تذييل: منطق الذهن١
١
في الدراسات الأربع السابقة عن «وحدة الإنسان»، تحدثت عن العلم والأدب بوصفهما ضربين للمعرفة. ولقد كانت هناك بضعة مواضع هنا وهناك كنت أودُّ أن أتحدث فيها بمزيد من الإسهاب والدقة، لو كان كلامي موجهًا إلى جمهور علمي متخصِّص. وسوف أختار واحدًا من هذه المواضع، هو ذلك الذي عرضت فيه ما يمكن أن يُسمَّى بالعمل الآلي للذهن، لكي أقدِّم له تحليلًا أوسع في المحاضرة الحالية.
إن الذهن كيان يصعب تحديد كنهه، ولا تقتصر أعماله على ما يدور في داخل المخ وحده. وفي كل الحالات نجد أن البحث في الطريقة التي يعمل بها الذهن من حيث هو جهاز آلي، وكذلك البحث في العمليات التي نتصور أنها تدور داخل المخ، هو بحث له طرافته الذاتية الخاصة، فنحن نعلم أن المخ مصنوع من نفس المادة التي تصنع منها الطبيعة في سائر مظاهرها، ومن ثَم فمن الواجب أن تخضع ذراته لنفس القوانين الطبيعية التي تخضع لها بقية الذرات. وبهذا المعنى نجد لدينا ميلًا إلى القول إن المخ لا بد أن يكون آلة من نوع ما، بل نجد هذا القول معقولًا. ولكن استخدام الآلة، بهذا المعنى الذي يشتمل على كل شيء يؤدي لسوء الحظ، إلى ضياع لُب الموضوع، فالسؤال الحقيقي عن المخ البشري يكمن فيما هو أعمق من ذلك، فهذا السؤال يقول: هل المخ آلة لها عمليات يمكن أن تُصاغ صياغةً شكلية من أي نوع يمكننا تصوره؟ فلأقتبس هنا فقرة متعلقة بهذا الموضوع، مستمدة من الدراسة الأولى في كتابنا هذا، وعنوانها، «آلة أم ذات؟»
«إن الآلة ليست مجرد مجموعة هادرة من التروس أو مجموعة هامسة من الدوائر الكهربية. بل إن هذه الأسلاك الجامدة التي لا تكفُّ عن النشاط والحركة ليست سوى المرحلة المتوسطة والرابطة المرئية في عمليات ذات خطوات ثلاث، تؤلف الخطوتان الأخريان فيها جزءًا لا يقل أهمية عن هذه الخطوة الوسطى، فالخطوة الأولى هي المدخل أو التعليمات التي هي الصيغة الحديثة للزر الذي يجعل الآلة تبدأ عملها، وهذه الخطوة ينبغي أن تكون دقيقة وآلية، وهي تتألف من مجموعة لا لبس فيها من الثقوب أو العلامات على شريط يوجه الآلة نحو فرع معين من شبكة الطرق الممكنة الموجودة فيها. وبعد ذلك يأتي الجهاز الآلي المادي الذي يُنفِّذ هذه التعليمات بحذافيرها ويحوِّلها إلى أفعال. والخطوة الثالثة هي النتيجة أو المخرج، الذي هو بدوره حاسم وقاطع، وهو في الحاسب الإلكتروني مجموعة أخرى من الثقوب أو العلامات المسجلة على شريط.»
«ومما له أهمية قصوى في هذا الصدد، وفي الصدد الذي أقدِّمه للآلة، أن مخرج الآلة، أو الناتج عنها، ينبغي ألا يقل في دقته وعدم التباسه عن مدخلها … ذلك لأن الآلة الحديثة شأنها شأن الإنسان، مطلوب منها — جزئيًّا — أن تنظم نفسها، ولا بد لهذا الغرض أن تكون قادرة على توجيه التعليمات إلى ذاتها، ولا بد أن تكون مثل هذه الآلة، أو أن يكون الإنسان قادرًا على تغذية ناتجة تغذية مرتدة إلى ذاته على أساس أن هذه التغذية تعليمات جديدة. ومن هنا كان من الواجب أن يكون ناتجها أو مخرجها قاطعًا، بقدر ما تسمح الآلة، وأن يكون قابلًا للتعبير الرمزي، محدد المعالم، موحد الاتجاه، بدرجة لا تقل في ذلك كله عن مدخلها.»
٢
إن الرموز التي يعمل بواسطتها المخ، ولغته (أو لغاته المتعاقبة) ذات طابع فيزيائي وكيميائي وكهربي، ولكن هذا لا يجعلها مختلفة عن العلامات المدونة على ورقة أو شريط. فإذا كانت دقيقة، وكانت تترجم دائمًا بدقة على نفس النحو، فإنها تؤلف لغة منطقية شكلية، وعلى ذلك فإن ما ينبغي أن يُقال عنها لا يأتي من الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، بل من المنطق الرمزي. لهذا السبب أعتزم بوصفي متخصصًا في الرياضيات أن أتحدث عنها بصيغة مجردة، لا بصيغة تجريبية.
