مناهج العلوم وثمارها
الفيزياء فرعٌ من العلوم، لكنَّ ثمَّة جانبًا يجعل فلسفةَ الفيزياء ليست جزءًا من فلسفة العلوم فحسب. فعادةً ما يقف فيلسوف العلوم على مسافةٍ بعيدة قليلًا من العلم، ويدرُس ممارسته بصفته غيرَ متخصص وإنما مهتم، مركِّزًا اهتمامه على المنهج العلمي بوجهٍ عام، وكذلك الأسئلة العامة بشأن الموثوقية والقيمة في منتج العلوم. غير أنَّ فلاسفة الفيزياء يهتمُّون في المعتاد بأسئلةٍ أكثرَ تحديدًا؛ ليست عن العلوم بوجهٍ عام ولا عن الفيزياء بوجهٍ عام، بل أسئلة تتعلَّق بالمفاهيم التي تطرحها نظرياتٌ فيزيائيةٌ بعينها، ومنها على سبيل المثال: ما الذي تخبرنا به نظريةُ النسبية العامة عن المكان والزمان؛ كيف ينبغي لنا فَهْم القانون الثاني للديناميكا الحرارية؛ أيوجد خطأ جوهريٌّ في نظرية الكم؟ ورغم أنهم لم يتحفَّظوا في انتقادِ مناهج علماء الفيزياء في حالاتٍ معينة، فإنهم في الوقت نفسه لم يركِّزوا على المزيد من الأسئلة العامة بشأن منهجية الفيزياء.
ونظرًا إلى كل هذه الأسباب، فإن الأسئلة التي طرحتها فلسفةُ العلوم العامة وما قدَّمَته من إجاباتٍ مبدئية عليها؛ تمثِّل أساسًا بالغَ الأهمية في فلسفة الفيزياء. ولهذا سأتناول في هذا الفصل مقدمةً عن المنهج العلمي، وعن بعض الألغاز الخاصة بطريقة التفكير في النظريات العلمية بوجهٍ عام.
المنهج العلمي: من الاستقراء إلى التكذيب وما بعده
ما الذي يحدُث إذا أفلتَّ تفاحةً من يدك؟ إنها تسقط. افعل الشيءَ نفسه مع تفاحةٍ أخرى، أو مع التفاحة نفسها من ارتفاع مختلِف، وسوف تسقط أيضًا. ينطبق الأمر نفسه على الأجسام الأخرى، مثل الكُمَّثْرى وقوالب الطوب والقطط والأطفال. تعطينا التجربةُ العديد من الأمثلة التي تبرهن أن «الأجسام كذا وكذا تسقط إذا أُفلِتت» وبضعة أمثلة نادرة تُبرهن أن «الأجسام كذا وكذا لا تسقط إذا أُفلتت»؛ ومن ثَم يمكننا اعتبار أنَّ «كل الأجسام تسقط إذا أُفلتت» استنتاجٌ مبدئيٌّ بناءً على ملاحظاتنا.
ربما يكون هذا نموذجًا جيدًا للكيفية التي يتعلَّم بها الأطفال الجاذبية. (أنا لا أعتقد ذلك في واقع الأمر، لكنني لست بمتخصصٍ في العلوم الإدراكية.) «ربما» يعكس درجةً من الطريقة التي يتقدَّم بها مجالٌ جديد من العلوم في بداية نشأته. لكنه نموذج عديم الجدوى حين يُستخدم لوصف منهج الفيزياء، أو أي علم ناضج آخر، وإن كانت هذه المحاولة الوصفية تقريبيةً للغاية.
الواقع أنَّ كلَيهما وجهان لعملةٍ واحدة؛ فالخطأ الذي يقع فيه الاستقراء الإحصائي هو الخلط بين عملية «التوصل» إلى نظريةٍ ما (ما يطلق عليه الفلاسفة «سياق الاكتشاف») وبين عملية جَمْع البراهين على النظرية وتقييمها («سياق التعليل»).
- (١)
التوصل إلى نظرية (بغضِّ النظر عن الكيفية)؛
- (٢)
محاولة «تكذيب النظرية»؛ أي اختبار بعض التنبؤات التي تطرحها النظرية.
وإذا لم تجتَز النظريةُ الاختبارَ، فإنها تُكذَّب؛ بمعنى أنها تُنحَّى ونعود إلى الخطوة الأولى. وإذا نجحت، يستمر اختبارُها بطرقٍ مختلفة.
يُطلق على هذا النهج «مذهب التكذيب»، وعلى خلاف الاستقراء الإحصائي، يُعَد هذا النهج صورةً مبسَّطة من المنهج العلمي؛ ومن ثَم فهو يُجسِّد بعضَ سماته المركزية، لكن ينبغي تجنُّب التعامل مع تفاصيل الصورة بحِرفيةٍ بالغة، وإلا فسيؤدي ذلك إلى حدوث لَبْس على الأرجح.
يمكننا أن نرى هذا من خلال مثالٍ واقعي من فيزياء القرن التاسع عشر. وفقًا لقانون الجاذبية لنيوتن، تدور الكواكب حول الشمس في مدارات بيضاوية، ونقطة حضيض المدار هي النقطة الأقرب إلى الشمس. ووفقًا لجاذبية نيوتن أيضًا، في حالة عدم وجود كواكب أخرى، تظل نقطة الحضيض للكوكب ثابتةً في النقطة نفسها من الفضاء في كل مدار، لكن بما أنه «توجد» كواكب أخرى، فإن نقطة الحضيض تبعُد عن الشمس قليلًا، في كل مدارٍ عن الذي قَبْله. معنى هذا أنَّ نقطة الحضيض «تتقدَّم» بمقدارٍ يمكن حسابه بقانون الجاذبية لنيوتن.
