الاختزال وعدم القابلية للانعكاس
يمكن القول إن الكيمياء الحديثة تبدأ باكتشاف «الجدول الدوري»، في القرن التاسع عشر، والذي يتمثَّل في اكتشافِ إمكانية تصنيف العناصر الكيميائية إلى مجموعات، بحيث يتيح موضعها في المجموعة التنبؤَ ببعض خصائصها. وبدأت كيمياء «الكم» الحديثة بالاكتشافات البالغة الأهمية التي وقعت في القرن العشرين، بأنه يمكن التنبُّؤ ببنيةِ تلك المجموعات وكذلك الخصائص الكيميائية لعناصرها بالطبع، من خلال فيزياء الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات التي تتألَّف منها هذه العناصر مثلما تعلَّمنا.
تشكِّل هذه الاكتشافات مثالًا من أوضحِ الأمثلة على «الاختزال» في العلوم، وهو ما يحدث حين يفسَّر النظامُ الأكبر من خلال مكوِّناته الأصغر، وحين يتبيَّن أن الأفكار في ذلك المجال العلمي الذي يتعامل مع ذلك النظام الأكبر، يمكن تحليلها عَبْر أفكار المجال العلمي الذي يتعامل مع المكوِّنات الأصغر؛ وفي هذه الحالة، تفسَّر الذراتُ من خلال الجُسَيمات دون الذرية، وثمَّة «جزء من» الكيمياء الذرية يفسَّر من خلال الفيزياء، أو يمكن القول إنه «يُختزل» إلى الفيزياء، على حدِّ تعبير الفلاسفة. تتمثَّل الاختزالية — للوهلة الأولى على الأقل — في فكرةِ أن مثلَ تلك الاختزالات هي القالب لجميع العلاقات بين النظريات العلمية، وأن المفاهيم العلمية والنظريات ذات المستوى الأعلى والنطاق الأكبر ستُختزل إلى نظرياتٍ ذات مستوًى أقلَّ ونطاقٍ أصغر، وسيتأسَّس كلُّ شيء على الفيزياء في نهاية المطاف.
زاد الحماسُ للاختزالية في النصف الأول من القرن العشرين، وقد رافقه في بعض الأحيان موقفٌ رافض من علماء الفيزياء ﻟما يطلق عليه «العلوم الخاصة» ذات المستوى الأعلى؛ ويتجسَّد هذا الموقف في تعليقٍ (ربما يكون ملفَّقًا) يُنسب إلى عالِم الفيزياء إرنست رذرفورد، يقول فيه: «العلوم كلُّها فيزياء، وإلا فهي جَمْع طوابع فحسب». غير أنَّ السنوات التالية لذلك شهدت ردةَ فعلٍ عنيفةً تجاه الاختزالية، مدفوعةً في ذلك بملاحظاتٍ عن تعقيد العلوم الخاصة واستقلاليتها، وكذلك عدم توافق تفاصيل الفيزياء مع سمات هذه العلوم الخاصة، إضافةً إلى المخاوف المستمرة المتعلِّقة بسمات التجربة البشرية — (التي يُفترض) أنها غيرُ قابلةٍ للاختزال جوهريًّا — مثل الألم والوعي، وغيرها أيضًا من السمات. وفي الوقت الراهن، يشيع القول إن العلوم ذات المستوى الأعلى «ناشئة» من الفيزياء، وليست «مختزَلة» إليها، ولا تزال العلاقةُ الدقيقة بين مفهومَي النشوء والاختزال محلَّ خلاف.
قد لا يبدو أنَّ لهذا صلةً كبيرة بالفيزياء. ذلك أنه إذا كانت الفيزياء هي العلم الذي تُختزل إليه العلوم الأخرى، وإذا كانت الفيزياء — بغضِّ النظر عن علاقتها بالعلوم الأخرى — هي المجال الذي يدرُس المادةَ على أصغرِ نطاقاتها وأكثرها جوهرية، فستبدو الاعتبارات الخاصة بالنشوء والاختزال للوهلة الأولى غيرَ ذات صلة بالفيزياء في حد ذاتها. لكن الحقيقة أنَّ جزءًا صغيرًا من الفيزياء هو ما يهتم فعلًا بدراسة «النطاقات الأكثر جوهرية». فمعظمُ الأنظمة التي يدرُسها علماء الفيزياء — أنوية الذرات، والمعادن، والبلازما، والمناخ، والمجرات — هي نفسها معقَّدة، كما أنها أنظمةٌ كبيرة النطاق وعلاقاتها بالفيزياء المنخفضة المستوى معقَّدة وغير مباشرة. وبناءً على هذا، فإن فَهْم الاختزال — وبشكلٍ أعم، العلاقة بين النظريات التي تقع على مستوياتٍ مختلفة — هو في حقيقة الأمر قضيةٌ مفاهيمية رئيسية لعلم الفيزياء ولفلاسفة الفيزياء. وسنرى أنه حتى في الفيزياء، فإن الاختزال مسألةٌ دقيقة وتتطلَّب مفاهيمَ جديدة تمامًا تتجاوز القوانين الديناميكية الأساسية في الفيزياء؛ ومنها مفهوم «عدم القابلية للانعكاس» ومفهوم «الاحتمالية». لقد دخل المفهومان إلى الفيزياء في القرن التاسع عشر، لكنهما لا يزالان محلَّ جدال حتى يومنا هذا.
نظرة في تعدُّدية الفيزياء
كثيرًا ما يجري الحديث عن «قوانين الفيزياء» وكأنه توجد مجموعةٌ واحدة من المبادئ، أو مجموعة واحدة من المعادلات تجسِّد محتوى الفيزياء. الحق أنني استسلمت لهذا الإغراء في الفصلَين الثاني والثالث؛ إذ أشرت إلى قوانين نيوتن وكأنها قد وصفت علم الفيزياء ما قبل النسبية وصفًا كاملًا، ولم تحلَّ محلَّها قوانينُ النسبية إلا قبل قرن أو نحو ذلك. لكن واقع الأمر أن الفيزياء تضم عشرات القوانين المختلِفة، بل المئات منها، وكذلك المئات من أنظمة المعادلات المختلفة، التي تصِف أنظمةً مختلفة على نطاقاتٍ مختلفة من الوصف.
