تطوُّر الدبلوماسية
اختصت الدبلوماسية بصورتها التقليدية في المقام الأول بالانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم والعكس صحيح. بعبارة أخرى، تُعنى الدبلوماسية بأوجه التواصل في الصراع وصناعة السلام. ورغم أن هذا جانب أساسي من جوانب الأنشطة الدبلوماسية في الماضي والحاضر، تجب أيضًا ملاحظة أن هذا الجانب يُعد اليوم هو الجانب الوحيد والأهم على الإطلاق؛ فقد غدت الدبلوماسية إلى حدٍّ كبير أوسع نطاقًا من السياسات الدبلوماسية التي تمارسها الدول والحكومات، ورغم أن الشكليات الدبلوماسية الرسمية القانونية التي قامت على مؤتمر فيينا الذي عُقد عام ١٩٦١ حول العلاقات الدبلوماسية لا تعترف إلا بالعلاقات الدبلوماسية على النطاق الدولي فقط؛ فمن الصعب غض الطرف عن السياسات الدبلوماسية التي تمارَس على نطاق النظام الاقتصادي الدولي، بدءًا من الأنشطة التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات إلى تدخلات المنظمات الحكومية الدولية الاقتصادية العاملة على مستوى العالم، ولا سيما منظمة التجارة العالمية؛ فلهذه المنظمات بدورها شبكات من العلاقات الدبلوماسية التي تعمل داخل الأنظمة الدبلوماسية التقليدية وخارجها. وينطبق الأمر نفسه على نطاقٍ شاسع آخر من النشاط الدبلوماسي يتمثل في منظمات المجتمع المدني. كما أن القصص الملحمية للدول الفاشلة، وتلك التي دخلت في طور الفشل، والصراع المدني، والإرهاب الدولي؛ قد نتج عنها في الواقع عالم جديد تمامًا من علاقات التواصل الملحة بين الدول والمنظمات غير الحكومية، وبين المنظمات غير الحكومية من جهةٍ والمنظمات الحكومية الدولية من جهة أخرى، وبين المنظمات غير الحكومية بعضها وبعض. وسوف نتناول هذه التطورات فيما بعد (انظر الفصل السادس).
(١) تطوُّر الدبلوماسية
يعود أصل كلمة «دبلوماسية» إلى قدماء الإغريق؛ فأُطلِقت لفظة الدبلوماسي في اليونان القديمة، في الواقع، على الرجل الكبير السن، ثم استُخدمت فيما بعدُ في اللغة الفرنسية للإشارة إلى عمل المُفاوِض. وللنشاط الدبلوماسي بلا شك تاريخ طويل، يعود — بمعنى الكلمة — إلى آلاف السنين؛ فأول أثرٍ باقٍ يدل على الأنشطة الدبلوماسية هو خطاب نُقش على لوح حجري يعود إلى قرابة ٢٥٠٠ عام قبل الميلاد، عُثر عليه في المنطقة المعروفة الآن بشمال إيران، وقد حمله على الأرجح مبعوث سافر ذهابًا وإيابًا قرابة ١٢٠٠ ميل بين مملكتين متباعدتين. وقد جرت عادة الحكام على إرسال المبعوثين بعضهم إلى بعض لعدة أسباب؛ كالحيلولة دون وقوع حرب، ووقف العداء وإبرام المعاهدات، أو لمجرد استئناف العلاقات السلمية وتعزيز التجارة بينهم. أما عهد الدبلوماسية الحديث فيعود وفقًا للمتعارف عليه إلى صُلح وستفاليا الذي عُقد عام ١٦٤٨، والذي وضع حدًّا لنزاعات حرب الثلاثين عامًا، وأرسى مبدأ استقلال الدول، وحرية الاعتقاد والتسامح الديني. أما أول وزارة خارجية فأسسها الكاردينال الفرنسي ريشيليو عام ١٦٢٦، الذي طرح كذلك المنهج الكلاسيكي في العلاقات الدولية، القائم على مبدأ الدولة المستقلة الذي تحركه المصالح القومية كهدف نهائي. وقد استخدمت بريطانيا العظمى في القرن الثامن عشر سياساتها الدبلوماسية لخدمة توازن القوى الدولية، بينما استخدمت النمسا في عهد مترنيش سياساتها الدبلوماسية لإعادة بناء مجلس أوروبا، الذي قامت فيما بعدُ ألمانيا في عهد بسمارك بحله لتغير بذلك وجه الدبلوماسية الأوروبية وتجعلها — على حد تعبير هنري كسنجر: «لعبة وحشية تدور حول سياسة القوة.»
