تفسير الكم
كان الفصل الخامس سلبيًّا في معظمه؛ فقد حاولت أن أوضح وأبيِّن مدى غرابة ميكانيكا الكم ومدى حدةِ العوائق التي تقف في طريق فَهْمها. لكن هذا لا يعني أن فَهْمها أمرٌ مستحيل. فمنذ ميلاد ميكانيكا الكم، لم يزل علماء الفيزياء والفلاسفة يتناقشون بشأن معناها، وقد شهدت السنوات الأربعون الماضية تقدمًا كبيرًا في فَهْم الخيارات، حتى وإن لم يجارِ هذا التقدمَ تطويرُ توافقٍ في الآراء.
في هذا الفصل الأخير، سأناقش بعضًا من أشهرِ وأهم الاستراتيجيات التي صِيغَت لفَهْم ميكانيكا الكم. وسأعترف أنني أرى أنَّ آخرَ نظرية أتناولها — وهي تفسير إيفريت — هي الصحيحة على الأرجح. لكني لا أهدف في هذا الفصل إلى الدفاع عن نهجٍ بعينه، بل توضيح مدى الأهمية الفلسفية والعلمية لهذه المسألة. فالتوصُّل إلى طريقة للتفكير بشأن ميكانيكا الكم وفَهْمها أمرٌ مهم؛ فقد أدَّى هذا المجال إلى نتائجَ علمية بارزة ومن المحتمل أن يؤديَ إلى المزيد من مثل هذه النتائج.
الاحتمالات والقياسات
تذكَّر وصفي لكيفية تعامُل الفيزياء عمليًّا مع الحالة الكمية؛ إذ تتعامل معها بشكل غير متَّسق؛ إما باعتبارها وصفًا احتماليًّا لحالةٍ مجهولة للنظام لكنها محدَّدة، وإما باعتبارها وصفًا فيزيائيًّا لحالة النظام غير المحدَّدة. إنَّ معظمَ الطرق المستخدَمة لفَهْم ميكانيكا الكم يلتزم بنهجٍ أو بآخر، ثم يحاول حلَّ المفارقات الظاهرة في هذا النهج. وفي هذا الفصل، سنبدأ بالنهج الاحتمالي.
لنتناول الإلكترون الدوار مرةً أخرى باعتباره نموذجًا للنظام الكمي؛ يمكن كتابةُ الحالة العامة للإلكترون بالصيغة التالية:
كل هذا يعمَّم على اتجاهات القياس الأخرى، وعلى غير ذلك من الأنظمة الكمية بالطبع. وليس من الصعب إثباتُ ذلك إذا توفَّرت لدينا احتمالات كل نتيجةٍ لكل قياسٍ يمكن إجراؤه على نظامٍ ما؛ إذ سيصبح هذا كافيًا للتوصُّل إلى الحالة الكمية الكاملة.
ما الذي يلزم أيضًا لفَهْم الحالة الكمية وفقًا للتفسير الاحتمالي؟ كلُّ ما يستلزمه الأمر هو ما يلي: تعيين خصائص فعلية للنظام تُمكِّننا من فَهْم القياسات الكمية، باعتبارها تقاريرَ غير فاعلةٍ لماهية هذه الخصائص، وفَهْم الحالة الكمية باعتبار أنها تحدِّد احتمالية أن النظام يحتوي على مجموعة محدَّدة من الخصائص. (هذا ما توفِّره لنا الميكانيكا الكلاسيكية الإحصائية: الخصائص الأساسية الكامنة هي السرعات المتجهة للجسيمات التي يتكوَّن منها النظام ومواضعها الفعلية؛ أما الاحتمالات الإحصائية فهي تشفِّر مدى احتمالية أن يكون لهذه المواضع والسرعات المتجهة أيُّ قيمة محددة.)
رأينا في الفصل الخامس أن التداخل يبدو وكأنه يمنع حدوثَ ذلك بأي شكل مباشر: لا يمكن أن يوجد الفوتون في قناة أو أخرى؛ لأن هذا لا يفسِّر التداخل، ولا يمكن للفوتون أن ينتشر عَبْر القناتَين؛ لأن هذا لا يُفسِّر السببَ في أننا نقيسه دومًا في قناةٍ واحدةٍ دون الأخرى. الحق أنه يمكن صَقْل هذه الحجة لتزداد دقَّتها. فحتى الآن، أدَّت النتائج الرياضية القوية — مبرهنة كوخن-سبيكر، ومبرهنة جليسون، ومبرهنة بيوسي-باريت-رودولف — إلى إقناع كلٍّ من المنخرطين في المجال (تقريبًا) بأن هذه الاستراتيجية غير محتملة. (وتخبرنا متباينة بيل أن أي استراتيجية من هذه النوعية لا بد أن تتضمَّن تفاعلاتٍ أسرعَ من الضوء).
على الرغم من ذلك، توجد استراتيجية بديلة: تمسَّك بفكرة أن الحالة الكمية تُفهم من حيث احتمالات النتائج المتنوِّعة للقياس، لكن تخلَّ عن فكرة أن نتائج القياس تلك هي تقارير بشأن الخصائص الموجودة مسبقًا التي يتضمنها النظام. ومن هذا المنظور، تُعَد الحالة الكمية أداةً رياضية تُستخدم لتلخيصِ ما يحدث، عندما يجري علماء الفيزياء عملياتٍ متنوِّعة في المختبر؛ ومن ثَم فإنَّ أي محاولةٍ لفهمِ هذه العمليات باعتبارها قياساتٍ لواقع ضمني، أو لفهم نظريةِ الكم باعتبارها وصفًا للعالم في حد ذاته وليس باعتبارها محضَ خوارزمية للتنبؤ بنتائج القياس، تُنحَّى جانبًا.
إنَّ هذا النهج لفَهْم ميكانيكا الكم من تنويعاتِ مذهب الذرائعية، وهو أحدُ مناهج فلسفة العلوم التي تناولناها في الفصل الأول؛ وهو يقضي بألَّا نرى ميكانيكا الكم باعتبارها وصفًا للعالَم، بل أداة لوصف نتائج التجارب. وفي النُّهج الذرائعية، فإنَّ الأسئلة بشأنِ ما يفعله النظام في أثناء عدم قياسنا له، على غرار السؤال عما تفعله قطة شرودنجر المسكينة حين نفتح الصندوق الذي تُوجَد فيه، تُنحَّى جانبًا بوصفها أسئلةً عديمة الجدوى؛ فنحن لا نطرحها إلا إذا لم نفهم ماهية نظرية ميكانيكا الكم.
توجد مثل هذه الاقتراحات فيما يتعلَّق بنظرية الكم منذ عشرينيات القرن العشرين (فقد كان نيلز بور وفيرنر هايزنبرغ مؤيدَين لها بدرجات متفاوتة، وهما من مؤسسي عالَم الكم)، وهي لا تزال رائجةً في بعض أوساط مجتمع علم الفيزياء. غير أنَّ الغالبية العظمى من الفلاسفة متشكِّكون بشأنها؛ نظرًا للمشكلات التي ينطوي عليها مذهب الذرائعية، والتي تناولناها في الفصل الأول؛ إذ إنه يقوم على الفصل بين الجزء «الرصدي» من النظرية (الذي تقدِّم فيه النظرية بالفعل مزاعمَ ذات مغزًى) والجزء «النظري» (وهو ليس سوى أداة تساعدنا في تحليل الجزء الرصدي)، وذلك الفصل لا يتطابق مع الفيزياء على حدِّ فهمنا لها.