-
تصف «معادلة نافيير-ستوكس» الموادَّ السائلة والغازية على المستوى الذي يمكن اعتبارها متصلة فيه وقابلة للقسمة بلا حدود؛
-
تصف «معادلة بولتزمان» الغازات المخفَّفة، وذلك على مستوًى أدقَّ إلى حدٍّ ما؛
-
تصف «معادلات أويلر» سقوطَ الأجسام الصلبة؛
-
تصف «معادلات ماكسويل» كيفيةَ تطوُّر المجالات الكهرومغناطيسية.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ هذه المعادلات تصِف العديدَ من الأنظمة المختلفة في معظم الحالات. لكن تطبيق القانون يتطلب أعدادًا حقيقية معينة — مثل لزوجة سائلٍ ما أو كتلة كوكبٍ ما — وتتفاوت هذه الأرقام من تطبيق إلى آخرَ. (فمن جانبٍ ما، المعادلات التي تصِف نظامَ الأرض-القمر هي «نفسها» التي تصِف نظامَ الشمس-المشتري، لكن بقيمٍ مختلِفة لكتلتَي الكوكبَين). في الحقيقة، ينبغي ألا نرى الفيزياءَ على أنها تقدِّم وصفًا واحدًا للعالَم، بل على أنها تقدِّم أوصافًا متعدِّدة لأنظمةٍ متعدِّدة على مستويات مختلِفة.
إنَّ البحث عن أوصافٍ مستقلة عامة غير تفصيلية من هذا النوع مهمةٌ تندرج ضمن علم «الميكانيكا الإحصائية»، وقد سمِّي هذا العلمُ بهذا الاسم؛ لأن إعطاء أوصافٍ عامة للأنظمة عادةً ما يتضمَّن التوصُّل إلى متوسط الخصائص الإحصائية لمكوِّناتها الأصغر. وقد حقَّقت هذه المسألة نجاحًا كبيرًا منذ بدايتها في أواخر القرن التاسع عشر، ولكنها تثير تساؤلاتٍ عميقةً للغاية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. التساؤل الأول والأبسط هو: لماذا نحتاج إلى هذه «الأوصاف المستقلة العامة غير التفصيلية» على أي حال؟ وإذا كان بإمكاننا وصفُ المادة الغازية بكل تفاصيلها المجهرية، فلماذا نكتفي بوصف جزئي؟
من الإجابات الشائعة عن هذا السؤال — لا سيما في كتب الفيزياء الدراسية — أن الميكانيكا الإحصائية ضروريةٌ بسبب حدودنا الإدراكية والتجريبية. ما يُقصَد بهذا أننا لا نمتلك القدرةَ في الواقع على قياس الموضع المحدَّد لكل جسيم بمفرده، وحتى إذا امتلكنا تلك القدرة، فمن الصعب للغاية أن نحلَّ المعادلات لحسابِ كيفية تغيُّر القيم بمرور الوقت. لو أننا كنا أذكى من ذلك وكانت لدينا أجهزةٌ أفضل، لاستطعنا التخليَ عن الميكانيكا الإحصائية بالكامل.
ومن الحجج التي يمكن ذِكرها في هذا السياق أننا لا «نهتم» إلا بسماتٍ معيَّنة في النظام. فنحن لا نهتم بالقيم الدقيقة لموضعِ جميع الجسيمات وسرعتها المتجهة، إنما يقتصر اهتمامنا على التلخيصات التقريبية لمواضعِ تلك الجسيمات وسرعاتها المتَّجهة؛ ومن ثَم فإن الميكانيكا الإحصائية تتيح لنا استخراجَ المعلومات التي نحتاجها عن سِمات النظام التي نريد أن ندرُسها بالفعل، دون أن تشتِّتنا التفاصيل غيرُ المهمة.
لكنَّ ثمَّة أسبابًا تدعو إلى التشكيك في أن هذه هي القصةُ كاملة. فعلى الرغم من كل شيء، يبدو أنَّ ثمة «حقيقة» عن العالم؛ حقيقةً نود تفسيرها وفَهْمها تتمثَّل في أن الموائع تخضع لمعادلة نافيير-ستوكس، أو أن قانون الغاز المثالي ينطبق على الغازات التي بلغت حالةَ التجانس واستقرَّت عليها، وإضافةً إلى ذلك يبدو أنَّ هذه الحقائق قد اكتُشفت قبل تحليلها عَبْر الميكانيكا الإحصائية بفترة طويلة. حتى إذا كانت لدينا القدرة الحسابية والتجريبية على التنبؤ الدقيق — في ظل معرفة الحالة الأولية — بكيفية تطوُّر نظامٍ ما مثل الهواء في غرفتي، فلا يبدو أن هذا وحدَه يخبرنا بسبب وجود الوصف المستقل العام غير التفصيلي، أو ماهيته. (أقصى ما يمكن أن يخبرنا به الوصف الدقيق للهواء في الغرفة على المستوى المجهري؛ أنَّ قانون الغاز المثالي ينطبق على هذا التشكيل للجزيئات، لكنه لا يخبرنا بما إذا كان من المتوقَّع أن ينطبق على تشكيلات الجزيئات بشكلٍ عام.)
إضافةً إلى ذلك، يبدو أنَّ دورَ الاهتمام البشري مُغالًى في تقديره في هذا المقام. لست في حقيقةِ الأمر مهتمًّا بهواء هذه الغرفة، إلا فيما يتعلق بالشروطِ الأساسية الخاصة بقابليته للتنفُّس، لكن على الرغم من افتقاري المؤسف إلى الفضول، فلا تزال هناك حقيقةٌ موضوعية تفيد بوجودِ أوصاف مستقلة غير تفصيلية بشأن ذلك الهواء. على العكس من ذلك، توجد سمات فردية في العالم أهتمُّ بها اهتمامًا كبيرًا، ومنها على سبيل المثال أرقامُ المبيعات الخاصة بهذا الكتاب. لكني لا أستطيع أن أفهمَ كيفيةَ تغيُّر معظمِها بمرور الوقت من دون معرفة الكثير عن السمات الأخرى الأقلِّ إثارةً للاهتمام، لا توجد ديناميكيات مستقلة لأرقام المبيعات الخاصةِ بكتابي! ومهما يكن ذلك الذي يجعل بعضَ السمات التقريبية قابلةً للوصف بشكلٍ مستقل، وعُرضة للتأثُّر بطرائقِ الميكانيكا الإحصائية، ولا يجعل بعض السمات الأخرى كذلك، فهو ليس شيئًا بسيطًا مثل «ما يهتم به البشر».
