آخر السلاطين
«مضت دولة وكان غروب شمسها تحيط به ألوان الشفق الزاهية. كانت دولة جديرة بالفناء، ولكنها كانت مثلًا رائعًا من عصر منقرض.»
كانت رءوس النخيل الباسقة تميل في كبرياء، وتختلج بسعفها في عنف، كأنها عمالقة تجاهد في معركة أمام رياح الخماسين الخانقة.
وتناثرت سحب الرمال تغطي صفحة السماء وتحجب قرص الشمس الغاربة، فلا يظهر منه إلا مثل جمرة متقدة، وتبدت ألوان الشفق الزاهية مترددة خافتة، تتمسك بأذيال السحب الداكنة.
وسار الركب الصامت في موكب واجم، والخيل تتعثر في الأخاديد التي خطتها سيول الشتاء المنصرم في تلك الصحراء الجرداء، التي لم يبقَ على وجهها أثر من النبات إلا هشيم تذروه الرياح، يزيد السهل القفر وحشة. وسار الفرسان يلفون اللثم حول وجوههم ليتقوا الرمال السافية، ولكن الحر الكامن في الهواء كان يجعل الأنفاس كثيفة كأنها تلج إلى الصدور قطعًا صماء.
ولاح عند الأفق الغربي تل أغبر، يقطع صفحة السماء ثقيلًا كأنه يهم بالنهوض ولا تسعفه الهمة.
ورفع الفارس المطرق الذي كان في أول الموكب الحزين رأسه في بطء، وقلب وجهه فيما حوله حتى استقر نظره على قرية فوق التل البعيد، والتفت إلى صاحبه الذي يسير في أثره وقال له: أتعرف ما هذه المدينة يا شاد بك؟
فأجاب صاحبه: هي قرية تروجة يا مولاي.
فقال له الفارس وهو مطرق: نعم، هي تروجة، آخر قرية على حدود الصحراء. اسمع نصيحتي يا صديقي واتركني لشأني واذهب أنت وهؤلاء الأصدقاء لتجدوا لأنفسكم متسعًا للحياة.
فقال شاد: وهل كنا لننكث عهدنا ونغدر بك؟ إن لك في أعناقنا عهدًا قطعناه على أنفسنا منذ مات الملك قانصوه الغوري شهيدًا … لقد حلفنا أن نكون جنود السلطان طومنباي أينما كان، ولن نزال جنودًا لسلطان مصر حتى نسفك آخر ما بقي من دمائنا.
فأطرق طومنباي حينًا ثم تنفس وقال: ما كنت أؤثر يا شاد أن تمتد بي الأيام حتى أرى نفسي طريدًا مع هذه الفئة القليلة من الفرسان البسلاء، الذين جررت عليهم الشقاء معي. إنني أحس يا صديقي أن طالعًا من النحس يتبعني، ولست أدري كيف ينقلب نصري خذلانًا، وكيف ينفلت الأمر من يدي كما ينفلت نور الشمس من بين الأصابع. كلما ظننت أن النصر قد أقبل وأصبح في قبضة يدي، وجدت الشؤم يطاردني وصحوت على هزيمة طاحنة كأنني كنت في كابوس ثقيل.
وعاد الفارس إلى صمته وجعل ينظر نحو التل البعيد، وسار الموكب واجمًا يقتفي أثره صامتًا، لا تسمع فيه إلا خشخشة حوافر الخيل إذ تخبط في سيرها كليلة تمتد أعناقها نحو الأرض من الإعياء. ثم لفت الفارس رأسه فجأةً نحو صاحبه وقال له: أتعرف ماذا كان هذا التل من قبل يا شاد؟
فتمتم الرجل قائلًا: هذه أول مرة أراه.