ومع انهيار الملكية — التي كانت تزعم حقها الإلهي في الحكم — أمام الأنظمة الملكية الدستورية والجمهورية، ترسخ أكثر فأكثر إنشاء السفارات والمفوضيات في جميع أنحاء أوروبا، ومع نهاية القرن التاسع عشر تبنَّى العالم بأسره الدبلوماسية على الطريقة الأوروبية؛ إذ كانت نظامًا دبلوماسيًّا مكتمل النمو. فأصبح لدى الدول الكبرى سفارات في نظيراتها من الدول الكبرى، ومفوضيات في الدول الصغرى، ورأَس السفارات سفراء بينما ترأس الوزراء المفوضيات. وقد توقف فيما مضى تصنيف البعثات الدبلوماسية كسفارة أو مفوضية، وتنصيب رئيسها كسفير أو وزير، على الأهمية التي توليها حكومتا الدولتين للعلاقات المتبادلة بينهما. فعلى سبيل المثال، لم تُقم الولايات المتحدة في القرن الأول من تأسيسها إلا مفوضيات في الدول الأجنبية، وبالمثل لم تُقم حكومات الدول الأخرى إلا مفوضيات لها بالعاصمة الأمريكية. لكن عام ١٨٩٣، أجاز الكونجرس الأمريكي ترقية العديد من المفوضيات الأمريكية المهمة إلى سفارات شريطة أن تتخذ الدول الأخرى الخطوة نفسها. ومنذ ذلك الحين، أخذت السفارات تدريجيًّا تحل محل المفوضيات حتى عام ١٩٦٦، الذي شهد تحوُّل آخر مفوضيتين أمريكيتين (في بلغاريا والمجر) إلى سفارات؛ الأمر الذي دلَّ على الأهمية المتزايدة التي أولتها الولايات المتحدة الأمريكية لسياساتها الدبلوماسية.
(٢) الدبلوماسية العامة
كان اتصال السفارات والمفوضيات مع المواطنين العاديين في الدولة المضيفة محدودًا للغاية، وعليه الكثير من القيود الصارمة، غير أن هذه القيود في نهاية المطاف نظَّمتها اتفاقية هافانا عام ١٩٢٨، التي نصت — تحت عنوان «مهام المسئولين الدبلوماسيين» — على عدم تدخُّل هؤلاء المسئولين في الشئون الداخلية للدولة المضيفة، وأن تقتصر علاقاتهم معها على المعاملات الرسمية. من ثَمَّ، لم تجمع بين دبلوماسيي الدول الأجنبية ومواطني الدول المضيفة علاقات رسمية بوجهٍ عام. قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، تمثلت العلاقات الدبلوماسية بالأساس في علاقات بين الحكومات؛ بحيث مُنع الدبلوماسيون الأجانب من المشاركة في السياسات الداخلية أو الخارجية للدولة التي كانوا يؤدون فيها مهامهم. غير أن اتفاقية هافانا لم تصل إلى حد أن تنص بوضوحٍ على أنه يحظر على المبعوثين الدبلوماسيين التواصل مع مواطني الدول الأجنبية؛ الأمر الذي كان سيبدو غير واقعي بما أن إعداد التقارير عن أحوال الدول التي كانوا مُعتمَدِين لديها كان من المهام المقررة للبعثات المقيمة منذ نشأتها في القرن الخامس عشر، وبالطبع لم يكن ذلك ممكنًا دون مقابلة مواطني الدولة المضيفة، رغم أن ذلك قد اقتصر على دوائر الصفوة السياسية والتجارية والاقتصادية على المستوى المحلي. وقد كان الهدف الأساسي من الشرط الذي ينص على قصر «المعاملات الرسمية» على وزارات الخارجية هو حماية مكانة تلك الوزارات بين الوزارات الأخرى، ولا يتعلق الأمر بالمواطنين بوجهٍ عام؛ ومن ثَمَّ تلافي الفوضى في العلاقات الثنائية بين الدول.