ما نراه هنا هو خلاف بين تصوُّرَين مختلفَين عن الميكانيكا الإحصائية. في التصوُّر «الاستدلالي»، الميكانيكا الإحصائية أداةٌ للاستدلال تُستخدم لدراسة الأنظمة المعقَّدة في مواجهة معرفتِنا الجزئية والاهتمام المتفاوت. وفي التصوُّر «الديناميكي»، تتعلق الميكانيكا الإحصائية بفَهْم الأوصافِ العامة غير التفصيلية المتنوِّعةِ الصحيحةِ موضوعيًّا الخاصةِ بالظواهر المعقَّدة وفَهْمها، وكذلك تعلُّم كيفيةِ ربطِ هذه الأوصاف بعضها ببعض. ووفقًا لهذا التصور، تُعَد الميكانيكا الإحصائية هي ببساطةٍ الأداةَ التي تستخدمها الفيزياء لدراسة الانبثاق. ونظرًا للأسباب الموضَّحة، فأنا أكثرُ ميلًا للتصور الديناميكي، وقد كُتب معظمُ هذا الفصل انطلاقًا من هذا المنظور، لكن كِلا التصورَين يطرحان رؤًى مميزة، وربما يكون الواقع أعقدَ مما يسمح بإمكانية الاختيار بينهما.
على الرغم من ذلك، فأيًّا كان المنظور الذي نختاره، ستوجد ألغازٌ عميقة بشأنِ كيفية استخلاص الأوصاف العامة غير التفصيلية التي نستخدمها بالفعل، من فيزياءَ تفصيلية. ويبدو في الواقع أنه توجد حججٌ منطقية بالفعل تفيد أنه يستحيل ذلك، وأن الأوصاف العامة غير التفصيلية لها سمات — سمتان على وجه التحديد وهما عدم القابلية للانعكاس والاحتمالية — وهذه السِّمات من حيث المبدأ لا يمكن استخلاصها من المستوى المجهري. في بقية الفصل، سنتعرَّف هذه السمات، ونتعلَّم أيضًا كيف يمكننا، على الرغم من كل شيء، تجنُّب التناقضات الواضحة التي تؤدي إليها في نهاية الأمر.
القابلية للانعكاس وعدم القابلية للانعكاس
تخيَّل أنك تشاهد مقطعَ فيديو مسرَّع للأرض وهي تدور، أو الأقمار والكواكب في المجموعة الشمسية وهي تدور حول بعضها بعضًا؛ فهل تستطيع أن تحدِّد إن كان الفيديو يسيرُ بالعكس أم لا؟ نعم، ربما، إذا تذكَّرت بعضَ المعلومات عن مراحل القمر أو تذكَّرت أن الشمس تطلُع من الشرق وتغرُب في الغرب، لكن المسألة تحتاج إلى التفكير. ما من شيء سيبدو «خطأ على الفور» بشأنِ الفيديو إذا كان يسيرُ بالعكس، فلا شيء «واضح» يدل على أن هناك خطأ ما. فحركةُ الكواكب تبدو واحدةً في الأساس، سواء كانت تسيرُ إلى الأمام أو بالعكس.
والآن، كرِّر الخدعةَ نفسَها مع كومةِ رمال تنهار، أو مع مزْجِ الحليب بالقهوة، أو ذوبان الثلج (مع زيادة السرعة)، أو نموِّ الكائنات الحية وتحلُّلها. في هذه الحالة، يغدو واضحًا تمامًا إن كان الفيديو يسيرُ بالعكس أم لا؛ فهناك سِمات فورية لكل هذه العمليات تخبِرنا باتجاه تقدُّم الفيديو.
المصطلح التقني الذي يُطلَق على هذه العمليةِ هو «القابلية للانعكاس». فحركاتُ الكواكب قابلةٌ للانعكاس، أما انهيار كومة الرمال وذوبان الثلج فهما عمليتان غير قابلتَين للانعكاس. وحقيقةُ أن بعض العمليات الديناميكية قابلةٌ للانعكاس وبعضها غير قابل للانعكاس تطرح صعوباتٍ عميقةً في الميكانيكا الإحصائية.
لإدراك ذلك، لِنتطرق إلى المعنى الدقيق لمصطلح القابلية للانعكاس. سنبدأ بتصوُّر قوانين الديناميكا في الفيزياء باعتبارها أجهزةً للتنبؤ بالمستقبل؛ إذا أدخلت الحالةَ الحالية للنظام الذي تنطبِق عليه هذه القوانين، فسيعطي الجهازُ الحالةَ التي سيصبح عليها النظام في غضون ثانية أو في غضون ساعة. بالنسبة إلى الهواء في الغرفة على سبيل المثال، إذا أدخلت مواضعَ كل الجسيمات في الوقت الحالي وسرعاتها المتجهة، فستحدِّد القوانين مواضعَ الجسيمات وسرعاتها المتَّجهة في أي وقتٍ مستقبلي يعنيك، لكن ذلك على افتراض عدم وجود أيِّ تدخلات خارجية مؤثِّرة. وفي حالة المجموعة الشمسية، ففور تحديدِ مواضعِ الكواكب في الوقت الحالي وسرعاتها المتجهة، فإنَّ هذا يكفي لتحديد تلك المواضع والسرعات المتجهة في المستقبل؛ ويمكننا استخدامُ هذه القوانين للتوصُّل إلى تواريخ الكسوف الشمسي في المستقبل على سبيل المثال. وعلى الرغم من أنَّ حلَّ معادلات الحركة لمزْجِ الحليب مع القهوة أمرٌ في غاية التعقيد والصعوبة، فمن حيث المبدأ، إذا أدخلت البيانات المبدئية عن الجزء المملوء بالقهوة في الفنجان والجزء المملوء بالحليب، فستمكنك هذه البيانات أيضًا من التنبؤ بتلك الحقائق في أي وقتٍ في المستقبل. كل القوانين التي تناولناها حتى الآن حتميةٌ، مما يعني أن أي مدخلات محدَّدة ستعطي مخرجاتٍ فريدة في كل وقت محدَّد في المستقبل.