فكشف الفارس رأسه وأزاح اللثام عن وجهه الذي لوحته الشمس، وقال في صوت حزين: هذا التل بقية مدينة عظيمة كانت هناك في أيام القدماء، عندما كانت هذه الأرض سلسلة من البساتين الظليلة. هكذا الدنيا يا شاد، يُفنى عزها ويُطوى مجدها فلا يبقى منها إلا أثر مثل هذا التل القائم في الصحراء. لقد كنت أقف في مصر إلى جانب الأهرام، فأتصور الذين بنوها وما كان لهم من المجد والغنى والفن، ثم أحس قلبي يخفق كأنه يريد أن يقف ويخمد في صدري إذ أتأمل ما نحن فيه اليوم من ضعف وخمود. هذا التل يقوم في وسط الصحراء مناديًا بأن الأبناء قد يرثون المجد ولا يحافظون عليه.
وكان شاد بك يسمع هذا القول الحزين وهو مطرق.
واستمر طومنباي قائلًا: إن قلبي مظلم يا صديقي. أواه! إنه في مثل ظلمة السجن ويطويني في جوفه.
فقال شاد بك متأثرًا: لا تستسلم لهذا الهم يا مولاي، والأمل ما يزال أمامنا فسيحًا. هناك منازل صديقك حسن بن مرعي شيخ عرب البحيرة، وستجد عنده بلا شك ما تحب من النصر على هذا الدخيل ابن عثمان، وسيجتمع لك بعد حين جيش من العرب يتحفز لقتال هؤلاء الغرباء، وسنكون في صدر الجيش نمزق الجموع الهزيلة التي أتت إلينا كالذئاب من وراء الصحراء … لم ينتصر الترك علينا إلا بخيانة الخونة، وسنمزق جموعهم في المعركة المقبلة ونعود إلى مصر التي تردد اسمك في حنايا قلوبها.
فأطرق السلطان صامتًا، وكان يحس في نفسه شعورًا مبهمًا من اليأس يرده إلى الحزن كلما حاول الفكاك منه، وكلما حاول أن يعلل نفسه بما سوف يجده عند صديقه الأمير العربي من المعونة والحماية أحس برودة تشبه برودة الثلج تغوص إلى أعماق قلبه وتكاد توقف دقاته.
ثم لاحت بعد حين عند الأفق ربوة تخفيها سحابة من الضباب والغبار، وانحدرت الشمس للمغيب ولمعت من قِبَل الربوة أنوار تخفق ضئيلة خافتة. واستمر الموكب سائرًا في طريقه يخيم عليه الصمت والكآبة.
•••
وخرج الأمير حسن بن مرعي وابن عمه الأمير شكر ومن ورائهما طائفة من فرسان العرب على خيول شعثاء خفيفة ضامرة، لاستقبال السواد المقبل من بعيد.
والتفت حسن إلى ابن عمه فسأله: لا أظن هؤلاء إلا بعض المماليك المنهزمين يا شكر.
فقال شكر مبادرًا: أرجو ألا يكون ذلك أيها الأمير.
فقام حسن في ركابه واستشرف حينًا ثم قال: إنها خيولهم يا شكر بغير شك. إنها خيول هزيمة تسير وئيدة مطرقة.
فصمت شكر حينًا ثم قال: وهل يجرؤ المماليك على المجيء إلينا؟
فقال الأمير مسرعًا: ولِمَ لا يجرءون يا شكر؟ وهل بقي أمامهم سوى ذلك بعد هزيمتهم الطاحنة؟
فصاح شكر في غيظ: أتراهم يجرءون على ذلك بعد ما أصابنا من ظلمهم وبطشهم؟ أنسيت الأعوام السبعة التي قضيناها في سجن قانصوه؟
فأطرق حسن حينًا ثم رفع رأسه وقال بصوت خافت: وكيف أنسى ذلك يا شكر وقد قاسيت في السجن ما قاسيت؟ ولكن المهزوم ليس قانصوه بل طومنباي. إنه صديقي، وهو الذي خلصنا من السجن، وهو الذي حالفته على الوفاء والولاء.