عندما أجرى علماء الفيزياء هذه العمليةَ الحسابية، وجدوا تباينًا بين القيمة التي تنبَّأت بها النظرية، والقيمة التي قاسوها في حالة اثنَين من الكواكب السبعة المعروفة آنذاك؛ وهما عطارد وأورانوس. كانت القيم المقيسة ضئيلة، وكذلك كانت قيمةُ التباين؛ فبالنسبة إلى كوكب عطارد الذي يكون عند أقربِ نقطةٍ بينه وبين الشمس، على مسافةٍ تبلغ ٤٤ مليون كيلومتر، تنبَّأت النظرية بأنَّ مقدار تقدُّم نقطة الحضيض لديه سيساوي تقريبًا ٣ آلاف كيلومتر في كل دورة مدارية، وجاءت القيمة المقيسة لتقدم نقطة الحضيض أقل بنحو ٢٠ كيلومترًا. غير أنَّ العمليات الحسابية والقياسات كانت دقيقةً بما يكفي — وإن أُجريَت في القرن التاسع عشر — لأن تؤكد أن التباين حقيقي.
وفقًا لمبدأ التكذيب، كان ينبغي أن تكون تلك نهايةَ قانون الجاذبية لنيوتن. فقد طرحت النظريةُ تنبؤًا، وتبيَّن زيفُ هذا التنبؤ؛ هذا إذن أوان الانتقال إلى النظرية التالية! لكن هذا لم يحدث، ولم يكن ينبغي له أن يحدُث. فقد ظلت نظرية الجاذبية لنيوتن ناجحةً لمئات السنين، وأدَّت إلى إنتاج الكثير من التنبؤات الناجحة والتفسيرات؛ وكان التخلي عنها والبدء من جديد — في غياب أي أفكار ملموسة لصياغة نظرية أفضل — من شأنه أن يشلَّ علم الفلك. والأهم من ذلك أنه لم يكن صحيحًا تمامًا أنَّ هذا التباين يعني تكذيبَ نظرية الجاذبية لنيوتن. فعلى غرار جميعِ نظريات الفيزياء، لا تطرح نظريةُ نيوتن للجاذبية التنبؤاتِ إلا بالاستعانة بما يُطلق عليه الفلاسفة «الافتراضات المساعدة»: الكواكب الموجودة، والمواضع التي توجد فيها، ومدى ضخامتها، والقميرات والكويكبات والسُّحب الغبارية الأخرى التي يمكن أن تكون قريبةً منها، والتأثيرات الأخرى غير المتعلِّقة بالجاذبية التي قد يكون لها دور، وحتى كيفية عمل التلسكوبات وأدوات قياس الزمن. ربما يكون السبب في شذوذ التقدُّم المداري هو قصورًا في نظرية الجاذبية، لكن من الوارد جدًّا أيضًا أن يكون السبب هو وجودَ كوكب بعيد آخر لا نعرفه. ويمكننا بالفعل أن نعكس هذا المنطق على النحو التالي: بافتراض أن نظريةَ الجاذبية لنيوتن صحيحة، فأين ينبغي أن يوجد الكوكب الآخر كي يحلَّ مسألةَ الشذوذ؟ عندما طرح علماء الرياضيات ذلك السؤال بشأن كوكب أورانوس وأجابوا عنه، ثم نظر علماء الفلك إلى تلك النقطة في سماء الليل، اكتشفوا الكوكب نبتون حيث كان ينبغي أن يوجد بالضبط.
ماذا عن كوكب عطارد؟ جرَّب العلماء الحيلةَ نفسها؛ إذا كان هناك كوكب مجهول أقرب إلى الشمس، فربما يفسِّر الشذوذ. أُطلق على هذا الكوكب الجديد اسم «فولكان»، لكنَّ أحدًا لم ينجح في العثور عليه؛ غير أنَّ ذلك لم يكن دليلًا حاسمًا على عدم وجوده، فمن المفترض أنه كوكبٌ شديد القرب من الشمس؛ ومن ثمَّ سيكون شبهَ خفيٍّ في وهجها. لكن بعد مرور وقتٍ طويل، اختلف التفسير تمامًا؛ تنبأت «نظرية النسبية العامة» لأينشتاين — النظرية المنافسة لنظرية الجاذبية — بمقدار التباين المرصود بالضبط من دون الحاجة إلى أي كوكب إضافي.
لدينا إذن واقعتان واضحتان من وقائعِ التكذيب؛ ونحن ندرك، بأثرٍ رجعي، أنَّ إحداهما كانت بمثابة انتصار لنظرية الجاذبية لنيوتن؛ حيث إنها لم تكذِّب النظرية في حد ذاتها بل الافتراضات المساعدة بشأن المجموعة الشمسية، مما أدَّى إلى اكتشافِ الكوكب الثامن، بينما كانت الواقعة الأخرى تكذيبًا فعليًّا يتمثَّل في استبدالِ نظرية جديدة محسَّنة بنظرية الجاذبية لنيوتن. لكنا لا نستطيع التوصُّل إلى هذه الاختلافات «إلا» بعد إمعان النظر بأثرٍ رجعي؛ فلم تكن فكرة كوكب فولكان غير منطقية في جوهرها، ولم يكن هناك أيُّ تطوُّر في المنهج العلمي يثني العلماء عن افتراضها، وما كان ينبغي لذلك أن يحدث على أي حال.
