المبارزة المؤجلة
«حيث لا قانون يكون قانون الغابة.»
كان عمر بك يعرف أنه من أسهل الأمور أن تُدبَّر له مكيدة في أي وقت من الأوقات وفي أي ساعة من ساعات الليل والنهار. كانت القاهرة عند ذلك مدينة تنطوي على حياة خفية أشد اضطرابًا من حياتها الظاهرة؛ فقصورها المغلقة النوافذ وحاراتها الضيقة ومنعرجات طرقها التي تشبه التيه توحي بأسرار غامضة لا يستطيع أحد أن يكشف حقائقها. قد يكون الإنسان سائرًا في طريقه، أو راكبًا، كما قد يكون نائمًا مطمئنًّا في فراشه، ثم يتنبه فجأةً على صوت غدارة تنطلق عليه أو على لمعة خنجر يهوي نحو صدره. فإذا نجحت المكيدة وانتهت بصيد الفريسة، ظهر المتآمرون أمام أعين الناس وأعلنوا أنهم أصحاب الحق في الاستيلاء على الغنائم، فيذهب دم الضحية هدرًا ويصبح الجناة سادة.
كان عمر بك يعرف هذه الحقيقة ولا ينكرها، ولا يجد فيها شيئًا يستحق اللوم؛ لأنها كانت هي سُنَّة الحياة في زمانه. هكذا استطاع هو أن يصبح أميرًا من كبار السادة في البلاد، وهكذا فاز سيده الذي اشتراه مملوكًا صغيرًا، وهكذا كان السيد الأكبر الذي اشترى سيده مملوكًا صغيرًا من قبل. وما أكثر الحوادث التي كانت تُذكِّر عمر بك بأنه يعيش في القاهرة كما يعيش الأسود والنمور والذئاب والضباع في الغابة، فالأسود لا تلوم النمور إذا هاجمتها ولكنها تدافع عن نفسها إلى الموت، ولا تحمل لعدوها حقدًا بعد أن تتغلب عليه، ولكنها تقضي عليه.
وما أكثر الأعداء الذين كانوا يحيطون به ويتربصون له، ويدبرون له المكائد في كل ليلة!
فقد كانوا في وقت من الأوقات مماليك صغارًا مثله عندما أتوا من بلادهم وراء البحار ونزلوا معًا إلى وكالة «اليسيرجي» الذي جلبهم من الخارج، وكثيرًا ما تصارعوا وتسابقوا وتباروا في الرماية بالقوس وتبارزوا بالسيف عندما كانوا شبانًا يريدون أن يظهروا مواهبهم في فنون القتال. ولم ينسَ عمر بك مع تطاول السنين منذ تلك الأيام الأولى أنه كان دائمًا أبرع زملائه في كل هذه الفنون، إذ كان أسبقهم في الجري وأقواهم في المصارعة وأمهرهم في المبارزة بالسيف. وإذا كان أحيانًا ينتصر وأحيانًا ينهزم في حلبات سباق الخيل فقد كان ذلك تبعًا لمقدرة الجواد على السبق، لا تبعًا لمقدرته هو على الركوب؛ لأن الجميع يعلمون أنه كان أبرع المماليك في فنون الفروسية.
ولم يكن عجيبًا أن يبلغ عمر بك مرتبة الإمارة قبل زملائه؛ لأن كبار الأمراء كانوا حريصين على تقريبه إليهم وكانوا يتنافسون على انضمامه إلى أحزابهم لينتصروا به في مؤامراتهم المستمرة. وقد استفاد هو بهذه المنافسة في كل مرة؛ لأنه كان يجني من كل مؤامرة ثمرة طيبة. استطاع عمر بك أن يكون أغنى الأمراء؛ لأنه كان يحصل على نصيب الأسد من الغنيمة بعد كل مؤامرة. واستطاع أن يكون أقوى الأمراء؛ لأنه حرص على أن يشتري لنفسه أكبر عدد من المماليك حتى صار له عدد عظيم من الأتباع المخلصين. كما استطاع أن يكون أعظم الأمراء مجدًا وجاهًا؛ لأنه فتح بيته للقاصدين، وكان ينفق ما يبقى عنده من الأموال في الهدايا والعطايا والإحسان على أهل العلم والفقراء.
