النسبية وفلسفتها
في الثقافة العامة، تتمثَّل الفكرة المركزية لنظرية النسبية — وهي مصدر اسمها بالطبع — في رؤية أينشتاين العميقة بأن «الحركة نسبية». متسلحًا بتلك الرؤية، (يقال) إن أينشتاين ما انفك يجدِّد فَهْمنا للمكان والزمان، مطيحًا بالأفكار التي سادت منذ عصر نيوتن.
غير أننا رأينا بالفعل أن هذه ليست هي الحقيقة كاملة؛ إذ يعود مبدأ النسبية إلى القرن السابع عشر على الأقل، وإن لم يكن قد سُمي بذلك بعد. ومثلما سنرى، فإنَّ نظرية النسبية الأصلية تنبع، في حقيقة الأمر، من عدم التوافق الجلي بين مبدأ النسبية وبين اكتشافات الفيزياء في القرن التاسع عشر التي كان يبدو أنها راسخة هي أيضًا؛ ومن رؤية أينشتاين بأنه يمكن استعادة التوافق على حسابِ تغيير كيفية تفكيرنا بشأن المكان والزمان. في هذا الفصل، سنرى كيفيةَ القيام بهذه الخدعة، ونستعرض بعضًا من تَبِعاتها التي تنطوي على مفارقات، ونُعيد النظر فيما تناولناه في الفصل الثاني من ألغازٍ وجدالاتٍ بشأن الحركة والمكان؛ إذ ندرُسها من هذا المنظور الجديد المناقض للبديهة.
مشاكل مبدأ النسبية: الضوء بصفته موجة
طائرة مقاتلة تطلق الرصاصَ بسرعة ٣٤٠ مترًا في الثانية. والسرعة القصوى للطائرة ٢٦٠ مترًا في الثانية. فكم ستكون سرعة إطلاق الرصاص وهي تحلِّق بسرعتها القصوى؟
الإجابة الواضحة بالطبع هي ٣٤٠ + ٢٦٠ = ٦٠٠ متر في الثانية، وهي أيضًا إجابة صحيحة فيزيائيًّا (إذا تجاهلنا مقاومةَ الهواء).
تبلغ سرعة الموجات الصوتية المنبعِثة من محرِّكات طائرة مقاتلة ٣٤٠ مترًا في الثانية. والسرعة القصوى للطائرة ٢٦٠ مترًا في الثانية. إذا كنت تقف أمام الطائرة وتسمع محرِّكاتها، فما هي سرعة الموجات الصوتية حين تسمعها؟
الإجابة الصحيحة عن «هذا السؤال» ليست ٣٤٠ + ٢٦٠ = ٦٠٠ متر في الثانية؛ بل هي ٣٤٠ مترًا فقط في الثانية. فموجات الصوت تنتقل بسرعة الصوت بغضِّ النظر عن مدى سرعة مصدر الصوت.
ما وجهُ الاختلافِ في المسألتَين إذن؟ ينطلق الرصاص من المدفع الرشاش؛ ومن ثَم فهو يتخذ سرعةَ المدفع الرشاش. أما الموجات الصوتية فتنتشر في الهواء؛ ومن ثَم فإن سرعتها ثابتة وفقًا لفيزياء الهواء ولا تتوقَّف على سرعةِ مصدر الصوت. (يعتمد «تردُّد» الموجات الصوتية على سرعة المصدر، وهذا هو تأثيرُ دوبلر الشهير، والذي يعرفه الجميع حين يسمعون عويلَ صفَّارات الإنذار الخاصة بسيارات الشرطة، بينما تتغيَّر حدَّة نغمتها وهي تمرُّ بهم؛ غير أنَّ «السرعة» لا تعتمد على سرعة المصدر.)
ومن نتائج ذلك أنَّ سرعة الصوت بالنسبة إليك تعتمد على مدى سرعتك بالنسبة إلى الهواء، لكن ذلك لا يهمُّ على الإطلاق في حالة وابل الرصاص؛ فسرعتك بالنسبة لمصدر الرصاص هي كلُّ ما يهم. يُعمَّم هذا الدرس على أي ظاهرة تشبه الموجةَ (مثل الموجات الصوتية في الأجسام الصلبة، وأمواج المياه في البحار، وغير ذلك): سرعة الموجة ثابتة بالنسبة إلى الوسط الذي تنتقل فيه، ولا تعتمد على سرعةِ مصدر الموجة. على الرغم من ذلك، فلن تستطيع ملاحظة أن الموجةَ ثابتة إلا إذا كنتَ ساكنًا بالنسبة إلى الوسط. أما إذا كنتَ تتحرَّك في الوسط، فستلاحظ أن الموجات لها سرعات مختلفة بناءً على الاتجاه الذي تتخذه.
سنعرض فيما يلي طريقةً مختلِفة لتوضيح المسألة بناءً على الأفكار الواردة في الفصل الثاني. تُعرَّف سرعة الموجة بالنسبة إلى اختيارٍ خاصٍّ من الأطر القصورية؛ ويُقصد به الإطار؛ حيث الوسطُ الذي تسير فيه الموجة ثابت. وإذا قست سرعة الموجة في أي إطار قصوري آخر، فستحصل على إجابة مختلفة، وهي إجابة تعتمد على الاتجاه الذي تتخذه الموجة. وعلى الجانب الآخر، تُعرف سرعة الرصاصة بالنسبة إلى الإطار القصوري، حيث يكون مصدر الرصاصة ساكنًا.
هل يخلُّ أيٌّ من هذه الأمثلة بمبدأ النسبية؟ كلَّا، لا يخلُّ أيٌّ من هذه الأمثلة بمبدأ النسبية أكثرَ مما تخلُّ حقيقةُ أنَّ الأجسام تسقط بفكرةِ أنه لا يوجد اتجاه مفضَّل في الفضاء. ففي كلتا الحالتَين، ثمَّة شيء مادي يخلُّ بالتناظر الأساسي للقوانين. لكن فيزياء هذا الشيء نفسِه لا تزال تخضع لمبدأ النسبية؛ إذا كان الهواء نفسه في حالة حركة على سبيل المثال، فإن سرعة الصوت تقاس بالنسبة إلى ذلك الإطار المتحرِّك.
لكن هذه الحجة تعتمد بالأحرى على حقيقةِ أن الموجات الصوتية في الغلاف الجوي للأرض ظاهرةٌ محلية، بل يمكن القول إنها محدودة. إذا امتلأ الكون كله بالهواء — وهذا مستحيل — ولم تظهر في الهواء أيُّ رياح أو أي حركة محلية أخرى، فسيستحيل الخروج من البيئة المحلية التي اختل تناظرها. وفي تلك الحالة، سيصبح من غير الواضح تمامًا ما إذا كان مبدأ النسبية ينطبق بالفعل أم لا.
صحيحٌ أنَّ الكون ليس ممتلئًا بالهواء، لكنه ممتلئ بالضوء. وعلى الرغم من أنَّ كون الضوء موجة ليس بالأمر الواضح أو البديهي؛ فقد ظهر الكثير من الأدلة في بداية القرن العشرين التي تشير إلى أنه كذلك بالفعل. فتأسيسًا على أعمالٍ مهمة امتدت لنصف قرن، أثبت عالِم الفيزياء العظيم جيمس كليرك ماكسويل، أن المجال المغناطيسي المتغير يمكن أن يخلق مجالًا كهربيًّا، وأن المجال الكهربي المتغير يمكن أن يخلق مجالًا مغناطيسيًّا، وأن العملية برُمَّتها — الكهربي إلى المغناطيسي إلى الكهربي إلى المغناطيسي إلى … — هي عمليةٌ من شأنها أن تتسم بالاكتفاء الذاتي وأن تنتقل في المكان بسرعة الضوء. تلقَّت فكرةُ أن الضوء عبارةٌ عن موجةٍ تأكيدًا تجريبيًّا مذهلًا، لا سيما في إنشاء موجات الراديو ونقلها واستقبالها في أواخر القرن التاسع عشر.
إذا كان الضوء عبارةً عن موجة، فيبدو أن هذا يعني ضمنيًّا وجودَ وسيط ينتقل فيه، وهو الوسيط الذي أطلق عليه علماء الفيزياء في ذلك الوقت «الأثير»، وهو وسيطٌ لا تدركه الحواس لكنَّه ضروري لفهم الضوء. وبناءً على هذا، فإنَّ سرعة الضوء مستقلة عن سرعةِ مصدره، لكنها ستتحدَّد بالنسبة إلى إطار السكون المتمثِّل في الأثير.