- (١)
ينبغي ألَّا نفكرَ من منظورِ وجود نظرياتٍ ثابتةٍ تُصاغ على نحوٍ نهائي ثم تُختبر بعد ذلك، بل ينبغي أن يُستبدل بهذا الإطار برامجُ بحثيةٌ مستمرَّة (لاكاتوس) أو «نماذج» (كون) يُستخدم فيها جوهرُ النظرية؛ من أجل تفسير الظواهر عَبْر مجموعةٍ من الافتراضات المساعِدة التي يمكن تغييرها لتفسير البراهين التي تُجمَع تباعًا.
- (٢)
ما يؤدي تحديدًا إلى تقدُّم البرامج البحثية هو اكتشاف السمات الشاذَّة التي تفسَّر فيما بعد. والمعيار الذهبي لهذه التفسيرات أن تؤديَ إلى تنبؤاتٍ جديدةٍ يجري تأكيدها بعد ذلك (مثل كوكب نبتون).
- (٣)
بمرور الوقت، يمكن أن تتراكم السماتُ الشاذَّة غير المفسَّرة، أو تتزايد وتيرةُ الاختلاق في التغييرات التي تطرأ على الافتراضاتِ المساعدة اللازمة لتفسير السمات الشاذَّة، وتصبح مرتجلة وغير ناجحة في إنتاج تنبؤاتٍ جديدة، وقد يحدُث كلا الأمرَين. وفي هذه الحالة، يوصَف البرنامج البحثي بأنه آخذٌ في التدهور (لاكاتوس)، ويُوصف النموذج بأنه في أزمة (كون).
- (٤)
على الرغم من ذلك، فمن النادرِ للغاية أن نتخلَّى عن برنامجٍ بحثيٍّ إلا عندما يتوافَر برنامج منافسٌ أنجح منه. ذلك أنَّ البرامج البحثية لا تُختبر على الكون وتُقارَن معه فحسب، بل تُختبر أيضًا على البرامج البحثية الأخرى وتُقارَن معها. (فلم تُعتبر نظرية الجاذبية لنيوتن نظريةً خضعت للتكذيب، إلا بعد نجاح النسبية العامة، التي تمثِّل البرنامج البحثي الجديد.)
مشكلة التمييز: متى يكون المنهج علميًّا؟
لم يكن اهتمام بوبر بمبدأ التكذيب وبالمنهج العلمي اهتمامًا خالصًا بهما. فقد سعى أيضًا إلى وضع معيار يحدِّد متى يُعتبر أحد نُهُج جمع المعرفة من العلوم، وقد وجد هذا المعيار في شرط القابلية للتكذيب (وبناءً على هذا فإنَّ كلًّا من التحليل النفسي الفرويدي والاقتصاد الماركسي — وهما مجالان من مصادر إزعاجه — ليسا بالمناهج العلمية). ويبدو أنَّ علماء الفيزياء المعاصرين يفعلون الشيء نفسَه في كثير من الأحيان؛ إذ ينبذون سؤالًا أو حتى مجالًا فرعيًّا في بعض الأحيان (مثل نظرية الأوتار) أو حتى مجالًا بأكمله (مثل الفلسفة!) باعتباره «غير قابل للتكذيب»؛ ومن ثَم غير علمي.
إنَّ تطبيق هذا المعيار دون تفكير إفراط في التبسيط؛ فلا توجد نظرية قابلة للتكذيب بمعزِل عن غيرها. لكن الفكرة لها وجاهتها على أي حال، ويبدو أنَّ الأهم لا يكمُن فيما إذا كانت إحدى النظريات قابلة للتكذيب في حدِّ ذاتها أم لا، بل في وجودِ أدلةٍ تؤيِّد هذه النظرية. وبناءً على هذا، يصبح سؤالٌ على غرار: أيٌّ من هذه النظريات صحيح؟ سؤالًا علميًّا إذا كان متوافقًا مع المناهج العلمية التي ترتكز على البراهين في نهاية الأمر.
يمكننا أن نرى مثالًا على هذا من خلال دراسةِ حالةٍ حديثة: الجدال الذي استمر على مدار الأعوام الثلاثين الأخيرة بشأن وجود المادة المظلمة. في المجرَّات الحلزونية مثل مجرتنا، غالبًا ما توجَد المادةُ المرئية في صورة نجوم وغاز وغبار بين هذه النجوم، ويمكننا استخدامُ قانون الجاذبية لنيوتن؛ للتوصُّل إلى السرعة التي يُفترض أن النجوم تدور بها في المجرة («منحنى الدوران» للمجرة) بناءً على توزيع تلك المادة. ومن المعروف منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين أنه يوجد اختلافٌ بين القِيَم المتوقَّعة والقِيَم المقيسة. (وحتى استبدال نظرية النسبية العامة لأينشتاين بنظرية الجاذبية لنيوتن لا يشكِّل فرقًا في هذه الحالة؛ إذ يظل التباين موجودًا.) ظهرت أيضًا حالاتٌ مماثلة من الانحراف في عملياتِ رصدٍ واسعةِ النطاق لمجموعاتٍ كاملةٍ من المجرات.