٣
ولكيلا أدع مجالًا للشك، أودُّ أن أتريث لمعالجة المضمون الجوهري لهذه المبرهنات غير العادية، ذات النتائج البعيدة المدى، إنها مبرهنات متعلقة بالمنطق الرياضي، ولا يمكن، بمعنًى ما إزاحة الرياضيات منها؛ أي إن أي نسق منطقي تنطبق عليه ينبغي أن يشمل، كجزء أساسي فيه، على الحساب الخاص بالأعداد الصحيحة، ولا بد أن تكون هذه الأعداد قابلة للتميز من بقية المتصل الكمي، ولكن مع هذا التحفظ الذي سأعود إليه فيما بعد، فهي تنطبق على أي نسق فكري يحاول إرساء قاعدة من القضايا الأساسية، ثم الانتقال إلى العالم عن طريق استخلاص نتائج استنباطية منها بلغة دقيقة كلغة الفيزياء مثلًا، أو اللغة الكيميائية داخل المخ.
مثل هذا النسق من القضايا الأساسية كان يُنظر إليه دائمًا على أنه النموذج المثالي الذي يتطلَّع إليه كلُّ علم. بل إنه لَيُمكن القول إن العلم النظري إنما هو محاولة الكشف عن مجموعة نهائية شاملة من القضايا الأساسية (تشمل القواعد الرياضية) يمكن إثبات أن جميع ظواهر العالم تترتب عليها بخطوات استنباطية، ولكن النتائج التي أشرتُ إليها من قبل، ولا سيما مبرهنات جودل وفارسكي تُثبت بوضوح أن هذا المثل الأعلى لا أمل فيه، ذلك لأنها تثبت أن كل نسق من القضايا الأساسية يتسم بأي قدر من الثراء الرياضي خاضع لقيود شديدة، لا يمكن التنبؤ بوقوعها، ومع ذلك لا يمكن تجنبها. فأولًا لا يمكن استنباط (أو تفنيد) جميع التأكيدات المعقولة في لغة النسق من القضايا الأساسية؛ إذ لا توجد مجموعة من القضايا الأساسية وصفها بأنها تامة. وثانيًا لا يمكن ضمان اتساق أي نسق للقضايا الأساسية؛ فقد يظهر في أي وقت تناقض صارخ يستحيل التوفيق بينه وبين النسق. ولا يمكن جعل نسق من القضايا الأساسية يولد وصفًا للعالم مطابقًا له مطابقة تامة وفي كل التفاصيل، إذ إنه إما أن تظهر في مواضع معينة ثغرات لا يمكن ملؤها بالاستنباط، وإما أن يظهر في مواضع أخرى استنباطان متعارضان. وعندما يظهر تناقض، يُصبح النسق قادرًا على البرهنة على أي شيء، ولا يعود يميز الصواب من الخطأ، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن القضايا الأساسية التي تجلب تناقضًا هي وحدها التي تجعل النسق كاملًا، ولكنها حين تفعل ذلك تجعله عديم الجدوى تمامًا.
٤
على أننا بطبيعة الحال نفترض مع ذلك أن الطبيعة تخضع بالفعل لمجموعة من القوانين الخاصة بها، تتسم بالدقة والاكتمال والاتساق. ولكن لو كان الأمر كذلك، لوجب أن تكون صياغتها الداخلية من نوع مختلف تمام الاختلاف عن أية صياغة نعرفها. ونحن لا نملك في الوقت الراهن أية فكرة ترشدنا إلى الطريقة التي يمكننا تصورها بها، فأي وصف يتم في ضوء الصيغ الشكلية الراهنة لا بد أن يكون ناقصًا، لا بسبب عناد الطبيعة، بل بسبب وجود حدود لا تتحداها اللغة كما نفهمها. وهذه الحدود لا تنحصر في قابلية اللغة البشرية للخطأ، بل تنحصر على عكس ذلك في عدم كفاية اللغة منطقيًّا.
٥
هناك ردٌّ واضح، هو أن العقل العظيم، كالعقل الضئيل الشأن يجرب البدائل المختلفة، ويمضي مستخلصًا نتائجها إلى مسافةٍ ما ويخمن بناءً على ذلك (مثل لاعب الشطرنج إلى حدٍّ بعيد) أن حركة معينة ستتولد عنها إمكانات أوسع نطاقًا من غيرها … ولكن هذا الرد إنما يعني تبديل حمل هذه المسألة من رِجل إلى الأخرى. فما زال علينا أن نتساءل. كيف يتسنَّى للعقل العظيم أن يخمن على نحو أفضل من غيره، وأن يقوم بقفزات تؤدي بعد ذلك إلى مسافات أبعد وأعمق من تلك التي يستطيع عقلي أو عقلك الوصول إليها.