غير أنَّ هذا يطرح أمامنا لغزَين؛ أحدُهما مفاهيميٌّ والآخرُ عملي. اللغز المفاهيمي هو: ألا تتعارض فكرةُ الأثير مع مبدأ النسبية؟ فليس الأثير محليًّا أو محدودًا مثل الغلاف الجوي للأرض؛ أي إنَّ الأثير لا بد أن يملأ المكان بما أنَّ الضوء يمكن أن يوجد في أي مكان. وهذا الوسيط الذي لا يمكن الكشف عنه، ويملأ المكان، وتتحدَّد حركة الضوء بالنسبة إليه، يتشابهُ إلى حدٍّ كبير مع فكرةِ إطار السكون المطلَق، وفكرةِ المكان المطلَق التي صاغها نيوتن؛ أليست تلك من الأفكار التي انتهينا منها في الفصل الثاني؟
وبالنسبة إلى اللغز العملي، فهو كما يلي: إذا كان هناك — رغم كل شيء — إطار سكون مطلَق يحدِّد سرعة الضوء، فما سرعة حركتنا بالنسبة إليه؟ فالأرض تدور حول الشمس، وتدور الشمس حول مركز المجرَّة، ولا يوجد سببٌ واضح يدفعنا إلى توقُّع تطابق إطار الأثير مع حركة الأرض. وعلى خلاف حالة نيوتن، يبدو أنه ينبغي أن يكون من الممكن «قياس» سرعة الأرض بالنسبة إلى إطار السكون، وذلك بقياس سرعة الضوء في اتجاهاتٍ مختلفة. (تذكَّر: سرعة الموجة لن تكون هي نفسها في كل الاتجاهات إلا إذا كنتَ أنت ثابتًا ساكنًا إلى الوسيط الذي يحمل الموجة؛ وإذا اختلفت السرعات مع اختلاف الاتجاهات، فهذا يجعلك تقيس مدى سرعة حركتك بالنسبة إلى ذلك الوسيط.)
لكن إجراء هذه التجارب ليس بالمهمة السهلة. فالضوء يتحرك بسرعة مذهلة تبلغ ٣٠٠ مليون متر في الثانية (حوالي ٧٠٠ مليون ميل في الساعة)؛ بينما تبلغ السرعة المتجهة للأرض بالنسبة إلى الشمس حوالي ٣٠ ألف متر في الثانية، وتبلغ السرعة المتجهة للشمس بالنسبة إلى مركز المجرَّة حوالي ١٥٠ مترًا في الثانية. ومن ثمَّ فإننا نتحدَّث عن توقُّعاتٍ غيرِ واضحةٍ للغاية في سرعة الضوء المقيسة، وتغييراتٍ بالغة الصِّغر. لكن إجراء التجربة ممكن، والنتيجة واضحةٌ تمامًا (وكانت واضحة تمامًا بالفعل حتى منذ بداية القرن العشرين)؛ إذا كان هناك إطارٌ أثير، فإن الأرض لا تتحرَّك بالنسبة إليه. إذا أردنا التعبير عن المسألة بطريقةٍ أخرى، يمكننا القول: في الإطار المرجعي للأرض، لا تعتمد سرعة الضوء على مصدره.
كان الاضطرار إلى قبولِ فكرة الأثير من الأساس والتخلي الفعَّال عن مبدأ النسبية؛ مزعجًا بعض الشيء بالفعل. والأكثر إزعاجًا أن يثبِّت شيء محدود مثل «الأرض» إطار الأثير. يمكن التوصُّل إلى أسباب بالطبع، وقد تحدَّث علماء الفيزياء في مطلع القرن العشرين عن فرضية «سَحب الأثير»، التي تقول بأنَّ الأجسام الضخمة تَسحَب الأثير، وكان من الممكن أن تؤديَ هذه الأسباب إلى برامجَ بحثيةٍ مثمرة. على الرغم من ذلك، فلا يزال هناك شعور بأن ثمَّة حلقة مفقودة.
ازدهار النسبية
لِنراجع المعضلة. إذا كان الضوء موجةً، فلا بد من وجود وسيط ينتقل فيه. وسيكون هذا الوسيط فعَّالًا في تحديد إطار للسكون، مما يتعارض مع مبدأ النسبية؛ ويمكننا الكشف عن إطار السكون ذاك، بالبحث عن الإطار الذي تكون سرعة الضوء فيه مستقلةً عن مصدره. وبناءً على هذا، فإننا سنضطر إلى إما التخلِّي عن مبدأ النسبية (ومن ثمَّ التخلي عن اكتشافاتنا بشأن المكان والقصور الذاتي) وإما التخلي عن نظريةِ أن الضوء موجةٌ (ومن ثمَّ التخلي عن كل تلك التنبؤات التجريبية البارزة).
في حياة الإنسان العادية، للأسف، تشيع حالاتُ التصادم بين المبادئ التي لا يمكن التوفيقُ بينها، ولا سبيل للمضي قُدمًا إلا بالمساومة أو تحديد الأولويات. لكن تاريخ الفيزياء يخبرنا أن الطبيعة لا تحب المساومة. فعندما يبدو التعارض بين مبدأَين عميقَين في الفيزياء، في الغالب لا يكون أيٌّ منهما هو ما يجب التخلي عنه، بل افتراض أساسي لم يكن يقبل الجدال حتى ذلك الحين.
فعلى غرارِ ما فعله ألبرت أينشتاين في عام ١٩٠٥، سنطرح السؤال التالي: ماذا لو أنَّ مبدأ النسبية لا يزال صحيحًا، وكانت سرعة الضوء مستقلة عن سرعة المصدر؟ إنَّ الجمع بين هاتَين الفكرتَين يخبرنا بأنَّ سرعة الضوء مستقلةٌ عن سرعة المصدر في «كل» الأطر المرجعية. يبدو ذلك مستحيلًا، لكن لندرُس الأمر عن قربٍ أولًا. لنفترض — على وجه التحديد — أنني أطلقت نبضةً ضوئية بسرعة ٣٠٠ مليون متر في الثانية، وأنت قد لاحقتها ولنقُل بسرعة ٢٠٠ مليون متر في الثانية. في تلك الحالة، يسبقك الضوء بمقدار ١٠٠ مليون متر في الثانية؛ فهذه إذن هي السرعة التي ستقيسها بينما تتحرك (أليس كذلك؟). (وإذا جريت في الاتجاه المعاكس، فستقيس سرعة الضوء بأنها تبلغ ٥٠٠ مليون متر في الثانية.)
لكن لقياس سرعة الضوء في إطارك المرجعي، ستحتاج إلى إحضار شريط قياس، أو بالأحرى قضيب قياس، وساعة مضبوطة. لن تكون نتيجة قياس سرعة الضوء الذي تلاحقه ١٠٠ مليون متر في الثانية إلا إذا كان قضيب القياس وساعة التوقُّف الخاصَّان بك يتوافقان مع القضيب والساعة اللذين معي. وما أدركه أينشتاين أن هذه الحالة تمثِّل افتراضًا فيزيائيًّا جوهريًّا، وليست مجرَّد حقيقة. وقد بيَّن أننا نستطيع التمسُّك بمبدأ النسبية والتمسك بفكرةِ أن سرعة الضوء مستقلة عن مصدره؛ بشرط أن نكون على استعدادٍ لقبول أنَّ معيار الحركة، بل معايير الهندسة المكانية والزمانية بأكملها، ستتفاوت من إطارٍ قصوريٍّ إلى آخر. ففي نظرية النسبية لأينشتاين، لا يعود إلى مفاهيمَ مثل المسافة المكانية والمدة الزمنية أيُّ معنًى مطلَق ومستقل عن الإطار. فما هو «نسبي» في نظرية النسبية ليس الحركة فحسب، بل الزمان والمكان أيضًا.
وبعد قرن من الزمان، أصبح ما يعنيه ذلك كلُّه أمرًا مؤكدًا لا يقبل الجدال «من المنظور الرياضي». ومما لا شك فيه أيضًا أنَّ الرياضيات التي تصف النظريةَ ناجحة؛ فقوانين أينشتاين المعدَّلة، بشأن العلاقات بين الأطر المرجعية، تقع في الصميم من علم الفيزياء الفلكية الحديثة وعلم فيزياء الجسيمات. أما فيما يتعلَّق بالمعنى «المفاهيمي» لتلك القوانين وكيفية فهمها، فتلك مسألة أخرى، وهي ما سنتناوله في معظمِ ما تبقَّى من هذا الفصل.
تمدُّد الزمن ومفارقة التوءم
-
تمدُّد الزمن: في النظام المتحرِّك، تتباطأ كل العمليات الفيزيائية مقارنةً بتلك العمليات نفسها في النظام الساكن. من أمثلة ذلك على وجه التحديد، أن الساعة ذات الوقت المضبوط في حالة الثبات ستبطئ حينما تكون في حالة حركة.
-
تقلُّص الطول: الجسم المتحرِّك ينكمش (في اتجاه الحركة) مقارنةً بالجسم نفسه حين يكون في حالة ثبات. ومن أمثلةِ ذلك على وجه التحديد، أن قضيب القياس الثابت أقصر في حالة الحركة مما هو عليه في حالة السكون.
(ثمَّة تأثير ثالث أقلُّ وضوحًا، وسنتناوله بعد قليل.)
بسبب تقلُّص الطول وتمدُّد الزمن، يمكنني قبول أن الراصد المتحرِّك يتحدَّث الصدقَ حين يقول: «لقد قست سرعةَ الضوء ووجدتها ٣٠٠ مليون متر في الثانية»، حتى إذا توصلتُ إلى النتيجةِ نفسها عندما قستُها بنفسي. لا يوجد تناقضٌ بين هذا وذاك لأنه — من منظوري «أنا» — أجريت قياساتك وفقًا لساعاتٍ أبطأ وقضبان قياس منكمشة؛ ومن ثمَّ فوفقًا لحالة الضوء لديَّ، ينبغي إعادة ضبط أدواتك كي تكونَ النتيجة دقيقة. تُثير هاتان الحالتان قضيتَين متشابهتَين إلى حدٍّ كبير، لكني سأركِّز على تمدُّد الزمن فحسب، بدافع التبسيط وضيق المجال.