فقال شكر في شيءٍ من الحنق: إنك لن تنصر طومنباي وحده يا ابن عم، إنها دولتهم التي عرفناها وعرفها آباؤنا من قبلنا، وما ينبغي لك أن تنصرها وهي مدبرة محطمة، بعد أن أذاقتنا ألوان العذاب والذل وهي في عزها وقوتها.
فقال الأمير: ولكن طومنباي صديقي، ولا بدَّ لنا من أن نؤدي له واجب الضيف يا ابن عم.
فقال شكر وهو يحاول أن يكتم غيظه: لك أن تختار ما تراه يا ابن عم، فإنَّا نسير وراءك حيث تسير.
فأطرق الأمير واجمًا، وامتلأ قلبه حيرة منذ سمع قول ابن عمه، ووقع في نفسه هاجس من الخوف؛ لأنه لن يخاطر بنفسه وحدها بل بكل قومه إذا وقف بهم في جانب دولة محطمة. ورفع رأسه بعد حين وقال في تردد: لقد كان السلطان منذ الصغر صديقي، عرفته منذ صباي وكنا أخوين في العهد على الشيخ المبارك أبي السعود الجارحي.
فضحك شكر ضحكة عالية ساخرة، ثم ملك نفسه وبادر قائلًا في لهجة الاعتذار: إنني أول مَن يطيعك يا ابن عم.
فنظر إليه الأمير متألمًا وقال له بلهجة العتاب: ولكن ما الذي يضحكك يا شكر؟
فقال شكر جادًّا: معذرة يا ابن عم إن كنت قد آلمتك، ولكني لا أكتمك أنني لا أظن خيرًا في ذلك الشيخ، ولا أرى للعهد الذي قطعته عليه شيئًا من القدسية.
فرفع الأمير حاجبه صامتًا ومضى ابن عمه فقال: إنه شيخ لبيب يعرف حقيقة مصلحته.
أليس هو الذي كتب على أبواب القاهرة طلاسمه وأسراره زاعمًا لطومنباي أن ابن عثمان لن يستطيع أن يدخل من تلك الأبواب ما دامت طلاسمه عليها؟ لقد اعتقد طومان المسكين في ولايته، ولم يتحول عن اعتقاده بعدُ، مع أنه قد رأى ابن عثمان يدخل القاهرة من تلك الأبواب المطلسمة. وها هو ذا ابن عثمان يخترق ريف مصر، ويهزمه في موقعة بعد موقعة حتى أتمها ست هزائم طاحنة، وطومنباي مع ذلك مستمرٌّ على اعتقاده في شيخه المبارك.
فقال الأمير ولم يخف ما أصابه من ألم: إنك لا تحب الشيخ يا شكر، فدع هذه السخرية المرة فإني لا أحب أن يصيبك منه أذى.
فعاد شكر إلى الضحك وقال في عناد: أما أنا فلست أبالي أذاه. إن الشيخ الصالح في زاويته بالقاهرة عند كوم الجارح يقيم حلقات الذكر لأتباعه المخلصين، فليس يسمع سخريتي.
فلم يجب حسن، بل عبس ومضى في سبيله صامتًا. ولكن ابن عمه قال جادًّا: أمَا بلغك أنه كان يستقبل رُسُل ابن عثمان في زاويته؟ لقد أخبرني بذلك أحد مريديه. وكان الشيخ على عادته حريصًا لبيبًا؛ لأنه طلب من أتباعه ألا يذيعوا سر ذلك الرسول. وها هو ذا ابن عثمان قد زاره في زاويته أول شيء بعد دخول مصر.
فقال حسن في جفاء: دعنا من هذا الآن، فها هو ذا الركب يعرج نحو منازلنا، فأسرع بنا لنلقاه.
وهمز فرسه فانطلق به مسرعًا، ووثبت وراءه أفراس أصحابه تثير غبار الصحراء.
ولما استطاع حسن أن يتبين الوجوه والملابس في غبش المساء قال في شبه صيحة: إنه السلطان طومنباي.