ولم ينسَ عمر بك نصيبه من السعادة المنزلية؛ لأنه كان يجمع في قصوره الكثيرة مجموعة من الجواري الحسان. كان تجار الجواري يعرفون شغفه بهن، فإذا ما عثر أحدهم بحسناء من بنات الجركس أو الصقالبة أو الروم أو الترك أسرعوا إليه ليبادر بشرائها حتى لا يسبق إليها أحد من منافسيه، وكان عمر بك يجازيهم على هذا الولاء بأن يجزل لهم العطاء ويبذل لهم ما يطلبون من الأثمان إذا وقعت الجارية عنده موقع القبول.
ولم ينسَ عمر بك فوق كل هذا أن يكرم الأولياء الذين كان الأمراء الآخرون يحتقرونهم ويسمُّونهم بلهاء أو مجذوبين، فهؤلاء كانوا يذهبون إلى بيت عمر بك كلَّ يوم ليجدوا عنده أطايب الطعام، كما كانوا يقضون عنده السهرات في ليالي رمضان، ويفوزون بالملابس الثمينة من الجوخ والأطلس إذا جاءت أيام العيد. وامتاز عمر بك في القاهرة كلها بأنه من المريدين المخلصين للشيخ علي المجذوب الذي يعرف الجميع كراماته. لهذا كله كان عمر بك لا يحس شيئًا من الجزع كلما بلغه أن زملاءه القدامى يحسدونه ويدبرون له المؤامرات، وكان دائمًا مطمئنًّا إلى أن أخبار مؤامراتهم تصل إليه عن طريق أعوانه وأتباعه ومحبيه قبل أن يستطيع منافسوه أن يحكموها وينفذوها.
وكان يحس نوعًا من السرور عندما تبلغه أنباء مؤامرة جديدة؛ لأنه يجدها فرصة لمغامرة ظريفة يجد فيها متعة تشبه متعة السباق في حلبة الرهان ومتعة المصارعات والمباريات والمبارزات. وقد دلَّت الحوادث الكثيرة في مدى سنوات طويلة على أن عمر بك بطل لا يمكن أن يتغلب عليه أحد في المنازلات ولا يفوقه أحد في فنون المكر والخداع. ثم حدثت حادثة واحدة كادت تقضي عليه، لولا أنه نجا منها بأعجوبة، ثم كادت تقضي على شهرته بأنه بطل لا يُقاوم، لولا أنه تذرع بالصبر والأناة حتى تمكن من استرداد شرفه وشهرته.
جاء إليه الحاج علي «اليسيرجي» تاجر الرقيق ذات مساء وأفضى إليه سرًّا بأنه قد جلب من بلاد الجركس فتاة لا تزيد على الثامنة عشرة، ولكنها كانت ذات مفاتن لا يمكن وصفها. وما كاد عمر بك يسمع بذلك حتى بادر بالذهاب مع الحاج علي إلى الوكالة بغير أن يفكر طويلًا؛ لأن وصف الرجل للفتاة جعله يخشى أن تفوته الفرصة، ولا سيما عندما ذكر له أن أحد المماليك رآها عنده وذهب إليه منذ ساعة يساومه في ثمنها. ولم يأخذ معه أحدًا من المماليك؛ لأن الليلة كانت مظلمة ولا يمكن أن يتصور أحد أنه يسير بمفرده في عطفات المدينة في مثل تلك الساعة. وركب جواده، وسار اليسيرجي على بغلته من ورائه، وفي ساعة قصيرة كانا في الوكالة. وهناك دخل عمر بك إلى الفناء الفسيح وأخذ يقلب بصره في أبواب الغرف المحيطة به، إذ كانت كل جارية تتمدد أمام باب غرفتها على أريكة مكسوة بالحرير تنسدل على جانبيها ستارتان من الأطلس الملون، وكانت الأضواء تنبعث من القناديل النحاسية المدلاة من سقف الرواق فتلقي أشعتها الخافتة على الألوان المختلفة الزاهية وتخلع على وجوه الفتيات ألوانًا سحريةً.