في السياق المحدَّد لميكانيكا الكم، تتمثَّل المشكلة في أن أجهزة القياس الكمي ليست صناديقَ سوداء، بعثرَتها في ربوع الصحراء كائناتٌ فضائية خيِّرة أو آلهة. وإنما هي أجهزةٌ ماديةٌ معقَّدةٌ صُمِّمَت كي تتفاعلَ بطرقٍ معقَّدة، وهي نفسها تعتمد على مبادئ ميكانيكا الكم. ونحن لا نستطيع فَهْم ماهية جهاز القياس ولا ما يقيسه، أو حتى ما إذا كان يقيس أي شيء على الإطلاق، ما لم نفهم كيفيةَ عمله؛ وفي هذه الحالة، فإننا بحاجة إلى طريقةٍ لفَهْم ميكانيكا الكم؛ كي نتمكَّن من ذلك، وينبغي ألَّا تستلزم «طريقة الفهم» تلك معرفتنا بماهية أجهزة القياس؛ لأنَّ ذلك سيكون استدلالًا دائريًّا.
إضافة إلى ذلك، فإن العديد من تطبيقاتنا لنظرية الكم لا يتناسب تمامًا مع سياق المختبر ومع قياس الحالة (على الرغم من أن هذا منبثق من الاعتراض نفسه). يتعلَّق العديد من انتصارات نظرية الكم بتفسيراتها للخصائص العيانية للمادة — مثل السبب في توصيل المعادن للحرارة، والسبب في أنَّ الذهب يبدو بلونه الذي يبدو به، وكيفية تصرُّف البلورات عند تسخينها — وتلك تفسيرات لا يمكن تحليلها بسهولة عَبْر تنبؤات قياس منفصلة. ولمثالٍ أكثرَ دراماتيكية، لِنتناول التقلبات الكمية في بداية نشأة الكون التي أدَّت إلى توزيع المادة على أكبر النطاقات؛ إنَّ النظريات المتعلقة بهذه التقلبات قابلةٌ للاختبار، لكن ذلك باعتبارها جزءًا من إطار نظري ومعقَّد لعلم الكونيات فحسب؛ ومن ثمَّ لا توجد طريقة بسيطة للحِجَاج بأن عمليات رصد توزيع المجرات ليست سوى «قياسٍ» للحالة الكمية للكون في بداية نشأته.
إنَّ هذه الاعتراضات بعيدةٌ كل البعد عن أن تكون قاطعة؛ ونظرًا إلى أن الذرائعية كانت هي التوجُّهَ المهيمن في فلسفة العلوم قبل أقلَّ من قرن من الزمان، فستكون عجرفة من الفلاسفة إذا كانوا واثقين تمامًا من ضرورة استبعاد النُّهج الذرائعية لميكانيكا الكم. ولكنهم على الأقل يعطوننا أسبابًا قوية لدراسة النهج البديل؛ ألا وهو قبول الحالة الكمية باعتبارها وصفًا للخصائص الفيزيائية الخاصة بالنظام، والتوفيق بينها وبين مسألة القياس ومفارقة قطة شرودنجر.
هل نغيِّر الفيزياء؟
ثمَّة طريقة بديلة ومباشرة للغاية (من الناحية المفاهيمية) للتعامل مع مفارقات الكم: بإمكاننا أن نقرِّر أنها ليست مجرَّد مفارقات، بل «تناقضات» وبراهين أن نظرية الكم «خاطئة». فأي نظرية تتنبأ بأن القطط حيةٌ وميتة في الوقت نفسه — في حين أن الظاهر يناقض ذلك — يمكن القول عنها إنها نظريةٌ قد دَحضت نفسها: ربما لا تكمُن المشكلة في فَهْم ميكانيكا الكم، بل في طريقة تعديلها — أو تبديلها — حتى لا تصبح في حالة تناقض صريح مع الحقائق. ونظرًا للنجاح الباهر الذي حقَّقته النظرية، فلا بد من مراعاة العناية البالغة عند إجراء أيٍّ من مثل هذه التعديلات للحفاظ على النجاحات السابقة، لكن قول ذلك أسهلُ من تنفيذه.
يوجد عددٌ كبير من الاستراتيجيات المقترحة لكيفية تعديل ميكانيكا الكم، لكني سأركِّز هنا على مثالَين بارزَين وهما «الانهيار الديناميكي» و«المتغيِّرات الخفية». سنبدأ في المثال الأول من حالة قطة شرودنجر، والتي يمكن كتابتها (بعد التعميم بعض الشيء لمراعاة السَّعات المتغيرة) بالصيغة التالية:
بما أن هذه الحالة (كما يُزعم) ليست هي الحالة التي نجد عليها القطة حين ننظر إليها، فينبغي تعديل النظريةِ كي لا تظهرَ هذه الحالات، أو لا تستمر على أي حالٍ عند رصدها. يؤدي هذا إلى تغيير معادلات ميكانيكا الكم لتضم تطورًا جديدًا يمكن كتابته بالصيغة التالية:
إذا حدَث هذا الانتقال دومًا بحلول الوقت الذي نرصد فيه القطةَ بالفعل، فإنه يحلُّ مسألة القياس — إذ إننا نجد القطة إما حية أو ميتة (وليست في حالة تراكُب غريبة تجمع بين الحالتَين)، واحتمالية كلٍّ منهما تتطابق مع ما تتنبأ به قاعدة بورن. يمكن أن نطلق على هذه العملية اسم «انهيار الحالة الكمية» (ومن المصطلحات الأخرى التي تُطلق عليها أيضًا: «انهيار الدالة الموجية» و«انهيار متَّجه الحالة»، وهي مصطلحات تمثِّل أساليبَ رياضيةً مختلِفة متَّبعة في التفكير بشأن الحالة الكمية).
طُرحت فكرة انهيار الحالة الكمية في بداية نشأة نظرية الكم، وقد اقترح بول ديراك، وهو أحدُ مؤسِّسي النظرية أنها تحدُث «تحديدًا» عند قياس النظام. معنى هذا أنه يوجد صنفان مختلفان من ديناميكا ميكانيكا الكم: الصنف العادي (ويُطلِق عليه علماء الفيزياء «الصنف الوحدوي») وينطبق حين لا يكون النظام قيدَ القياس؛ أما الصنف الآخر فهو قاعدة الانهيار التي تحدُث عند إجراء القياس. إذا اعتمدنا القراءةَ الاحتمالية للحالة الكمية (حيث لا تعبِّر حالة قطة شرودنجر إلا عن احتمالية أن تكون القطة حية أو ميتة)، فلن يكون لها أهميةٌ؛ إذ إنها لن تناظر إلا معلوماتنا المحدَّثة حين نكون قد اكتشفنا بالفعل ما إن كانت القطة على قيد الحياة أم لا. على الرغم من ذلك، فلا يجدُر بنا التفكير فيها بهذه الطريقة بما أنها تعديل على نظرية الكم لحل مسألة القياس؛ وإنما ينبغي التفكير فيها على أنها تغيير فوري وعشوائي للحالة التي تكون عليها القطة، حيث تتحول من الحالة غير المؤكدة لعدم موتها إلى حالةٍ أشهر وهي إما أنها حية أو ميتة، لكنها مؤكَّدة على أي حال. (وبناءً على هذا، إذا استخدمنا انهيار الحالة الكمية لحل مسألة القياس، فإننا نفعل ذلك باعتباره جزءًا من تفسير «مادي» للحالة الكمية — وبذلك تحدُث الاحتمالات بسبب العشوائية في قاعدة الانهيار — وليس بوصفه جزءًا من تفسير الحالة نفسه.)