كان التفسير الوحيد المقترَح لهذا الانحراف هو ما يُسمَّى «المادة المظلمة»، وهي المادة التي لا تُرى من خلال أجهزة التلسكوب، ولا يمكن الكشف عنها إلا من خلال تأثير جاذبيتها. ما من شيءٍ غريبٍ في فكرة المادة المظلمة في حد ذاتها؛ فالنجوم مرئيةٌ لأنها تتوهَّج بالضوء، بينما قد تصعُب رؤية المادة التي لا تضيء ذاتيًّا. (الكواكب الأخرى في نظامنا الشمسي ستبدو «مادةً مظلمة» لراصدٍ من نظامٍ شمسيٍّ بعيد، وكذلك ستبدو الأرض أيضًا إن لم نكن قد بدأنا في إرسال إشارات الراديو والتليفزيون.) غير أنَّ تفسير منحنيات الدوران يستلزم أن يكون وزن المادة المظلمة أكبرَ من وزن النجوم والغاز والغبار بنسبةٍ كبيرة؛ مما يعني أنَّ وزن المادة المظلمة كبيرٌ للغاية بما لا يتلاءم على الإطلاق مع هذه التفسيرات الاعتيادية. وحتى يومنا هذا، لا نعرف شيئًا تقريبًا عن ماهيةِ المادة المظلمة، ولم تأتِ المحاولات المباشرة في البحث عنها بأية نتائج.
لهذا السبب، بحثت قلَّةٌ من علماء الفيزياء فكرةَ أنه لا توجد مادةٌ مظلمة على الإطلاق، بل يوجد خطأ في الجاذبية. وقد حقَّقت نظريتهم المنافِسة (ديناميكا نيوتن المعدَّلة) نجاحًا أوليًّا كبيرًا في شرح منحنيات الدوران، وقدرًا جزئيًّا على الأقل من النجاح في شرحِ بعضِ الأدلة الأخرى التي تؤيد وجودَ المادة المظلمة. ووفقًا للمصطلحات التي تناولناها، تُعَد المادةُ المظلمة فرضيةً مساعِدةً ضمن البرنامج البحثي الخاص بالجاذبية القائم بالفعل، أما ديناميكا نيوتن المعدَّلة فهو برنامج بحثي منافِس.
إنَّ جذورَ هذا الجدال تمتدُّ إلى ثلاثين سنة على الأقل، ولم ينجح العلماء حتى الآن في التوصُّل إلى قرارٍ حاسمٍ بشأنه، ولن يحدُث ذلك في المستقبل القريب؛ إذ لا توجد ملاحظاتٌ يمكن رصدها ولا تجربةٌ يمكن إجراؤها، لتكذيب أيٍّ من النهجَين على نحوٍ عقلاني وجيه. لكن هذا لا يعني أنَّ اختيار نظريةٍ ما وتفضيلها عن الأخرى مسألةٌ تعود إلى الذوق. الحق أنَّ التفسيرات التي تطرحها نظريةُ ديناميكا نيوتن المعدَّلة أبسطُ في بعض الحالات من تفسيرات نظرية المادة المظلمة، كما أنها تفسِّر الظواهر التي تنطوي على عددٍ أقل من الأجزاء المتحرِّكة، لكنها تكون أكثرَ تعقيدًا في حالاتٍ أخرى، بل ملفَّقة في بعض الأحيان. لم يظل النقاش ساكنًا؛ فقد ظهرت ملاحظاتٌ رصدية جديدةٌ استلزمت إجراء تعديلاتٍ على نماذج المادة المظلمة، وعلى القوانين الجديدة المقترَحة لديناميكا نيوتن المعدَّلة. وفقًا لتقييمي الشخصي؛ فأنا أرى أنَّ ديناميكا نيوتن المعدَّلة كانت نظريةً منافِسة مقبولة قبل عشرين عامًا، أما الآن، فإنَّ المستوى اللازم من التلفيق والتعديلات الضرورية المخصَّصة لكي تتلاءم النظرية مع البيانات؛ يرجِّح عدم صحَّتها. يتفق معظم علماء الفيزياء الفلكية مع هذا الرأي، مثلما يتضح ذلك في انخفاض الاهتمام بنظرية ديناميكا نيوتن المعدَّلة انخفاضًا حادًّا في الوقت الحالي، مقارنةً بما كان الأمر عليه قبل عشرين سنة. غير أنَّ المسألة لم تُحسم بعد؛ ويمكن للعقلاء من الأشخاص أن يختلفوا بشأن هذه النقطة، ولا يزال العلماء الجادون مستمرين في العمل على نظرية ديناميكا نيوتن المعدَّلة. ربما تُحسَم المسألة ذات يوم، وحينها فقط، سيحق لنا أن نصف تأييد نظرية ديناميكا نيوتن المعدَّلة بأنه تأييدٌ غير علمي.
