مقدمة
تعود مهنة الدبلوماسي — شأنها شأن بعض المهن الأخرى القديمة — لزمنٍ مُفرط القدم؛ فيؤرِّخ ديفيد رينولدز بداية ظهورها إلى العصر البرونزي على أقل تقدير، وتكشف وثائق من مملكة الفرات في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، ومن عهد حكم إخناتون لمصر بعد ذلك بأربعة قرون، عن عالم من المبعوثين المتنقلين تُحرِّكهم قضايا الحرب والسلام. ورغم أنه كان عالمًا بدائيًّا وفقًا لمعايير اليوم، لا تحكمه إلا قواعد قليلة، وتفصل بين أجزائه مسافات هائلة، فقد كان شكلًا واضحًا من أشكال الدبلوماسية. وقد تطوَّرت الدبلوماسية بدرجةٍ كبيرةٍ منذ ذاك العهد لتغدوَ لها معانٍ مختلفة تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، بدءًا من تعريفها المنمَّق — تعريف هارولد نيكلسون بأنها «إدارة العلاقات بين الدول المستقلة عبر المفاوضات.» ووصولًا إلى تعريفها غير المنمق الذي وضعه وين كاتلين: «فن انتقاء المعسول من الكلام إلى أن تجد حجارة تقذف بها.» لكن أيًّا كان تعريفنا للدبلوماسية، لا يشكك كثيرون في أن مسار الأحداث الكبرى في الدبلوماسية الدولية الحديثة وعواقبها قد شكَّلت عالمنا الذي نحيا فيه وغيَّرت منه.
ويهدف هذا الكتاب إلى تعريف القارئ العادي بقضية الدبلوماسية ودراستها من منظورٍ تاريخي. ونظرًا لأنه قائم على أمثلةٍ مستقاة من مراحل ووقائع تاريخية هامة، فإنه مصمَّم لتوضيح فن الدبلوماسية بصورةٍ حية؛ وهو ما من شأنه أن يجذب القارئ ويرشده في الوقت نفسه، مع إبراز التغيرات التي طرأت على الطرق الدبلوماسية في المراحل التاريخية الهامة. إنني لا أسعى إلى سرد تاريخ الدبلوماسية للقارئ، بل إلى أن أُبيِّن له صور اختلاف ممارسة السياسات الدبلوماسية في نقاطٍ بعينها من التاريخ. لا شك أن للدبلوماسية تاريخَها الخاص؛ فالمؤسسات تتبدل، وتتوافر موارد جديدة مع الوقت، لكنني أود هنا أن أعمد إلى استخدام دراسات حالةٍ بعينها لأُبرز المتطلبات المتباينة أشد التباين التي تفرضها الظروف على ممارسات الدبلوماسيين، كما أهدف إلى أن أُبين كيف يمكن أن تكون للسياسات الدبلوماسية المحنَّكة — كما للتهوُّر وللمغالاة في الحذر وللحماقة — آثار مهمة على مقدرات الأمم. بعبارة أخرى، دراسات الحالة المختارة هنا ستُبين أن الدبلوماسية كانت — ولا تزال — عنصرًا مهمًّا في إدارة شئون الدولة، ومن دون الحنكة الدبلوماسية قد يبقى النجاح السياسي هدفًا صعب المنال.
في هذا السياق، سنتناول بإيجاز تطور الدبلوماسية الحديثة مع التركيز على الدبلوماسيين ودورهم، وتسليط الاهتمام بصورةٍ خاصة على فن إبرام المعاهدات، والسياسات الدبلوماسية التي انتُهجت إبان الثورة الأمريكية التي أنذرت بتمزق أوصال الإمبراطورية البريطانية في سبعينيات القرن الثامن عشر، والأصول الدبلوماسية للحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي التي تلتها والتي قوضت أربع إمبراطوريات، وقضت على جيل كامل من الشباب، كما نركز على مؤتمرات القمة السرية التي كانت وراء الليلة التي قسَّم فيها ستالين وتشرشل أوروبا، والتي أنذرت باندلاع الحرب الباردة، والعلاقة الدبلوماسية غير المتوازنة التي كانت خلف إبرام معاهدة أنزوس (أو المعاهدة الأمنية الأسترالية النيوزيلندية الأمريكية) التي صمدت لأكثر من خمسين عامًا. وأخيرًا، نلقي الضوء على النظام الاقتصادي العالمي الذي يضم — على سبيل المثال لا الحصر — أنشطة الشركات المتعددة الجنسيات، والمنظمات الحكومية الدولية، والسياسات الدبلوماسية التي تنتهجها منظمات المجتمع المدني التي فتحت آفاقًا جديدة في ممارسة الدبلوماسية مع تسهيل مشاركة أطراف جديدة.