على أن هذا شيء لا تتاح لنا معرفته، وليس ثمة طريقة منطقية نستطيع بها أن نعرف طبيعة القرار الحافل بالنتائج أو أن نصوغه … فالخطوة التي تُضاف بها قضية أساسية جديدة لا يمكن أن تُصبغ بالصبغة الآلية، وإنما هي نشاط حر للعقل، واختراع خارج عن نطاق العمليات المنطقية، وهذا هو الفعل الرئيسي للخيال في العلم، وهو شبيه في جميع النواحي بالفعل المناظر في الأدب، بل إن من الممكن النظر إليه على أنه تعريف للخيال، وفي هذه الناحية يكون العلم والأدب متشابهَين؛ ففي كلٍّ منهما يقرِّر العقل أن يُثري النسق على النحو الذي يكون موجودًا عليه بالفعل، بإضافةٍ تتم عن طريق فعل غير آلي يقوم على الاختيار الحر.
أما عن الاختراع الذي يُضاف، سواء أكان هو العلاقة الجديدة في العلم أو التحول الخيالي للبصيرة في الأدب، فإن مولده يكون دائمًا بطريقة متماثلة، فهو يبدأ بتلك المعاني والروابط المتعددة الالتباسات الخفية التي تتضمنها اللغة البشرية، مهما بذلنا من جهد في سبيل جعلها دقيقة، فاللغة الفكرية يتألف معظمها من ألفاظ عامة، وعلى الرغم من أن هذه الألفاظ قد تكون واقعية مثل لفظ «موازٍ»، أو متماسكة مثل لفظ «الكتلة» أو عادية يومية مثل «المنضدة» فإنها تُحاط دائمًا بهالة من انعدام اليقين وازدواج المعنى يمكن أن تنبثق منها فجأةً علاقات جديدة، فلفظ «متوازٍ» يمكن أن يصبح بداية للهندسات اللاإقليدية، ولفظ «الكتلة» يمكن أن يصبح معادلًا للطاقة، وذلك لسبب عام شامل هو أنه حتى «المنضدة» ذاتها لا يمكن أن تُعرف بألفاظ تسمح لنا بأن نقول بحسم مطلق عن أي شيء في الكون إنه إما منضدة وإما ليس منضدة، وقد أثبت «فرانك رامزي» الذي تحدثتُ عنه من قبل، أن هذا عامل لا غناء عنه في تطور أي علم، وبهذا المعني الهام يكون قد استبق بعض النتائج التي توصل إليها «جودل».
إن من السمات المميزة للغة البشرية أنها تتألف من مجازات وتشبيهات ماضية، وهذه المجازات والتشبيهات أرض خصبة لاستطلاع آفاق المعاني المتداخلة وكشف التشابهات الخفية، وهنا تبدأ الروابط والصِّلات غير المتوقَّعة التي يُنتجها الأدب (وكل فن) على الدوام. وهنا أيضًا تبدأ الأفكار الإبداعية للعلم.
أما عن الطريقة التي تُنمَّى بها هذه المعاني المتداخلة في العلم والأدب، فهذا هو الموضوع الرئيسي لكتابنا «وحدة الإنسان» وكل ما عليَّ الآن هو أن ألخِّصه بإيجاز. ففي العلم يكون الهدف هو إماطة اللثام عن كل الْتِباس في المعنى، وإرغام الطبيعة على أن تختار بين بديلين، عن طريق تجربة حاسمة. وعلى هذا النحو نتقدم في العلم عن طريق تحويل المعلومات الآتية من الطبيعة من خلال الآلة المنطقية للمخ إلى شريط فعَّال من التعليمات. أما في الأدب فإن الْتِباسات المعنى لا تُحل، ويعمل المخ أو يلهو بالمعلومات دون أن يحوِّلها أبدًا إلى تعليمات لآلة. ولكن الاختراع الجديد، في كلتا الحالتين، يتم عن طريق خطوة من نفس النوع، وفي اللحظة التي تُتَّخذ فيها هذه الخطوة، لا نكون داخل نسق منطقي، ففي هذه اللحظة نكون قد تركنا نسقًا وأوشكنا على الدخول في نسق آخر وتكوينه، أي نكون في أرض حرام خارج المنطق.