ينبغي التأكيد على أن مثال المادة المظلمة/ديناميكا نيوتن المعدَّلة مثالٌ متطرف نسبيًّا؛ فإجراء التجارب وعمليات الرصد في هذه المجالات من الفيزياء الفلكية وعلم الكونيات؛ أصعبُ بكثيرٍ من غيرها من مجالات الفيزياء التي عادةً ما يكون جَمْع البراهين التجريبية أسرعَ فيها وأكثرَ حسمًا. على الرغم من ذلك، فحتى في تلك الحالة المتطرفة، يمكننا أن نرى أن تسوية الخلاف تجري من خلال التطوُّرات الجديدة للنظريات والمقترحات الجديدة، لإجراء عمليات الرصد والملاحظة، أي إنها تجري من خلال وسائل علمية معروفة ومحدَّدة.
نقص الإثبات ومذهب الذرائعية ومذهب الواقعية
في حالة الاختيارِ بين نظريتَين وفقًا للطريقة العلمية، لا بد أن يعتمد هذا الاختيار على الأدلة، لكن ماذا إذا كانت النظريتان مختلفتَين وتطرحان التنبؤات نفسها بالضبط؟ يُطلِق الفلاسفة على هذه الحالة «نقص إثبات النظرية بالأدلة»؛ وتتمثَّل معضِلة «نقص الإثبات» في الاختيار بين نظريتَين من هذا القبيل.
فبشكلٍ أو بآخر، تُعَد مسألة نظريتي المادة المظلمة/ديناميكا نيوتن المعدَّلة مثالًا على معضلةِ نقص الإثبات، إذ لا توجد تجربةٌ ولا ملاحظةٌ مرصودةٌ تخبرنا بأي النظريتَين صحيح؛ وذلك بسبب إمكانية إكمال تفاصيل النظرية وافتراضاتها المساعدة بطرقٍ مختلِفة لتفسير البيانات نفسها. والحل الواضح لتلك المسألة هو إنتاج المزيد من المعرفة العلمية؛ فبمرور الوقت، ستؤدي قوة الأدلة — كما نرجو — إلى استنتاجٍ أوضح، حتى وإن ظلَّت لدينا بعض الأسئلة الفلسفية عن السبب الذي يدفعنا إلى الوثوقِ في هذا «الاستنتاج الواضح» على الرغم من عدم استبعادِ أيٍّ من النظريتَين استبعادًا حاسمًا. (ويطلق الفلاسفة على هذه الحالات اسم «نقص الإثبات الضعيف».)
وثمَّة حالةٌ أخرى أكثر إزعاجًا، وهي عندما توجد نظريتان لا تطرحان التنبؤات نفسَها وفقًا لمجموعة الأدلة الحالية فحسب، بل وفقًا لكل الملاحظات والقياسات المحتملة أيضًا. وفي هذه الحالة التي يسميها الفلاسفة «نقص الإثبات القوي»، لا يبدو أن مناهج العلوم تلقى قبولًا.
كان الكثير من فلاسفة العلوم يظنون فيما سبق أن هذه الحالة مستحيلة منطقيًّا. وفقًا لمذهب الوضعية (أو الإجرائية أو الذرائعية؛ وينبغي التأكيد مجددًا على أنني لن أقف على الفروق الدقيقة بين كلٍّ من هذه التوجُّهات)، فإنَّ فَهْم محتوى أي نظريةٍ علميةٍ يستلزم التمييزَ بين مزاعمها «الرصدية» ومزاعمها «النظرية». وتُستخدم كلمة «الرصد» في هذا السياق بمعنًى قوي جدًّا؛ حيث إنها تُشير إلى شيءٍ «يمكن التعبيرُ عنه باللغة المستخدمة يوميًّا»، أو «يمكن اختباره بحواسِّ الإنسان من دون مساعدة». فعبارةٌ مثل «سيعرض جهاز الكشف الرقم ٥٫٢٢٨» هي ما يُعَد زعمًا رصديًّا على سبيل المثال. يرى أنصار مذهب الوضعية أنَّه لا يمكن فَهْم المزاعم غير الرصدية بمعزِل عن آثارها الرصدية؛ فعبارةٌ مثل «تتكوَّن الذرةُ من إلكترونات وبروتونات» هي مرادف للقول: «إذا أجريت هذا القياس، فسأحصل على هذه النتيجة؛ وإذا أجريت ذلك القياس، فسأحصل على تلك النتيجة …». فمن الناحية العملية، ليس محتوى النظرية العلمية سوى مجموعة المزاعم الرصدية التي تطرحها؛ مما يعني أن ما يتبقَّى من النظرية ليس سوى أداةٍ حسابيةٍ للانتقال من مجموعة ملاحظاتٍ رصديةٍ إلى أخرى.
إنَّ ما راقَ الفلاسفةَ في أوائل القرن العشرين — وبعض علماء الفيزياء حتى اليوم — في مذهب الوضعية هو أنه ينبذ أيَّ زعمٍ بشأن أيِّ نظرية إن لم تكن له نتائجُ تجريبية، بوصفه زعمًا لا طائلَ منه. ومما جذبهم إليه على وجه الخصوص، أنه يستبعد نقصَ الإثبات القوي بالضرورة؛ فوفقًا لهذا المذهب، إذا طُرِحَت نظريتان تقدِّمان المزاعمَ الرصدية نفسها، فهما نظرية واحدة تختلفان في طريقة الطرح فحسب. ولهذا يسمح مذهب الوضعية بتجاوز الكثير من اللَّبْس اللفظي والدخول مباشرةً إلى الأسئلة العلمية الفعلية.
