الرقصة المجنونة

«عندما كانت الحياة مجنونة.»

كان الأستاذ عطية يعتقد أن الحياة صارت مجنونة، وذلك بعد أن بلغ سن الأربعين في عام ١٩٥١. حقًّا إنه من السخف أن يقول أحد إن الزمان فسد لأن الزمان تغير، فإنه لا مفر من تغير الزمان. ولكن من الضروري أن يكون الناس على اتفاق في شعورهم وآرائهم ما داموا يعيشون في وقت واحد، وإلا كانوا عرضة لسوء التفاهم. وهذا هو السر في اعتقاد الأستاذ عطية أن الحياة مجنونة؛ لأنه كان يخالف أهل زمنه في الآراء والشعور.

والأستاذ عطية مع غرابة أطواره جدير بأن يُعد من الأفذاذ النادرين الذين بلغوا سن الأربعين في منتصف القرن العشرين. هو رجل ذو شخصية عجيبة تشبه الشخصيات الخيالية التي تتحدث عنها الأساطير، لا تهمه مظاهر الحياة بقدر ما تهمه حقائقها الجوهرية، ولا يعبأ بالأوضاع التي يتعارف الناس عليها إذا كانت في نظره أوضاعًا سخيفةً. وهو فوق كل هذا لا يعترف بالمقاييس الاجتماعية ولا المقاييس الأخلاقية إذا لم تكن قائمة على المبادئ التي يفهمها ويسلم بها: فهو مثلًا لا يعترف بأن الإنسان جدير بالاحترام لأنه حصل على ثروة عظيمة فقط، وقد يكون احترامه عظيمًا لرجل بسيط فقير أكثر بكثير من تقديره لرجل من أصحاب الملايين، وذلك إذا كان صاحب الملايين من الذين لا يساوون مليمًا على حسب مقاييسه الخاصة.

ولكن الأستاذ عطية وإن كان غير راض عن الأوضاع والمقاييس التي في أيامه، فإنه كان محتفظًا بالمرح وسعة الصدر، ولا يحمل لأهل زمانه ضغنًا لأنهم يخالفونه في الشعور أو الآراء. هو لا يعرف المرارة ولا الحقد ولا الحسد، ويأخذ أمور الناس كما هي ويحتفظ بآرائه ومقاييسه لنفسه مع علمه بأنها تخالف مقاييس الناس وآراءهم. ولهذا كان محبوبًا عند الجميع برغم اختلافهم عنه، بل كانوا يحبون أن يستمعوا إلى آرائه وانتقاداته التي يصوغها في أسلوبه الفكاهي الظريف.

وأما سبب اختلاف وجهة نظر الأستاذ عطية عن وجهة نظر أهل زمانه، فذلك ما يطول شرحه، ويكفي أن نقول إنه يرى أن العالم كله بوجه عام ومصر بوجه خاص قد أصبح عالمًا سخيفًا مجنونًا.

فالناس جميعًا في نظره يسيرون نحو الهاوية بعيون مقفلة، بعد أن فقدوا أهم شيء في الحياة وهو أرواحهم. أصبح الناس جميعًا في نظره حثالة يعيشون بلا أرواح يعبدون أصنامًا بغير أرواح، أو بقول آخر هم يعبدون الأصنام التي لا أرواح لها على شرط أن تكون من ذهب. ومن أجل عبادتهم للأصنام الذهبية، أصبحوا لا يعبئون بالحقائق وأغلقوا أعينهم عن معاني الحياة الكبرى، واتجهوا في لهوهم السخيف نحو الهاوية. هذه هي فلسفته التي كان يصوغها في أسلوبه الفكاهي اللطيف، بطريقة مضحكة مسلية مع أنها تنطوي على حكم نفيسة. والمثل الأعلى في الحياة للأستاذ عطية هو الشخصية الخيالية المعروفة: جحا، الذي بلغ من إعجابه بشخصيته أنه أوصى أحد الفنانين المشهورين بصنع تمثال نصفي له، ووضعه في صدر غرفة الجلوس في بيته.