٦
إن النصف الأول من الموضوع الذي أودُّ معالجته في هذا الفصل، وهو النصف الذي انتهيت منه الآن، كان يتألف من مبرهنات في المنطق الرياضي وتطبيقها على لغة العلم أولًا، ثم على الأدب بناءً على ذلك. والنتيجة المفاجئة التي انتهيتُ إليها، وهي ضرورةُ تضمُّنِ كلٍّ منهما لنوع مماثل من الخيال، هي بالطبع نتيجة غريبة مُقلِقة إذ إن هذه ليست على الإطلاق هي الطريقة التي أردنا أن تبدو عليها اللوحة الهائلة للمعرفة، ولكن هذا أمر لا مفرَّ منه، ولا بد لنا من مواجهته. وقد اقتصرتُ حتى الآن على إيضاح معالم الصورة بطريقة واقعية فحسب.
وأودُّ الآن أن أنتقل إلى الجزء الثاني من موضوعي، وهو مناقشة جانب مختلف كلَّ الاختلاف من جوانب المشكلة نفسها. وسوف ينصب اهتمامي هنا أيضًا على هذه المبرهنات الناشزة في المنطق، ولكن على جانب آخر من جوانبها، أعني على أصلها، لا على وجودها ونتائجها. ذلك لأن هناك مصدرًا مشتركًا تنبثق منه كل هذه المبرهنات، وهذا المصدر طريف وملهم إلى أقصى حد.
إن كلًّا من مبرهنتَي جودل، ومبرهنات تورنج وتشيرش، ومبرهنة تارسكي تقول شيئًا مختلفًا، فكلٌّ منها تضع قيدًا من نوعٍ ما على نسق منطقي، إما من حيث اكتماله، وإما من حيث اتساقه، وهذه القيود والحدود ليست واحدة بالضبط، ومع ذلك فهي تؤلف عائلة مشتركة من القيود. وهذا راجع إلى أنها تنشأ كلها من صعوبة مشتركة في لغة رمزية، وهذه الصعوبة هي أن اللغة يمكن أن تستخدم، لا لكي تصف أجزاءً من العالم فحسب، بل أيضًا لكي تصف أجزاءً من اللغة ذاتها. وفي كلتا الحالتين، يرتكز البرهان على تركيب يعبر بواسطته عن قضية عن الحساب على أنها قضية في الحساب.
وتتسم المفارقات الرياضية، والأساليب المستمدة منها والتي استغلها جودل وغيره في مبرهناتهم، بأنها تحمل كلها نفس الطابع، فهي تعتمد على استخدام مفهومات يشتمل نطاق إشارتها على المفهوم ذاته، وبالاختصار فإن نموذجها جميعًا هو مفارقة الكريتي، وهو العبارة البسيطة التي تقول:
«إن ما أقوله الآن ليس صحيحًا، فمن الواضح أن هذه عبارة مناقضة لذاتها، فإذا كان القول صحيحًا، فعندئذٍ يكون بشهادته ذاتها غير صحيح، وإذا كان باطلًا فإن هذا ينبئنا بأن ما يُقال لا بد أن يكون صحيحًا.»
وأودُّ أن أضع تأكيدًا خاصًّا، فيما قلته الآن، على لفظ «بشرية». ذلك لأن الحيوانات تستخدم نوعًا من اللغة (أو على الأقل نظامًا رمزيًّا) لكي يشبه بعضها بعضًا، وما يتعين عليها قوله يشير أساسًا إلى وقائع (فعلية أو انفعالية) ولا شيء غير ذلك. مثل هذه اللغة لا تنطوي على مشكلات متعلقة بالإشارة إلى ذاتها، وإنما المقصود منها نقل معلومات من حيوان إلى آخر، على صورة تعليمات مباشرة لا لبس فيها ولا غموض. وبهذا المعنى كان رينيه ديكارت على حق حين قال: «إن الحيوانات آلات والبشر ليسوا آلات.» والواقع أن السبب الذي يجعل اللغة البشرية أكثر ثراءً هو بالضبط أننا نفكر عن طريقها في أنفسنا. فنحن لا نستطيع أن نحذف الإشارة إلى الذات من اللغة البشرية دون أن نحولها بذلك من لغة أصيلة للمعلومات إلى لغة آلية من التعليمات.
وينبغي أن نلاحظ بوجه خاص إن الفلسفة ونظرية المعرفة كلها تعمل بطبيعتها في النطاق الذي تكمن فيه تلك الصعوبات، وأعني به نطاق الإشارة الذاتية وأعني بالإشارة الذاتية تكوين تلك الجمل، الفكرية أو الكلامية التي يشتمل نطاق انطباقها على نفس هذا النوع من الجمل. ووفقًا لهذا التعريف لا تتضمن عبارة «أنا جوعان» أي نوع من الإشارة الذاتية، على حين أن عبارة «أنا في مأزق» تشمل مثل هذه الإشارة. فكل تفكير عن التفكير يتضمن إشارة ذاتية، وأول تعبير عن المبدأ الفكري في فلسفة ديكارت، وهو: «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، يشير إلى ذاته. فهذا التأمل الفكري، أو فئة التأملات الفكرية التي تشتمل عليه، هي التي تعطي المتكلم الحق في تأكيد أنه يتأمل فكريًّا. ومن المحال أن تصبح الفلسفة ممكنة بدون هذا التفكير عن التفكير. ومن المؤكد أن الفلسفة لا يمكنها أن تفكر في شيء مما يمكن أن تفكر فيه الآلات، كما يستحيل — في ضوء رأيي عن اللغة البشرية — أن تفكر فيها الحيوانات.