ولما صار على خطوات من ركب طومنباي، ترجل وألقى عنان فرسه على عنقه وصاح مرحِّبًا: شرفت البلاد يا مولاي!
فترجل السلطان وفتح له ذراعيه وتعانق الصديقان.
وكان الليل قد لف الصحراء ولمعت الكواكب في السماء الصافية بعد أن رها الهواء وسكنت العاصفة، وبلغ الفرسان ساحة النجع، فنزل المماليك أتباع السلطان يختارون المواضع لإقامة خيامهم، في حين سار السلطان وأمراؤه الستة نحو خيمة الأمير العربي.
ومد السماط بالطعام بعد حين واجتمع عليه شيوخ العرب من قبائل محارب وكبار الأمراء، وشبان أسرة الزعيم البدوي حسن مرعي.
ودار الحديث بعد العشاء في سيرة الحروب، ولكن الأمير حسن كان يتحاشى المناقشة؛ لأن أقوال ابن عمه شكر تركته في حيرة.
ولم يستطع أن يذوق النوم في ليلته من الأفكار المتضاربة، ثم قام مبكرًا في الصباح فذهب إلى خيمة أمه ليستشيرها.
وكانت السيدة جالسة في صدر خبائها تنتظر أن تصلي الفجر، وما كادت تراه حتى بادرته قائلةً: لقد سمعت أن السلطان عندك يا ولدي.
فأجابها الأمير مسرعًا: نعم، هو هنا يا أماه.
فقالت الأم: لا شك في أنك تعرف ما يجب عليك يا ولدي.
فأطرق الأمير كأن صدمة عنيفة أصابته، ووقف مرتبكًا ينظر إليها، وقال: لقد جئت إليك يا أماه لاجئًا إليك في حيرتي.
وجلس إلى جوارها يحدثها ويراجعها ويفضي إليها بما قاله ابن عمه شكر، ولكنها كانت ترده كلما راجعها وتدور به إلى كلمتها الأولى كلما أراد أن يتفلت منها. وكانت آخر كلمة منها إليه قولها: إذا لم تشأ أن تقف مع ضيفك وتسبل عليه حمايتك كما يقضي عليك واجبك، فلا يجمل بك إلا أن تصرفه الآن عن جوارك.
فخرج من خبائها يتعثر في خطاه، ويمسح القطرات الباردة عن جبينه الملتهب، ويستقبل نسيم الفجر مستروحًا، وسار إلى الشمال في الفضاء الساكن ينظر في أعقاب النجوم الغاربة، والأفكار الثائرة تضطرب في ذهنه الكليل.
وجال بين الكثبان مطرقًا يناجي خواطره المضطربة، فلم يعد إلى نفسه حتى علت الشمس فوق الأفق، فتلفت حوله ليرى موضعه من منازله، فما راعه إلا أن رأى على الأفق الجنوبي سوادًا يتحرك. فوقف ينظر إليه ذاهلًا لا يدري ماذا يكون ذلك المقبل الجديد، ثم عاد إليه وعيه شيئًا فشيئًا، وفتح عينَيْه من الدهش والرعب. فقد كان ذلك السواد بغير شك جيشًا عظيمًا يثير حوله سحابة من الغبار يغمرها ضوء الصباح.
فعاد مسرعًا إلى الحي وقصد إلى منازل ابن عمه شكر، وناداه في فزع وانتحى به في ناحية ليخبره عن ذلك الجيش الذي طلع به اليوم الجديد.
وأسرعا معًا نحو خيام السلطان.
ومضت لحظات طويلة قبل أن يخرج إليهما السلطان من خيمته، إذ كان يصلي الصبح قضاءً بعد هجعة نوم ثقيل. فتقدم نحوه الأمير حسن وحيَّاه تحية قصيرة ثم أنبأه باقتراب جيش الأعداء.