يتجسَّد جوهر الانعكاس في أنَّ كل القوانين الانعكاسية يمكن استخدامها من أجل التنبؤ بالماضي، أو للاستنتاج الرجعي كما يطلِق عليه الفلاسفة في بعض الأحيان. فحركة الكواكب قابلةٌ للانعكاس، أي إنه يمكن استخدامُ البيانات الحالية عن الكواكب بمنتهى السهولة؛ لتحديدِ ظواهر الكسوف في الماضي وفي المستقبل. (هذه المسألة مهمة في التاريخ القديم على سبيل المثال؛ فمعرفة المواعيد الدقيقة لظواهر الكسوف والخسوف التي حدثت في الماضي، ستساعد المؤرِّخين على تأريخ مصدرٍ ما تأريخًا دقيقًا إذا ذَكر ذلك المصدر إحدى وقائع الكسوف.) أما مزْج الحليب أو ذوبان الثلج فهو عمليةٌ غير قابلة للانعكاس؛ فثمَّة معلوماتٌ تُفقَد في العملية؛ ومن ثمَّ يتوافق العديد من الحالات الأولية لفنجان القهوة أو الشراب البارد مع الحالة النهائية نفسها. وبقدرِ ما يمكننا استخدام ديناميكيات الأنظمة غير القابلة للانعكاس لتعلُّم أشياء عن حالتها السابقة، فينبغي أن يحدث ذلك بشكل غير مباشر وعَبْر افتراضات أساسية إضافية.
ثمَّة مفهومان مرتبطان أحدهما بالآخر يساعدان في فَهْم أهميةِ القابلية للانعكاس. يصبح النظام تكراريًّا إذا كرَّر نفسه إلى ما لا نهاية، حتى إننا إذا أدخلنا فيه بعضَ البيانات الأولية، فستتطابق بياناتُ النظام في وقتٍ مستقبلي مع تلك البيانات الأولية. ويقال إنَّ للنظام «منطقة جاذبة» إذا كانت به حالةٌ ما (أو مجموعة من الحالات التي لا تتضمَّن كل الحالات) بحيث إنه مهما كانت الحالة الأولية للنظام، فسينتهي به الأمر إلى الحالة (الحالات) الجاذبة ثم يستقر فيها إلى أجلٍ غيرِ مسمًّى. (في الميكانيكا الإحصائية، كثيرًا ما يُطلَق على الحالات الجاذبة «حالات التوازن» ويُطلَق على العملية التي تتمثل في التطوُّر نحوها اسم «الاتزان»).
بشكلٍ عام، لا تصبح الأنظمةُ تكراريةً إلا في حالة واحدة وهي أن تكون انعكاسية؛ ولا يصبح لها حالات جاذبة إلا في حالة واحدة وهي أن تكون غير انعكاسية. وبناءً على هذا، يمكننا استخدامُ مصطلح «الأنظمة التكرارية» بدلًا من «الانعكاسية»، ومصطلح «الحالات الجاذبة» بدلًا من «غير الانعكاسية». وتكمن الحجةُ في جوهرها في فكرةِ أنه إذا كان النظام غيرَ تكراريٍّ، فستكون هناك حالاتٌ يغادرها النظام ولا يعود إليها أبدًا؛ ومن ثمَّ تصبح مجموعةُ الحالات — باستثناء الحالات السالفة الذِّكر — منطقةً جاذبة، ويدخل النظام هذه المنطقةَ من دون رجعة. (توجد بعض المحاذير هنا؛ وأهمُّها أن النظام الذي ندرُسه ينبغي أن يكون محصورًا في منطقةٍ معينة كأن يكون صندوقًا أو غرفة.)
يمكننا أن نرى الآن السببَ في أنَّ عدم الانعكاس يثير مشكلةً في الميكانيكا الإحصائية. ففيزياء الأنظمة على المستوى المجهري مثل فيزياء الجسيمات الفردية في الغاز المخفَّف تبدو قابلةً للانعكاس، لكن فيزياء الأنظمة على المستويات الأكبرِ مثل فيزياء الغاز على مستوى الموائع عادةً ما تكون غيرَ قابلةٍ للانعكاس. وهذا (مبدئيًّا) يجعل من المستحيل أن تكون الأنظمةُ غيرُ الانعكاسية نسخةً مبسَّطة من الأنظمة الانعكاسية.
لِنستخدم مفهومَي التكرار والمناطق الجاذبة لتوضيحِ هذه المسألة. إذا كان النظام المجهري تكراريًّا، فإن أي حالة من النظام ستعود إلى نقطةِ البداية في نهاية المطاف. ولكن هذا يعني كذلك أن أيَّ وصف «مبسَّط» للنظام سيعود هو أيضًا في النهاية إلى نقطة البداية. بعبارةٍ أخرى، إذا كان النظام تكراريًّا، فإنَّ أيَّ وصف مبسَّط لذلك النظام لا بد أن يكون تكراريًّا هو الآخر.
يمكننا أيضًا أن نشرح المسألة بالترتيب المعاكس. لِنفترض أن الوصف المبسَّط غير التفصيلي له منطقةٌ جاذبة، ولْنفترض أن نقطةَ البداية لذلك النظام تقع خارجَ المنطقة الجاذبة. فهذا يعني أن النظام سيدخل إلى المنطقةِ الجاذبة ولن يخرج منها أبدًا. ولكن في هذه الحالةِ، لن يكون النظام المجهري تكراريًّا. على الرغم من ذلك، فعند التفكيرِ في المسألة، نجد أنه لا يمكن للفيزياء غيرِ الانعكاسية العِيانية أن تنبثِق من الفيزياء الانعكاسية المجهرية.
الأدقُّ أن نقول إنها لا يمكن أن تنبثِق حتى يُضاف مكوَّن آخرُ إضافي. وما تخبرنا به هذه الحجج أن النُّسخ المبسَّطة لا يمكن أن تكون هي القصة بأكملها، بل لا بد أن هناك افتراضاتٍ أخرى أو شروطًا تُضاف إلى الفيزياء الانعكاسية المجهرية حتى يظهرَ عدمُ القابلية للانعكاس على مستوًى مبسَّط. ولفَهْم ما قد تكون عليه هذه العناصر الإضافية، نحتاج إلى النظر في السِّمة الثانية للفيزياء العيانية والتي لا توجَد في الوصف التفصيلي الدقيق وهي: الاحتمالية.
الاحتمالية في الميكانيكا الإحصائية
ذكرتُ في القِسم السابق أن كل القوانين التي تناولناها «حتميةٌ»؛ فهي تعطي تنبؤاتٍ فريدة عن المستقبل بناءً على الحاضر. على الرغم من ذلك، فليس كلُّ قوانين الفيزياء على هذه الشاكلة. يبدو أن فيزياء الجسيمات دون الذرية تنطوي على عشوائيةٍ أصيلة، وهذا ما سنكتشفه بمزيدٍ من التفاصيل في الفصلَين الخامس والسادس. لكن حتى في خارج نطاق هذا العالمِ الغريب، توجد ظواهرُ في الطبيعة تحيدُ عن هذا الوصفِ الحتمي، وإن كان ذلك على المستوى الذي ندرُسها فيه على الأقل.