وأشار الحاج علي إلى الغرفة التي في صدر الفناء، فذهب الأمير نحوها ورأى هناك حوراء لم تقع عينه على مثلها من قبل. وماذا يستطيع الوصف أن يحمل في مثل هذه الألفاظ حتى يرسم صورة صادقة لتلك الفتاة الساحرة؟ ولما وقعت عليها عين الأمير ضمت غلالة ثوبها على صدرها في حياء، وأطرقت في خفر، فانسدل شعرها الفاحم يتدفق على كتفيها. أيُوصف وجهها بأنه يشبه زهرة؟ أو يُوصف جسمها بأنه يشبه دمية؟ عندما نظر إليها عمر بك خُيل إليه أن بساتينه تخجل من محاسنها إذا خطرت بين أحواض زهرها، وأن عبير أنفاسها يزري بعبير المسك والعنبر. وسألها عمر بك عن اسمها فلم تجب، وقال له الحاج علي: لم تتعلم العربية بعد، وقد سميتها «جلنار».
فتبسم له الأمير قائلًا: اطلب ما تشاء ثمنًا لها.
وانصرف عائدًا ليأمر بإعداد البيت الذي يليق بحسناء مثلها، ولكنه ما كاد يبلغ باب الوكالة حتى رأى مملوكًا شابًّا يقبل نحو الحاج علي ويقول له: لقد دبَّرت لك الثمن الذي تريده.
فبُهِتَ الشيخ ولم يجبه، ونظر في جزع إلى الأمير.
ولم يتوقع عمر بك أن يُفاجأ بمملوك شاب مثله يأتي في تلك الساعة لينافسه، فأراد أن ينصرف واثقًا أن الفتى لا يمكن أن يتطلع إلى مثل تلك الجوهرة النفيسة. ولكن الشاب أدرك من نظرة الشيخ ومن صمته أن في الأمر شيئًا، فصاح قائلًا للشيخ: ها هو ذا الثمن الذي طلبته.
فقال الشيخ بغير احتراس: انتهى الأمر وبعتها.
فصاح المملوك في غضب: أيها النحس!
وارتد إلى الوراء قابضًا على سيفه وقال يخاطب الأمير: ألم يقل لك إني اشتريتها؟
فنظر عمر بك إليه ولم يجبه، ولمح على وجهه ما جعله يتردد. كان وجه ذلك المملوك يدل على أنه شاب متهور لا يتردد في أن يخوض معركة.
واستمر المملوك قائلًا: لن يخرج بها أحد غيري، لن أسمح لأحد أيًّا كان أن يأخذها.
ووقف في سبيل عمر بك متحديًا.
فقال عمر بك في هدوء: وماذا تفعل؟
فقال الفتى مهددًا: تكون لمن يبقى حيًّا منا. وجرد سيفه وارتد إلى الوراء مستعدًّا للمنازلة. فهمَّ عمر بك أن يجرد سيفه هو الآخر، ولكنه تردد بعد لحظة، فإنه أحس لأول مرة في حياته أنه غير مستعد للمنازلة. وماذا يفيده إذا أغمد سيفه في صدر مملوك بائس مثل هذا؟ ثم خطرت له خاطرة في مثل لمح البصر، واتجه إلى الفتى قائلًا في صوت خافت: سأتنازل لك عن الفتاة إذا عرفت مَن أنت.
فقال الفتى ساخرًا: وماذا تريد مني؟
فقال عمر بك في نغمة سخرية: لعلنا نتلاقى مرة أخرى. فقهقه الفتى ورد سيفه إلى غمده قائلًا: لك أن تختار وقتك يا سيِّدي.
فقال عمر بك: أمَا تخبرني مَن أنت؟
فقال متحديًا: حسين مملوك عثمان بك.