ما نقائصه إذن؟ أولًا أنه لا يتلاءم مع الطريقة التي يتَّبعها العلماء في وصف مشاريعهم؛ لأنفسهم أو للآخرين. فعادةً ما يصف علماء الفلك أنفسهم بأنهم يبنون تلسكوبات الراديو للتعلم عن النجوم والمجرات، وليس لأنَّ هذه التلسكوبات تمثِّل اهتمامهم الجوهري. وعندما يحثُّ علماء فيزياء الجسيمات الوزارات الحكومية لإنفاق مبالغَ كبيرةٍ من المال على مسرِّعات الجسيمات، فإنهم يدعمون قضيتَهم بحجة استخدام تلسكوبات الراديو من أجل اكتشاف الحقائق العميقة عن الكون؛ وهي قضية ستضعف كثيرًا إن كان اكتشاف «الحقائق العميقة عن الكون» لا يستلزم سوى فَهْمها بوصفها مزاعمَ غيرَ مباشرة، عن آليات عمل مسرِّع الجسيمات نفسه ليس إلا.
لكنْ ثمَّة سبب أعمق يعيب هذا المذهب؛ وهو أن التمييز بين المزاعم الرصدية والنظرية أصعبُ بكثير مما يبدو عليه. وقد تناولنا جزءًا من هذا السبب بالفعل؛ وهو أنه بسبب الافتراضات المساعِدة، ما من زعمٍ علميٍّ مستقل له نتائجُ رصدية؛ ومن ثَم فإنَّ القائمة التخطيطية الخاصة بالنتائج الرصدية لزعم أن «الذرات تتكوَّن من الإلكترونات والبروتونات» قائمةٌ خياليةٌ فحسب. ففي نهاية المطاف، ترتكز المزاعمُ الرصدية للنظرية العلمية على مزاعمها النظرية، ولا يمكن أن تُفهم فهمًا وافيًا من دونها.
الحق أنَّ الوضع أسوأ من هذا؛ إذ لا يمكن التمييز في حقيقة الأمر بين المزاعم «الرصدية» و«النظرية». فالملاحظات الرصدية «محمَّلة مسبقًا بالنظرية» مثلما يقول الفلاسفة؛ ذلك أننا نحتاج إلى الألفاظ المستخدَمة في النظرية حتى في وصف الملاحظات الرصدية. «جهاز الكشف سيعرض الرقم ٥٫٢٢٨» … أيُّ جهاز كشفٍ؟ وحدَه جهاز الكشف المصمَّم بالطريقة الصحيحة، ولا بد أن «الطريقة الصحيحة» ستنطوي على أفكارٍ نظرية. فلا يمكن فَهْم مصطلحاتٍ على غرار «الليزر» أو «تلسكوب الراديو» أو «مسرِّع الجسيمات» من دون فَهْم النظرية التي تُستخدم فيها هذه المصطلحات («الليزر» على سبيل المثال عبارةٌ عن شعاع ضوء متماسك ينتج عن انبعاث مُستحَث؛ لكننا سنتحدث بعد ذلك عن معاني الكلمات «متماسك» و«الضوء» و«الانبعاث المُستحَث» … وهكذا).
قد يبدو أن هذا يقضي على تهديدِ مشكلة نقص الإثبات القوي، إذا لم يكن بإمكاننا فصلُ الأجزاء التي يمكن رصدُها في نظريةٍ ما عن تلك التي لا يمكن رصدُها، فلن يمكننا حتى فَهْم فكرةِ النظريات المختلفة ذات النتائج الرصدية نفسها. وفي أسوأ الحالات، قد يكون لدينا حالةٌ من نقص الإثبات الضعيف، مثل حالة المادة المظلمة/ديناميكا نيوتن المعدَّلة، التي تؤثِّر فيها الأدلة في الجدال، لكن هذا التأثير غير حاسم في الوقت الحاضر. وعلى أي حال، توجد طرقٌ أخرى قد تحدُث بها مشكلة نقص الإثبات القوي.
تُبرِز الحالةُ الأكثر إثارةً للاهتمام فرقًا حادًّا بين مناهج علماء الفيزياء و(معظم) الفلاسفة. ففي نظر عالِم الفيزياء المشتغِل بالمجال، يجب أن تُصاغ النظرية في نهاية المطاف بالرياضيات: مجموعة من البنى الرياضية التي تصِف الاحتمالات الظاهرة، وبعض المعادلات التي تحدِّد أيُّ الاحتمالات الظاهرة ممكنٌ من المنظور الفيزيائي. على الرغم من ذلك، يبدو أنَّ العالِم لا يقتصر على الرياضيات فحسب، وثمَّة إغراءٌ قوي على الأقل في أن تتضمن النظرية أكثرَ من ذلك؛ قدرًا من التفسير للظاهرة الكونية طبقًا للنظرية، ووصفَ الظاهرة، وذِكر الأسباب والنتائج التي تؤدي إليها، وذِكر التفسيرات لذلك. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يثير احتماليةَ أن توجد نظريتان مختلفتان لهما البنية الرياضية نفسها (ومن ثمَّ النتائج الرصدية نفسها، نظرًا لكيفية ممارسة الفيزياء).