٧
من الواضح أن العبارات التي تستخدمها الفلسفة تعاني في كثير من الأحيان، بحكم طبيعتها، من الإشارة الذاتية، وأن الثغرات المنطقية، التي كشفت عنها مبرهنات جودل وتارسكي تفرض على الفلسفة قيودًا أشد من تلك التي تفرض على العلم ذاته. ففي الرياضيات والعلوم يكون من الأمور التي تدعو إلى الدهشة أن يجد المرء نفسه محددًا بهذه المبرهنات، فليس من الواضح على الإطلاق، بل إنه لمن غير المتوقع، أن يعرف المرء أن العبارات الرياضية والعلمية لا يمكن تطهيرها كليةً من الإشارات الذاتية (أو من نوع مماثل من التسلسل المكرر)، ولكن من الواضح منذ البداية أن الفلسفة حافلة بالإشارات الذاتية، ومن ثَم فإنه إذا كان الانهيار في الجهاز المنطقي يرجع أصله إلى الإشارة الذاتية، فمن المؤكد أن الفلسفة معرَّضة لهذا الانهيار، بل إن من الواضح أنه في الوقت الذي تتعرض فيه الرياضيات والعلم لهذا الانهيار من آنٍ لآخر فحسب، وذلك عندما يتعين اتخاذ خطوة جديدة، فإن الفلسفة معرضة له بشدة وباستمرار، لأن الإشارة الذاتية متأصلة في صميم منهجها ذاته.
وتتضح هذه الفكرة في الوصف الذي قدمه كارل بوير لأسباب خيبة أمله في تفسيرات التحليل النفسي كما قدَّمها سيجموند فرويد وألفرد آدلر. فقد ذكر أنه في العلوم الطبيعية يتوقع من النظرية أن تُقدم إلينا تنبؤًا، وتنبؤًا واحدًا فقط عن نتيجة أي تجربة، وهي تُستبعد إن لم يتحقق هذا التنبؤ في التجربة. أما نظريات التحليل النفسي فليست من هذا النوع على الإطلاق فقد ذكر بوير أنها تلجأ دائمًا إلى تفسير صفة التهذيب عند جاري الأيمن بالقول إن لديه عقدة نقص، وصفة الافتقار إلى التهذيب عند جاري الأيسر بالقول إن لديه عقدة نقص. ومن ثَم فإنني إذا قلبت مفهوم عقدة النقص، لوصلت إلى نتيجة عقيمة هي أنه قد يؤدي بجيراني إلى أن يكونوا إما مهذبين، وإما غير مهذبين. ولكن هذا ليس ما نتوقعه من نظرية علمية. وهو بالفعل ليس كذلك. فكل الحجج المستمدة من اختراع فرويد للاشعور تنطوي على هذا المضمون الذي يتصف بالمفارقة، لسبب مؤكد هو أن استخدامها للإشارة الذاتية يولد مفارقات. لقد كان الكريتي الذي قال إن الكريتيين كذابون يتكلم شكلًا كلاسيكيًّا من اللغة التي يصوغ فيها عالم التحليل النفسي مفهومات كاللاشعور وعقدة النقص الخاصة به، ولو لم يكن يعيش في كريت بل في فيينا، لقال إن كل أهل فيينا مصابون بعقدة نقص.
٨
من هذه الأمثلة البسيطة يتضح على الفور أن الأدب لا يكون أدبًا إلا عندما يطالب باندماجنا الشخصي ويقتضيه، فهو مُلحٌّ لأنه يلحُّ على أن الأوصاف الرقيقة للزهور (التي نجدها في تلك القصيدة) والوثائق القديمة الخاصة بزواج المحارم والانتحار (التي نجدها في تلك المسرحية) تهمنا، إنها تصبح جزءًا منا كما نصبح نحن جزءًا منها. وهي تجذبنا إلى الجنس البشري وإلى الوضع الإنساني، وتجعلنا نتوحد مع وردزورث على أريكته ومع جوكاستا في سريرها، ومع أهل طيبة المنكوبين بالطاعون في كل أرجاء العالم.