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اتسع نطاق النشاط الدبلوماسي لعدة أسباب، لا سيما ضغوط الحرب الباردة، وحديثًا الحرب الدولية على الإرهاب؛ ليشمل تأسيس علاقة اتصال بين الحكومات والمواطنين، وهو ما يُعرف على نطاقٍ كبير باسم الدبلوماسية العامة. يشير هذا المفهوم بصفة أساسية إلى تأثير التوجهات العامة على وضع السياسات الخارجية وتنفيذها. وتتجاوز الدبلوماسية العامة — وهو مصطلح صاغه الدبلوماسي الأمريكي المحنك إدموند جوليون عام ١٩٦٥ — حدود الدبلوماسية التقليدية، وهدفها أن تغذيَ الحكومات الرأي العام في الدول الأخرى. وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن الدبلوماسية العامة تدعم صراحة تفاعل الدوائر الخاصة والمصالح في دولة مع نظائرها في دولة أخرى، الأمر الذي يسهله تدفُّق المعلومات والأفكار عبر حدود الدول.
وفقًا لتشارلز وولف وبراين روزن، يمكن فهم الدبلوماسية العامة على النحو الأمثل بمقارنة خصائصها الأساسية بخصائص الدبلوماسية «الرسمية». أولًا: الدبلوماسية العامة تتسم بالشفافية، وبأنها واسعة الانتشار، وهو ما لا ينطبق على الدبلوماسية الرسمية. ثانيًا: تنتقل ممارسة الدبلوماسية العامة من الحكومات إلى مجتمعات أكبر من المواطنين — أو في بعض الحالات إلى مجتمعات مختارة من المواطنين (لا سيما في الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي) — بينما تقتصر ممارسة الدبلوماسية الرسمية على الحكومات بعضها وبعض. ثالثًا: ترتبط القضايا والموضوعات التي تُعنَى بها الدبلوماسية الرسمية بممارسات الحكومات وسياساتها، فيما ترتبط القضايا والموضوعات التي تُعنَى بها الدبلوماسية العامة بمواقف عموم المواطنين وسلوكياتهم. ونظرًا لأن الدبلوماسية العامة معرضة دائمًا لاتهامها بشن الدعاية والتدخل في الشئون الداخلية، فإنها تمثل تحديًا لنص مؤتمر اتفاقية هافانا ومعانيها المتضمنة.
(٣) الدبلوماسيون والمعاهدات
تُعنَى الدبلوماسية التقليدية بدرجةٍ كبيرة بإبرام المعاهدات. ويضع قاموس أكسفورد الإنجليزي عدة تعريفات مختلفة لمصطلح «معاهدة»؛ فمن حيث المعنى المحدود، تُعرَّف المعاهدة على أنها: «عقد بين دولتين أو أكثر يُعنَى بالسلم، أو التحالف لتحقيق هدنة، أو بالتجارة، أو غير ذلك من العلاقات الدولية.» وهي بالمعنى الأكثر اتساعًا: «تسوية أو ترتيب يتم التوصل إليه باتفاقٍ أو تفاوض، ويكون في صورة اتفاقيات أو مواثيق أو عقود.» كما كان من الممكن أن يذكر قاموس أكسفورد شيئًا عن التمييز بين المعاني المحددة لكلٍّ من «الاتفاقية» و«المعاهدة»، لكنه لم يفعل. بينما كان مصطلح «اتفاقية» يُستخدم في القرن التاسع عشر عادةً للإشارة إلى الاتفاقيات الثنائية، أصبح في القرن العشرين يُستخدم بوجهٍ عام للإشارة إلى المعاهدات الرسمية المتعددة الأطراف، أو التي يشارك فيها الكثير من الأطراف. وعادة ما يُطلق على الوثائق التي يجري التفاوض عليها تحت رعاية منظمة دولية — كالأمم المتحدة مثلًا — «اتفاقيات»، أما في العلاقات الثنائية، فيُستخدم هذا المصطلح غالبًا للإشارة إلى المعاهدات ذات الطابع التقني أو الاجتماعي؛ كالمعاهدات حول الضمان الاجتماعي أو الازدواج الضريبي.