لا تزال هذه الطريقة لتقديم ميكانيكا الكم موجودةً في الكتب الدراسية التمهيدية، لكنها لم تَعُد تُستخدم غالبًا في الممارسة الفعلية لميكانيكا الكم. تتمثَّل المشكلة الأساسية لهذه الطريقة في أنها تعامِل «القياس» على أنه مفهوم أولي خام، وقد رأينا في القِسم السابق أن هذه الفكرة تتعارض مع رغبة علماء الفيزياء في معاملة القياسات على أنها عملياتٌ فيزيائية، يمكن دراستها باستخدام أدواتِ نظريةِ الكم نفسِها. وفي ضوءِ ما تناولناه في الفصل الرابع، فثمَّة طريقة أخرى لتبيان المسألة، وهي أن النظرية التي يكون أحد مبادئها الجوهرية أنَّ «القياس يؤدي إلى انهيار الحالة الكمية» هي نظرية يُستبعد فيها أيُّ تحليل اختزالي للقياس باستخدام مصطلحاتٍ أبسط؛ ومع ذلك، يبدو أن علماء الفيزياء يقومون بمثل هذه التحليلات طوال الوقت، بل يعتمدون عليها في واقع الأمر في بناء الأجهزة المعقَّدة التي تُستخدم بالفعل في مختبرات الفيزياء.
على الرغم من ذلك، فثمَّة طريقة بديلة للتعبير عن انهيار الحالة الكمية: بدلًا من إدراج الطرح الجوهري المتمثل في حدوث الانهيار عند القياس، يمكننا تخيُّل نظرية أخرى يحدُث فيها الانهيار لسبب آخر وفي ظروف أخرى، ويمكن تحديدُ هذا السبب ووصفه بدقة في سياق الفيزياء المجهرية، لكن تلك الظروف تضمن في الحقيقة حدوثَ الانهيار قبل اكتمال القياسات الفعلية. تُعرف النظريات من هذا النوع باسم «نظريات الانهيار الديناميكي»؛ حيث تشير لفظة «الديناميكي» إلى آليةٍ ديناميكية حقيقية ومحدَّدة مجهريًّا، بدلًا من التعامل مع الانهيار بوصفه ظاهرةً تنتج عن المفهوم العياني: «القياس».
إنَّ القيود التي تُفرض على أي نظرية من هذا القبيل صارمة. إذا حدث الانهيار بسرعة أكبرَ من اللازم، فسيمنع تأثيرات التداخل التي تعتمد عليها نظريةُ الكم في تنبؤاتها وتفسيراتها، ومن ثَم ستدحض نفسها. وإذا تأخَّر حدوثه أطولَ من اللازم، فلن يفيَ بمهمته في كبح حالات قطة شرودنجر. على الرغم من ذلك، فقد صيغ بعضٌ من مثل هذه النظريات، وإن كان ذلك في النُّسخ البسيطة من ميكانيكا الكم على الأقل. تطرح هذه النظريات تنبؤات تحيدُ عن تنبؤات ميكانيكا الكم «العادية» (حيث إنها تتنبأ بأنَّ التداخل لا يحدُث في ظروف غريبة معيَّنة، لكنها قابلة للاختبار من حيث المبدأ)؛ وصحيحٌ أنَّ التجارب لم تكشف حتى الآن عن أي انحرافاتٍ من هذا القبيل، لكن إجراء مثل هذه التجارب صعبٌ للغاية، ولا يمكننا أن نستبعدَ حدوثَ مثل هذا التقدُّم في المستقبل.
تبدأ الاستراتيجية الثانية لتعديلِ نظريةِ الكم بالطبيعة المزدوجة الواضحة للحالة الكمية، سواء أكانت مادية أم احتمالية. تفسِّر الاستراتيجية هذه الطبيعةَ المزدوجة تفسيرًا منطقيًّا من خلال تزويد نظرية الكم ﺑ «متغيرات خفية» إضافية، وظيفتُها في النظرية هي وصفُ النتائج الفعلية للقياس: في حالةِ قطة شرودنجر على سبيل المثال، تظل الحالةُ الكمية غيرَ محدَّدة لكن لا تعود تتخذُ مهمةَ التعبير عن العالَم العياني المرصود. فتلك المهمة تقع على عاتقِ المتغيرات الخفية، التي تمثِّل حالةَ القطة بأنها إما حية أو ميتة، ولكن إلى أن نعرفَ القيم الخاصة بهذه المتغيرات، فقد تكون القطة حية أو ميتة. وفي هذه النظريات التي تستخدم «المتغيرات الخفية»، تدخل الاحتمالية في النظرية بالطريقة (المثيرة للجدل!) نفسها التي تدخل بها في الميكانيكا الإحصائية، وبهذا فإنَّ الجوانبَ الاحتمالية لنظرية الكم تنتقل من الحالةِ الكمية إلى المتغيرات الخفية.
صِيغَت بعضُ النظريات التي تُقدِّم عامل المتغيرات الخفية، وأؤكد مجددًا على أنها للنُّسخ البسيطة من ميكانيكا الكم (ومن أشهرها «نظرية دي بروي-بوم»، ويُطلَق عليها في بعض الأحيان «نظرية الموجة الدليلية» أو «ميكانيكا بوم» نسبةً إلى عالِمَي الفيزياء لوي دي بروي وديفيد بوم). تحظى هذه النظريات برواجٍ بين الفلاسفة؛ أما علماء الفيزياء الذين يميلون إلى تعديل ميكانيكا الكم، فغالبًا ما يفضِّلون نظرياتِ الانهيار الديناميكي، وأظن أن السببَ في ذلك هو أن نظريات المتغيرات الخفية لا تطرح في المعتاد تنبؤاتٍ تتعارض مع ميكانيكا الكم التقليدية؛ ولهذا (وفقًا للكثير من علماء الفيزياء) فإن المتغيرات الخفية تزيد من تعقيد النظرية من دون أيِّ مردودٍ تجريبي. ويردُّ أنصار النظرية بأن المردود يتمثَّل في وجود نظريةٍ مفهومةٍ في الأساس.
(ثمَّة مشكلةٌ أخرى بشأن نظريات المتغيرات الخفية، وهي مشكلة فلسفية بشكلٍ كبير. تتمثَّل المشكلة في أنَّ هذه المتغيرات تعتمد — أو تُمثَّل في المعتاد على الأقل — على افتراض أن القياسات العيانية تكشف عن المتغيرات الخفية في واقع الأمر، لا عن خصائصِ الحالة الكمية. (على سبيل المثال، لا بد للقياسات الخاصة بالقطة أن تكشف عن المتغيرات الخفية التي تمثِّل «القطة حية» أو «القطة ميتة»، وليس عن الحالة الكمية التي ستمثِّل قطةً حية وميتة في الوقت نفسه، إن هي مثَّلت أيَّ شيء مفهوم). وفي أشهر التنويعات التي نُوقشَت من نظريات المتغيرات الخفية، فإن هذا يُعَد افتراضًا أساسيًّا للنظرية، وليس شيئًا يمكن اشتقاقه ديناميكيًّا من أي تحليلٍ لعمليات قياسٍ متاحةٍ ضمن النظرية. ويبدو مرةً أخرى أن هذه العملية تتطلَّب مفهومًا أوليًّا يوضِّح كيفيةَ ارتباط القياس بالفيزياء، وذلك على غرار المفهوم الذي يتطلَّبه مذهب الذرائعية. الحق أنَّ تلك مسألةٌ يحتدُّ فيها الجدال في فلسفة الفيزياء، وتُثير أسئلةً عميقةً إلى حدٍّ ما بشأنِ ما يعنيه تفسير نظرية فيزيائية.)