فرفع عمر بك حاجبه مندهشًا وقال: عثمان بك؟ والجارية لك أنت؟
فقال الفتى: وهل هذا يهمك؟
فقال عمر بك: أتعرفني؟
فأجاب المملوك: وهل يخفى عمر بك؟
فصمت الأمير ونظر إلى الحاج علي نظرة ارتياب، ثم أسرع إلى جواده فوثب عليه عائدًا إلى بيته وهو يخشى في كل خطوة أن يواجهه كمينٌ من الأعداء أو أن تنطلق عليه رصاصة غدارة عند زاوية الطريق؛ لأنه أحس أن هناك مؤامرة مدبرة. وهل يتعذر على عثمان بك أن يدبر مكيدة محكمة؟ من السهل عليه أن يبعث المملوك لشراء الجارية الحسناء ويعطيه ثمنها ثم يوعز إلى تاجر الجواري أن يعرضها في الوقت عينه على الأمير عمر بك. هي خطة متقنة تضمن وقوف عمر بك وجهًا لوجه أمام فتًى متهور أعجبته امرأة ويخشى أن يخطفها منه الأمير.
ولما بلغ عمر بك داره استلقى على أريكة في الحديقة وهو يحس أنه ارتكب غلطة كبيرة عندما ذهب وحده إلى وكالة «اليسيرجي». وحاول أن يزيل من نفسه شعور الإهانة التي أحسها عندما اضطر إلى التراجع عن مبارزة المملوك الوقح الذي تحدَّاه تحديًا صريحًا. ولكنه برغم محاولاته الكثيرة استمر ساعة طويلة في جلسته منقبض النفس، وهو يسائل نفسه: ماذا كان يستطيع أن يفعل؟ أكان يجمل به أن يقف بنفسه أمام فتًى حانق يائس لا تهمه الحياة في شيء؟
تذكر الخاطرة التي خطرت له وهو واقف تجاه الفتى المتهور. بعد عام سيكون ذلك الفتى قد ذاق لذة الحياة مع جلنار، ولعله يكون قد أنجب طفلًا أو طفلةً، وعند ذلك سيكون أحرص على الحياة. سيواجهه بعد عام واحد يسترد منه تلك الوقفة التي وقفها أمامه، حتى يعرف الجميع أن أحدًا في مصر لم يستطع إلى النهاية أن يقف في وجه عمر بك. ومع أن المقابلة التي حدثت بين الفتى المملوك وبين عمر بك كانت سرًّا لا يعرفه سواهما، فإن أخبارها ذاعت في أركان القاهرة، فتحدثت بها كل المجالس في أقصى المدينة وأدناها، وتندر الأمراء فيما بينهم وهم يتهامسون قائلين: لقد وجد عمر بك مَن يخيفه أخيرًا.
وشجعهم هذا الفوز على تدبير مؤامرات جديدة.
وجاهد عمر بك طوال العام التالي ليكظم غيظه ويوهم زملاءه القدامى أنه لا يعلم شيئًا من محاولاتهم، واكتفى بأن يفسد عليهم كل المؤامرات التي دبروها بغير أن يوجه إلى أحد منهم كلمة. وكان إذا لقيهم في أيام المواسم وإذا اجتمع بهم عند الباشا في مجالس الديوان لا يبخل عليهم بالتحيات الرقيقة التي تفيض مودةً وعطفًا.
ولما مضى العام اختار أن يضرب الضربة الحاسمة، وكان ذلك بمناسبة مؤامرة جديدة دبرها زملاؤه القدامى، فاختار أن ينازلهم فيها منازلةً صريحةً.
أوْلَم المملوك حسين وليمة كبرى بمناسبة ميلاد ولده البكر علي، بعد أن ترقى فصار حسين كاشف. وذهب حسين إلى عمر بك في بيته يعتذر إليه ويرجوه الصفح عنه متظاهرًا بأنه ندم على جرأته السابقة ووقوفه في وجهه متحديًا، وسأله أن يتفضل عليه بتشريفه في داره الجديدة التي بناها على مقربة من قصر الأمير نفسه. وأرسل إليه عمر بك عدة أحمال من الهدايا ووعده بأن يكون أول السابقين إلى الوليمة الكبرى إكرامًا للسيدة جلنار نفسها أيضًا.
وفي اليوم الموعود — يوم الأربعين لميلاد الطفل السعيد — استعد عمر بك للذهاب إلى الوليمة، وهو يعلم كل تفاصيل المؤامرة التي دُبِّرَت لاغتياله في ذلك اليوم.