نجد من تحليل الاختلافات الواضحة بدراسات الحالة التي نتناولها — مثل الأنظمة الحكومية المتنوعة التي مثَّلَها كل عصر من الدبلوماسية، وثورة الاتصالات التي كانت لها أهمية كبيرة لا سيما في مؤتمرات القمة الحديثة — أن القاسم المشترك بين دراسات الحالة هذه هو الدور العالمي الذي تلعبه المفاوضات. في الفصول التالية، يسعى الدبلوماسي دائمًا — بوصفه متفاوضًا — للتوصل إلى اتفاق أو تفاهم أفضل نوعًا ما من الحقائق التي كان سيسوغها موقفه الأساسي، ولا يفضي بأي حالٍ لوضعٍ أسوأ مما كان سيتطلبه موقفه الأساسي. ينطبق هذا على العلاقات بين الدول المستقلة بقدر ما ينطبق على العلاقات بين المنظمات والأفراد. ولم ينجح جميع الدبلوماسيين في ذلك بالطبع، وبعضهم تفوَّق على الآخر. في الوقت نفسه، على كل دبلوماسي أن يحرص على أن يَضمَنَ من يمثِّلهم، مع الحرص في الوقت نفسه على التأكد من أن خصمه بدوره يضمن من يمثلهم. من بين الحالات التي سنتناولها تفوُّق الدبلوماسيين الأمريكيين إبان الثورة الأمريكية والذين أجبرتهم واقعيتهم على التفكير والتصرف كما يحتم الموقف، ووفقًا لما تفرضه قواعد القوة، بالتغاضي عما تفرضه المبادئ والقيم الأخلاقية التي كانوا يعتنقونها؛ إذ لم يكن أمامهم مجال كبير للمناورة، وكان الخوف من الفشل ملازمًا دائمًا لهم. من هنا تحوَّل تحذير بنجامين فرانكلين — الذي جاء في وقته — من ضرورة ترابط المستوطنات الأمريكية معًا أو انهيارها واحدةً بعد الأخرى إلى النتيجة الرائعة التي حققها دبلوماسيو الثورة الأمريكية، الذين استفادوا أيَّما استفادة من المحن التي عانت منها أوروبا. حدث كل هذا في عهدٍ كان وصول الخطاب فيه من فيلادلفيا إلى باريس يستغرق شهرًا أو أكثر.
وعلى غرار المواقف الدبلوماسية الأخرى التي سنتعرض لها في هذا الكتاب، كان للتبعات التاريخية المترتبة على تلك السياسات أثر عميق؛ فعلى سبيل المثال، كان تمزُّق الإمبراطورية البريطانية في سبعينيات القرن الثامن عشر من الوقائع المحتومة في التاريخ الحديث، ولو تمتعت الإدارة السياسية البريطانية بدرجة الحكمة التي اكتسبتها في القرن التالي لأمكن أن يقود كومنولث بريطاني-أمريكي أو أمريكي-بريطاني العالمَ على طريق التنمية السلمية، دون الخوف من تهديد الإمبراطورية الألمانية، أو النازية الألمانية، أو روسيا الشيوعية. ومثل هذه الاحتمالات يختص بدراستها التاريخ الافتراضي، وهي مثار توقعات مبهرة لا حصر لها. بالمثل، لم تفلح السياسات الدبلوماسية التي انتهجها بسمارك لإدارة الدولة في الفترة التي سبقت بداية القرن العشرين في منع الانجراف إلى هاوية الحرب؛ ومن ثَمَّ — وكما كتب المؤرخ آرنولد توينبي — كانت الحضارة الغربية تشارف «عهدًا من القلاقل» يشبه ما شبَّ في الدول التابعة لليونان القديمة من قلاقل أدَّت إلى أنها دمرت نفسها؛ أو كما قال هنري كسنجر: «بما أن الحرب العالمية الأولى لم يَسِرْ بها شيء وفقًا للمُخطط، كان من المحتم أن يكون السعي إلى السلام غير ذي جدوى إطلاقًا مثلما كانت التوقعات التي ألقت الأمم بسببها نفسها إلى هذه التهلكة.» ورغم كل ما بذلوه من مجهودات، كان ما حققه الدبلوماسيون في معاهدة فرساي هو النقيض تمامًا لما شرعوا في تحقيقه، وهو ما جعلهم — بتعنُّت وبصورة مأساوية — يمهدون الطريق للحرب التالية التي كانت أكثر بشاعة. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة تاريخ الدبلوماسية كقصة تحذيرية.
تعبيرًا عن شكري وتقديري، أود أولًا أن أُعرب عن امتناني لصديقي وزميلي، مانفريد ستيجر، على اقتراح موضوع هذا الكتاب، وأندريا كيجان ولوسيانا أوفلاهيرتي وإيما مارشنت، من مطبعة جامعة أكسفورد، على ما بَذَلْنَه لإصدار هذا الكتاب، كما أود أن أشكر ساندرا آسرسون على تزويدي بالصور والتعليقات الملحقة التي تزين فصول الكتاب التالية. وسأكون مقصرًا إن لم أتوجه بالشكر للموفدين ممن لا أعرفهم على تقاريرهم المليئة بالأفكار، واقتراحاتهم البنَّاءة. وقد أمدني كل من لا يتفقون معي في الرؤية بالوقود الفكري لمادتي. وتتجلى وتبرز الأفكار التي أَدينُ بها من اللحظة الأولى، سواءٌ في نص الكتاب، أو في المراجع، أو في القراءات الإضافية التي أوردتها. ولا حاجة بي لأن أقول — لكنني سأقول هذا على أي حال: إنني وحدي أتحمل المسئولية عن النص التالي.