تُعَد الحركةُ البراونية من الأمثلة الكلاسيكية على ذلك. إذا عَلقت حبَّة لقاح في سائل وفُحِصت تحت المجهر، فستُرى وهي تهتزُّ — بشكلٍ عشوائي على ما يبدو — بسبب تصادمها المستمر مع جزيئات الماء. (لا تعبِّر الاهتزازات عن مراتِ التصادم الفردية، بل متوسط العديد من التصادمات.) وليس من الممكن صياغةُ معادلات حتمية لهذه الاهتزازات، فحتى مع توفُّر المعلومات التامة عن الموضع المبدئي للحبَّة وسرعتها المتجهة ليس ذلك كافيًا لتحديدِ سلوكها التالي. على الرغم من ذلك، يمكن صياغةُ ما يُطلَق عليه «معادلة تصادفية» لحبَّة اللقاح؛ وهي معادلة لا تَذكر ما ستفعله حبَّة اللقاح بالتحديد، بل تخبِرنا بمدى أرجحية كلِّ اهتزازة محتمَلة. (على سبيل المثال، يمكن أن تنصَّ المعادلة على أن احتمالات قفزِ الحبَّة متساوية بالنسبة إلى جميع الاتجاهات، وأن متوسط طول القفزة يساوي ١٠ ميكرونات، وأن احتمالية حدوث القفزات الأطول أو الأقصر تساوي القيمة كذا أو كذا.) المعادلات التصادفية قابلةٌ للاختبار تمامًا (عن طريق تكرار إجراء عمليات الرصد وجَمْع الإحصاءات) كما أنها تطرح أوصافًا مفيدةً وغنية بالمعلومات عن العديد من الأنظمة.
والآن، من المغري القول إن العشوائيةَ الظاهرة في سلوكِ حبَّة اللقاح ليست عشوائية «حقيقية». أفلا نستطيع إذا جمعْنا كلَّ المعلومات المضبوطة والدقيقة مجهريًّا عن جزيئات الماء، أن نتنبأ بالسلوك التالي لحبَّة اللقاح على نحوٍ «حتمي»؟ ربما. لكننا إن فعلنا ذلك نتخلَّى عن فكرة طرح وصف «مستقل» لديناميكيات حبَّة اللقاح، والوصف المستقل وهو — مثلما تتذكَّر — هدفنا في الميكانيكا الإحصائية. ونحن لم نتخلَّ عن الفكرة بسبب عدم وجود وصفٍ لهذه الحالة، بل لأننا لا نسمح لهذا الوصفِ المستقل بأن ينطويَ على احتمالات. ومن المنظور المعاكس، توضِّح الحركة البراونية أن القصةَ التي نسرُدها عن كيفية انبثاق الفيزياء العِيانية من الفيزياء المجهرية لا بد أن تسمح بمساحةٍ لعدم الانعكاس وللاحتمالية أيضًا.
وليس هذا تكهنًا فحسب. فلعلماء الفيزياء طريقةٌ خاصة في اختيار الاحتمالات — تسمَّى «مقياس الاحتمالية الموحَّد» — وهي تنصُّ بصفةٍ عامةٍ على أن كل حالةٍ مجهريةٍ متوافقة مع الوصف العياني للنظام لها درجةُ الاحتمالية نفسها. (الحق أنها تنصُّ على شيءٍ أدقَّ من ذلك، حيث إنه يوجد عددٌ لا نهائي من هذه الحالات بالمعنى الحرفي للكلمة.) وإذا بدأنا بمقياس الاحتمالية الموحد، فلن يكون من الصعب حسابُ المعادلات الخاصة بالحركة البراونية، بما فيها الاحتمالات. يمكننا تلخيصُ المسألة تلخيصًا تخطيطيًّا بالمعادلة التالية:
نعم، ليس مؤكدًا أن النظام سيخضع لقوانين عدم الانعكاس — ولا يمكن أن يفعل ذلك إلى الأبد — ولكن من شِبه المؤكد أنه سيخضع لتلك القوانين مدةً طويلة من الزمن.
ليس هذا محضَ احتمال مبدئي. فالطريقة الفعلية التي يستخدمها علماء الفيزياء لصياغة معادلاتٍ عامة من الفيزياء المجهرية؛ هي بالتحديد فرض مقياس الاحتمالية الموحَّد، ثم استنتاج الديناميكيات المبسَّطة؛ وهذه الطريقة «ناجحة» بالمعنى العملي للكلمة بدليل أنَّ المعادلات المشتَّقة تتطابق مع التجربة. ثمَّة معادلة تخطيطية أخرى يمكننا كتابتها على النحو التالي
إنَّ هذه التصورات — أنَّ الميكانيكا الإحصائية تتطلَّب إضافةَ عنصر الاحتمالية إلى الفيزياء المجهرية، وأنَّ ذلك يتيح إعادةَ إنتاج عدم الانعكاس عمليًّا — هي الأساس المفاهيمي للميكانيكا الإحصائية الحديثة. وقد حقَّقت هذه نجاحاتٍ عميقةً؛ إذ تَدعم مجموعةً كبيرة من العلوم التي تؤتي ثمارَها على المستوى التجريبي. على الرغم من ذلك، فهي لا تكفي لحل الإشكالية المفاهيمية للميكانيكا الإحصائية، ويعود ذلك إلى سببَين: أولهما هو غموض مفهوم الاحتمالية، وثانيهما أنه من غير الممكن منطقيًّا أن يفسِّر هذا المفهوم بمفرده ظهورَ عدم الانعكاس على أي حال.
ما هي الاحتمالات الإحصائية؟
لِنفهم مقياسَ الاحتمالية الموحَّد — بوجهٍ عام — على أنه بيانٌ ينصُّ على تساوي الاحتمالية لتوافق كل حالةٍ مجهريةٍ مع وصفٍ عيانيٍّ محدَّد. فما الذي يعنيه ذلك في حقيقة الأمر؟
أنا لا أعرف ماهيةَ الحالة الفعلية؛ لذا أعتقد أنَّ الاحتمالية متساويةٌ لكلٍّ منها. وبناءً على هذا، فإنَّ مقياس الاحتمالية الموحَّد يعبِّر عن جهلي بالحالة الحقيقية.