والأستاذ عطية رجل وإن تخطى سن الشباب من زمن طويل يحتفظ بحيوية قوية، حتى إنه يبدو شابًّا في أعين الجميع. ومن فضائله أنه غير متزوج؛ ولذلك لا يجد سببًا يحمله على المجاملة في إبداء آرائه. كما أنه يمتاز بفضيلة أخرى، وهي أنه لا يرى في الحياة سببًا يستحق الأسف. لا تكاد الدنيا تزيد في نظره على مسرح شعبي تُمَثَّل عليه ملهاة مضحكة أو مهزلة، تتخللها أحيانًا بعض مناظر مبكية ولكنها ملهاة لا يدرك معناها كثير من النظارة.

والممثلون في هذه الملهاة أو المهزلة هم الأحياء جميعًا لا فرق فيهم بين مَن يسمونهم العظماء والحقراء، ولا بين العقلاء والحمقى، والجميع يقومون بأدوارهم على المسرح وينظرون إلى أنفسهم في الوقت نفسه. وهو يعتقد أنه هو الآخر يقوم بدوره في المهزلة العامة، كما يشترك في مشاهدة المناظر، والفرق بينه وبين غيره أنه لا يطلب أتعابًا على القيام بدوره، في حين أن الآخرين يتقاضون أتعابهم بطرق مختلفة! بعضها يضحك وبعضها يبكي.

والأستاذ عطية يتعمد أن يؤدي دوره في الحياة بإخلاص وصراحة، ولذلك فهو يسير على سجيته بغير تكلف، ولا يحاول أن يغطي أعماله ولا آراءه بالغشاء المموه الذي يغطي به الناس أعمالهم وآراءهم لتبدو مقبولة. وله فلسفة خاصة في كل ما يتصل بالناس، وذلك أنه لا يقيد نفسه بالعرف الذي اصطلحوا عليه، ما دام لا يرى في الحدود والمقاييس التي وضعوها سوى حيل خبيثة وضعها المكرة ليستغلوا البسطاء ويفوزوا بما يشاءون من المنافع والمتع. ولهذا جعل شعاره الأول في معاملته للناس ألا يقف لحظة ليفكر فيما يقوله الغير عنه.

ومن العدل أن ننظر إلى الناحية الأخرى من شخصية الأستاذ عطية، إذا أردنا أن نعرفها على حقيقتها، فهو رجل يجمع في طباعه بين الأضداد، كما أنه يجمع في عقله بين المتناقضات. فبينما هو يعطي ما في يده سخيًّا فياضًا، إذا هو يمد يده إلى أصدقائه في جرأة قد تبلغ حد التبذُّل أو الاعتداء. وبينما هو يأبى أن يستجيب إلى دعوة أحد العظماء إلى وليمة فاخرة، إذا هو يذهب إلى مجالس السوقة بغير دعوة ويقضي معهم الأماسي الطويلة في منتدياتهم الوضيعة.

وهو من سلالة أسرة قديمة عريقة في المجد، ولكنها من تلك الأسر التي لم يبقَ منها إلا الاسم، كما لم يبقَ من مجدها القديم إلا بيت فسيح متهدم في حي المنشية. وإذا كان للأستاذ عطية ميراث آخر من هذه السلالة القديمة، فذلك لا يزيد على بعض مبادئ يتمسك بها ويعتقد أنها هي الأمثلة العليا. وقد يبلغ به التحمس لهذه المبادئ إلى حد أنه يعتقد أن الحياة الحديثة صائرة بغير شك إلى الانحلال والفناء لأنها انحرفت عنها.

ومع أنه متصل بالقرابة والنسب إلى كثير من الأسر الكبيرة، فهو لا يعبأ بتلك الصلات ولا يحرص عليها، بل يتعمد أن يتبرأ منها؛ لأن تلك الأسر قد انحرفت هي الأخرى عن المبادئ التي يعتقد فيها. والأستاذ عطية مع كل بدواته وآرائه الغريبة يتمتع بمكانة عالية بين أهل المنشية، فإن أبناء ذلك الحي ولا سيما العامة والسوقة منهم يحبونه ويعتبرونه الرجل الأصيل المنحدر من بيت الشرف والمجد، فإذا مر في الطريق قام له أصحاب الدكاكين وقوفًا وحيوه في بشاشة ورحبوا به في مودة، فإذا عرج على دكان أحدهم ليجلس معه ساعة قصيرة عدَّ ذلك شرفًا عظيمًا وتنازلًا مشكورًا.