يُعَد تمدُّد الزمن من تنبؤات النسبية التي «يمكن رصدُها مباشرةً». ونظرًا لأنَّ سرعة الضوء فائقةٌ للغاية، تتجلَّى هذه الظاهرة بأكبرِ درجةٍ في سلوك الجسيمات دون الذرية (فهي الأشياءُ الوحيدة التي يمكننا أن نزيدَ سرعتها فعليًّا إلى ما يقرُب من سرعة الضوء). العديد من هذه الجسيمات غير مستقر؛ إذ تتحلَّل إلى جسيماتٍ أخرى، ولها أزمنة محدَّدة تستغرقها في التحلُّل، مما يجعلها بمثابةِ ساعات من نوعٍ ما. تتنبأ النسبية بأن أزمنة التحلُّل تتباطأ كلما زادت سرعة حركة الجسيمات، وهذا ما يجري رصدُه بالتحديد في كلٍّ من مسرِّعات الجسيمات التي يبنيها الإنسان وفي التجارب الطبيعية التي تحدُث، حين تضرب الأشعة الكونية السريعة الحركة الغلافَ الجوي للأرض. يمكن أن يكون مقدار تمدُّد الزمن المتوقَّع كبيرًا — فقد يبلغ عشرة أضعافٍ في تجارب الأشعة الكونية على سبيل المثال — وتؤدي التجارب بالفعل إلى إنتاجِ تلك التوقعات تمامًا. على الرغم من ذلك، فمن الأصعب إنتاج عمليات التمدُّد الزمني الكبيرة للأجسام الضخمة، لكن الساعات الذرية الحديثة تتسم بدقةٍ بالغة، حتى إنها تستطيع قياسَ حتى عمليات تمدُّد الزمن الصغيرة الناجمة عن وَضْع الساعة في طائرة. وأُكرِّر أن التجارب تنجح في إنتاج التوقعات.
على الرغم من ذلك، يوجد تعارضٌ بيِّن في فكرة تمدُّد الزمن نفسها. فقد ذكرتُ أنَّ الساعات المتحركة تبطئ، لكن الحركة نسبية. إذا كنت تتحرك بسرعة بالنسبة إليَّ، فسأتوقَّع أن ساعتك أبطأ. لكني «أنا» الذي أتحرَّك بسرعة بالنسبة إليك؛ ومن ثمَّ — فوفقًا لمبدأ النسبية — ستتوقَّع أنت أنَّ ساعتي هي التي تبطئ. يبدو هذا وكأنه تعارض: فكيف لساعتَين أن تبطئ إحداهما أكثرَ من الأخرى؟ إذا كانت الساعة «أ» أبطأ من الساعة «ب» بمرتَين، والساعة «ب» أبطأ من الساعة «أ» بمرتَين، أفلا يعني هذا أن الساعة «أ» أبطأ من الساعة «أ» نفسها بأربع مرات؟
يفكِّر التوءم الماكث في الأرض على النحو التالي: يسافر أخي منذ عشر سنوات بسرعة تساوي ٨٠ بالمائة من سرعة الضوء؛ وتتنبأ نظريةُ النسبية بتباطؤ الزمن بالنسبة إليه. وبناءً على هذا، فلن تتقدَّم ساعته وهاتفه الذكي وحتى عملية تقدُّمه في العمر (في حقيقة الأمر) إلا بمقدار ست سنوات. عندما يعود إذن، سيكون أصغرَ مني. (في السرعات الأدنى والتأثيرات الأكثر ضآلة، تَبرُز هذه الصيغةُ بشكلٍ فعَّالٍ في التجارب التي تُحمل فيها الساعات على متن طائراتٍ تجوب العالَم؛ ولهذا يمكن اعتبارُ ما يُرصَد من تباطؤ الساعات المتحرِّكة على متن الطائرات تأكيدًا تجريبيًّا على هذا التباطؤ الذي تتنبَّأ به النسبية.)
لكن تفكير التوءمِ الماكثِ في الأرض لا يتوقف عند هذا الحد. يستمر تفكيره كما يلي: طَوال هذا الوقت، كنت أسير «أنا» بسرعة تساوي ٨٠ بالمائة من سرعة الضوء بالنسبة إليه. لذلك يحقُّ له أيضًا أن يستنتج أنني سأكون أصغرَ منه. ولكن لا يمكن أن نكون نحن الاثنين أصغرَ من أحدنا الآخر! فمثلما هو الحال مع مفارقة الساعة، يبدو أنَّ تجربة التوءم الفكرية لا تؤدي إلى استشكال فكرة تمدُّد الزمن أو إلى غموضها فحسب، بل إلى عدم اتساقها في الحقيقة.
غير أنَّ عدم الاتساق في كلٍّ من هذه الحالات يوضح التناظرَ الجلي بين اثنين من تفسيراتِ ما يجري. ففي مفارقة الساعة، تبطئ الساعة المتحركة بالنسبة إلى الساعة الثابتة، وبعد ذلك يبدو أنَّ مبدأ النسبية يقضي بالمثل أن تبطئ الساعة الثابتة بالنسبة إلى الساعة المتحركة. وفي مفارقة التوءم، يتباطأ تقدُّم عمر التوءم المسافر بالنسبة إلى التوءم المستقر في الأرض، وبعد ذلك يبدو أنَّ مبدأ النسبية يقضي بالمثل أن يتباطأ تقدُّم عمر التوءم المستقِر بالنسبة إلى التوءم المسافر. إن إدراك كيفية الإخلال بهذا التناظر الظاهري يمثِّل بداية فَهْم ما يجري وليس نهايته.
اتساق تمدُّد الزمن
إنَّ الإخلال بالتناظر في مفارقةِ التوءم مسألةٌ بسيطة إلى حدٍّ كبير. فثمة اختلافٌ ملحوظ بين التوءمَين: يقضي التوءمُ الماكثُ في الأرض كلَّ وقته يتحرك «بالسرعة المتجهة نفسها»، بينما يعود التوءم المسافرُ أدراجَه بعد أن يصل إلى منتصف الطريق. ومن ثمَّ يقطع النصفَ الثاني من رحلته بسرعةٍ متجهةٍ كبيرةٍ جدًّا بالنسبة إلى النصف الأول.
ذلك كفيل إذن بأن يزيل «التناقض»؛ فما من تناظرٍ تامٍّ على الرغم من كل شيءٍ بين موقفَي التوءمَين؛ ومن ثم فإن المنطق لا يقتضي استحالةَ أن يصبح أحدهما أصغرَ من الآخر. على الرغم من ذلك، فربما يظل التوءم المسافر يفكِّر كما يلي: يتحرَّك أخي الماكثُ في الأرض بسرعة مقارنةً بحركتي؛ ومن ثمَّ فإن ساعته أبطأ من ساعتي؛ ولهذا سأجده أصغر مني حين أراه. لم نزل نفتقر إلى «تفسير» الخطأ في هذه الحجة، أو توضيح للسبب في أنَّ التغيُّر الكبير في السرعة المتجهة للتوءم المسافر يؤدي إلى تمدُّدٍ كليٍّ في الزمن. لكننا أثبتنا على الأقل أنه لا يوجد عدمُ اتساقٍ في فكرةِ إمكانية حدوث ذلك.
(في بعض الأحيان — وحتى بين علماء الفيزياء الذين من المفترض أن لديهم معرفةً أفضل — تتردَّد فكرة أن «التسارع» هو الذي يؤدي إلى تمدُّد الزمن. غير أنَّ هذه الفكرة تقع ما بين التضليل البالغ والخطأ الفادح؛ فليس التسارع لازمًا إلا من حيث إنه ينبغي على التوءم المسافر أن يتسارع؛ من أجل أن ينجز جزءًا من رحلته بسرعة متجهة مختلفة تمامًا بالنسبة إلى الجزء الثاني. وإذا شعر التوءم الماكثُ في الأرض بالسَّأم وقرَّر أن يزيد سرعته إلى ٨٠ بالمائة من سرعة الضوء لبضع ثوانٍ، ثم يستدير ليتحرك في الاتجاه المعاكس لبضع ثوانٍ أخرى بسرعة تساوي ٨٠ بالمائة من سرعة الضوء، ثم يتوقَّف في النهاية من جديد، فإنه يكون قد تسارع بمقدارِ ما فعلَ أخوه التوءم، لكن ذلك لا يشكل أيَّ فرقٍ جوهري في فجوة العمر بينهما.)
- (١)
أحضر «ساعتَين» مضبوطتَين وأعطِ إحداهما لصديق.
- (٢)
قف في مسار الساعة المتحركة (أو المَركبة الفضائية التي تحمل الساعة). واطلب من صديقك الوقوفَ على مسافةٍ أبعدَ في المسار.
- (٣)
فور أن تمرَّ بك الساعة المتحركة، دوِّن (١) الوقت مثلما هو في ساعتك، (٢) الوقت مثلما هو في الساعة المتحركة.
- (٤)
سيفعل صديقك الشيءَ نفسَه حين تمرُّ به الساعة.