يتلاءم هذا النهج بصورةٍ طبيعيةٍ مع ما أسمِّيه «التصور الاستدلالي» للميكانيكا الإحصائية، متمثلًا في الفكرة القائلة بأن الميكانيكا الإحصائية هي مجموعة أدواتٍ تُتيح لنا التوصُّل إلى استدلالاتٍ عن الأنظمة المعقَّدة، في ظل القيود التي يفرضها علينا جهلنا. ويتَّسم هذا النهج بخاصية الوضوح؛ فمن المقبول على نطاقٍ واسع — في الفيزياء والفلسفة على حدٍّ سواء — أن تُستخدم الاحتمالات لتحديد مدى تأكُّدنا من شيءٍ ما أو عدم تأكدنا منه.
على الرغم من ذلك، فإنَّ هذا النهجَ يتشارك العيبَ الرئيسي في التصوُّر الاستدلالي ويزيده وضوحًا: أنه يبدو من غير الملائم أن نفسِّر الظواهر الموضوعية المنتظِمة العيانية التي نرصدها في الطبيعة. ففي حالة الحركة البراونية على سبيل المثال، تبدو حقيقةً موضوعيةً أن احتماليةَ قَفْز الجُسَيم في اتجاهٍ ما تتساوى مع احتمالية قفزه في اتجاهٍ آخر، ويمكننا اختبارُ هذه الحقيقة من خلال جَمْع الإحصائيات للعديد من حبوب اللقاح. كان يمكننا أن نعرف ذلك، بل إننا عرفنا ذلك بالفعل، قبل أن نستوثقَ من وجود جزيئات الماء الفردية، فضلًا عن طبيعتها الفيزيائية المفصَّلة؛ ولهذا من الصعبِ أن نُدرك كيف يمكن أن يكون لتلك الإحصائيات المرصودة علاقةٌ كبيرةٌ بجهلنا بالمواضعِ الدقيقة لجزيئات الماء وسرعاتها المتجهة.
(ثمَّة مشكلة أخرى فنية بدرجةٍ أكبر في هذا النهج. فمثلما ذكرتُ بإيجازٍ سابقًا، فإن مقياس الاحتمالية الموحَّد لا يُوصف بأنه «تَساوي درجة الاحتمالية لكل حالة» إلا على سبيل المجاز. أما في الواقع، فيوجد عددٌ لا نهائي من الحالات المتوافقة مع أي وصفٍ عياني، وتلك مسألةٌ أكثر إثارة للجدل وتعقيدًا من أن نذكر الطريقة «الصحيحة» للتعبير عن جهلنا بالحالة الحقيقية.)
ما أعنيه حقًّا بالاحتمالية في هذا المقام هو التواتر فحسب. يوجد العديد من الأنظمة التي تشبه هذا النظام؛ ومقياس الاحتمالية الموحَّد هو مقياس للتواتر النسبي للحالات الدقيقة عَبْر كلِّ تلك الأنظمة.
غالبًا ما يكون هذا «التأويل بالتواتر» للاحتمالات هو ما نجده في الكتب الدراسية، لكنه أيضًا تأويل غير مرضٍ تمامًا. فمن ناحيةٍ ما، لا يبدو أن هذا التواتر ملائمٌ لتفسيرِ السبب في اتخاذ هذا النظام بالتحديد لذلك السلوك الذي يسلكه. ومن ناحية أخرى، يوجد العديد من الأشياء التي قد يعنيها «نظام مثل هذا»، وفي أحسن الأحوال، لن يكون الأمر مريحًا إذا انتهى تفسيرنا لظاهرةٍ مركزيةٍ في الميكانيكا الإحصائية، مثل عدم القابلية للانعكاس، بالاعتماد على أسئلةٍ تتعلق بالتصنيف على هذا النحو.
يوجد الكثير مما يمكن أن يُقال تأييدًا لكلٍّ من التفسير القائم على الجهل والقائم على التواتر، غير أنه لا توجد نسخةٌ لأيٍّ منهما يقبَلها الجميع، وهما لا يستنفدان كلَّ الاحتمالات. (ومن وجهة نظري الضئيلة إلى حدٍّ ما، فإننا بحاجةٍ إلى طريقةٍ لإضافة الاحتمالات صراحةً إلى فيزياء الأنظمة الفردية، والأصل النهائي لتلك الاحتمالات ميكانيكي كمومي). الحق أنَّ تفسيرَ الاحتمالات في الميكانيكا الإحصائية من ألغازها الفلسفية المركزية، ويليه في ذلك مشكلةُ عدم القابلية للانعكاس، التي أعود إليها الآن.
الانعكاس يولِّد الانعكاس
لدى مبرمجي الكمبيوتر مقولةٌ شهيرة: «المُدخَلات الخاطئة تولِّد مُخْرجات خاطئة». ترمي هذه المقولة إلى أنه مهما بلغت مهارةُ البرنامج، فإنه يعمل في النهاية وفقًا لمُدخَلاته؛ وإذا كانت تلك المُدخَلات معيبة، فسينتقل العيب إلى المُخرَجات. يحيا فلاسفة الميكانيكا الإحصائية بمقولةٍ مماثلة: «القابلية للانعكاس تولِّد القابلية للانعكاس». معنى هذه المقولة أنه إذا كانت الفيزياء المنبثِقة العيانية غيرَ انعكاسية، وأنت تدَّعي أنك اشتققت تلك العمليةَ غيرَ الانعكاسية من فيزياء انعكاسيةٍ مجهرية عن طريق بعض الافتراضات، فإما أنك تغُشُّ أو أن افتراضًا أو أكثر من هذه الافتراضات مبنيٌّ على الافتراض الضمني بعدم القابلية للانعكاس.
هذه النقطة مهمةٌ وتستحق التوضيح والشرح. تضع العمليةُ غير الانعكاسية فرقًا جوهريًّا بين الماضي والمستقبَل؛ فالنظر إلى المعادلات الديناميكية كفيلٌ وحدَه بأن يميز بين الماضي والمستقبل. غير أنَّ هذا لا يتحقق في العملية الانعكاسية؛ إذ يمكننا اعتبار كِلا الاتجاهَين في الزمن على أنهما «ماضٍ» أو «مستقبَل»، ويكون لكلَيهما الصلاحية نفسُها فيما يتعلق بالرياضيات على الأقل. إذا اشتققنا إذن إحدى العمليتَين من الأخرى، فلا بد من أنَّ شيئًا قد أضيف في أثناء الاشتقاق للإخلال بالتناظر بين الماضي والمستقبَل.