وقال له في آخر الحديث: فليس لك يا مولاي إلا أن تحتال لنفسك، ولا تخاطر بالبقاء في وجه هذا الجيش الكبير.
فقال السلطان ثابتًا: أتريد أن نسير عن جوارك أيها الأمير؟
فأدرك الأمير ما في سؤال السلطان من لوم، وبادر قائلًا: إذا شئت يا مولاي أن تبقى فنحن معك. ليس علينا إلا أن نموت معك إذا شئت أن تجعل الوقعة الأخيرة هنا.
فأطرق طومنباي مليًّا، ثم نظر حوله نحو خيام أتباعه القلائل، وقال في صوت متهدج: ليس لي أن أتحكم في مصير هؤلاء؟
ثم أعلى صوته قائلًا للأمير البدوي: لم ألجأ إليك يا صديقي لأجرَّ عليك وعلى قومك الهلاك، وقد صدقت في نصحي إذ أشرت عليَّ ألا أواجه هذا الجيش.
فقال حسن: إذا شئت يا مولاي فاخرج إلى البراح وأوغل في الصحراء، فإن الجيش لن يستطيع اللحاق بك في هذه القفار.
فقال طومنباي: إننا لا نستطيع الهرب من القضاء يا صديقي. فقد طالما وقفنا في وجه الجيوش الجرارة، ومزقنا صفوفها بصدمة حملاتنا المفردة. كنا أفرادًا نقاتل الألوف ونفتك بها، ونخرج من تحت الغبار بغير أن تصل أيدي العدو إلينا. إني أرد عليك جوارك يا صديقي، وسأذهب من هنا.
فرد الأمير حسن والخجل يثير الدماء في وجهه: لن نتخلى عنك يا مولاي إذا شئت البقاء. إنني ما أزال على العهد الذي قطعته لك، ولن يخذلني عن نصرتك ما أراه من قوة عدوك. إنني نصحت لك ناظرًا إلى سلامتك، ولكني واقف معك إذا شئت حتى تحكم الأقدار حكمها.
فأطرق السلطان حينًا وبدت على وجهه ظلال من التردد، ثم رفع رأسه وقال هادئًا: أليس هناك موضع نستطيع أن نتحصن فيه؟
فقال الأمير مبادرًا: نعم يا مولاي. هذا وادي الغابة على بُعد قليل، هو وادٍ حصين لن يستطيع جيش أن يدخل إليه. إن له مدخلًا لا يتسع لأكثر من راكب واحد، وتحف به رمال تغوص فيها الدابة وتغرق في المستنقع الوخيم. ولن تجرؤ الجموع على اقتحامه ما بقي عند ذلك المدخل عدد قليل يحميه.
فقال السلطان في وجوم: إذا شئت فسِر بنا إليه أيها الأمير.
ثم أسرع نحو الخيام ليأمر أصحابه بالاستعداد ليسيروا سراعًا إلى الوادي الحصين.
•••
وكان اليوم مثل سابقه قاتم السماء قلق الريح، يثور غباره مع هبات الهواء التي تسفي الرمال.
واعتلى السلطان طومنباي ربوة في الوادي الذي دخله مع أصحابه في أول الصباح، وأطل على المدخل الضيق يتأمل الرمال السمراء التي تحف بجانبيه.
وكان قلبه ثقيلًا يكاد يغوص في أعماق صدره وهو ينظر في حسرة إلى الفئة الضئيلة التي بقيت له من فرسانه ومماليكه.