أهذه احتمالية حقيقية؟ رأينا أن أنصار مذهب الذرائعية يجيبون عن هذا السؤال بالنفي؛ إذ يرَوْن أنَّ أيَّ نظريتَين لهما النتائج الرصدية نفسها هما في الحقيقة نظريةٌ واحدة، وُصِفت بطريقتَين مختلفتَين. (لكننا رأينا أن مذهب الذرائعية غيرُ قابلٍ للتطبيق.) ويُجيب أنصار مذهب الواقعية العلمية القياسية عن هذا السؤال بالإيجاب؛ إذ يرَون أنه من الممكن أن تتشاركَ نظريتان مختلفتان البنيةَ الرياضية نفسها. وبالنسبة إلى أنصارِ مذهب الواقعية العلمية البنيوية (أو ما يمكن تسميتهم بالبنيويين) فهم أيضًا لا يرون في ذلك احتماليةً حقيقية؛ إذ يعتقدون أن نظريتَين لهما البنية الرياضية نفسها هما في واقع الأمر وَصْفان مختلفان للنظرية نفسها. إنَّ النهج البنيوي هو الأقربُ إلى الافتراضات الضمنية المستخدَمة في الفيزياء، وهو النهج الذي أتبنَّاه غالبًا في هذا الكتاب، غير أنه يوجد العديد من الأسئلة غير المُجاب عنها بشأن كيفية فَهْمه وتمييزه عن النهج القياسي.
الواقعية العلمية وتغيير النظريات
إلامَ يشير مصطلح «الواقعية العلمية» في سياق الواقعية العلمية القياسية، أو الواقعية العلمية البنيوية؟ وفقًا لوجهةِ النظر التي يتبنَّاها معظم الفلاسفة ومعظم العلماء — وإن كان ذلك ضمنيًّا على الأقل — يشير هذا المصطلح إلى أنَّ نجاح النظريات العلمية الحالية يعطينا سببًا وجيهًا للاعتقاد بأنها صحيحةٌ بالفعل (وليست محضَ أدوات مفيدة للتوصُّل إلى تنبؤات). فصحيح أننا لا نستطيع رَصْد الإلكترونات مثلًا، ولا الكواركات ولا الثقوب السوداء رصدًا مباشرًا؛ أي إننا لا نستطيع رؤيتها أو سماعها أو لمسها، لكنَّ لدينا — وفقًا لمذهب الواقعية العلمية — أسبابًا وجيهةً تجعلنا نعتقد أنها موجودةٌ بالفعل.
للواقعية العلمية حجتان أساسيتان، وكلٌّ منهما مرتبطة بالأخرى. تُستهل الحجتان بالدليل البيِّن الذي يُفيد بأن أفضل نظريات الفيزياء فعَّالةٌ للغاية في وَصْف العالم المادي. (مَن لا يستحق أن يؤخذ على محملِ الجِدِّ هو مَن يؤيد الواقعيةَ العلمية فيما يتعلق بالتنجيم؛ لأن التنجيم ليس نظريةً ناجحة في الأساس.) الحجة الأولى إذن هي أنه لا توجد طريقةٌ وجيهة ولو بشكلٍ طفيف لفَهْم أسباب نجاح هذه النظريات، إلا بافتراض أنها صحيحةٌ بدرجةٍ ما على الأقل. يُطلَق على هذه الحجة في بعض الأحيان «حجة غياب المعجزات» المستقاةُ من ملاحظة الفيلسوف هيلاري بوتنام التي تقول إنها لمعجزةٌ لو أنَّ النظريات العلمية على هذه الدرجة من الفعالية وهي غير صحيحة. على سبيل المثال، تنبأت نظرية الجاذبية لنيوتن بوجود كوكب نبتون في بقعةٍ محدَّدةٍ من الفضاء؛ وحين نظرنا إلى الفضاء وجدنا الكوكب. لا عجب في هذا الاكتشافِ إذا كانت نظرية نيوتن عن الجاذبية صحيحةً؛ لكن هذا الاكتشاف كان سيصبح مصادفةً إعجازيةً إن لم تكن النظرية صحيحة.
أما الحجة الثانية للواقعية العلمية، فتفيد بأنه ما دامت لا تُوجَد (كما رأينا) طريقةٌ فعلية لفصل المحتوى الرصدي في النظرية عن المحتوى غير الرصدي فيها، فإنه لا توجد طريقةٌ تستند إلى مبادئَ محدَّدةٍ يمكن استخدامُها لقبول النظرية العلمية، باعتبارها مناسبةً من المنظور الرصدي من دون قبول النظرية بالكامل. وبناءً على هذا، فحينما تقودنا منهجيةٌ علميةٌ جيدة إلى صياغةِ نظريةٍ علميةٍ واختبارها وقبولها، نكون قد التزمنا بذلك بالإقرار بصحةِ النظرية.
ربما تبدو الواقعية العلمية واضحةً تمامًا؛ أليس التشكيك في النظريات الراسخة نوعًا من التشكيك المناهِض للعلم؟ لكنْ ثمَّة أسبابٌ تدعو إلى التعامل مع هذا المذهب بحذرٍ. وقد تناولنا أولَ هذه الأسباب بالفعل، متمثلًا في التهديد الذي يطرحه نقصُ الإثبات. إذا كان لدينا نظريتان تطرحان التنبُّؤات الرصدية نفسها، لكنهما تتعارضان إحداهما مع الأخرى، فلا بد أن إحداهما (على الأقل) خاطئة؛ ومن ثمَّ فلا يمكن أن تكون حجةُ غياب المعجزات صحيحة. (وهذا من الأسباب التي تجعل الفلاسفة مهتمين للغاية بمعرفةِ ما إذا كان نقص الإثبات القوي يحدُث بالفعل أم لا.)