- (٥)
اجتمع مع صديقك وقارن الملاحظات. يمكنكما الآن التوصل إلى الفترة الزمنية المنقضية طبقًا لساعتَيكما، والفترة الزمنية المنقضية طبقًا للساعة المتحركة. وستكون النسبة بينهما هي مقدار تمدُّد الزمن.
أهم ما ينبغي ملاحظته هنا أننا لا نقارن بين ساعتَين، بل بين ثلاث ساعات: الساعة المتحرِّكة التي تتقدَّم ببطءٍ مقارنةً بالساعتَين الثابتتَين. وعلى النقيض من ذلك، ينصُّ مبدأ النسبية على أن الساعة الثابتة ستتقدم ببطء مقارنةً «بزوج» من الساعات المتحركة. غير أننا لا نستطيع الجمع بين هذَين المبدأَين ونستنتج — كما تنذر مفارقة الساعة — أن ساعةً ثابتةً واحدةً ستتقدَّم ببطءٍ مقارنةً بنفسها.
يبدو رغم ذلك أن التناقض لا يزال يلوح في الأفق. تخيَّل أن هناك «زوجَين» من الساعات: زوجًا ثابتًا وزوجًا متحركًا. يبدو حينها أننا نستطيع استنتاجَ أن زوجًا يتقدَّم ببطء مقارنةً بالزوج الآخر، لكن هذا أيضًا يبدو تناقضًا. ولكي ندرك السببَ في أنه لا يوجد تناقضٌ حقيقيٌّ في هذه الحالة، نحتاج إلى دراسةِ بروتوكول القياس بعنايةٍ أكبر. حينها سيتبيَّن لنا أن تمدُّد الزمن وتقلُّص الطول ليسا السمتَين الجديدتَين الوحيدتَين في نظرية النسبية الخاصة. وإنما توجد سِمة ثالثة أيضًا وهي: «نسبية التزامن».
نشرُ الزمن عَبْر الفضاء
من الأفكار الرئيسية في بروتوكول قياس تمدُّد الزمن أننا نستطيع التوصُّل إلى مقدار الوقت المنقضي في الإطار المرجعي، في أثناء رحلة الساعة المتحركة، وذلك عن طريق مقارنةِ قراءة الوقت على ساعتي عند بداية رحلة الطيران، بالوقت على ساعة صديقي عند انتهاء رحلة الطيران. وسينطبق الأمر نفسه إذا كنَّا مهتمين بقياسِ سرعة الساعة (أو أي جسم متحرك آخر)؛ فالفرق بين قراءة الوقت على ساعتي والوقت على ساعة صديقي هو زمن الرحلة، والسرعة هي المسافة بيننا مقسومة على زمن الرحلة.
- (١)
أتأكد أنا وصديقي من مزامنةِ ساعتَينا عندما نتقابل وجهًا لوجه، ونتفق على البروتوكول، وقبل أن يتَّجه كلٌّ منا إلى الموقع المتَّفق عليه.
- (٢)
بعد أن يصل صديقي إلى مكانه، أتصل به ونُجري مزامنةً لساعتَينا عَبْر الهاتف.
في الظروف العادية، يمكن استخدام أيٍّ من الطريقتَين. (الطريقة الأولى هي ما يتبعه المجرمون وجنودُ القوات الخاصة — على الأقل في الأفلام — قبل ارتكاب جريمة السرقة أو إنقاذ الرهائن، والطريقة الثانية هي المتَّبعة لتحديث إعدادات الوقت عَبْر الإنترنت في الهاتف أو جهاز الكمبيوتر). غير أنَّ الطريقتَين كلتَيهما تمثِّلان إشكاليةً في النسبية. ففي الطريقة الأولى، سيعني تمدُّد الزمن أنَّ الساعات المتحركة تتباطأ؛ ولهذا حتى إذا أجرينا مزامنةً لساعتَينا حين نلتقي، فربما لا تبقى متزامنة. وفي الطريقة الثانية، فإنَّ إشارات الهاتف (أو أي إشارة أخرى قد نجرِّبها) تتحرَّك بسرعة محدودة؛ ومن ثمَّ نحتاج إلى مراعاة زمن السفر المحدود الخاص بإشارات التزامن. لكننا لا نملك ذلك لأن هذا يتطلَّب منَّا معرفةَ سرعة الإشارة، ونحن نحتاج إلى مزامنة الساعات قبل أن نقيس سرعة الإشارة!
حين يواجِه المرءُ هذه المشكلةَ في المرة الأولى، فربما تبدو مشكلةً فنية أو حتى غيرَ ضرورية. ألا يوجد حلٌّ بسيط؛ طريقة مباشرة لا جدال عليها لمزامنة الساعات؟ كلَّا، لا يوجد. (جرِّب بنفسك.) المحصِّلة هي أن قياس سرعة الأجسام المتحركة (أو قياس تمدُّد الزمن) يتطلب ثلاثة عناصر وهي: قضبان قياس موثوقة، وساعات موثوقة توجد في عدة مواقع، و«قاعدة تزامن» لتحديد طريقة التنسيق بين الساعات؛ وهي ما يُطلِق عليه الفيلسوف هارفي براون قاعدةَ «نشر الزمن عَبْر الفضاء». يمكن أن توجد أكثرُ من قاعدة، وسيؤدي تنوُّع القواعد إلى تنوُّع السرعات للجسم المتحرك.
يجدُر بك الآن أن تكون قلقًا بشأن أساس النسبية. ألم أقُل قبل بضع صفحات فحسب إنَّ النظرية تتأسَّس على (١) مبدأ النسبية، و(٢) مُسلَّمة أنَّ سرعة الضوء لا تعتمد على سرعة مصدره؟ وإذا كانت سرعة الضوء تعتمد على اختيار قاعدة تزامن، فإنَّ هذه المسلَّمة تبدو غير واضحة.
- (١)
قف عند أحدِ طرَفي قضيب القياس، وضعِ المرآةَ عند الطرف الآخر.
- (٢)
سلِّط المصباحَ اليدوي على المرآة. أنِر المصباح، وابدأ ساعةَ التوقُّف في اللحظة نفسها.
- (٣)
حالما ترى ضوءَ المصباح في المرآة (مما يعني أن الضوء قد سافر إلى المرآة وعاد مرةً أخرى)، أوقفِ الساعة.
- (٤)
أنت الآن تعرف مقدارَ الوقت الذي استغرقه الضوء كي يسيرَ مسافة مترَين، إلى المرآة ومنها. إذن، السرعة الثنائية الاتجاه تساوي [مترَين] مقسومة على [الوقت المنقضي على ساعة التوقف].
(تتطلب هذه التجربة ردودَ أفعال سريعة؛ فسوف تحتاج إلى إيقاف الساعة بعد حوالي ستة نانو ثانية من تشغيلها!)
يمكننا أن نصوغ المسلَّمة بالصيغة التالية: «سرعة الضوء «الثنائية الاتجاه» مستقلة عن سرعة مصدر الضوء، وعن الاتجاه الذي ينبعث فيه الضوء». وليسَت هذه الحقيقة بمثابة أساسٍ للنسبية فحسب، بل تتيح لنا أيضًا أن نضع قاعدةَ تزامُن طبيعية للغاية، وهي «قاعدة التزامن لأينشتاين»، التي تنصُّ على أنه يجب أن نزامنَ الساعات، بحيث تصبح سرعة الضوء الأحادية الاتجاه مستقلةً هي أيضًا عن سرعة المصدر وعن اتجاه انبعاث الضوء. يضمن هذا الاختيار توفيرَ تعريف جيد بفضل الثبات المفترَض للسرعة الثنائية الاتجاه.
سنوضِّح الآن كيفيةَ التطبيق العملي للقاعدة. تبلغ سرعة الضوء الثنائية الاتجاه ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية؛ ومن ثمَّ سنعرِّف «الثانية الضوئية» بأنها تساوي ٣٠٠ ألف كيلومتر. لنفترِض أنك تقف على مسافةِ ثلاثة ملايين كيلومتر مني؛ أي على مسافة ١٠ ثوانٍ ضوئية. سأرسل إليك إشارةً بأنَّ «الوقت على ساعتي هو: ٠٠ : ٠٠ : ١٢». حينئذٍ، ينبغي أن تضبط ساعتك على: ١٠ : ٠٠ : ١٢، وبهذا فوفقًا لساعتَينا، استغرق الضوء ١٠ ثوانٍ لقطعِ مسافة ١٠ ثوانٍ ضوئية، وسرعة الضوء الأحادية الاتجاه هي أيضًا تساوي ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية.
يمكننا وصفُ تلك الطريقة نفسِها بشكلٍ آخر. لنفترض أني أرسلت إشارةً إليك وأنت ردَدْتها عليَّ فورًا. عندما تعود الإشارة إليَّ، سيكون الوقت على ساعتي ٢٠ : ٠٠ : ١٢ (بصرف النظر عن أي قاعدة تزامن). يجب أن تضبط ساعتك بحيث يكون الوقت لحظةَ ارتداد الإشارة في المنتصف بالضبط بين الوقت على ساعتي وقت انطلاق الإشارة (٠٠ : ٠٠ : ١٢) ووقت عودتها (٢٠ : ٠٠ : ١٢)؛ أي ينبغي أن تضبط الساعة على الوقت ١٠ : ٠٠ : ١٢. يضمن اختيار المنتصف أن نسجِّل الضوءَ على أنه يتحرك بالسرعة نفسها، في طريق الانطلاق وطريق العودة.