سيقوم حسين كاشف بدوره الطبيعي عندما يتقدم إلى باب البيت لاستقبال الضيف الكبير بالحفاوة التي تليق به، ثم يميل على يده ليقبِّلها إجلالًا له واعتذارًا عن خطئه السابق. ولكنه لا يترك يده بعد أن يقبِّلها، بل يمسك بها بكلتا يَدَيْه حتى يمنعه من تجريد سيفه. وفي تلك اللحظة يتقدم المتآمرون الخمسة ليضربوه بسيوفهم في لحظة واحدة. وستكون قصور عمر بك وأمواله وجواريه ومماليكه بعد ذلك غنيمة للجميع، ويصبح حسين كاشف الأمير حسين بك مكافأةً له على نجاح المكيدة.
وذهب عمر بك إلى البيت الجديد الذي أُعدت فيه الوليمة الفاخرة. كانت الأنوار والأعلام تزين الحارة من مداخلها، وكانت الأرض مفروشة بالرمال الصفراء، وجلست فرقة الطبول والزمور تعزف بأنغامها الصاخبة عند مدخل الفناء، في حين كان الطباخون منهمكين في إعداد الأصناف البديعة للضيوف العظام. ونزل عن فرسه عند الباب وتولى زمامه اثنان من السراجين أتباع الكاشف، وكان الشيخ علي المجذوب هناك واقفًا بقرب الباب ممسكًا بنبوته الطويل ويطوح رأسه قائلًا: الله! الله!
وكانت قلنسوته العالية ذات العمامة الخضراء تهتز مع حركة رأسه في عنف.
ولما أقبل حسين كاشف ليستقبل الأمير صاح الشيخ المجذوب: جرد السيف يا بطل!
فتبسم عمر بك عندما وجد الخطة التي رسمها مع الشيخ تسير في طريق النجاح.
وأسرع بتجريد سيفه ووقف ينتظر مجيء صاحب البيت لاستقباله.
وبُهِتَ الحاضرون جميعًا وأوقفت فرقة الطبالين عزفها وقالوا: كرامة!
وبُهِتَ حسين كاشف أيضًا من المفاجأة ووقف في مكانه ينظر نحو الضيف المتبسم.
وقال عمر بك: هذه كرامة الشيخ يا حسين كاشف، فتقدم.
ووقف الأمراء الخمسة ينظرون في دهشة وسيوفهم معلقة في حمائلها لم يجردوها بعد.
وقال عمر بك: تقدم يا حسين كاشف. كنت تريد مبارزتي منذ عام. تقدم وقبِّل يدي كما كنت عازمًا.
وسار خطوتَين إلى الأمام حتى وقف تجاه المملوك الشاب وقال في صرامة: أنا أدعوك إلى المبارزة.
فقال حسين في ضعف: ألم أعتذر إليك؟
فضحك عمر بك مقهقهًا وقال: وقد قبلت اعتذارك، وها أنا ذا أجيء إليك مهنئًا. خذ يدي واقبض عليها جيدًا كما اتفقتم. كما اتفقت أنت وهؤلاء.
وأشار إلى الأمراء الخمسة الواقفين من ورائه.
ووقف الفتى أمامه ثابتًا لا ينطق بكلمة.
وصاح عمر بك بالأمراء: دعوا هذا المسكين يحيا من أجل ولده، وتقدموا أنتم واحدًا واحدًا. أهذا طلب عادل؟
وصاح الشيخ المجذوب وهو يطوح رأسه: الله! الله!
وصاح الطبالون في حماسة: كرامة!
وتبسم عمر بك وأعاد سيفه إلى غمده قائلًا: إلى اللقاء في ميلاد الطفل الثاني.
ثم قهقه في ضحكة طويلة، وأسرع فوثب على فرسه وهمزه فانطلق به يعدو.
وبلغته في الأيام التالية أحاديث الأمراء في مجتمعاتهم إذ يقولون إنه زعيم الأمراء بلا منازع.
وكان الشيخ علي المجذوب يسير في طرق حي قوصون وحاراته بنبوته الطويل وعمامته الخضراء، يصيح بأعلى صوته، متغنيًا بزجل طويل في مدح البطل الذي وقف وحده أمام خمسة أمراء، ولم يجرؤ أحد منهم على مواجهته، وكان يقطع غناءه بين حين وآخر ويهز رأسه في عنف ويقول: الله! الله!