إنَّ نظريات المتغيرات الخفية والانهيار الديناميكي تطرح ألغازًا فلسفية مثيرة للاهتمام، لكن المشكلة الأساسية في أيٍّ منهما هي النجاحات الضخمة التي حقَّقتها نظريةُ الكم. وحتى الآن، لم ينجح أيٌّ من فئتي النظريات — ولا أيُّ نهجٍ يعتمد على تعديل نظرية الكم — في إعادةِ إنتاج تنبؤات نظرية الكم خارج مجموعةٍ صغيرةٍ نسبيًّا من التطبيقات، وتنحصر هذه التطبيقات تقريبًا فيما يتعلَّق بفيزياء المادة التي تتحرَّك بسرعاتٍ غير نسبيةٍ في المواقف التي يمكن تجاهل الضوء فيها. فعلى سبيل المثال، لا توجد استراتيجيةُ تعديلٍ في الوقت الحاضر بإمكانها أن تعيد إنتاج تجربة الشِّق المزدوج (التي تستخدم فوتونات الضوء)، أو أن تشرح آليةَ عمل الليزر، فضلًا عن أن تُمكِّننا من فَهْم فيزياء الجُسَيمات الحديثة. على الرغم من ذلك فقد شهدَت هذه المسألة إحرازَ بعض التقدُّم (وإن كان مقداره الدقيق محلَّ جدال، وأنا نفسي لم أزل متشككًا إلى حدٍّ كبير بشأن هذه المسألة)، لكن على أي حال، فإنَّ أنصار تعديل نظرية الكم لحل مشكلة القياس عاكفون على مشروعٍ ضخمٍ حقًّا لإعادة التأسيس؛ يعيدون فيه بناءَ فيزياء القرن العشرين على أساسٍ جديد.
عوالمُ متعدِّدة
يمكن أن يُطلق على النُّهج الواردة في القِسم السابق اسم نُهج «تغيير الفيزياء»؛ تتبنَّى هذه النُّهج درجةً أساسية من الواقعية العلمية، باعتبارها الطريقَ لفَهْم النظريات الفيزيائية، وهي تحكُم على النظرية الكمية طبقًا لهذا المعيار، وتجد أنها بحاجةٍ إلى التحسين؛ ويتمثَّل الحل الذي تقترحه هذه النُّهج في تغيير نظرية الكم نفسِها. وعلى النقيض من ذلك، فإن النُّهج التي تعتمد في فَهْم ميكانيكا الكم على الاحتمالات، هي في معظمِها من نُهُج «تغيير الفلسفة»؛ أي إنها تترك الصياغةَ الصورية لنظرية الكم من دون تعديل، ولكنها تعتمد نهجًا مختلفًا (قائمًا على الذرائعية إلى حدٍّ ما في المعتاد) لفَهْم النظريات الفيزيائية.
إنَّ كلًّا من فكرتَي تغيير الفيزياء وتغيير الفلسفة فكرةٌ وجيهة. فمفارقات نظرية الكم تخبرنا بأنَّ ثمة «خطأً» ما؛ وتبدو الفيزياء وفلسفة العلم مجالَين منطقيَّين للبحث عن ذلك الخطأ. وقد يبدو بالطبع أنه يوجد تقسيمٌ طبيعي لهذا الجهد؛ فالمهمة الأنسبُ للفلاسفة هي أن يُعيدوا تقييمَ البدائل المتاحة للواقعية العلمية في مواجهةِ المفارقة الكمية، والمهمة الأنسب لعلماء الفيزياء هي استكشاف نظرياتٍ فيزيائيةٍ بديلة.
غير أنَّ الأمور لا تسيرُ على هذا النحوِ في الحقيقة. فقلةٌ قليلة من الفلاسفة (توجد استثناءات بالطبع) هم مَن يرون حقًّا أن حلَّ مشكلة القياس يتطلَّب منَّا تغيير فلسفة العلوم، وعلى الجانب الآخر، فكثيرًا ما يستنتج الفلاسفة الذين يتناولون هذه القضايا أنها تعكس قصورًا في الفيزياء. وقلةٌ قليلة من علماء الفيزياء (توجد استثناءات أيضًا) هم مَن يرَوْن حقًّا أن حلَّ مشكلة القياس يتطلَّب منَّا تعديلَ ميكانيكا الكم نفسها؛ وعلى الجانب الآخر، فكثيرًا ما يستنتج علماء الفيزياء الذين يُعالجون هذه القضايا أنها تستلزم فلسفةَ علوم جديدة أكثرَ ابتكارًا. التفسير الواضح لذلك أن الفلاسفة حساسون تجاه مدى صعوبة استراتيجية تغيير الفلسفة، ولكنهم راضون عن صعوباتِ استراتيجيةِ تغيير الفيزياء؛ والعكس بالعكس.
على الرغم من ذلك، لما بدا أنَّ الجمع بين الواقعية العلمية وميكانيكا الكم غيرِ المعدَّلة يقودنا إلى مفارقةِ قطة شرودنجر، فربما لا يكون لدينا ثمَّة خيار سوى تعديل فلسفة العلوم، أو صياغة ميكانيكا الكم، مع ما قد يكون في ذلك من صعوبة. لكنَّ الأمر ليس كذلك في الحقيقة؛ إذ يوجد خيارٌ ثالث. كان مَن توصَّل إلى الفكرة الأساسية لهذا الخيار هو عالِم الفيزياء هيو إيفريت في عام ١٩٥٧؛ ومن ثمَّ فقد سُميت ﺑ «تفسير إيفريت». ولنتعرَّف على هذا التفسير، سنتخيَّل قطة شرودنجر مرةً أخرى، ونسأل كيف نعرف أنَّه لا يمكن للنظام، رغم كل شيء، أن يجمع بين حالتَي حياة القطة وموتها في آنٍ واحد. الإجابة الواضحة أننا لا نرى قططًا في هذه الحالات أبدًا، لكن «الرؤية» عمليةٌ فيزيائية؛ ومن ثمَّ فنحن نحتاج إلى نمذجتها فيزيائيًّا في سياق ميكانيكا الكم، كي نُحدِّد ما يحدُث بالفعل حين يتفاعل الراصدون — من أمثالي — مع قطة شرودنجر.
وبالمِثل، إذا كانت القطة ميتة بالتأكيد، فلا بد أن تصيرَ عمليةُ الرصد على النحو التالي:
والآن، لِنفترض أن القطة تبدأ في حالة قطة شرودنجر،
قد نتوقَّع بحَدْسنا أن تصيرَ عملية الرصد لهذا النظام على النحو التالي:
ومن ثمَّ فإنها تتطوَّر على النحو التالي:
طبقًا لميكانيكا الكم، فأنا لا أتطوَّر إلى حالة الرؤية الأكيدة لقطةٍ غيرِ محدَّدة، بل أتطور إلى حالةٍ غير محدَّدة خاصة بي، وهي حالةٌ تمثِّل نتيجتَي قياس عاديتَين ومحدَّدتَين في آنٍ واحد.