تنفرد الفيزياء تقريبًا باستخدام قاعدة التزامن لأينشتاين؛ ومن ثَم تُفترض تلك القاعدة في معادلات تمدُّد الزمن (وفي تقلُّص الطول أيضًا في الواقع). وبناءً على هذا، ينبغي تخيُّل معظم قياسات تمدُّد الزمن التي تناولتها مسبقًا — الأشعة الكونية، والجسيمات في المسرِّعات، وغيرها — باعتبار أنها توضِّح تمدُّد الزمن طبقًا لقاعدة أينشتاين. على الرغم من ذلك، ينبغي ألَّا تُتخيَّل جميع القياسات على هذا النحو. ففي تجربة مفارقة التوءم الفكرية وتجربة الساعة المنقولة على متن الطائرة، تنطلق ساعة وتعود ثم نجد أنها تقدَّمت ببطء مقارنةً بالساعة الأخرى. إننا لا نحتاج إذن إلى أي قاعدة تزامُن لذكرِ هذه الفرضية أو اختبارها؛ يمكننا اعتبار الأمرِ بوصفه قياسًا ﻟ «تمدُّد الزمن الثنائي الاتجاه».
تبدو قاعدة أينشتاين طبيعيةً، بل واضحة، لكنها تنطوي على استنتاجٍ غير واضح؛ وهو أن الأحكام المتعلِّقة بوقوع حدثَين في وقتٍ واحدٍ تعتمد على الإطار القصوري الذي تستخدمه. وكي نفهم هذا الاستنتاج، لنفترض أنك تبعُد عني بمقدار ١٠ ثوانٍ ضوئية جهة الشرق، وأنه يوجد وميضٌ ساطع في مكانٍ ما جهة الغرب منَّا. أرى الوميض في الساعة ٠٠ : ٠٠ : ١٢، وأنت تعكسه إليَّ مرةً أخرى باستخدام مرآة في الساعة ١٠ : ٠٠ : ١٢. لذا إذا نظرت إلى ساعتي في الساعة ١٠ : ٠٠ : ١٢، حينها يكون الوميض الذي تعكسه إليَّ ونظري في الساعة متزامنَين.
وعلى الرغم من ذلك، رأيت الوميض في الساعة: ٠٠ : ٠٠ : ١٢، لكن أليس لم تكن قد وصلت إليَّ حينها. لا بد أنها رأت الوميضَ قبلي بينما مرَّ بها وهو في طريقه إليَّ. وحين تردُّ وميضَ الضوء مرة أخرى باتجاهنا، ستتلقى أليس إشارةَ الارتداد قبلي لأنها قطعت في الوقت الفاصل بعضَ المسافة إلى بوب. ولهذا فإن نقطة المنتصف بين إرسال أليس للإشارة وارتدادها عنها مرةً أخرى تقع قبل نقطة المنتصف بين إرسالي لإشارة وارتدادها عني مرةً أخرى. وهذا يعني أنني أختلف مع أليس بشأنِ الأوقات التي تزامنت مع وصول الإشارات إليك أنت وبوب.
إذن، وفقًا لقاعدةِ أينشتاين على الأقل، ففي مسألة الإطارَين اللذَين يتحرَّك كلٌّ منهما بالنسبة إلى الآخر، لا يختلف العلماء بشأن أطوال الأجسام أو معدَّل تدفُّق الزمن فحسب، بل يختلفون أيضًا بشأن أيِّ الأحداث التي تزامنت معًا. الحق أنَّ النتائج التي تنطوي عليها «نسبية التزامن» واسعةُ النطاق إلى حدٍّ كبير؛ ففي حالة وجود أي حدثَين لا يمرُّ الضوء من بينهما، سيتوافر خيارُ إطارٍ يتزامن فيه الحدثان، وخيارُ إطار يقع فيه الحدث الأول قبل الحدث الثاني، وخيار إطار يقع فيه الحدث الثاني قبل الحدث الأول.
(ويُعَد هذا بالتبعية إحدى الطرق التي تساعد على فَهْم السبب في أنَّ النسبية تشير بقوة إلى استحالةِ أن يتحرك أيُّ شيء بسرعةٍ أكبرَ من سرعة الضوء؛ فأي إشارة أسرع من الضوء هي إشارة تعود بالزمن إلى الوراء بالنسبة إلى بعض الأطر المرجعية).
يؤدي هذا أخيرًا إلى حلِّ التناقض في مفارقة الساعة. فعند الحكمِ على ساعتَين متحركتَين في أي إطارٍ واحد، فإننا لن نجدَ أنهما تتقدَّمان ببطء فحسب، بل ستكونان متزامنتَين على النحو الخاطئ أيضًا. فللانتقال من ساعتَين ثابتتَين إلى ساعتَين متحركتَين ثم العودة مرةً أخرى، ينبغي أن نصحِّح الساعة مرتَين؛ مرة من أجل التزامن ومرة أخرى من أجل تمدُّد الزمن؛ وعندما نفعل ذلك يتبيَّن في نهاية المطاف أنه لا يوجد تناقضٌ في زعمِ أن كل زوجٍ من الساعات يتقدَّم ببطءٍ مقارنةً بالزوج الآخر.
اصطلاح التزامن
إنَّ قاعدة التزامن لأينشتاين توفِّر الاتساق لمفارقة الساعة، لكنها تنطوي على تَبعات غريبة للغاية. فيبدو أنَّ ما نقوله فيها أنَّ ما يحدث «الآن» يعتمد على سرعتي المتجهة؛ وإذا تغيَّرت سرعتي المتجهة، فستنتقل الأحداثُ البعيدة من الماضي إلى المستقبَل أو العكس. لتوضيحِ ما نقصده بهذه الغرابة، تخيَّل أن أخاك الحبيب يتزوج في مجرةِ أندروميدا التي تبعُد مسافة مليونَي سنة ضوئية. ستظل تتحرَّك ذهابًا وإيابًا قلقًا بشأن ما إذا كانت الأمور كلها ستسير على ما يرام، لكنك حينما تتحرك «ذهابًا»، فإن قاعدة التزامن لأينشتاين تعني أن حفل الزفاف لن يحدث إلا بعد ساعات؛ وعندما تتحرك «إيابًا»، فإن القاعدة تعني أنَّ الحفل انتهى بالأمس.
لكن هل قاعدة أينشتاين «صحيحة»؟ يمكننا بالطبع وَضْع تعريفاتٍ مختلفة لاصطلاحات تزامن الساعات: يمكننا أن نقرِّر مثلًا جعْل سرعة الضوء الأحادية الاتجاه مختلفة في اتجاهات مختلفة، أو يمكننا اختيارُ أكثر إطار نفضِّله ونقول إن الساعات في «كل» الأطر يجب أن تتفق مع «ذلك» الإطار فيما يتعلق بأي الأحداث هي المتزامنة. غير أنَّ قاعدة أينشتاين توفِّر مميزاتٍ مهمةً تفوق كلَّ ما ذُكر سابقًا؛ ومن هذه المميزات ما يتطلَّب منا اختيارَ إطارٍ مرجعي مفضَّل، ومنها ما يتطلَّب اختيار اتجاه مفضَّل في المكان؛ فمن ناحية عملية بدرجة أكبر، تصبح معادلات الفيزياء أبسطَ بكثيرٍ إذا تبنينا قاعدة التزامن لأينشتاين، بدلًا من أيٍّ من القواعد المنافسة. وبناءً على هذا، يمكننا القول إن قاعدة التزامن لأينشتاين هي الاختيار «العملي» الصحيح.
إنَّ القول إنها الاختيار الصحيح وإن الاختيارات الأخرى خاطئة — لا غير محبَّذة فحسب — مسألةٌ أخرى. ربما يفيد ذِكر بعض المقارنات في الفهم. في عملية ضبط الوقت مثلًا، تتمثل القاعدةُ المعتادة على الأرضِ في تقسيم العالم إلى ٢٤ منطقة زمنية، فيصبح لدينا ٢٤ خيارًا لوقت الظهيرة، وفي كل منطقة منها تحين الساعة ٠٠ : ٠٠ : ١٢ تقريبًا، عندما تصبح الشمس عموديةً على تلك المنطقة. وثمَّة قاعدة أخرى بديلة لضبط الوقت، وهي ضبط كل الساعات في كل مكان على الأرض حسب توقيت جرينتش. غير أنَّ هذه القاعدة البديلة لا تُستخدم في المعتاد؛ لأنه ليس من المناسب أن تحين الظهيرة عند منتصف الليل في بعض الأجزاء في العالم، لكن هذا لا يجعلها خاطئةً بل أقل نفعًا فحسب. (على الرغم من ذلك، ففي بعض الظروف مثل العمليات العسكرية، يتبيَّن أن هذه القاعدة أكثرُ نفعًا؛ إذ إنَّ مزايا وجود وقت مشترك تفوق عيوب ضبط الوقت من دون الاعتماد على الشمس والقمر). إنَّ ما ينفي وجود قاعدة أكثر صوابًا من الأخرى، هو أنه لا يوجد أيُّ شيء موضوعي فيه صواب أو خطأ؛ فبخلافِ ما اصطلحنا عليه، ما من حقيقةٍ في ذلك الأمر بشأن ماهية الوقت.