وتمنى لو انصرف هؤلاء عنه وتركوه حيث هو على تلك الربوة ليقاتل في المعركة الأخيرة وحده. ورأى عند الأفق البعيد جيش ابن عثمان يملأ الفضاء، فعرف أن الأمير العربي أخلص له النصيحة عندما أشار عليه أن ينجو مع أصحابه إلى الصحراء الفسيحة قبل أن يحيط به عدوه بألوفه المؤلفة. واندفع هابطًا من الربوة إلى الوادي الأغبر، ثم استمر حتى بلغ الساحل وهو ذاهل عما يريد أن يصنع. وهناك وقف حينًا ينظر إلى الموج الهائج ويستمع إلى صوت هديره العنيف، كأنه وجد في ثورة البحر الصاخب ما يواسي ثورة قلبه الحانق. وتصاعدت الشمس نحو كبد السماء وهو ثابت في مكانه وحيدًا لا يملك من ملك مصر كله سوى الدرع التي عليه والطبر الفولاذي الذي طالما صاحبه في المعارك وسيفه الباتر الذي ورثه عن سلسلة السلاطين الأبطال. وخُيل إليه أنه يسمع صوتًا يناديه من ثنايا الموج:
«ها قد قُضي الأمر، فلا تقاوم القضاء.»
فوثب كالمخبول يتلفت حوله في فزع، واستولى عليه شعور غامر من اليأس والذعر، وأحس برأسه يتصدع وبعزمه يتحلل. وطن الصوت في أذنيه مرة أخرى: «لقد قُضي الأمر ولا حيلة في مقاومة القضاء.» فاندفع يخوض الموج لا يدري ماذا يريد، ثم توقف وتراجع. ولم يَدْرِ ما هو فاعل عندما نزع درعه فقذف بها في الماء، ثم ألقى فيه بعد ذلك طبره الفولاذي وخوذته النحاسية، ثم قذف بالجراب الذي كان في منطقته مملوءًا بالجواهر التي ادخرها لتكون له إسعافًا إذا احتاج إلى مال. وهمَّ أن يلقي بسيفه وراءها، ولكنه تردد وأعاده إلى حمائله قائلًا في صوت ذاهل يشبه حشرجة الذبيح: هذا ما بقي لي من ملك ضائع.
وتراجع من بين الأمواج متخاذلًا كسيفًا، فاتجه نحو الوادي حيث كان أصحابه. وما كادوا يلمحونه حتى أسرعوا إليه في قلق والتفوا حوله يأتنسون بوجوده بينهم. واتجه شاد بك إليه يريد أن يحدثه فإذا ضجة ترتفع من ناحية مدخل الوادي، فالتفت الجمع وراءهم يحسبون أن جنود الترك أقبلت تناوشهم، فإذا الأمير حسن بن مرعي عند المدخل ينادي قائلًا: انج بنفسك وبمن معك يا مولاي قبل أن تهلكوا ونهلك معكم جميعًا.
ثم لوى عنان فرسه وعاد يركض مسرعًا.
فنظر طومنباي إلى أصحابه قائلًا: أمَا سمعتم القول؟
فصاح الأمير قانصوه العادلي في غيظ: لقد علمت أن هؤلاء العرب لا يغنون عنا شيئًا.
وصاح الأمير يحيى: هلموا إلى الخيل فلنمت كرامًا.
وتوالت صيحات أخرى والأمراء يتسارعون إلى خيولهم ليستعدوا للصدمة اليائسة. ولكن السلطان بقي ثابتًا في مكانه وهو مطرق في حزن. فصاح به شاد بك: هلم يا مولاي فالدقائق معدودة.
فقال السلطان في ضعف: انجُ بنفسك وبمن معك أيها الأمير. لا تنظر إليَّ واذهب بأصحابك.
فعاد شاد بك إليه يريد أن يجذبه معه، ولكن نظرة السلطان الهادئة كانت تنم عن عزيمة صارمة. فقال شاد بك في ضراعة: إنك لن تهجرنا في هذه الساعة يا مولاي. إن وجودك بيننا يبعث فينا الأمل والقوة. إننا في حاجة إليك فلا تخذلنا بحق سيفك. إننا في حاجة إلى سيف البطل طومنباي.