والحق أن ما يصدق على الأدب يصدق على كل فن، فالعمل الفني شيء بناه الإنسان وشيَّدَه، حتى لو تصادف أن عثرنا عليه في الطبيعة بنفس الصورة التي نقرأ فيها الآن معنًى إنسانيًّا، وهو في أساسه مصنوع بواسطة إنسان، وابتدع معناه إنسان؛ وهو يعبِّر عن روايته للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويدعونا إلى ألا نحبها أو نكرهها، بل أن ننجذب إليها، فالعمل الفني يرغمنا (عندما يكون عملًا أخَّاذًا) على أن ننظر إلى العالم معه، وأن ننظر من خلاله إلى ذهن صانعه، وليس في إمكاننا الفصل بين العمل وبين أصله الذي هو أن يكون شيئًا مصنوعًا بواسطة إنسان يعبر عن الطريقة التي يرى بها الإنسان نفسه في العالم، وهو لا يهمنا إلا بقدر ما يدمجنا فيه ويطلب إلينا أن نرى أنفسنا في العالم نفسه أيضًا. فعلى الرغم من أن ما يعبر عنه العمل هو ذات إنسان آخر، فإن الإشارة إنما تكون إلى أنفسنا لأن الإشارة تتجه، على نحو كلي شامل، إلى الذات الإنسانية.
فلأحاول الآن أن أفصح عما أعنيه في هذا الصدد، إنني لا أقتصر على القول بأن هناك إشارة ذاتية في التأملات الأخلاقية التي يقدمها الكورس اليوناني أو في تلك التأملات التي تملأ عينَي وردزورث الباطنة في عزلته «في حالة نفسية خالية أو مهمومة».
فهذه لا تزيد على كونها تأملات من نفس النوع الذي قام به ديكارت في مجال الفلسفة أو يقوم به المحلل النفساني في تفسيره للأحلام … بل إن الإشارات الذاتية في الأدب، وفي الفن عامة، تمضي إلى ما هو أعمق من هذه الأفكار الشكلية، فالفكرة التي أدافع عنها هي أن قوام الأدب أساسًا هو الإشارة الذاتية، وأن الأدب يستمد حياته من التوتر المزدوج بين مشاهدة أذهاننا من الداخل ومشاهدة ذهن شخص آخر من الخارج. وهذه إحدى المفارقات الكلاسيكية في نظرية المعرفة، وأعني بها مفارقة كيف ومتى نعرف أن الآخرين يشعرون بالفعل كما نشعر، وهي التي ناقشها لودفيج فتجنتشتين مثلًا في «الكتاب الأزرق» قبل وقت طويل من مناقشتي لها في «وحدة الإنسان».
إن قوة الأدب ودلالته إنما تكمن في أنه يعرض علينا حياة الآخرين بطريقة تجعلنا نتعرف على أنفسنا فيها، ونعيش هذه الحياة من الخارج ومن الداخل معًا. ونحن لا نستطيع أن نفهم وردزورث إلا إذا تحول قلبنا أيضًا إلى الزهرة الذهبية، كما أن مأساة أوديب لن تكون مختلفة عن جريمة القتل التي نقرأ عنها في صحيفة الأحد، إلا إذا تعرفنا أنفسنا في الشخصيات، فينبغي أن نرى أن أوديب هو نحن، وأنه قادر على قتل غريب في مفرق الطرق وعلى الحوض في متاهة من الرعب. ولا بدُّ أن ندرك أن جوكاستا هي نحن، وأنها تحن إلى الشباب الضائع الذي يتجلى بوضوح أنه جزء منها، وذلك بمعنيَين؛ الابن الذي هو أيضًا رمز شبابها، والذي تتوق إلى ضمه من جديد والشعور به جنينًا في داخلها، وعندما ندرك ذلك في جوكاستا وفي أنفسنا، تكون المأساة أرق، وأشد تأثيرًا في القلوب، وأعمق إنسانية من تفسيرات التحليل النفسي، وبطبيعة الحال كان فرويد على حق فيما يتعلق بعقدة أوديب، ولكن سوفوكليس يبعث أصداء أعمق من فرويد، لأنه يقرب إلى نفوسنا حنين جوكاستا من أجل ذاتها — الذات التي كانت إياها، والذات التي جلبتها إلى الحياة — وهو الحنين الذي يرتبط ارتباطًا لا ينفصم بشعور الغيرة العائلية المألوفة التي يعاني منه أوديب.