لنضرب مثالًا آخرَ: دائمًا ما تكون خطوط ورقة التمثيل البياني قائمة الزوايا، وينطبق الأمر نفسه على أنظمة الإحداثيات للخرائط؛ إذ غالبًا ما تكون محاورها قائمة الزوايا. ولهذا الخيار ميزاتٌ متعدِّدة، بعضها جلي وبعضها خفي. فعلى سبيل المثال، لا تتحقَّق مبرهنة فيثاغورس — مربع المسافة بين نقطتَين على مستوًى إحداثيٍّ يساوي مربَّع المسافة بينهما على المحور س زائد مربع المسافة بينهما على المحور ص، إلا إذا كانت المحاور قائمة الزوايا. وتحقيقًا لكل هذه الأغراض، فسيكون من «الأقل نفعًا» إليك أن تكون خطوطُ ورقة التمثيل البياني بزاوية أخرى. لكن ورقة التمثيل البياني ليست «خاطئة» لأنه — مرة أخرى — ما من حقيقةٍ موضوعية تخبرنا بالزاوية «الفعلية» بين المحاور؛ فليست تلك المحاور سوى اختيارنا الخاص لكيفية إنشاء نظامٍ إحداثيٍّ للمكان.
ما يبقى على المحكِّ في هذه المسألة هو ما إذا كان للسؤال: «ما الذي يحدث «الآن» في مكانٍ ما بعيد؟» إجابة صحيحة وموضوعية (وفي هذه الحالة ستكون هناك قاعدة تزامن صحيحة وموضوعية، ويمكننا حينها أن نُحاجَّ بقوةٍ بأن هذه القاعدةَ هي قاعدة أينشتاين)، أم إنَّ الإجابة مسألةُ اصطلاح فحسب (وفي هذه الحالة يمكننا فَهْم قاعدة التزامن لأينشتاين — أو تزامن أينشتاين، باعتبارها اختيارًا منطقيًّا لذلك الاصطلاح، لكنها ليست الخيار الصحيح من الناحية الموضوعية).
(ثمَّة شيء غامض قليلًا بشأنِ كلمة «اصطلاحي» في هذا السياق. فبعض الاصطلاحات «اعتباطية» فحسب؛ بمعنى أنه لا يوجد سببٌ على الإطلاق لاستخدام كلمة «كلب» في اللغة العربية وعدم استخدام أيِّ كلمة أخرى للإشارة إلى الكلاب. وعلى النقيضِ من ذلك، فإن المحاور القائمة الزوايا والمعايير المرتبطة بالموقع المستخدمة لتحديد وقت الظهيرة، اصطلاحاتٌ جيدة؛ ولهذا فمن المنطقي موضوعيًّا أن تُستخدم في معظم المواقف. لكن المعيار الصحيح لتقييمها هو ما إذا كانت منطقية أم اعتباطية، وليس ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة.)
تنبع إحدى الحجج الفلسفية لإحدى الإجابات الفريدة عن هذا السؤال من فلسفة الزمن، ومن الفكرة الواسعة الانتشار التي تُفيد بوجودِ اختلافٍ جوهريٍّ بين الماضي والمستقبل. وفقًا لهذه الطريقة في التفكير، فإنَّ الماضي ثابت، والمستقبل لم يأتِ بعدُ ومن ثَم فهو منفتح، أما الحاضر فهو على حافةِ الانتقال بين المستقبل والماضي؛ ومع تدفُّق الزمن، يزيد الماضي زيادةً مطردة ويتناقص المستقبل. إذا كانت هذه هي الطبيعة العميقة للزمن، فيبدو أنها تشير إلى مفهومٍ قاطع وغير اصطلاحي عن التزامن.
لطالما كانت هذه النظريةُ عن الزمن محلَّ خلاف في الفلسفة. فيقال إن تدفُّق الزمن ما هو إلا فكرة غير متسقة؛ فما التدفُّق إلا شيء يحدُث «في» الزمن؛ ومن ثمَّ فهو ليس منطقيًّا للزمن في حد ذاته. (ثمَّة شعار يشيع بين النقاد وهو: «ما مدى سرعة تدفُّق الزمن؛ أهي ثانية في الثانية؟») لكن الأهم فيما يتعلق بأغراضنا أن هذه الفكرةَ تتعارض تعارضًا كبيرًا مع فكرةِ أن التزامن نسبي (وهو ما فرضَه علينا اصطلاح التزامن لأينشتاين، بل ما يفرضه علينا أيُّ اصطلاح منطقي وصحيح من الناحية الموضوعية). وإذا كان بإمكاني نَقْل حدثٍ من الماضي إلى المستقبل، وإعادته مرةً أخرى بمجرد الذهاب والإياب، وإذا كانت الأحداث التي مرَّت عليَّ في الماضي هي في المستقبل بالنسبة إليك؛ لأننا نتحرك بسرعاتٍ مختلفة، فسيصعب إدراكُ وجودِ فرقٍ جوهري بين طبيعتَي الماضي والمستقبل. يبدو أنَّ المفهوم الموضوعي للتزامن يستلزم أن يكون هذا المفهوم مطلقًا ومستقلًّا عن الإطار؛ وفور أن نقبَل بنسبية التزامن، فلن يتبقَّى سوى خطوةٍ صغيرةٍ لإدراك أن التزامن مسألةٌ اصطلاحية. (غير أنَّ ذلك أحدُ الموضوعات التي لم يتوقَّف الفلاسفة فيها عن الدفاع عن العديد من المواقف المختلِفة؛ فلم يستسلم المدافعون عن فكرةِ التزامن النسبي، ولا المدافعون عن التدفُّق الموضوعي للزمن، بأيِّ حال من الأحوال.)
الزمكان في تصوُّر منكوفسكي
لكي ندركَ المعنى الفعلي لاصطلاح التزامن على نحوٍ أفضل، سنعود إلى مفهوم الزمكان ونحدِّثه بما يتلاءم مع النسبية. تذكَّر أننا تخيَّلنا الزمكان (في الفصل الثاني) بإزالة أحدِ أبعاد المكان (حيث شبَّهنا المكان برُقاقة أكريليك)، ثم بنينا الزمكانَ بكومةٍ من هذه الرُّقاقات، بحيث تمثِّل كلٌّ منها لحظةً من الزمن. يأتي ذلك الزمكان — الذي أطلقنا عليه «الزمكان في تصوُّر جاليليو» — مزوَّدًا بثلاثِ بنًى وهي: الهندسة المكانية (التي تحدِّد المسافات والزوايا في كل رُقاقة)، والهندسة الزمانية (التي تحدِّد الفاصل الزمني بين الرُّقاقات) والبنية القصورية (التي تختار الأُطر القصورية التي تتحرك الأجسامُ الحرة في خطوط مستقيمة بالنسبة إليها). وفي ضوء النسبية، يمكننا أن ندرك الآن وجودَ بُعد آخرَ ضمني، وهو «بنية التزامن»؛ وتعني أنَّه لا يمكن القول عن نقطتَين في الزمكان إنهما متزامنتان إلا إذا كانتا على الرُّقاقة نفسها.
الطريقة الأسهل لتخيُّل الزمكان في النسبية الخاصة — وعادةً ما يطلَق عليها «الزمكان في تصوُّر منكوفسكي» نسبةً إلى عالِم الرياضيات الذي اقترحها بعد عمل أينشتاين بفترة وجيزة — هي أن تتخيَّل تسخينَ كومة من الرُّقاقات حتى تنصهر معًا، مما يترك لنا كتلةً من الأكريليك لكنه يمحو ملامحَ الرُّقاقات الفردية. في الزمكان وفقًا للنسبية الخاصة، لا تُصنَّف الأحداثُ ضمن مجموعاتٍ تقع جميعها في الوقت نفسه، بل تندرج تلك الأحداث ضمن مجموعةٍ رباعية الأبعاد.
ونتيجةً لهذا، فإن المكان بمفرده والزمان بمفرده محكومٌ عليهما بالتلاشي إلى محض ظلال، ولن يحافظ على وجودِ واقع مستقل إلا نوعٌ من الوحدة بينهما.
ما الذي يمثِّله هذا «الفاصل» في الحقيقة من المنظور الفيزيائي؟ عندما يمثِّل حدثان مرحلتَين في حياة الجسم الموجود نفسه — أو بشكلٍ أعمَّ، عندما ينتقل جسيمٌ سريع الحركة بين الحدثَين، فإن الفاصل بين الحدثَين هو زمن الرحلة الذي يمكن قياسه على ساعةٍ انتقلت بينهما في خطٍّ مستقيم. (يُطلق على هذه الأحداث «الأحداث المفصولة زمنيًّا»). وعندما لا يمكن الربط بين الحدثَين بجسمٍ متحرِّك أو حتى شعاع ضوء (الأحداث المفصولة مكانيًّا)، فسيوجد إطارٌ قصوري يتزامن فيه الحدثان، وعندئذٍ يصبح الفاصل هو المسافة المكانية العادية بينهما وفقًا لقياسها في ذلك الإطار.