وليس احترام الأستاذ عطية مقصورًا على أصحاب الدكاكين وأهل السوق في حي المنشية، فهناك شخصية هامة محبوبة في ذلك الحي تعتبر الأستاذ صديقًا عزيزًا، وهي شخصية «كوكو» المهرج المرح الذي يعرفه الجميع، ويلتف حوله الأطفال والشبان ليستمعوا إلى فكاهاته الحلوة كلما مر في حواريهم. فكلما لمح كوكو خيال الأستاذ عطية من بعيد أسرع إليه ووضع يده على كتفه وأخذ يرقص ويغني له ويبادله الفكاهات، ثم يأخذ منه ما يعطيه من النقود الصغيرة إذا كان معه نقود.

figure

وللأستاذ عطية أصدقاء كثيرون في القاهرة وغيرها لا يكادون يصبرون عنه إذا غاب عنهم، ويسعون إلى مرافقته والتمتع بمجالسه، وهم جميعًا يميلون إلى مداعباته ويتعمدون أن يثيروا مرحه وطربه، وقد يبلغون معه حد العربدة إذا لعبت الخمر برءوسهم.

وأما هو فإنه لا يشرب الخمر ولا يضيق أبدًا بهذه المداعبات ولا يغضب، بل يتحملها مسرورًا، وكل ما يرد به عليها لا يزيد على بعض فكاهات تطلق الضحكات العالية وتزيد الأصدقاء تعلقًا به. فلا يذكر هؤلاء الأصدقاء أنه خرج عن عادته في المؤانسة الظريفة الوديعة إلا مرة واحدة في ليلة واحدة كانت فلتة من الفلتات في كل حياته.

ففي تلك المرة وحدها، شرب الأستاذ عطية بعض كئوس من الخمر على غير عادته وعربد عربدة صارخة كانت موضع الدهشة عندهم جميعًا، حتى إنهم ما يزالون يذكرونها ويتفكهون في مجالسهم بذكرها، ويسمونها فيما بينهم «ليلة عيد الميلاد».

وكان هو إذا سمع حديث هذه الليلة قام مسرعًا؛ لأنها تثير فيه ألمًا شديدًا، وهذا هو حديثها:

في ذات صباح دق جرس التليفون في بيت الأستاذ عطية، وكانت الساعة ما تزال السادسة، وهي ساعة يندر فيها رنين التليفون. وكانت دهشة الأستاذ عظيمة عندما سمع صوت صديقه جابر بك الذي كان معه في الليلة السابقة إلى قرب منتصف الليل.

فقال الأستاذ في ظرف: أوحشتنا يا سيد جابر!

فضحك جابر عند الطرف الآخر من التليفون وأجابه قائلًا: وماذا أصنع؟ لم تصلني الدعوة إلا بعد عودتي إلى المنزل. اسمع يا أستاذ عطية! باختصار لا تقيد نفسك في هذا المساء بأي موعد.

فقال الأستاذ: عظيم! كتب كتابك؟

واستمر الحديث بعد ذلك بضع دقائق تخللتها بعض فكاهات طريفة.

ثم وضع الأستاذ السماعة. وكان مجمل ما قاله جابر بك أن أكد عليه ألا يقيد نفسه بموعد آخر، وأنه سيمر عليه في الساعة الثامنة مساءً. وهز الأستاذ عطية رأسه متعجبًا من غرابة أطوار صديقه وعاد إلى فراشه وهو يقول لنفسه: عظيم!

ثم أغمض عينَيْه.

ولما جاءت الساعة الثامنة مساءً آخر الأمر سمع الأستاذ عطية بوق السيارة عند الباب، وكان ما يزال يستعد لاستقبال صديقه. فأسرع بلبس حذاءه وطربوشه ونزل يقفز فوق الدرج حتى خرج إلى الطريق.

وكانت الليلة باردة من ليالي الشتاء التي اشتدت فيها الريح، أو هي على التحقيق ليلة عيد الميلاد من سنة ١٩٥١. كانت الريح تهب في عنف، والظلام يغالب أنوار المصابيح الغازية الخافتة التي في الطريق الضيق. ووقف الأستاذ أمام السيارة حاملًا طربوشه في يده حتى لا يقع من هبات الهواء.