إن الأدب والفن يعيشان ويكتسبان حياة متجددة في شعورنا بذاتنا وهي تمتد لتصل إلى تلك الأفعال والكوارث التي تحل بذات شخص آخر، وبذلك تحدد معالم الذات الإنسانية ككل. وقد سبق لي أن عبَّرتُ عن هذا الجزء من تفكيري في الدراسة الثالثة من «وحدة الإنسان» وعنوانها «معرفة الذات»، فقلت:
«في رأيي أن لكل إنسان ذاتًا وأنه يوسِّع ذاته بخبراته، أي إنه يتعلم من الخبرة؛ من خبرات الآخرين، مثلما يتعلم من خبراته الخاصة، ومن خبراتهم الداخلية مثلما يتعلم من خبراتهم الخارجية ولكنه لا يستطيع أن يتعلم من خبرتهم الداخلية إلا بالتغلغل فيها، وهذا أمر لا يمكن القيام به بمجرد قراءة سجل مكتوب عنها، فلا بد أن تكون لدينا الموهبة التي تتيح لنا أن نوحد أنفسنا مع الآخرين وأن نعيش خبراتهم من جديد. ونشعر بأن ما فيها من صراعات هي صراعاتنا الخاصة. والواقع أن الصراعات هي جوهر الخبرة، فنحن نكتسب معرفة بأنفسنا عن طريق توحيد أنفسنا مع الآخرين، ولكن هذا غير كافٍ؛ إذ إن كل ما يؤدي إليه ذلك هو أن يعطينا تخيلات الجنس وأوهام القوة وحماقات أحلام اليقظة التي تقدمها إلينا الأفلام البوليسية وروايات المغامرات. والواقع أن من واجبنا أن نتغلغل في الآخرين لكي نشارك في صراعاتهم، ولا بد أن يتبين لنا وجود صراعات خطيرة في داخلهم، لكي نحس في حياتهم بما نعرفه في حياتنا؛ وأعني به المعضلة الإنسانية المحيرة. فمعرفة الذات لا يمكن أن تُصاغ صياغة شكلية، لأنها لا يمكن أن تكون مقفلة ومنتهية ولو بصورة مؤقتة، إنها مفتوحة على الدوام، لأن المعضلة المحيرة تظل دوامًا بلا حل.»
٩
وأودُّ الآن أن أقوم بتلخيص للنقاط التي تناولتها، فقد عالجت موضوعي في جزأين؛ كان أولهما متعلقًا أساسًا بالعلم، والثاني بالأدب وقد حرصت في الجزأين على أن أوضح أن المخ بوصفه آلة هو قطعًا ليس ذلك النوع من الآلة الذي نعرفه الآن. فهو ليس آلة منطقية لأنه لا توجد آلة منطقية تستطيع أن تتخلص من الصعوبات والمفارقات التي تولدها الإشارة الذاتية. فمنطق الذهن يختلف عن المنطق الصوري في قدرته على التغلب على الْتِباسات الإشارة الذاتية، بل واستغلالها، بحيث تصبح أدوات للخيال.
في الجزء الأول من موضوعي بيَّنتُ القيود (المستمدة من الإشارة الذاتية) التي تحد من أي نسق استنباطي من القضايا الأساسية يتسم بأي قدر معقول من الثراء، سواء في الرياضيات أو (كما أعتقد) في العلوم الطبيعية. وقد أظهرَت المبرهنات الرياضية التي اقتبستها وفسرتها أن الأمر ينبغي أن يكون كذلك، كما بينت كيف ينبغي في كل خطوة ملء هذه الثغرات المنطقية وإدخال مبرهنات جديدة بوصفها أساسية مضافة في النسق. ومن الملاحظ أن قرار إدخال مادة جديدة في أنساقنا، في العلم أو في الأدب، هو أمر ليس له نظير في أيه آلة منطقية، فهذه خطوة تخيلية من نوع لا نفهمه، وإن كنا نستطيع أن نلاحظه في عمل عالِم عظيم أو كاتب عظيم؛ والأمر سيان في العلم وفي الأدب.
أما الجزء الثاني من معالجتي فيمضي أبعَد من ذلك … ففي هذا الجزء أوضحتُ أن اللغة البشرية عندما تكون بشرية على وجه التخصيص، وتتعلق بالتفكير في حياتنا والحكم عليها، تكون بالضرورة حافلة بالإشارة الذاتية، وهذا واضح في الفلسفة وفي علم النفس، ولكنه يمتد إلى أبعاد أكثر عمقًا في الأدب؛ لأن جوهر الأدب (وكل فن) يكمن في توحيد أنفسنا مع الكائنات البشرية الأخرى التي نرقب سلوكها ونحكم عليه كأنه سلوكنا نحن، ففي الأدب تكون الإشارة الذاتية من الاكتمال بحيث أننا لا نستطيع أن نشيد أيًّا من الأنساق المؤقتة التي تكتفي بها الرياضيات والعلوم وقتًا ما، والتي تعمل الرياضيات والعلوم على إصلاحها كلما دعَت الحاجة.