لكن أيًّا كان المصطلح المستخدَم، تعد سلطة إبرام المعاهدات — التي تعد أكثر صور الاتفاقيات رسميةً وأرفعها مقامًا بين الدول، والتي يضطلع بها غالبًا الدبلوماسيون — سمةً أساسية من سمات التمتع بالسيادة. ويعد مبدأ أن المعاهدات المبرمة بصورة شرعية مُلزمة على الموقعين — الذين يتعين عليهم الالتزام بها بحسن نية — قاعدةً أساسية في القانون الدولي، كما أن هذا المبدأ هو الأساس الذي يقوم عليه النظام الحديث للعلاقات الدولية. والشروط المعتادة اللازمة لإبرام المعاهدات السارية هي تمتعُ الأطراف المتعاقدة بالأهلية اللازمة للدخول في ارتباطات دولية، ويجب أن يكون المبعوثون للتفاوض بشأنها لهم من السلطات ما يخوِّل لهم ذلك، كما يجب أن يتمتع الموقعون بحُرية التصرف. ومن المتعارف عليه أيضًا أن المعاهدات تصبح مُلغاةً إن أُبرمت تحت التهديد أو باستخدام القوة مما يشكل انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي الذي يجسده ميثاق الأمم المتحدة. أما معاهدات السلام التي تُبرم بعد وقف أعمال الحرب، فكانت تعد سارية المفعول بسبب الحروب التي سبقتها. ورغم ذلك، وضعت الولايات المتحدة سياسة تقضي بعدم الاعتراف بأي معاهدة أو اتفاقية تُبرم بسبل مغايرة لميثاق كيلوج-بريان (١٩٢٨)، أو معاهدة سلام باريس التي انضمت الولايات المتحدة بموجبها إلى دول العالم الأخرى في نبذ الحرب كأداة تُستخدم في السياسات الوطنية. يُعرف هذا المبدأ بمبدأ ستيمسون، نسبةً إلى وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هنري ستيمسون الذي أعرب رسميًّا في عام ١٩٣١ عن معارضة الولايات المتحدة الأمريكية لغزو اليابان لمنطقة منشوريا، رافضًا قَبول أي تغيير في توزيع الممتلكات الإقليمية نتيجةً لهذا الغزو، وقد تبنَّت عصبة الأمم مبدأ ستيمسون، وتضمنت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام ١٩٦٩ مبادئ مماثلة.
على المستوى الدولي، فإن نطاق سلطة الدولة في إبرام المعاهدات لا تقيده حدود من الناحية العملية، ويتضمن إبرام المعاهدات المتصلة بالاستحواذ على الأراضي خارج البلاد، والتنازل عن الأراضي الداخلية، وترسيم الحدود وتعديلها، والتعهُّد بالتعاون المتبادل، وضمان الاستثمارات الأجنبية، وتسليم المتهمين أو المدانين بالجرائم لحكوماتهم. وقد تكتسب المعاهدات طبيعة تجعلها صانعة للقوانين، وطبيعة دولية كالاتفاقيات حول القوانين البحرية، أو حول المزايا والحصانات التي تتمتع بها البعثات الدبلوماسية والعاملون بها. علاوةً على أن المعاهدات المتعددة الأطراف تعد أساسًا لقيام المنظمات الدولية، وتحديد سلطاتها ومهامها الخاصة.