فأدار السلطان وجهه الحزين عن الأمير حتى لا يظهر له ما بدا عليه من الاضطراب. وأطرق الأمراء بقلوب موجعة إشفاقًا أن يملئوا أعينهم من ذلك البطل الذي ينهار تحت نظراتهم. ثم قال طومنباي بعد تردد: إنني أحس ألمًا يطعن فؤادي طعنًا أشد من وقع السيوف والرماح وأنا أنطق بكلماتي. ولكن هذا هو القضاء. نحن نجني الثمار المرة التي غرسها من قبل سوانا. لست أذكر مساوئ الموتى، بل إنني أطلب لهم الرحمة من الله. ولكن هي الحقيقة المؤلمة. إنني أنطق بها وليس في صدري أثرٌ من الحقد أو اللوم. نحن نجني الأشواك التي بذرها أولئك الذين كانوا يتمتعون بالحكم ولا يبالون القيام بأعبائه.
فبسط شاد بك يَدَيْه ضارعًا وقال: إنني أستحلفك بشرفك. إنني أتوسل إليك بالسيف الذي لن يجد يدًا طاهرةً تحمله بعدك. أستحلفك بكل ذلك أن تسير معنا لنلقى قضاءنا معًا.
فقال طومنباي وقد عاد إليه الهدوء: لو علمت أنكم تطيعونني لأمرتكم بالبقاء معي هاهنا حتى نلقى قضاءنا معًا في صمت. إن هذا أكرم لنا من أن نضرب في فجاج الأرض هربًا من عدوٍّ يلحق بنا في غير هوادة.
فتحرك شاد بك في ضجر وهمَّ أن يتكلم، فقاطعه السلطان قائلًا: إنني أعرف أنكم لن ترضوا بالاستسلام وستسخرون مني إذا أنا طلبت منكم أن تستسلموا، ولعلكم تزدادون سخريةً إذا علمتم أنني قد ألقيت سلاحي كله في البحر في هذا الصباح.
فصاح شاد بك: ألقيت سلاحك!
وردد الأمراء صيحته في يأس.
فقال طومنباي: نعم، ألقيت سلاحي كله في البحر. ألقيت درعي الفولاذية والحلي والجواهر التي كنت أدخرها، ولم أُبْقِ إلا على هذا السيف الذي أحمله رمزًا لملكي الزائل. حتى الطبر الفولاذي الذي صنعه الأسلاف الأمجاد من صاعقة السماء، حتى هذا الطبر ألقيت به إلى البحر وعيني باكية.
وارتفعت عند هذا ضجة عالية من قِبَل مدخل الوادي، فأشار السلطان بيده إلى الأمراء وصاح بصوت أجش: اذهبوا، أسرعوا قبل أن تتعذر النجاة! إلى اللقاء في عالم البقاء. أسرعوا أيها الأصدقاء. إلى اللقاء يا قانصوه العادلي، يا يحيى الشجاع! يا أرزمك النبيل! يا برد بك! يا أبرك الباسل! إلى اللقاء يا شاد بك يا أشجع الشجعان!
ثم أطرق وسار يجر قدمَيه نحو الربوة الصفراء في جانب الوادي.
فنظر شاد بك إليه وجالت الدموع في عينَيْه، ثم أدار وجهه وأسرع نحو مربط الخيل وتبعه الأمراء يهرولون في صمت. وصعد السلطان في الكثيب وهو مترنح، حتى بلغ أعلاه فجلس ساهمًا يحملق في الفضاء.
وبعد ذلك علت ضجة أخرى عند مدخل الوادي ارتجت لها الأرض، وترددت أصداؤها بين سفوح التلال، فالتفت السلطان فإذا الأمراء فوق جيادهم يركضون لا يلوون على شيء، وهم في السلاح الشائك، واندفعوا نحو العنق الضيق المؤدي إلى البراح. وهمزوا الخيل في عنف فخرجت بهم تقتحم جموع الترك التي تغطي وجوه الرمال في أقصى الفضاء، ونظر السلطان من موضعه إليهم كأنه يرى منظرًا في حلم، رأى صفوف الترك تضطرب وتنفرج والأمراء يخرجون من بينها وهم يحطمون فيها بضربات عنيفة مثل صواعق الإعصار. وبرزوا من بين الجموع واحدًا بعد واحد وحول كلٍّ منهم دائرة ضيقة من المماليك، حتى بلغوا براح الفضاء، وانطلقت بهم الخيول تثير في أعقابها سحائب من الغبار الكثيف واتجهوا نحو الغرب.