وهكذا تستمر الأمور في السير على هذا المنوال. إذا سألتني إن كانت القطة حيةً أم لا، فستنتهي إلى حالتَين في آنٍ واحد: حالة تسمعني أقول فيها «نعم»، وحالة تسمعني فيها أقول «لا». وبالفعل، فإن الحالة المجمعة منَّا جميعًا — أنت وأنا والقطة — عبارة عن حالتَين في آنٍ واحد، لكن كلتا الحالتَين الفرديتَين عادية: الحالة التي نتوصَّل فيها إلى أن القطة حية، والحالة التي نتوصَّل فيها إلى أن القطة ميتة. وإذا سأل شخصٌ ثالث، أو إذا نشرتَ حالة القطة على فيسبوك، فستنطبق فكرة الحالتَين الآنيتَين على المزيد والمزيد من الأنظمة؛ بمعنى أنها ستتداخل معنا.
في واقع الأمر، عند تجاوُز مقياس معيَّن — مقياس أصغر بكثير من القطة البائسة، سيكون التفاعل بين نظام وآخرَ حتميًّا حتى إن لم يكن هناك «رؤية» مقصودة. فالتأثير الجذبوي للقطة على الهواء من حولي أو الجزيئات في جسمي يؤدي إلى تشابكي وتشابكك وتشابك البيئة المحيطة تشابكًا فعَّالًا مع القطة، سواءٌ أحاولنا معرفة حالتها أم لا. حاول أن تجعل شيئًا بحجم القطة يتَّخذ حالةَ شيئَين في آنٍ واحد، وسرعان ما ستجد أن الكوكب بأكمله، بل المجموعة الشمسية بأكملها تتَّخذ حالةَ شيئَين في آنٍ واحد.
لكن ما هما هذان الشيئان؟ كلٌّ منهما عادي للغاية: فكلتاهما حالتان طبيعيتان للأرض، والفَرْق الوحيد بينهما هو ما إذا كانت القطة البائسة حيةً أم ميتة. وتتطوَّر كلُّ حالةٍ منهما زمنيًّا طبقًا للقواعد العادية التي تحكم الحالات المعتادة للأرض. معنى هذا أنَّ حالة الأرض تتكوَّن من فرعَين متوازيَين وهما: فرع «القطة حية» وفرع «القطة ميتة»، وكلُّ حالةٍ منهما تتطوَّر بمرور الوقت دونما رجوع إلى الحالة الأخرى.
توجد كلمةٌ جيدة تصف جزءًا من الواقع يشبه الأرضَ العادية، ويتطوَّر دونما رجوع إلى أجزاءٍ أخرى من الواقع؛ ألا وهي كلمة «عالَم». ولا تعني الكلمةُ في هذا السياق كونًا كاملًا قائمًا بذاتِه، بل بمعنى أن الأرض أو المريخ عبارة عن عالَم؛ فهما جزءان من الواقع يتفاعلان بقوةٍ مع ذاتهما لكن نادرًا ما يتأثَّران بعضهما ببعض.
ليست التجارب على القطط هي المكانَ الوحيد بالطبع الذي تتضخَّم فيه تأثيراتُ نظرية الكم، لتصل إلى كائناتٍ بحجم البشر. فنحن نعيش في عالَمٍ حيث التغييرات الصغيرة على المستوى المجهري يمكن — بمرور الوقت — أن تصل إلى نطاق الحياة اليومية. فإلكترونات الضوء الفلوري توجد «هنا» و«هناك»، والشعاع الكوني يصطدم بسلسلة الحمض النووي في الخلية ولا يصطدم بها … وسرعان ما يومض الضوءُ ولا يومض، والخلية تتحوَّر ولا تتحوَّر. يبدو إذن أن هذا الانقسام إلى عوالمَ متوازيةٍ أمرٌ شائع، ويحدُث مراتٍ لا تُحصى في الثانية، في جميع أنحاء الأرض.
كل هذا يقودنا إلى استنتاجٍ مُفاده أننا إذا تعاملنا مع ميكانيكا الكم بحِرْفية وواقعية، فسيكون العالَم الذي نعيش فيه واحدًا من عوالمَ متعدِّدةٍ لا حصرَ لها — أحد العوالم المتعدِّدة المنبثقة — وكلُّها موجودة بالتوازي مع بعضها، وكلٌّ منها ينبثِق من العوالم الأخرى على نحوٍ مطرد. ومن هنا يأتي الاسم الأشهر لتفسير إيفريت لميكانيكا الكم وهو «تفسير العوالم المتعدِّدة».
من بين كل التفسيرات التي تناولناها، يُعَد تفسير إيفريت هو الأغربَ من عدةِ أوجه. على الرغم من ذلك، فهو الأكثر تحفظًا إلى حدٍّ بعيد من جوانبَ أخرى؛ فهو لا يتطلب تعديلَ الجانب الصوري الذي حقَّق نجاحًا كبيرًا في ميكانيكا الكم، ولا يتطلب إعادةَ نظرٍ جذرية في المشروع العلمي. إن تنبؤه المذهل بتفرُّع الواقع هو نتيجة لهذا الجانب الصوري الكمي نفسه، وليس افتراضًا زائدًا عليه.
إنَّ أقلَّ ما يمكن أن يُقال عن مدى صلاحيةِ تفسير إيفريت إنه مسألةٌ مثيرة للجدل. الاعتراض الأوضح والأشهر هو عدم التصديق المحض، لكن هذا ليس «اعتراضًا»، بقَدْر ما هو تعبير عن الدهشة. فعادةً ما يركِّز النقَّاد الجادُّون لتفسير إيفريت على مشكلتَين محدَّدتَين. المشكلة الأولى: هل الجانب الصوري في نظرية الكم يشير إلى وجود عوالمَ متوازيةٍ حقًّا، أم هو مجرد ألفاظ برَّاقة وليس لها أهمية فيزيائية؟ والمشكلة الثانية: كيف نتوصَّل إلى الاحتمالات في النظرية؟
يكمُن مفتاح حلِّ المشكلة الأولى (وتسمَّى أحيانًا — لأسباب لا يتَّسع المقام لسردها — «مسألة الانحياز المفضَّل») في ملاحظة أن ديناميكا الكم للأنظمة الكبيرة المعقَّدة سرعان ما تخفي تأثيرات التداخل التي تحدِّد السِّمات الكمية المميزة لميكانيكا الكم. فحينما يحتوي النظام الكمي على العديد من الأجزاء المتحركة — أي درجات كبيرة للغاية من الحرية كما يقول علماء الفيزياء — تتشابك درجاتُ الحرية تلك بعضها مع بعض بوجهٍ عام؛ ومن ثَم يصبح تأثير التداخل غيرَ ملحوظ.
لنفترِض على سبيل المثال أننا نحاول توضيحَ التداخل بكرةِ بولينج بدلًا من الفوتون. للقيام بذلك، علينا أن نجهِّز الكرةَ بحيث تصبح في حالةٍ غير محدَّدة: حالة من التراكب لموضعَين مختلفَين؛ أي ربما يمكن صياغتها تخطيطيًّا على النحو التالي:
لكي يمكن لتجربة — أو عملية ديناميكية طبيعية — أن تكشفَ عن التداخل بين الحدَّين في هذا التراكب، لا يكفي أن تؤثِّر ديناميكا هذه التجربة في كرة البولينج وحدَها، بل ينبغي أن تؤثِّر في كلٍّ من الكرة وبيئتها، وأن تغيِّر منهما بالطريقة الصحيحة تمامًا بحيث تُظهِر تأثيرَ التداخل. وهذا مستحيلٌ عمليًّا.