وفيها تُقاس المسافة الزمنية بالثواني، وتُقاس المسافة المكانية بالثواني الضوئية، أو تُقاس المسافة الزمنية بالسنين والمسافة المكانية بالسنين الضوئية، وهكذا. لعلكم تلاحظون تشابهًا كبيرًا للغاية بين هذه المعادلة وبين معادلة فيثاغورس التي تناولناها مسبقًا، لكنَّ هذه المعادلةَ تضم علامةَ سالب بالغة الأهمية. يصبح الفاصل صفرًا إذا كانت المسافة الزمنية تساوي المسافةَ المكانية — أي إنها تصبح صفرًا عندما يصل شعاعٌ ضوئي بين النقطة «أ» والنقطة «ب»، متحركًا بسرعة ثانية ضوئية في الثانية. (وإذا كانت المسافة المكانية أكبرَ من الزمن، فعلينا أن نعكس علامةَ السالب من أجل الحصول على معادلةٍ منطقية).
على الرغم من وَضْع هذه المعادلة بالنسبة إلى إطارٍ قصوريٍّ واحد، فإنها تُعطي النتيجةَ نفسها في أي إطارٍ قصوري؛ فمن طرقِ صياغة معادلات النسبية استنتاجُ استقلال الإطار الخاص بمسافة الزمكان عن مبدأ النسبية، وعن الافتراض الخاص بسرعة الضوء الثنائية الاتجاه، وعن قاعدة التزامن لأينشتاين.
من الضروري ملاحظةُ أنه على الرغم من أن البنى الأساسية في زمكان منكوفسكي تختلف اختلافًا بارزًا عن البنى التي شهدناها في فيزياء نيوتن، فإنها بنًى أساسية بالمعنى نفسه الذي تعرَّفنا عليه من قبل، بمعنى أنها غير متغيرةٍ وجوهريةٌ في فيزياء الأجسام المادية. فمفهوم البنية القصورية على وجه الخصوص ضروريٌّ في الفيزياء النسبية وغير النسبية على حدٍّ سواء. وعلى الرغم من ذلك، فإن البنية القصورية ليست مستقلةً عن مسافة الزمكان؛ ومن المنظور الرياضي في الحقيقة (وبصرف النظر عن التفاصيل)، يمكننا استعادةُ الحقائق القصورية بالكامل من حقائق المسافة الزمكانية. وعما إذا كان هذا يعني من المنظور الفيزيائي أن البنية القصورية ثانوية بالنسبة إلى بنية المسافة الزمكانية أم لا، فتلك مسألةٌ أخرى، وسنتناولها عندما نعود إلى سؤالنا المركزي: «كيف نفهم تمدُّد الزمن؟».
التفسيرات الهندسية والديناميكية لتمدُّد الزمن
- أ: يغادر التوءم المسافر الأرض
- ب: يبدأ التوءم المسافر في رحلة العودة
- ﺟ: يعود التوءم المسافر إلى الأرض
وبمصطلحات الزمكان: ينتقل التوءم الماكثُ في الأرض من النقطة «أ» إلى النقطة «ﺟ» في خطٍّ مستقيم. وينتقل التوءم المسافرُ من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» في خطٍّ مستقيم، ومن النقطة «ب» إلى النقطة «ﺟ» في خطٍّ مستقيم. وبناءً على هذا، فإنَّ الوقت الذي سجَّلته ساعة التوءم الماكثِ في الأرض يساوي الفاصل الزمني من النقطة «أ» إلى النقطة «ﺟ»؛ وبالنسبة إلى التوءم المسافر، فهذا الوقت يساوي الفاصلَ الزمنيَّ من النقطة «أ» إلى النقطة «ب»، إضافةً إلى مسافة الزمكان من النقطة «ب» إلى النقطة «ﺟ».
في الفضاء العادي، أقصرُ مسافة بين نقطتَين هو الخط المستقيم. لكن علامة السالب تقلب المسألةَ في زمكان منكوفسكي؛ إذ تصبح الخطوطُ المستقيمة هي المسافات الأطول بين نقطتَين في الزمكان (ينطبق هذا على النقاط المفصولة زمنيًّا على الأقل). ومن ثمَّ فإن هندسة الزمكان في تصوُّر منكوفسكي تخبرنا بأن الوقت الذي مرَّ على التوءم الماكثِ في الأرض سيكون أطول.
إذن؛ تتنبأ هندسةُ الزمكان في تصوُّر منكوفسكي بأن الزمن المنقضي الذي سيسجِّله التوءم المسافر سيكون أقصرَ (لأن أطول مسار بين نقطتَين في الزمكان هو الخط المستقيم). ويوضِّح هذا انعدامَ التناظر في حالة التوءمَين ما يؤدي إلى حلِّ مفارقة التوءم (فعندما بدأ التوءم المتحرك رحلةَ العودة، أصبح مسار الزمكان الذي سيسلكه منحنيًا، لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى التوءم الماكثِ في الأرض، مما سيؤثِّر في مسافة الزمكان). إضافةً إلى هذا، توفِّر لنا هندسة الزمكان في تصوُّر منكوفسكي طريقةً جاهزةً لحساب الفَرْق في الزمنَين بالنسبة إلى التوءمَين.
لكن هل «تفسِّر» هندسة الزمكان في تصوُّر منكوفسكي السببَ في أنَّ التوءم المتحرِّك يسجِّل زمنًا إجماليًّا أقصر؟ الحق أنَّ هذا السؤال تكرارٌ للمقارنة بين نهج الهندسة أولًا في مقابل نهج الديناميكا أولًا، والتي تناولناها في الفصل الثاني: هل هندسة الزمكان تفسيرٌ للظواهر الفيزيائية (لا سيما الفَرْق بين عمرَي التوءمَين) أم إنها تصنيف لتلك الظواهر فحسب؟ إذا كانت تفسيرًا للظواهر الفيزيائية، فسيكون من المنطقي أن نعتبر الوصف الذي طرحته فيما سبق تفسيرًا حقيقيًّا. أما إذا كانت محضَ تصنيف لتلك الظواهر، فإن هندسة الزمكان لا تقدِّم شيئًا سوى ترميز الحقائق بشأن التوءمَين، لكنها لا تذكر أسبابَ وقوع هذه الحقائق.
ولكي نتعرَّف على إجابةِ نهج الديناميكا أولًا عن هذا السؤال: ««لماذا» يسجِّل التوءم المتحرِّك زمنًا إجماليًّا أقصر؟» لِنرجع إلى الفكرة العامة لتمدُّد الزمن. رأينا بالفعل أن تمدُّد الزمن لا يتحدَّد جيدًا إلا بالنسبة إلى اختيارٍ محدَّد للإطار القصوري؛ ففي كل إطار، تتقدَّم الساعات المتحركة ببطء. ومن منظورِ نهجِ الهندسة أولًا، فإنَّ هذا الاعتمادَ على الإطار يشكِّك في فكرةِ تمدُّد الزمن؛ فمفاهيمُ مثل «التحرُّك» و«البطء» ليس لها معنًى إلا أن تتناسب إلى إطار، ولا يمكن أن تُفهم في سياق البنية الثابتة للزمكان، ومن ثَم ينبغي ألَّا يكون لها دورٌ في التفسير. ومن هذا المنظور، فإن تأثيراتِ مفارقةِ التوءم هي بالفعل المحتوى الحقيقي لتمدُّد الزمن؛ فتباطؤ الساعة — خارج سياق سفر الساعة ثم رجوعها — مفهوم مفيد من الناحية الرياضية والحسابية، لكنه ليس جوهريًّا في الحقيقة.
لكن من منظورِ نهجِ الديناميكا أولًا، فحقيقة أن تباطؤ الساعة يتطلب إطارًا قصوريًّا لتحديده لا يجعل التباطؤ غيرَ حقيقي؛ فالأُطر القصورية هي الأساس الذي تُرسى عليه الفيزياء، ومن الطبيعي أن تُجرى التفسيرات الديناميكية في إطارٍ أو آخر. وعندما نقول عن أيٍّ من هذه الإطارات، إنَّ «الساعة المتحرِّكة تتباطأ فيه» أو ربما «يتقلَّص القضيب المتحرِّك»، فإننا نقصد أن العمليات الفيزيائية داخل القضيب، مثل الروابط الموجودة بين الذرَّات التي تحافظ على تماسُك القضيب وتحدِّد طوله، وأنَّ العمليات الدورية التي تحسبُ الوقت داخل الساعة؛ تختلف في المادة الواحدة حين تكون هذه المادة في حالة الحركة وحين تكون في حالة السكون. فعلى سبيل المثال، طبقًا لقوانين الكهرومغناطيسية، فإن المجال الكهربي للشحنة المتحرِّكة يتضاءل في اتجاه الحركة مقارنةً بمجال الشحنة الساكنة. إنَّ المجالات الكهربائية هي ما يحافظ على تماسُك المادة العادية؛ ومن ثمَّ فمن المتوقَّع أن يتغيَّر شكل تلك المادة إذا تغيَّرت هذه المجالات بالحركة.