وهنا، نميل إلى طرح السؤال: ما الذي «يمكن» أن يخلَّ بالتناظر على هذا النحو؟ (عند هذا الحد يمكن أن يصبح التخمين غيرَ منضبط.) لكن ثمَّة طريقة أفضل للإجابة عن السؤال: بما أن علماء الفيزياء لديهم طريقةٌ لاشتقاق المعادلات المبسطة غير الانعكاسية، بناءً على إضافة مقياس الاحتمالية الموحَّد إلى الفيزياء المجهرية، ففي أي مرحلةٍ تخلُّ تلك الطريقة بالتناظر؟
الحق أنَّ لهذا السؤال إجابةً بسيطة، وإن كان ذلك من حيث المبدأ على الأقل. ربما تتذكَّر أنَّ مقياس الاحتمالية الموحَّد هو الافتراض القائل بتساوي درجةِ الاحتمالية لكل حالةٍ مجهريةٍ متوافقةٍ مع الوصف المبسَّط لنظامٍ ما. ثمَّة جزءٌ صغيرٌ من تلك الحالات المجهرية لن يتسم بالديناميكا المبسَّطة المتوقَّعة، ولكن الغالبية العظمى منها ستفعل؛ ومن ثمَّ يمكننا أن نكون شبه واثقين من ظهور تلك الديناميكا في الواقع. ويمكننا حينئذٍ أن نطرح السؤال: إذا كان مقياس الاحتمالية الموحَّد مفروضًا على الحالةِ الأولية للنظام، فهل سيظل ينطبق على الحالات المتأخِّرة؟ والإجابة هي أنه لن ينطبق؛ ذلك أننا إذا عكفنا على دراسة النظام مدةً محدَّدة من الوقت على سبيل المثال، بحيث يكون من المنطقي أن نتحدَّث عن حالته النهائية مثل حالته الأولية على حدٍّ سواء، فسيكون توزيع الاحتمالية للحالة النهائية مختلفًا تمامَ الاختلاف عن مقياس الاحتمالية الموحَّد.
يمكننا أيضًا أن نرى ذلك الأمرَ بطريقة أخرى. افترض أننا تجاهلنا الادعاءَ بأن الحالة «الأولية» للنظام هي حالته الأولى في الحقيقة، وطوَّرنا النظام بالعكس (تذكَّر أنه يمكننا ذلك لأن الديناميكيات المجهرية انعكاسية). وفقًا للتناظر، حريٌّ بنا أن نتوقَّع أن الوصف المبسَّط لذلك التطور العكسي سيعطينا نسخةً منعكسة زمنيًّا للديناميكا العيانية غير الانعكاسية؛ فهي ديناميكا قابلةٌ للانعكاس زمنيًّا تتيح لنا التنبؤَ بالوصف الشامل المبسَّط في الماضي، بناءً على القيمة في الزمن الحاضر. لنزِد الأمرَ وضوحًا: إذا طبَّقنا مقياسَ الاحتمالية الموحَّد على حالةٍ من القهوة، حيث يُمزج بها الحليب جزئيًّا ثم تطوَّر الأمر بطريقةٍ عكسية، فسنتنبأ (نستنتج بشكلٍ رجعي في الواقع) أن القهوة والحليب كانا أكثرَ امتزاجًا في الماضي. بناءً على هذا النهج، فإن تاريخ فنجان القهوة يبدأ بمَزْج القهوة بالحليب مزجًا تامًّا، والمرور بفترةٍ وجيزةٍ من عدم المزج، ثم بَدْء المزج مرةً أخرى. واللحظة التي تشهد الدرجة الأدنى من المزج هي اللحظة التي فرضنا فيها مقياس الاحتمالية الموحَّد.
نفهم من هذا أنه إذا كانت الغالبية العظمى من الحالات ستتطوَّر إلى المستقبَل وفقًا للديناميكا غير الانعكاسية، فإن الغالبية العظمى من الحالات — بالقدْر نفسه — ستتطور إلى الماضي وفقًا للديناميكا غير الانعكاسية المعكوسة زمنيًّا. وكما قال الفيلسوف ديفيد ألبرت، فإن الغالبية العظمى من الحالات «في سبيلها إلى التغيُّر للحالة المعاكسة». وهذا بدوره يعني أنه إذا تحدَّدت الحالة الأولية للنظام وفقًا لمقياس الاحتمالية الموحَّد، فإن احتمالات الحالة النهائية تتركَّز في عددٍ ضئيل للغاية من الحالات، التي كانت تتبع قوانين الديناميكا العادية غير الانعكاسية (غير المعكوسة زمنيًّا) في الماضي.
المحصِّلة من هذا كلِّه أننا بتطبيق مقياس الاحتمالية الموحَّد، فإننا نختار لحظةً زمنية مفضَّلة. ولا تتنبأ الميكانيكا الإحصائية بعدم القابلية للانعكاس، إلا إذا كنا نصرُّ على أن تلك اللحظة المفضَّلة هي اللحظة الأولى في النظام. ويُفيد ذلك كثيرًا في التنبؤ بسلوك النظام في مراحلَ لاحقة، لكنه يعطي تنبؤاتٍ خاطئةً للغاية عن كيفية تطوُّر النظام قبل تلك اللحظة.
ما الذي يسوِّغ ذلك إذن؟ ثمة إجابتان عن هذا السؤال، وهما مختلفتان تمامَ الاختلاف، يتوافق كلٌّ منهما مع التصورَين المختلفَين للميكانيكا الإحصائية اللذَين ناقشناهما سابقًا.
أصول عدم الانعكاس
تذكَّر أنه بناءً على التصوُّر الاستدلالي للميكانيكا الإحصائية، تتمثَّل فكرةُ المشروع في توفير الأدوات لدراسة الأنظمة حينما لا يكون لدينا سوى معلومات جزئية عنها؛ أي حين لا يكون لدينا سوى معلومات مبسَّطة عنها مثلًا. ومن ذلك المنطلَق، فقد يكون مقياس الاحتمالية الموحَّد هو أفضل أداة يمكننا استخدامُها، فيما يتعلَّق بطَرْح تنبؤاتٍ عن «مستقبل» نظامٍ ما. أما حين يتعلَّق الأمر بطرح تنبؤاتٍ عن «ماضي» نظامٍ ما، فخياراتنا أفضل من ذلك بكثير؛ إذ إنَّ لدينا بالفعل سجلاتٍ للماضي ومعلوماتٍ عنه. إنَّ محاولة التوصُّل إلى استنتاجاتٍ عن الماضي باستخدام مقياس الاحتمالية الموحَّد فحسب، هي محاولةٌ تقتصر على استخدام جزءٍ ضئيلٍ للغاية من المعلومات التي لدينا؛ لا عجب إذن في أنها تُعطينا نتائجَ سيئة.