ففي الأدب لا يوجد وصف مؤقت يمكن أن يحل محل العمل ذاته، فنحن لا نستطيع أن نستعيض عنه، كما نفعل في العلم، بنسق من القضايا الأساسية يصلح لكي يكون تركيبًا تقريبيًّا يظل صالحًا إلى أن يتضح قصوره ويتعين توسيعه، فالإشارات في الأدب، أعني إشارات الكاتب إلى نفسه والآخرين، وإشارات القارئ إلى نفسه فيما يقرأ، تتغلغل في العمل تغلغلًا تامًّا وليس ثمة وسيلة للخلاص من مبرهنات جودل ومبرهنة تارسكي وغيرها بأي إجراء متدرج يسير خطوة بخطوة، ففي هذه الناحية يوجد اختلاف أساسي بين العلم والأدب.
إن العلم والأدب لا يستطيعان معًا، في أية حالة، أن يقدما وصفًا كاملًا للطبيعة والحياة. ففي كلٍّ منهما يتم التقدم من الوصف الراهن إلى الوصف التالي عن طريق استطلاع غوامض اللغة التي نستخدمها في تلك اللحظة، وفي العلم تُحَل هذه الغوامض مؤقتًا، ويشيد نسق بدون غموض بصفة مؤقتة إلى أن يتبين قصوره، ولهذا السبب كان من الممكن عرض نتائج العلم في أية لحظة بعينها من خلال آلة استنباطية قائمة على القضايا الأساسية على الرغم من أن الطبيعة ككل لا يمكن أن تعرض على هذا النحو، لأن أية آلة كهذه لا يمكن أن تكون كاملة. فأيًّا كان نوع الآلة التي تكونها الطبيعة، فمن المؤكد أنها مختلفة عن مثل هذه الآلة.
أما في الأدب فإن الغوامض والالتباسات لا يمكن أن تُحل، ولو بصفة مؤقتة، وليس من الممكن وضع نسق مؤقت من القضايا الأساسية من أجل وصف الموقف الإنساني كما يسعى الكاتب والقارئ معًا إلى رؤيته، فهنا لا يستطيع المخ أن يعمل كأنه آلة منطقية، حتى ولا بصورة مؤقتة، وأعني بذلك أن المخ لا يستطيع أن يتقبل المعلومات ويفصل عنها الالتباسات، ويحولها إلى تعليمات خالية من الالتباس، فليس هذا ما يفعله لنا العمل الفني، ونحن لا نستطيع أن نستمد منه تعليمات كهذه. وسوف أقتبس أخيرًا تلك الفقرة من الدراسة الأولى ﻟ «وحدة الإنسان» التي وعدتُ القارئ في البداية أن تكون هذه الدراسة التكميلية عرضًا مفصلًا لها. هذه الفقرة تضع لآلية المخ نفس القيود والحدود التي كشفتُ عنها الآن في صدد وصف المخ لآلية الطبيعة:
«إنني أؤكد أن ثمة نوعًا من المعرفة لا يمكن صياغته على نحو رمزي من أجل توجيه آلة، وربما تساءل البعض: هل المقصود هنا أية آلة؟ فإن كان هذا السؤال متعلقًا بالحاضر، فعندئذٍ يكون الجواب بالإيجاب، مثال ذلك أننا نعلم (من أعمال كورت جودل وأ. م. تورنج) أنه ليس في وسع أية آلة تستخدم المنطق الصرف أن تختبر تعليماتها الخاصة وتبرهن على اتساقها. أما إن كان السؤال متعلقًا بالمستقبل البعيد، فإنه من المستحيل الإجابة عنه، فالآلة ليست شيئًا طبيعيًّا، وإنما هي شيء من صنع الإنسان يحاكي فهمنا الخاص للطبيعة ويستغله، وليس في استطاعتنا أن نتنبأ بمدى التغيير الذي سيطرأ على فهمنا هذا، فنحن لا نستطيع أن نتنبأ بجميع الآلات الممكنة أو نتصورها، هذا إذا كان للفظ «جميع» أي معنًى في هذه العبارة. وكلُّ ما يمكننا قوله، وكل ما أستطيع تأكيده، هو أننا لا نستطيع الآن تصور أي نوع من القانون أو الآلة التي يمكنها التعبير عن المجموع الكامل لضروب المعرفة البشرية تعبيرًا شكليًّا رمزيًّا.»
على أن هناك ناحية واحدة يتجاوز فيها العرض الذي أقدِّمه الآن نطاق الفقرة السابقة تجاوزًا أساسيًّا، لا في التفاصيل فحسب، بل في الجوهر أيضًا، هذه الناحية هي في إرجاع الطابع المشترك المتعلق بالخيال في العلم والأدب إلى منطق الإشارة الذاتية، وفي بيان أن الفارق في النوع بين العلم والأدب — في إطار هذه الصفة المشتركة — يرجع إلى اختلاف المدى الذي يكون فيه للإشارة الذاتية دور في اللغة التي يستخدمها كلٌّ منهما.