أما السبب الآخر، فينبع من تاريخ العلوم، ولا سيما الفيزياء. لقد حدَث مرارًا خلال ذلك التاريخ أن أُطيحَ بنظريةٍ راسخةٍ على الرغم من نجاحها الكبير في طَرْح التنبؤات. فنظريةُ الجاذبية لنيوتن على سبيل المثال «خاطئة» من أحد الجوانب المهمة، وقد حلَّت محلَّها نظرية النسبية العامة؛ ليس من الصواب إذن الاعتقادُ بأنَّ اكتشاف كوكب نبتون كان سيصبح معجزةً لو أنَّ النظرية كانت خاطئة! وبوجهٍ عام، يبدو أن العلوم تتقدَّم جزئيًّا على الأقل عَبْر خطواتٍ ثوريةٍ تُستبدل فيها بالنظريات القديمة أخرى جديدة تتعارَض مع المزاعم المركزية في النظرية القديمة. على سبيل المثال، دأبَ علماء الفيزياء على اعتقاد أن الحرارة عبارةٌ عن مائع، لكنَّهم يعتقدون الآن أنها حركةٌ عشوائيةٌ للجزيئات؛ وقد كانوا يعتقدون أن الضوء عبارة عن اهتزازٍ في «أثير» شامل، وهم يعتقدون الآن أنه يمكن أن يوجد في غياب أيِّ شيءٍ من هذا القبيل. وقد كانت هذه «الحجة التشاؤمية» هي الاعتراضَ الأساسي الذي أُثير ضد مذهب الواقعية على مرِّ التاريخ.
للفَرْق بين الواقعية القياسية والواقعية البنيوية أهميةٌ كبيرة في هذا المقام أيضًا. فعندما يقول علماء الفيزياء إن نظريةً ما تقرِّب نظريةً أخرى، فإنهم عادةً ما يقصدون بذلك أن البنيةَ الرياضية للنظرية الأولى تبقى مُتحققة بشكلٍ تقريبيٍّ في النظرية الثانية. ولهذا إذا كان البنيوي على صوابٍ في أن النظرية تُقدَّم بالكامل من خلال بنيتها الرياضية، فلن يكون من الصعب للغاية أن نرى كيف أنَّ النظرية القديمة يمكن أن تظلَّ صحيحةً بدرجةٍ تقريبية، على الرغم من أفضلية النظرية الجديدة. (فمعادلات تدفُّق الحرارة لا تهتم بما إذا كان ما يتدفَّق مائعًا أم كميةً من الاهتزازات، ولمعادلات الضوء أيضًا البنيةُ نفسها تقريبًا، في كلٍّ من نظرية الأثير ونظرية الموجات الكهرومغناطيسية الحديثة.) أما أنصار الواقعية القياسية، فيواجهون تحديًا أصعبَ.
-
التكذيب: يعدُّ تحسنًا كبيرًا على الاستقراء باعتباره وصفًا للمنهج العلمي، لكنه لا يزال تقريبًا ليس إلا؛ فعادةً ما تكذِّب ملاحظةٌ معيَّنة نظريةً ما في ظل مجموعة من الافتراضات الأساسية. وبناءً على هذا، لا يوجد اختبارٌ واحد مباشر يحدِّد متى يكون الشيء علميًّا، بل علينا أن ننظر إلى أيِّ مدًى يتقدَّم برنامجُ البحث العلمي أو يتأخر.
-
نقص الأدلة: حينما تطرح نظريتان مختلفتان التنبؤاتِ نفسَها، وهي مسألة نادرًا ما تتسم بالتطرف؛ لأن الفَرْق بين المزاعم النظرية والرصدية ضبابي. وغالبًا ما تسوَّى الحالات الجلية من نقص الأدلة بمرور الوقت، حينما يتبيَّن أن إحدى النظريتَين أكثرُ فعالية كإطار. ويبدو أن الحالاتِ الواقعيةَ الوحيدة من نَقْص الأدلة لا تحدُث إلا حين توجد نظريتان متكافئتان رياضيًّا؛ في هذه الحالات، يعتبرهما علماء الفيزياء — وبعض فلاسفة الفيزياء وليس كلهم — نظريةً واحدة.
-
مذهب الذرائعية: يحظى مذهب الذرائعية (وهو وجهة النظر القائلة بأن النظرية العلمية ليسَت سوى تنبؤاتها التجريبية) بالرفض على نطاقٍ واسع في فلسفة العلوم؛ ذلك أنه يعتمد على التمييزِ الحادِّ بين الأجزاء التجريبية من النظرية، والأجزاء النظرية منها التي لا تدعمها الممارسات العلمية. فنحن نجد أنَّ موقف «الواقعية العلمية» السائد في العلم والفلسفة، يتمثَّل في التعامل مع النظريات العلمية حرفيًّا، باعتبارها محاولاتٍ لوصفِ ما يحدُث بالفعل في نظامٍ ما، حتى عندما تكون بعض أجزاء هذا الوصف غيرَ مرئية للعين المجرَّدة.
في الفصل الثاني، سأبدأ بمناقشةِ فلسفة الفيزياء البحتة، بدءًا من فلسفة المكان والزمان والحركة.