يمكن تصنيف العديد من المعاهدات بوصفها اتفاقيات إما سياسية أو تجارية. وقد تتعلق المعاهدات السياسية بوجهٍ خاص بالدفاع المشترك في حالات الهجوم المسلح، أو بضمان التزام موقف سياسي محدد كالحياد، أو بالحفاظ على حدود الدولة الحالية. وكان مفهوم الأمن المشترك على وجه الخصوص — أي الالتزام العالمي الدائم والمشترك بمناهضة أعمال العدوان وضمان الأمن — من المستحدثات الشديدة الأهمية للعلاقات الدولية في القرن العشرين، وقد تضمنه ميثاق عصبة الأمم (في المادة العاشرة) تحت إصرار الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، وعاد للظهور بصورةٍ معدلة في ميثاق الأمم المتحدة. أما المعاهدات التجارية فتُؤمِّن عادةً مزية اقتصادية متبادلة؛ كخفض التعريفة الجمركية على المنتجات المستوردة بين أطراف الاتفاقية. وتشمل هذه الاتفاقيات في العصر الحديث في أحيانٍ كثيرة فقرة تشترط على كل طرف موقِّع للاتفاقية منح أطراف الاتفاقية الأخرى شروطًا جيدة مماثلة للشروط التي اتفقت عليها هذه الأطراف مع أي دولة أخرى (فقرة «الدولة الأَولى بالرعاية»). وأبرز المعاهدات المتعددة الأطراف من هذا النوع هي الاتفاقية العامة للتعاريف الجمركية والتجارة (اتفاقية الجات). ثَمَّةَ نوع آخر من المعاهدات يشترط طرح النزاعات للتحكيم أمام محاكم خاصة، أو أمام مؤسسات كالمحكمة الدائمة للتحكيم، أو محكمة العدل الدولية.
لا يفرض القانون الدولي شكلًا محددًا للمعاهدات أو إجراءات محددة لإبرامها؛ فقد تُبرم بتبادل مذكرات دبلوماسية تتضمن نصًّا متفقًا عليه وموقَّعًا من قِبل المسئولين المُخوَّلين بذلك، أو بتوقيع نسخة أو أكثر من نص الاتفاقية من قِبل مسئولين مُخوَّلين بالتعبير عن موافقة حكوماتهم على الالتزام بالمعاهدة. ويتطلب الكثير من المعاهدات الهامة التصديق عليه من قِبل كل طرف من أطراف المعاهدة، وفي مثل هذه الحالات يوقع المتفاوضون — بعد التوصل إلى اتفاقٍ على النص النهائي للمعاهدة — على وثيقة المعاهدة، ثم يطرحون المعاهدة المقترَحة للتصديق عليها من قِبل السلطات المخوَّلة بذلك دستوريًّا، التي تتمثل عادةً في رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. وتمضي هذه الإجراءات في بعض الدول — وفي بعض الأحيان — بسهولة وبالصورة المتوقَّعة. على سبيل المثال، عندما أراد القائد الأعلى للاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين إبرام ميثاق عدم الاعتداء مع أدولف هتلر عام ١٩٣٩ (الميثاق النازي-السوفييتي)، لم تنطوِ العملية على أي عراقيل أو إجراءات، ولكن في مواضع أخرى يصبح إبرام المعاهدات شديد التعقيد، ومشحونًا سياسيًّا، والنتيجة غير مؤكدة.