يُطلَق على عملية التشابك المستمر مع البيئة اسمُ «انعدام الاتساق». تُعَد هذه العملية صورةً من صور الديناميكا الكلية غير الانعكاسية التي تناولناها في الفصل الرابع، وهي تنطوي على ألغازٍ فلسفية خاصة بها، لكنها تطرح تفسيرًا ديناميكيًّا لإمكانية تجاهُل تأثيرات التداخل حينما يكون النظام معقدًا للغاية، والسبب في أنه يمكن في هذه الحالة وصفُ النظام وصفًا محكمًا على أنه عبارة عن نظامَين (أو أكثر) منفصلَين يتطوَّران بشكلٍ متوازٍ، بدلًا من نظامٍ واحد يشتمل على أجزاءٍ متداخلة. وحينما قلت — فيما سبق — إن كل حالةٍ من الحالتَين: «القطة حية» و«القطة ميتة» تطوَّرت بمرور الوقت «دونما رجوع إلى الحالة الأخرى»، كانت عملية انعدام الاتساق في الخلفية؛ فهي العملية الفيزيائية التي تطوِّر بها الأنظمةُ الكمية بنيتَها المتفرعة المنبثقة، لكنها موضوعية رغم ذلك.
(يمكن أيضًا فَهْم انعدام الاتساق بصفته توضيحًا للسبب في أن الأمر ينجح «فعليًّا» عند معاملةِ الحالات الكمية للأنظمة المعقَّدة، باعتبارها توزيعاتٍ للاحتمالات على حقائقَ أساسية ومحدَّدة، على الرغم من أن التداخل يعني عدمَ إمكانية بقاء هذا التفسير؛ ففور بَدْء انعدام الاتساق تصبح تأثيراتُ التداخل غيرَ قابلةٍ للكشف عنها؛ ومن ثَم يمكن تجاهلها. لهذا السبب، من الشائع — بين علماء الفيزياء على الأقل — القول إن انعدام الاتساق «في حدِّ ذاته» يحلُّ مسألةَ القياس من دون الحاجة إلى أكوانٍ موازية. على الرغم من ذلك، فلكي يكون هذا الحل قابلًا للتطبيق، لا نزال بحاجةٍ إلى تغييرِ تفسيرنا لماهية الحالة الكمية من فيزيائيةٍ إلى احتمالية، وانعدام الاتساق وحدَه لا يسمح بذلك. وعلى الجانب العملي، عادةً ما تُؤدِّي محاولات استخدام انعدام الاتساق لحلِّ مسألة القياس إلى تنويعاتٍ من تفسير إيفريت، وإن كان ذلك لا يزال موضعَ جدالٍ شديد.)
بالنسبة إلى المشكلة الثانية — «مشكلة الاحتمالية» — فهي أصعب في حلها. بعد تجربة قطة شرودنجر، وبعد انعدام الاتساق، يمكن التعبير عن حالة العالم على النحو التالي:
إنَّ حل مسألة الانحياز المفضَّل يستلزم التفاعل مع الرياضيات التفصيلية والفيزياء الخاصَّة بنظرية انعدام الترابط، أما مسألة الاحتمالية فهي فلسفيةٌ بدرجةٍ أكبر. وتنطوي السَّعات التربيعية على الخصائص الصورية الصحيحة التي تجعلها احتمالية (فهي تتَّبع مسلَّماتِ التفاضل والتكامل الخاصة بالاحتمالية؛ ويضمن انعدام الاتساق أنها ستتصرف كما لو كانت احتمالاتٍ «جوهرية»)، لكن السؤال الذي يبقى أمامنا الآن هو: هل هي احتمالاتٌ حقيقية؟ اقتُرح العديد من الاستراتيجيات للإجابة عن هذا السؤال، وتحاول الاستراتيجيات الأكثر تطورًا من بينها (على غرارِ ما وضعه عالِم الفيزياء ديفيد دويتش، وفلاسفة أمثال هيلاري جريفز، وواين ميرفولد وأنا)، أن تستكشفَ ماهية الطريقة العلمية التي يمكن أن يتَّبعها العلماء ممن يأخذون تفسيرَ إيفريت على محملِ الجِدِّ، وأن تستعيد النتيجة التي تفيد بأن هؤلاء العلماء سوف يعاملون السَّعات التربيعية كما لو كانت احتمالات. ولا يزال الجدال مستمرًّا بشأنِ إن كانت هذه الاستراتيجيات ستنجح أم لا.
ثمَّة نقطةٌ أخرى أكثرُ جوهرية ينبغي توضيحها هنا؛ وهي أنَّ الاحتمالية غامضة في الفيزياء حتى خارج سياق تفسير إيفريت. لقد رأينا بالفعل مدى صعوبةِ فَهْم احتمالات الميكانيكا الإحصائية. وليسَت احتمالاتُ الديناميكا الاحتمالية التي يُفترَض أنها «جوهرية» أقلَّ غموضًا. إننا نعرف كيف نستخدم مفهومَ الاحتمالية (تقريبًا: اختبار النظريات الاحتمالية عن طريق قياس التواتر النسبي، واختيار الإجراءات التي تزيد من أرجحية النتائج المطلوبة)، لكن فيما دون ذلك، لا يوجد تفسيرٌ متَّفق عليه للاحتمالية. نعرف أنَّ هذا لا بد أن يكون منطقيًّا إلى حدٍّ ما؛ نظرًا للدور الذي تؤديه الاحتمالية في العلوم، ولكن إذا كان تفسير إيفريت صحيحًا، فإن ذلك الدور لا تؤديه الاحتمالات الجوهرية، بل سعات تربيعية لفروع منعدمة الاتساق هي التي تؤدي هذا الدورَ منذ الأزل. إننا بحاجةٍ إلى تحاشي تبنِّي معيار مزدوج هنا: إذا كانت الاحتمالية الفيزيائية غامضةً بوجهٍ عام، فإن غموضها في نظريةٍ معينةٍ ليس حجَّةً ضد هذه النظرية على وجه الخصوص. وفي هذه الحالة (وفي حالاتٍ أخرى كثيرة)، فإن الشرح الغريب لتفسير إيفريت يزيد من وضوح الألغاز الفلسفية القائمة.