وسأل صاحبه: إلى أين؟

فصاح به جابر من داخل السيارة: أسرع ولا تضيع الوقت. أيعجبك الوقوف في هذا الهواء؟

ولكن الأستاذ عطية أجاب: أحب أن أعرف أولًا …

ولم يتم جملته لأنه سمع من آخر الحارة صوتًا يناديه بعبارة مألوفة عنده: «عطية بيه يدوم عزه!»

وفي لحظة كان كوكو المهرج يرقص ويغني وهو واضع ذراعه اليسرى حول كتفي الأستاذ عطية. فضحك الأستاذ ووضع طربوشه على رأسه ثم جعل يده على كتف المهرج وأخذا يتراقصان ويغنيان معًا.

ودُهِشَ جابر بك من هذه المفاجأة ولم يملك نفسه من القهقهة وهو يصيح بصديقه أن يوقف تلك المهزلة ويسرع إلى الركوب معه.

ولكن الأستاذ عطية تقدم نحو نافذة السيارة قائلًا لجابر بك: أقدم لك صديقي كوكو!

وكان منظرًا يشبه في عينَيْ جابر بك منظر اثنَيْن فرَّا من مستشفى المجاذيب، فاستسلم للأمر الواقع وأوقف دوران محرك السيارة وانتظر حتى يفرغ صاحبه الغريب الأطوار من بدوته.

وكان الأستاذ عطية في ملابس أنيقة من قمة طربوشه إلى كعب حذائه اللامع. على حين كان كوكو حافي القدمين وليس عليه سوى سروال قصير من القطن الأبيض، وأعلى جسمه عارٍ إلا من خطوط ملونة دهن بها جلده. وكان شعره الخشن الأشعت يعلوه طرطور من ورق ملون بين أحمر وأصفر وأخضر، وله ذؤابات من قصاصات الورق معلقة في خيوط وترف على كتفيه مع كل حركة من حركاته.

ولم ينسَ كوكو فوق هذا أن يرشق وردة كبيرة حمراء من الورق الملون في شعره الغزير فوق أذنه اليمنى، وكان بين حين وآخر يرفع يده إليها في تأنق ويحرك رأسه تيهًا وهو يرقص. وكانت حركات الراقصين رشيقة وغناؤهما مطربًا، حتى إن جابر بك لم يتمالك أن ينسى حنقه ويكف عن الصياح منتظرًا حتى يفرغا من تلقاء نفسيهما.

وكان أطفال الحارة قد سمعوا الضجة وأتوا مسرعين، فوقفوا في حلقة واسعة حول السيارة والراقصين وشاركوا في الفكاهة والضحك والزياط والتصفيق. وبعد أن مضت دقائق طويلة، توقف الرقص ورفع الأستاذ عطية يده عن كتفي صاحبه وتقدم إلى نافذة السيارة فخاطب صديقه جابر قائلًا: أليس معك نقود صغيرة يا سعادة البك؟

فأخرج جابر بك ما في جيبه من القطع الصغيرة مستسلمًا وقدمها إليه في صمت، فألقاها الأستاذ عطية في كف المهرج الذي انطلق في رقصة جديدة تصحبها أغنية متجهًا نحو أقصى الحارة، وأسرع الأطفال يجرون وراءه ويصفقون ويضحكون.

وانطلق جابر بك بالسيارة في شيءٍ من الغضب وقال في حنق: لقد هممت أن أنزل إلى هذا المجنون لأعيد إليه عقله بصفعة.

فقال الأستاذ عطية: ولماذا؟ ألم يعجبك؟

فقال جابر في غيظ: هذه رقصة مجنونة. إنه سخف. إنه هراء. وهذا التنازل الزائد عن الحدود! ثم تشجعه فوق هذا بإعطائه نقودي؟ إنها رحمة زائفة، وأَولى بمثل هذا المهرج أن يُوضع في إصلاحية أو سجن.

فقال عطية في هدوء: ولِمَ كل هذا؟

فقال جابر في دفعة: ألا تعرف لماذا؟ ألا تراه يسير هكذا عاريًا ويضيع وقته في الرقص الأبله؟ ألا تعلم أن أمثال هذا المهرج يجلبون على البلاد السخرية؟ توحش!