تُعد المعاهدات ملزمة لأطرافها (مبدأ العقد شريعة المتعاقدين)، لكنها قد تتعرض للإنهاء بعدة طرق؛ فقد تنص المعاهدة نفسها على انتهائها في وقتٍ محدد، أو قد تسمح لطرفٍ بتقديم إخطار بإنهائها يسري إما بوقت تسلُّم الإخطار أو بانقضاء فترة محددة، وقد تبطل بإنكار أحد موقِّعيها لالتزاماته، غير أن هذا الإنهاء من طرفٍ واحد قد يثير إجراءات انتقامية. وقد تُفسَخ المعاهدة بصورة طبيعية؛ سواءٌ بقيام حرب، أو بإنكارها، أو في أوقات أخرى بالاعتماد على مبدأ «تغيُّر الظروف»؛ أي عندما تنقضي الأحوال التي ارتآها الطرفان عندما وقَّعا المعاهدة (الظروف المحيطة بتوقيع المعاهدة، ومن ثَمَّ الأساس الفعلي الذي قامت عليه المعاهدة)، ويطرأ تغيُّر جسيم على هذه الظروف. لكن من الملحوظ أن مبدأ تغير الظروف لا ينطبق بصفةٍ عامة على المعاهدات الأساسية العامة؛ كميثاق الأمم المتحدة أو اتفاقية جنيف. ويزخر التاريخ الدبلوماسي بأمثلة لكلتا الحالتين؛ على سبيل المثال، قدمت إمبراطورية اليابان وألمانيا النازية إخطارًا رسميًّا بالانسحاب من عصبة الأمم، بينما انهارت اتفاقيات تحالفات الحرب الباردة العظمى؛ كحلف سياتو (حلف جنوب شرق آسيا) ومعاهدة وارسو. ومؤخرًا قدمت الولايات المتحدة إخطارًا بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية مع الاتحاد السوفييتي السابق؛ روسيا الاتحادية.
(٤) اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات
صيغت قواعد القانون الدولي التي تحكم إبرام المعاهدات وسريانها وآثارها وتفسيرها، وإجراء التعديلات عليها وتعليقها وإنهاءها في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التي تم تبنِّيها عام ١٩٦٩، في مؤتمر عُقد بقرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد شارك في هذا الحدث ممثلون من ١١٠ دول، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا والاتحاد السوفييتي، وأغلب الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، إلى جانب العديد من الدول غير الأعضاء من بينها سويسرا. وقد وضع مسودة الاتفاقية لجنة القانون الدولي. وقد دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في يناير عام ١٩٨٠ بعد التصديق عليها مِنْ قِبَل ٣٥ دولة. وقد وقَّعت الولايات المتحدة الاتفاقية، لكنها لم تصدق عليها بعدُ، إلا أن الولايات المتحدة تَعتبر أغلب قواعد اتفاقية فيينا ممثلة للقانون الدولي المتعارف عليه.
تتضمن اتفاقيات التعاون والسلام الدولي الخلفية الدبلوماسية للتاريخ البشري بدءًا من المعاهدات الأوروبية التي قام بها كونجرس فيينا (عام ١٨١٥)، والتي تُعد علامة استرشادية فارقة، ومعاهدة برست ليتوفسك (عام ١٩١٨)، ومعاهدة فرساي عام (١٩١٩)، إلى أحداث بارزة كميثاق عصبة الأمم (عام ١٩١٩)، وميثاق الأمم المتحدة عام (١٩٤٨)، ومنظمة حلف شمال الأطلسي عام (١٩٤٩). وقد تمتعت المعاهدات المؤثرة في السلام الدولي ونزع السلاح بصمود مذهل. كان إبرام معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد السوفييتي عام ١٩٦٣ — التي منعت الدول الموقِّعة من إجراء تفجيرات نووية في الجو أو فوق الأرض — بمنزلة نقطة التحول في الحرب الباردة. لقد خَطَتِ القوى العظمى خطوة أخرى في اتجاه العقلانية النووية. وتبقى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية — التي وقَّع عليها ١٩٠ دولة — العقبة العالمية القانونية والدبلوماسية الوحيدة أمام انتشار الأسلحة النووية. وقد نجحت هذه المعاهدة في وضع معايير دولية تقف في وجه انتشار الأسلحة النووية إلى جانب تأسيس نظام تفتيش دولي يبقى إلى اليوم أفضل آمالنا في منع تحويل وقود المفاعلات النووية إلى أسلحةٍ للدمار الشامل. إن الدبلوماسية والدبلوماسيين هما اليوم مفتاحا مواجهة أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين، بما فيها الانتشار النووي (كما في حالتَي إيران وكوريا الشمالية كبداية)، والإرهاب الدولي، والاحترار العالمي، وهي التحديات التي لا تقترب من نطاق لعبة التنافس الدولي.