إعادة النظر في اللامحلية
لقد قدَّمت في الفصل الخامس «متباينة بيل»، وهي قيدٌ على علاقات الارتباط بين أزواج القياسات المتباعدة (أو يمكن القول إنها قيدٌ على أعلى درجة يمكن الحصول عليها في أي لعبة، بناءً على علاقات الارتباط، كما أوضحت في المثال)، وذلك وفقًا لافتراضِ أن هذه «الأزواج المتباعدة» لم تكن على اتصالٍ مباشر، وهو قيد يُنتهك تجريبيًّا أيضًا؛ ومن ثمَّ يبدو أنه ينطوي على تفاعلاتٍ أسرعَ من الضوء في أي نظريةٍ فيزيائية ناجحة تجريبيًّا. يمكننا الآن أن نطرح السؤال التالي: ما الدور الذي يؤديه هذا القيدُ في نُهُج ميكانيكا الكم التي تناولناها؟
نجد أوضح الإجابات عن هذا السؤال في نظرياتِ الانهيار الديناميكي ونظريات المتغيِّر الخفي. فكلٌّ من هذه النظريات تنصُّ صراحةً — في جانبها الصوري — على وجود تفاعلات أسرعَ من الضوء، ووجود «تفاعلات آنية» بالطبع، ووجود ظاهرة «الفعل عن بُعد». وفي كلٍّ من هذه الحالات، تكون هذه الظواهر نتيجةً للكيفية التي تنطبِق بها الديناميكا المعدَّلة أو التكميلية للنظريات على الجسيمات المتشابكة. مرةً أخرى تخيَّل جسيمين في حالةٍ أحادية، وافترض أن هذين الجسيمين قد أُبعدا أحدهما عن الآخر. طبقًا لنظرياتِ الانهيار الديناميكي، فإن قياس دوران أحدِ الجسيمين سيؤدي إلى انهيار الحالة المشترَكة بين الجسيمين، مما يؤثِّر من فوره في الجسيم الآخر، حتى وإن كانت بينهما مسافةُ أميال أو حتى سنين ضوئية. وطبقًا لنظريات المتغيِّر الخفي، فإن قياس المتغيِّر الخفي المناظر لدوران أحد الجسيمين سيؤثِّر من فوره في المتغيِّر الخفي المناظر لدوران الجسيم الآخر، وذلك أيضًا بصرفِ النظر عن طول المسافة بينهما. (وفي كلتا الحالتَين، لا يمكن تجنُّب هذا التفاعل الآني إذا كنا نريد إعادةَ إنتاج الفيزياء المرصودة الخاصة بقياسات الجسيمات المتشابكة.)
هذا يعني أن فئتَي النظرية في حالة توتُّر شديد على الأقل مع نظرية النسبية، ويمكننا أن ندرك السببَ في ذلك بمساعدةِ ما أوضحناه في الفصل الثالث. فالقول إن التأثير في الجسيم البعيد آنيٌّ يعني أن القياس له تأثيرٌ في الجسيمين في آنٍ واحد، وقد رأينا أن النسبية لا تسمح بوجود مفهوم مطلَق للتزامن ومستقل عن الإطار المرجعي، وهي تشير بقوة بالطبع إلى أن «التزامن» مفهومٌ اصطلاحي بحت. ويبدو أن الفعل عن بُعد يتعارض مع هذا، وهو يعيد فَتْح الأسئلة المتعلِّقة ببنية الزمكان التي يبدو أن النسبية قد حلَّتها. (لكنَّ هذا الحكم ليس نهائيًّا تمامًا؛ فثمَّة نماذجُ مبسطةٌ للغاية لنظريات الانهيار الديناميكي التي يبدو أنها تتفادى المشكلة وتظل متوافقةً مع النسبية.)
الحق أنَّ أنصار هذه النُّهج يشكون من أن نقَّادها لا يرون قوةَ الحجج التي تستند إلى متباينة بيل. تخبرنا هذه الحجج — إضافةً إلى الانتهاكات التجريبية لتلك المتباينات — أن «أي» نظرية ملائمة تجريبيًّا ستحتاج إلى تفاعلاتٍ أسرعَ من الضوء؛ ومن ثمَّ فتلك (على حدِّ قولهم) نقطةُ قوةٍ لصالح هذه النُّهُج وليسَت نقطةَ ضعف؛ إذ يرون أنها تُبيِّن على نحوٍ واضحٍ وصريحٍ كيف أنَّ التفاعلات الأسرعَ من الضوء تتلاءم مع الفيزياء.
غير أنَّ الأوان لم يزل سابقًا على ذلك؛ إذ يطرح تفسيرُ إيفريت طريقةً لتفادي مشكلة متباينة بيل. ثمَّة فرضيةٌ خفية في طَرْحي للمتباينة: لقد افترضت أن نتائجَ التجارب فريدة، وهو ما لا ينطبق في حالة تفسير إيفريت. فمن المقبول عمومًا أن حالات خَرْق متباينة بيل للواقع التجريبي لا تفرض اللامحلية على نظرية العوالم المتعدِّدة، وبالفعل فإن الديناميكا غير المعدَّلة لميكانيكا الكم — المستخدَمة في تفسير إيفريت دونما تغيير — لا تنطوي على ظاهرة الفعل عن بُعد؛ ومن ثمَّ فهي لا تتعارض مع النسبية.
ماذا إذن عن النُّهج القائمة على الاحتمالية؟ هنا، تصبح الأمور أكثرَ تعقيدًا. بالنسبة إلى النُّهج «الواقعية» القائمة على الاحتمالية، حيث الاحتمالات لخصائصَ أساسيةٍ غير معروفة، من المقبول أن هذه الخصائص غير المعروفة تتفاعل فيما بينها، ولا بد، بسرعةٍ أكبرَ من سرعة الضوء. على الرغم من ذلك، فبعض النُّسخ التي تتبنَّى نُهُج الذرائعية — لا سيما نسخة «ميكانيكا بيشان الكميَّة» التي طوَّرها علماء الفيزياء كريس فوكس وروديجار شاك وديفيد ميرمين — تتجاوز متباينةَ بيل على ما يبدو. تتكبَّد هذه النُّسخ ثمنًا باهظًا مقابل ذلك؛ فهي تنكِر أنه من المنطقي أصلًا التحدُّث بموضوعية عن نتائج قياسات متعدِّدة أجراها راصدون متباعدون. وفي نظر أنصار ميكانيكا بيشان الكميَّة، فإن الفيزياء لا تُعنى إلا بالملاحظات الرصدية لعالِم بمفرده، وبما أن هذا «العالِم الفرد» لا يمكنه أن يوجَد في مكانين في آنٍ واحد، فإنَّ متباينة بيل لا تنطبق في هذه الحالة (على حدِّ قولهم). الحق أنَّ معظم الفلاسفة متشككون في مدى منطقية هذه المسألة، وأعترف أني أشاركهم في هذا التشكك.
ما الفائدة؟
من بين النُّهج التي تناولتها حتى الآن، فإن نُهُج الذرائعية وتفسير إيفريت تحظى بالرواج نفسه تقريبًا بين علماء الفيزياء (وكما ذكرت، فإن نُهج تغيير الفيزياء تحظى برواجٍ أقلَّ منها بكثير). ولكن الرأي الأكثر رواجًا في مجتمع الفيزياء هو ما يُطلِق عليه عالِم الفيزياء ديفيد ميرمين «تفسير اصمت واحسُب»: وهو رأيٌ مُفاده أننا ينبغي ألا نقلق إزاء هذه المسائل، بل كلُّ ما علينا هو أن نواصل تطبيق ميكانيكا الكم على المسائل الملموسة.
ثمَّة الكثير مما يقال عن نَهج «اصمت واحسُب» في الموضع المناسب لذلك. فليس لزامًا أن يهتم الجميع بتفسير ميكانيكا الكم؛ فينبغي لعالِم الفيزياء الذي يعمل على النيوترينوات الشمسية مثلًا، أو السيولة الفائقة، أن يمضيَ قُدمًا في تطبيق الجانب الصوري من ميكانيكا الكم، من دون أن يأبه لتفسيره بقَدْر ما يُتاح له ذلك؛ وذلك مثلما يجوز لعالِم الكيمياء الحيوية أن يتجاهل ميكانيكا الكم بالكامل، أو مثلما يجوز لعالِم البيئة السلوكي أن يتجاهل الكيمياء الحيوية. لا مفرَّ من تقسيم العمل في العلوم، بل يكون مستحبًّا في كثير من الأحيان.