واستمر جابر بك في حنقه والأستاذ عطية مستمر في صمته.

وقال جابر: لِمَ لا يلسع البرد هذا المخلوق فيقضي عليه ويريحنا منه؟ كيف يترك رجال البوليس هذا الرجل العاري يسير بغير حياء أمام الناس؟ وهذا السخف الظاهر — طرطور — وألوان، ولم ينسَ أن يضع وردة في شعره. هذه عودة إلى العصور المظلمة عندما كان الناس يتبركون بالبُلَهاء أصحاب الريالة ويتمتعون بمناظر السخرية.

ولما هدأ غضب جابر بك قال له الأستاذ عطية في هدوء: إلى أين تسير بي؟

فضحك جابر وقال في ظرف: لا مؤاخذة يا أستاذ عطية! دعنا من هذا الفصل البارد، لأننا ذاهبان إلى حفلة رائعة … ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة. جمال وفن وظرف وأناقة. ألا تعرف محمود بك صعبان؟ هو يعرفك وبعث إليك بهذه الدعوة.

وأبرز بطاقة أنيقة في ظرف وردي اللون وقدمها إلى صاحبه قائلًا: طبعًا جيران قدماء. ولا شك أنك تذكر الآنسة «بسمة»، ومن حقي عليك أن تقدم لي الشكر على أني أخذت هذه البطاقة من محمود بك صعبان لأوصلها إليك. سترى حفلة رائعة.

وأحس الأستاذ عطية بقبضة شديدة في نفسه عندما سمع اسم الأستاذ صعبان، وتلفت حوله بغير وعي كأنه يريد أن يجد سبيلًا إلى الخروج، ولكنه كان سجينًا في سيارة تجري بسرعة الريح الشديدة التي تصفر بين الأشجار التي على جانبي طريق الجزيرة المؤدي إلى بيت صعبان بك بالزمالك. وأخذ جابر بك يصف له الدار العظيمة التي يقيم فيها صعبان بك التاجر الكبير، ويطنب في وصف ما فيها من أثاث ورياش، ويتحدث عن الثروة الواسعة التي جمعها ذلك الرجل العصامي في مدة الحرب. ثم أخذ يتغنى بمحاسن الآنسة «بسمة» هانم التي ستكون نجمة الليلة في الاحتفال الذي أقامه البك بمناسبة عيد الميلاد.

وكان الأستاذ عطية في أثناء ذلك مطرقًا ينظر إلى البطاقة ذات الحروف الذهبية، وهو شارد الفكر لا يكاد يسمع شيئًا من أقوال صاحبه.

وعادت إليه صورة قديمة عرفها عندما كان محمود صعبان جارًا قديمًا منذ اثنتي عشرة سنة، وعندما كان يقيم في الشقة الأرضية من منزل قديم مجاور لبيته. وتمثل صورة «بسمة» وهي صبية صغيرة تحمل السلة لتشتري الخضر من الباعة المتجولين في الحارة. كانت تعجبه لبساطتها ومحاسنها الساذجة كطفلة وديعة سوداء الشعر واسعة العينين، تتدلى ضفائرها الغليظة على ظهرها معقودة بشريط من الحرير. فكيف أصبح محمود صعبان سعادة البك وكيف أصبحت بسمة نجمة لحفلة عيد الميلاد؟ هذا ما لم يعرف سره. وأخذ يسأل نفسه: هل يعرفهما إذا رآهما؟ وهل يعرفانه إذا وقعت أعينهما عليه؟ وهل يخاطبانه كما كانا يفعلان بالاحترام الذي كان أهل الحي جميعًا يوجهونه إليه؟

وقال لصاحبه في صوت خافت: كان ينبغي أن أستعد للذهاب إلى هذه السهرة.

فأجابه جابر مبتسمًا: ما شاء الله! ستكون أكثر المدعوين أناقة.

واستمر يتحدث عن صعبان بك منذ اشتغل بتوريد المؤن للجيوش المحاربة في السنوات العشر الماضية، وعن الحيل البارعة التي كان يحتال بها على أخذ أثمان بضائع لم يورد منها شيئًا، وعن ذكائه الخارق في اختراع الوسائل التي يقدم بها الرشى إلى أصحاب المناصب العالية بغير أن يجعلهم يسمونها رشى. ثم أخذ يطنب في تواضعه وكرمه ومحاسن أخلاقه، كما أطنب في وصف محاسن الآنسة «بسمة».