على الرغم من هذا المثالِ الملموس المتعلِّق بالمجال الكهرومغناطيسي، فلسنا بحاجة في الحقيقة إلى دراسة الفيزياء الدقيقة التفصيلية للساعات أو القضبان؛ كي نتنبأ بتمدُّد الزمن وتقلُّص الطول. فكلُّ ما نحتاج إلى معرفته هو أنَّ القوى التي تؤدي إلى تماسك هذه المواد معًا، هي جميعًا ما يحدِّد الخصائصَ الفيزيائية التي تتسق مع مبدأ النسبية، وتوفِّر سرعةَ ضوءٍ مستقلة عن السرعة المتَّجهة. وهذا يشكِّل قيدًا صارمًا بما فيه الكفاية على صيغة القوانين، لضمانِ أنه إذا كانت هذه القوانين تصف الأجسامَ الصلبة والساعات الدقيقة أصلًا، فإن تلك الأجسام والساعات ستتطابق مع مبدأ النسبية حين تكون في حالة حركة.
بناءً على هذا التفسير — فعلى خلافِ ما يحدُث في حالة نهج الهندسة أولًا — سجَّل التوءم المتحرِّك زمنًا أبطأ؛ لأنه كان يتحرَّك على مدار الفترة، وفي هذه العمليةِ تباطأت ساعاتُه بسببِ تأثُّر عملياتها الفيزيائية الداخلية بالحركة. كيف يتحاشى هذا التفسير جانبَ المتناقض في مفارقة التوءم؟ فمن وجهةِ نظر التوءم المتحرِّك، وعلى الرغم من كل شيء، فإن التوءم الماكثَ في الأرض هو الذي يتحرك!
-
الفجوة الزمنية في مفارقة التوءم تأثيرٌ فيزيائي حقيقي تفسِّره حقيقةُ أن التوءم المتحركَ يسلك مسارًا أطولَ عَبْر الزمكان.
-
على العكس من ذلك، فإن الحديث عن «تباطؤ» الساعات هو مفهومٌ يعتمد على الإطار المرجعي، وليس له وصفٌ ثابتٌ في الزمكان وينبغي تجنُّبه.
-
تختفي مفارقةُ تمدُّد الزمن حالما نلاحظ أنَّ مسار التوءم المتحرِّك منحنٍ، في حين أن مسار التوءم الماكثِ في الأرض مستقيم.
-
يُطرَح التفسير الحقيقي لظواهر الزمكان طرحًا مثاليًّا، بالإشارة إلى الزمكان مع تجنُّب الإشارة إلى الأطر القصورية.
-
الساعات المتحركة تبطئ بالفعل، نتيجةً للعمليات الفيزيائية التي تحدِّد ضبط الوقت، وتأثير الحركة في تلك العمليات الفيزيائية.
-
يمكن تفسيرُ مفارقة التوءم — في أي إطار قصوري — بتباطؤ العمليات الفيزيائية للأجسام المتحركة بالنسبة إلى ذلك الإطار.
-
تتلاشى مفارقةُ تمدُّد الزمن حالما نلاحظ أن التوءم الماكثَ في الأرض ثابتٌ بالنسبة إلى إطارٍ قصوري غير متغيِّر، بينما لا يوجد إطار قصوري يكون التوءم المتحرك ثابتًا بالنسبة إليه على مدارِ رحلته.
-
من الجيد تفسيرُ ظواهر الزمكان بالنسبة إلى إطارٍ قصوري محدَّد؛ لأن الديناميكا تتحدَّد بالنسبة إلى تلك الأُطر، وإن كان مبدأ النسبية يعني أنَّ أيَّ تفسيرٍ ينبغي أن يكون متاحًا، بالقَدْر نفسه لأي إطار قصوري آخر.
إنَّ المجال في هذا الكتاب لا يتَّسع إلا لطرح هذه الثنائية، وليس حلَّها، وهي أعقدُ بالطبع وأدقُّ بدرجةٍ أكبرَ مما يمكنني تناوله هنا؛ إذ إنها لا تخلو من نسخٍ وسيطةٍ ومركَّبة من النهجَين. وعلى الرغم من أن رياضيات النسبية الخاصة قديمةٌ ومفهومة جيدًا، تظل هذه الأسئلة التأويلية بشأن النظرية مفتوحة، يكتب الفلاسفة وعلماء الفيزياء عنها ويفكِّرون فيها بطرقٍ مختلفة تمامًا.
خاتمة: النسبية العامة
إنَّ نظرية النسبية العامة لأينشتاين — والتي صاغها بعد عَقد أو نحو ذلك من النسبية الخاصة — من الموضوعات المركزية في الفيزياء الحديثة وفي الفلسفة الحديثة للزمكان، لكن التعقيد الفني للنظرية يجعل تناولَ الألغازِ المفاهيمية العميقةِ التي تطرحها خارجَ سياق هذا الكتاب. على الرغم من ذلك، يمكننا البناءُ على ما تعلَّمناه في هذَين الفصلَين الأخيرَين لفَهْم الفكرة الأساسية للنظرية على الأقل.
يمكن القول على وجهِ التحديد، إنَّ النسبية العامة تَدمُج بين الاكتشافات المتعلِّقة بالقصور الذاتي والجاذبية التي تناولناها في نهايةِ الفصل الثاني، وبين الاكتشافات الخاصة بالبنية القصورية وآثار مبدأ النسبية التي تشكِّل النسبية الخاصة. تذكَّر أنَّ الطبيعة العامة للجاذبية تخبرنا بأن البنية القصورية لا تقدَّم على أنها خلفيةٌ غير متغيِّرة على نطاقِ الكون بأكمله، بل إنها تتحدَّد محليًّا عن طريقِ توزيع المادة. ومن ثمَّ تُفهم الجاذبية في سياقِ انحناء الزمكان؛ أي من خلالِ كيفية ارتباط الأطر القصورية المحلية في مكانٍ ما بالأطر الأخرى في الأماكن القريبة.
في جاذبية نيوتن، فيزياء هذه الأطر القصورية المحلية هي فيزياء نيوتن. وتظهر النسبية العامة بطريقةٍ طبيعية من الناحية الرياضية وفريدة تقريبًا، حين نبقي على فكرةِ الجاذبية ونستغني عن مفهوم نيوتن للإطار القصوري، لنستخدم بدلًا منه المفهومَ الذي ينتج من النسبية الخاصة.
(على الرغم من ذلك، ثمَّة تغييرٌ مهم يظهر عند دمْج النسبية الخاصة مع الجاذبية. فمثلما أنَّ اصطلاح التزامن كان يعني عدمَ إمكانية الفصل بين بنية المكان وبنية الزمان فصلًا كاملًا، فإنه يعني أيضًا أنه لا يمكن أن توجَد نظريةٌ لانحناء الزمكان من دون أن تكون أيضًا نظرية لانحناء المكان. أما ما يعنيه هذا، وما هي تداعياته على الأسئلة الواردة في هذا الفصل والفصل الأخير، فهو خارج نطاق هذا الكتاب.)
حين نفهم النسبيةَ العامة بهذه الطريقة، فإننا نحظى أيضًا بلمحةٍ لما كانت عليه عبقرية أينشتاين. إنَّ عبقريته لا تقتصر على توصُّله إلى أفكارٍ جديدة؛ فالأفكار متاحة في واقع الأمر. وإنما عبقريته أنه فهِم بعض سمات الفيزياء الحالية — سواء مبدأ النسبية أو العلاقة بين الجاذبية والقصور الذاتي — فهمًا أعمقَ مما فهِمها سابقوه. لم يستغنِ أينشتاين عن نظريةِ نيوتن للجاذبية، ليضعَ مكانها نظريةً تتعلَّق فيها الجاذبية بانحناء الزمكان، بل إنه أدرك أن نظريةَ نيوتن عن الجاذبية هي «بالفعل» نظريةٌ عن انحناء الزمكان، ثم توصَّل إلى الشكل الذي ستبدو عليه النظريةُ إذا تغيَّر مفهومها المحلي عن القصور الذاتي على النحو الملائم.
تلك على الأقل، هي الطريقةُ التي يمكننا أن نفكِّر بها في النسبية العامة، إذا ركَّزنا على فكرةِ البنية القصورية والأطر القصورية. وثمَّة طريقةٌ مختلِفة لفهم النظرية: سنبدأ بالزمكان في تصوُّر منكوفسكي، ثم نسأل كيف يمكن تغييرُ النظرية لجعلِ الفاصلِ الزمكاني، أو المسافة الزمكانية كِيانًا ديناميكيًّا يعتمد على توزيعِ مادة الزمكان، ويتفاعل معها مرةً أخرى. تؤدي هذه الطريقةُ في التفكير بشأن النظرية إلى السمات الرياضية نفسها، لكنها تؤدي إلى فَهْم السمات الفيزيائية فهمًا مختلفًا بدرجةٍ كبيرة؛ إذ تتوسَّع الأسئلة التأويلية العميقة الواردة في هذا الفصل والفصل الأخير في النسبية العامة، حتى مع تحوُّلها وزيادة تعقيدها في السياق الرائع والدقيق لأفضلِ نظريةٍ معاصرةٍ عن الجاذبية.
على الرغم من أنه لا يزال يوجد الكثير مما يمكن قوله عن فلسفة المكان والزمان، فسوف نغيِّر تركيزنا الآن. فلن نتناول في الفصل الرابع أيَّ نظرية محدَّدة في الفيزياء، بل سنتناول العلاقةَ بين نظريات متعدِّدة على مستويات متعدِّدة من الوصف؛ أي إننا سنتناول مجالَ الميكانيكا الإحصائية.