بتلك الصور التي كوَّناها في الماضي. لذلك فإن الوعي الكامل ينظر في الاتجاهين، وفي رأيي أن أهم النظرتين هي تلك التي تتطلع إلى المستقبل. صحيح أن كل العمليات البيولوجية موجَّهة إلى المستقبل، غير أن الإنسان يتميز بأن توجهه واعٍ، وبأن وعيه يشتمل على المستقبل.
إنني أسلِّم بأن هذه ليست هي النظرة المألوفة إلى الوعي ومع ذلك فهي تبدو لي نظرة لا مفرَّ منها، فالإنسان على وعي بأنه مختلف عن بيئته، ولكن الأهم من ذلك وعيه بأنه حي، وهذا الشعور ينقله من الماضي إلى المستقبل. ووعي الإنسان يعني أنه يعرف ويتخيل في آنٍ واحد. ومن هذا المنبع العميق تنبثق إنسانيتنا، فعندما نتخيل الطبيعة خارج أنفسنا ممتدة في المستقبل؛ نخلق ذلك الضرب من المعرفة المسمَّى بالعلم. وعندما نتخيل أنفسنا ونحن نعيش في المستقبل نخلق ضربًا أخَر من المعرفة، هو معرفة الذات، وهذان هما النصفان المتلازمان اللذان تقرر بهما وحدة الإنسان.