وكانت الشمس قد مالت للمغيب وصبغت أطراف السحب بألوان الشفق الزاهية مرة أخرى، وكانت الرياح الحائرة الثائرة ما تزال تثير في الفضاء غلالة من الغبار يبدو من تحتها قرص الشمس أحمر مختنقًا مثل جذوة نار تتقد من تحت الرماد. ووقف السلطان فوق الربوة ينظر إلى مدخل الوادي، وتبسم ابتسامة ضئيلة عندما رأى كوكبة من فرسان العرب مقبلة نحوه. ولما اقتربت منه رأى الأمير حسن بن مرعي على رأسها، فصاح به قائلًا: حسبك أيها الأمير، لا تكلف نفسك عناءً، فإني رجل واحد.
فرفع الأمير رمحه قائلًا في حنق: يا مولاي لا تسئ بي الظن، فإنما جئت لأقف بينك وبين هؤلاء الترك.
فزالت الابتسامة عن وجه السلطان، ونظر حينًا إلى الأمير العربي في دهشة وعيناه تطرفان، وأبصر جموع الترك وهي تتدافع في صفٍّ طويلٍ من مدخل الوادي، ثم تنحدر كالسيل وتحيط بدائرة فرسان العرب من وراء. ومضت دقائق طويلة وفرسان العرب يقفون من وراء أميرهم، وعليهم مظهر التحدي ينتظرون ما تأتي به اللحظات المقبلة. وخشعت الأصوات. وخيم على الجموع الزاخرة صمت يشبه السكون الرهيب الذي يشمل الجو قبل العاصفة. فعرف السلطان أن صديقه العربي قد آثر الموت بمن معه في سبيل المروءة، وجالت في عينَيْه الدموع واختنق صوته عندما حاول الكلام، ولكنه جاهد نفسه وصاح في حشرجة: يا حسن بن مرعي! جزاك الله عني خيرًا أيها الأمير. لقد كنتُ أستطيع النجاة لو أردت الحياة. دعني لقضائي فقد وفيت بذمتك.
فصاح الأمير العربي: لن أسلمك ما دام سيفي في يدي.
فنادى السلطان وقد عاد صوته إلى الصفاء: إني آمرك يا حسن بن مرعي. لا تسفك دمًا بعد هذا. إني أسلم نفسي. أين قائد الجيش التركي؟
فسكت الأمير حسن ولم يجب، وتقدم قائد الترك «إياس» من بين الصفوف، وأمر قواد جيشه أن يرتدوا بالجند إلى الوراء، ثم ترجل عن فرسه وأغمد سيفه وتقدم نحو الربوة يريد أن يخرق حلقة العرب التي حولها، فاعترض حسن بن مرعي سبيله متحديًا.
فصاح السلطان من أعلى الربوة: أفسح له أيها الأمير، مُر جندك أن يفسحوا له، إني آمرك إن كنت محتفظًا بالولاء. تقدَّم أيها القائد فإني أنتظر.
فأطرق الأمير حسن إلى الأرض، وسار القائد «إياس» مصعدًا في الربوة حتى بلغ موضع السلطان.
ولم يَقْوَ الأمير العربي على النظر إلى ورائه عندما علت صيحة الفرح من جنود الترك، فهمز جواده وانطلق مسرعًا وفرسانه يركضون في أثره حتى خرجوا من الوادي إلى الفضاء.
وأخذ إياس بذراع طومنباي وهو محتفظ بسيفه ونزلا معًا ليركبا عائدَيْن إلى القاهرة، ليكون طومنباي آخر السلاطين.