وبالمثل أيضًا، لنفترض أننا نحاول بالفعل إعدادَ نظام ثم نراقب كيفيةَ تطوُّره؛ فنعد النظام بحيث يتضمَّن وصفًا مبسطًا بقَدْر معيَّن، لكننا نفتقر إلى الدقَّة التجريبية لتثبيت حالته المجهرية الدقيقة. ومن ثمَّ فنحن جاهلون بتلك الحالة المجهرية، ومقياس الاحتمالية الموحَّد طريقةٌ طبيعية للتعبير عن ذلك الجهل. وإذا أردنا أن نتنبأ بحالةِ النظام في أوقاتٍ لاحقة، فإن طرق الميكانيكا الإحصائية هي أفضل خياراتنا. على الرغم من ذلك، فسيكون من الحماقة بالطبع إذا حاولنا التنبؤ بحالةِ النظام في أوقات سابقة باستخدام تلك الطرق. ذلك أنها تفترض أن النظام يتطوَّر وفقًا لقوانين الديناميكا الخاصة به، ومن دون تأثيرٍ خارجي، ونحن نعلم أن هذا ليس صحيحًا في ماضي النظام؛ لأن عملية الإعداد التي أجريناها هي ذلك «التأثير الخارجي».
الفكرة المركزية هنا هي أن الفرق بين الماضي والمستقبَل في الميكانيكا الإحصائية، ليست سوى نتيجةٍ للفرق الذي تفرضه طبيعتنا، بصفتنا كِيانات عاقلة وقائمين بالتجارب. فذكرياتنا وقدراتنا على التدخُّل في العالم تحدِّد اتجاهًا في الزمن، وعدم القابلية للانعكاس في الميكانيكا الإحصائية يتبع ذلك الاتجاه.
الحق أنَّ هذا النهج منمَّق وله شعبيته الكبيرة بين بعض علماء الفيزياء، لا سيما المهتمين بنظرية المعلومات. غير أنَّ الثمن غالٍ مقابل هذا التنمُّق؛ فباتخاذ إدراكنا البشري باعتباره «المُدخل» لاتجاه الزمن، فإنه يستبعد أيَّ محاولة لشرح مصدر ذلك الاتجاه نفسه. وبسبب التفسير الدائري تحديدًا، «يبدو» أنه لا يمكن اللجوءُ إلى عدم التناظر وعدم الانعكاس في الفيزياء العيانية، لشرح السبب في أننا نمتلك في الواقع — باعتبارنا أنظمة فيزيائية — القدرةَ على تذكُّر الماضي والتأثير في المستقبل، وليس العكس. إضافة إلى ذلك، يبدو أن النهج يفتقر إلى الموارد التي تفسِّر السببَ في الحقيقة الواضحة، المتمثِّلة في أنَّ الكثير من العمليات الفيزيائية المتنوِّعة المنتشرة في الكون تتسم بخاصيةِ عدم القابلية للانعكاس، حتى حينما لا يكون لنا علاقة بها. فظواهر مثل ذوبان الجليد وثوران البراكين وميلاد النجوم وموتها، كلُّها تقع خارج نطاق سيطرتنا، ومن الجلي أنها تتبع قوانين عدم القابلية للانعكاس.
ما البديل إذن؟ تذكَّر أنَّ مقياس الاحتمالية الموحَّد هو حالةٌ أولية معيَّنة في النظام؛ فهو ينجح في توليد الديناميكا غيرِ الانعكاسية في المستقبل، لكن ليس في الماضي. فكلَّما أبكرنا في فرضِه على أي نظام، طالَت المدة التي تعمل فيها طرائقُ الميكانيكا الإحصائية. إنَّ الحالة المقيِّدة بسيطةٌ بقَدْر ما هي خطيرة: فرض الحالة على الكون ككل، في بداية الزمن.
إنَّ الاسم العام لحالةٍ من هذا النوع هو «فرضية الماضي»؛ ويُقصَد بها تحديدُ التفاصيل المجهرية الدقيقة للكون بعد الانفجار العظيم. لا تزال تفاصيلُ ما ينبغي أن تكون عليه هذه الفرضية محلَّ خلافٍ إلى حدٍّ ما (فحينما ننظر إلى التفاصيل، نجد أن هناك احتمالات أكثر من مجرد فرض مقياس الاحتمالية الموحَّد)، لكن الفكرة الأساسية مشتركة بين جميع التنويعات على اختلافها؛ فعدم الانعكاس بحاجةٍ إلى حالةٍ أولية بالإضافة إلى الديناميكا المجهرية الانعكاسية، وهي لا تنطبق إلا بعد فرض ذلك الشرط؛ إذا كان عدم الانعكاس إحدى سِمات العالم التي تتسم بالموضوعية ولا تتوقف علينا، فإننا بحاجةٍ إلى التعامل مع فَرْض تلك الحالة باعتبارها حقيقةً عن العالم، لا عن طريقة تفاعلنا معه فحسب. ولفرض الحالة باستمرار، فإننا نرجع إلى الوراء أكثرَ فأكثر حتى ينتهيَ بنا الأمر إلى فرضها عند خلق الكون.
لا شك أنَّ فكرة أنَّ حالات عدم الانعكاس المرصودة التي نراها هنا والآن لها أصلٌ في علم الكونيات؛ هي فكرةٌ مفاجِئة، بل غريبة. لكن إذا تبنينا تصورًا ديناميكيًّا للميكانيكا الإحصائية؛ وإذا كنا نريد حقًّا أن نرى النظريةَ على أنها تفسيرٌ للفيزياء العيانية المنبثقة والصحيحة موضوعيًّا، فإنه يصعُب تحاشي منطقِ هذه الفكرة.
ثمَّة افتراض يبدو بريئًا نطرحه في هذا الفصل: من المنطقي أن نفترضَ أن النظام المجهري له حالة واحدة بشكلٍ أو بآخر في الحقيقة، وأن الأجزاء المكوِّنة له لها سرعات متجهة ومواضعُ في الحقيقة، حتى وإن كنا لا نعلمها. غير أنَّ هذا الافتراض محلُّ جدالٍ في «ميكانيكا الكم»، التي هي أغربُ نظريةٍ في الفيزياء الحديثة بلا شك. وفي الفصلَين الأخيرَين من الكتاب، سأناقش الألغازَ الفلسفية المتعلِّقة بهذا الموضوع الفريد.