على الرغم من ذلك، ثمَّة تفسيرٌ أكثرُ عدائية لعبارة «اصمت واحسُب»؛ إذ لا تُعَد وصفًا لنَهج خاص بعالم فيزياء فحسب، بل تُعَد حثًّا للمجتمع للتوقف عن إهدار الوقت. غالبًا ما يُصحب هذا الحثُّ بالزعم أنه ما دامت كل «تفسيرات ميكانيكا الكم» تُنتِج التوقعات نفسها على أي حال، فلا جدوى من الانشغال بتحديد التفسير الصحيح، بل إنه يُعَد خروجًا على المنهج العلمي.
ثمَّة إجابةٌ مثالية بعض الشيء على هذا التشكك: تخبرنا نظريةُ الكم عن أعمقِ طبيعة للواقع؛ فكيف لا نهتم بطبيعة الواقع؟ ويوجد أيضًا المزيد من الأشياء العملية التي يمكن قولها بشأنِ هذا التشكك؛ لأن الادعاء بأن السؤال غير علمي يستند إلى رؤية شديدة التبسيط لفلسفة العلم. رأينا في الفصل الأول أن نقص الإثبات — عندما تَطرح نظريتان مختلفتان التنبؤاتِ نفسها — مسألةٌ دقيقة؛ إذ إنَّ أمرَ المنافسة بين هاتَين النظريتَين لا يُحسم غالبًا باختبار واحد قاطع، بل بتطوُّر النظريتَين بمرور الوقت بينما تُعدَّلان للتنبؤ بفئاتٍ أوسعَ من الظواهر وتفسيرها، ويمكننا أن نرى هذا جليًّا في الجدال بشأن تفسير ميكانيكا الكم.
تبدو هذه المسألةُ في أوضحِ صورها من خلال نُهج «تغيير الفيزياء». تتمثَّل هذه النُّهج في مقترحاتٍ بنظريات متمايزة فعليًّا من الناحية الرياضية. في بعض الحالات، تطرح هذه النظريات تنبؤات — وإن كان من الصعب اختبارها — تميِّزها عن نظريةِ الكم غير المعدَّلة؛ وفي حالات أخرى، تكون بذورًا لبرامجَ بحثية قد تؤدي إلى اتجاه مختلف — على نحوٍ قابل للاختبار — عن نظرية الكم. قد نختلف بشأنِ ما إن كان هذا التوجُّه واعدًا أم غير واعد في مجال العلوم، لكنه ينتمي إليها دون شك. (وهذا لا يعني أن جميع المدافعين عن هذه النظريات يتعاملون معها على هذا النحو — من الاختبارات الجيدة لمدى جِدِّية أحد أنصار نظرية الانهيار الديناميكي مثلًا، أو نظرية المتغيِّر الخفي بشأن اقتراحه باعتباره علمًا، هو ما إذا كان يُرحِّب بالإشارة الضمنية إلى أنه قد يكون لنظريته انحرافاتٌ عن ميكانيكا الكم قابلةٌ للاختبار، أم يقاومها.)
على الرغم من ذلك، توجد فروقٌ كبيرة في الطريقة العلمية، حتى فيما بين تلك النُّهج التي تترك الجانب الصوري من دون تغيير: النُّهج الشبيهة بتفسير إيفريت القائمة على انعدام الاتساق وانبثاق بنية تفرُّع كلاسيكية، والنُّهج التي تُعامِل الحالة الكمية بصفتها حالةً احتمالية. وبوجهٍ عام، يُطبَّق تفسير إيفريت في الحالات التي تهدف إلى فَهْم كيفية تطوُّر الأنظمة دون تحكُّم أو توجيه. الحق أنه نهجٌ مركزي في فَهْمنا لحالات الانتقال بين نظريات الكم والنظريات الكلاسيكية، وهو يُستخدم في بيئاتٍ تتنوَّع ما بين مختبرات عصرنا الحالي وحتى بداية الكون؛ إنه يقدِّم إطارًا ولغةً للتعامل مع المواقف التي لا يكون لمصطلحَي «التجربة» و«القياس» فيها معنًى واضح؛ ثم إنَّ لغته المتمثِّلة في مصطلحاتٍ مثل «الفروع» و«العوالم» قيِّمةٌ في علم الكونيات الكمي والميكانيكا الإحصائية لعدم الاتزان؛ إنه يتعامل مع إطار نظرية الكم على أنها من المعطيات ويستخدمها لفَهْم المشكلات في نظريات الكم المحدَّدة واستكشافها؛ وهو أيضًا النَّهج السائد في فيزياء الطاقة العالية وفي نظرية الأوتار. أما التفسيرات القائمة على الاحتمالات، فتُستخدم بدرجةٍ أكبر في المواقف التي تهدف إلى فَهْم حالات التدخُّل والمعالجة التي قد نجريها في نظامٍ ما؛ فهي مناسِبة تمامًا لدراسةِ إمكانية الحوسبة ومعالجة المعلومات، وقد كانت مصدرَ إلهامٍ للكثير من الأعمال البارعة في هذه المجالات؛ وتقودنا هذه النُّهج بطبيعة الحال إلى التساؤل عن السبب في أنَّ إطار نظرية الكم على ما هو عليه وليس شيئًا آخر؛ وهذه النُّهج هي السائدة في نظرية المعلومات الكميَّة.
ولا يعني هذا أن كلَّ مَن استخدم النُّهج القائمة على انعدام الاتساق لدراسة علم الكونيات؛ ملتزمٌ صراحةً بتفسير إيفريت ولغته المتمثلة في مصطلح «العوالم المتعددة»، ولا أن كلَّ مَن استفاد من تفسير احتمالي لنظرية الكم في إثبات نظريةٍ قيمةٍ في معلومات الكم؛ ملتزمٌ صراحةً بأحد ضروب مذهب الذرائعية. كلُّ ما يعنيه أنَّ الدراسة النظرية لمسألة القياس الكمي أنتجت تدفقًا مستمرًّا من الأفكار، وعناصر الإلهام أثَّرت في المسائل الملموسة في نظرية الكم، والعكس بالعكس. إننا نَدين بالكثير من الفضل في فَهْمنا الحالي لميكانيكا الكم وفَهْمنا لأيٍّ من النظريات العميقة في الفيزياء، إلى مَن مضَوا قُدمًا وأجرَوا القياسات، حتى عندما كان الأساس المفاهيمي لتلك الحسابات غيرَ واضح. لكننا نَدين بالمزيد من الفضل إلى هؤلاء الذين اختاروا — وقت إجراء الحسابات — ألَّا يصمتوا، بل اختاروا أن يفكروا جليًّا فيما تعنيه الفيزياء. ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه العملية قد انتهت، وما من سببٍ يجعلنا لا نتوقَّع أن التداخل بين الحسابات والفلسفة في نظريةِ الكم — وفي الفيزياء بوجهٍ أعم — سيقودنا إلى مزيدٍ من التعمُّق في فَهْمنا لهذه النظريات المهمة، لكنها لم تزل غيرَ واضحة تمام الوضوح.