ووقفت السيارة في وسط الحديث، وكان القصر المنيف الذي وقفت أمامه مطلًّا على النيل في قطعة خالية من المساكن، والأنوار الملونة المنبعثة من البستان المحيط بالقصر تخلع على المنظر ألوان الربيع وتتحدى السحب السوداء التي تغطي وجه السماء.

ودخل الضيفان من باب البهو الفسيح وكان المرح يشيع في الجو الدافئ، ولمعت من وجوه الحسان بسمات عذبة كأنها منظر ثغور الأقاحي. وكان عبير العطور يخفق في الهواء ويبعث رسائل غامضة من الفتنة. وصافح جابر بك أصدقاءه من الجنسين، وأما الأستاذ عطية فإنه اكتفى بالتحية من بعيد وكان يبدو عليه شيء من الوجوم. وبعد دقائق مضى الجمع من أحاديثه السابقة وكانت كل مجموعة تختلس النظرات إلى الأخرى. وأقبل صاحب الدار يتدحرج بقامته المكورة ووجهه السمين، وكان يفيض بشاشة ورقة، ولما حيا الأستاذ عطية انحنى له في أدب وشكره على قبول الدعوة، ثم استأذن ليستقبل عددًا جديدًا من الضيوف.

وجلس الأستاذ عطية في الحلقة التي اختارها جابر بك، وازداد في صدره شعور الانقباض الذي كان يحسه من قبل. رأى الضيوف في الحلقات المبعثرة في البهو الفسيح يتهامسون ويميل كل اثنين منهم في حديث خافت ضاحك. وأما الحسناوات فقد تعالت ضحكاتهن الوانية وهن يرسلن نظراتهن إلى الحلقات الأخرى. ورنَّت الضحكات المرحة في سمع الأستاذ عطية كأنها أنغام ناشزة، وزاده ضيقًا منظر الظهور العارية والصدور البضة البارزة من بين البنائق الصغيرة.

كانت المناظر كلها فاتنة ولكن الأستاذ عطية رآها بعين صاحية، وكان وحده يجلس قابعًا في مقعده بغير كأس في يده، وتمنى لو استطاع أن يتسلل خارجًا.

ثم أحس فجأةً بعطش شديد إلى كأس من تلك الكئوس التي تلمع بين الأنامل الأنيقة، فقام إلى البار وتشجع إذ لم يلتفت إليه أحد. ولما شرب الكأس الأولى أحس العطش يزداد به إلى أخرى، وما زال حتى دب في نفسه الأنس وبدأ ينظر إلى البهو بعينه النشوى. صار البهو في عينَيْه ملهاة صاخبة ضاحكة، وبدأ ينطلق من انطوائه ووحشته، وتردد على الحلقات التي يعرف مَن فيها والأخرى التي لا يعرف أحدًا فيها، وأبهجها جميعًا بفكاهاته وضحكاته العالية. وانطلقت أنغام الموسيقى تتردد جريئة مطربة، وسال البهو بالراقصين والراقصات، ولمعت جنباته بالوجوه الباسمة المشعة. وكانت القدود الرشيقة تتجاوب في نعومة مع الأنغام السريعة، كأنها تسبح فوق الهواء بخطواتها الخفيفة.

وتخاصر النساء والرجال، بين شباب وكهول، يتمايلون في ليونة ويتناظرون بلحظات وانية. وكانت ملابسهم تلمع تحت الأنوار كأنها قوس قزح مختلف الظلال، والوجوه المضيئة تبرق بالأذهان مثل لوحات في معرض فني. وأحاطت السواعد بالخصور، واستدارت الظهور البضة العارية إلى الصدور الغضة السافرة تتطلع إليها أطراف الحلل الحريرية مترددة كأنها تريد أن تتساقط. وتدفقت الهمسات الرقيقة في الأسماع واقتربت الأعناق من الأعناق.

وكان الأستاذ عطية قد عاد إلى ركن من البهو يرتشف من كأس أخرى في استرخاء، وعثرت عينه بصاحبه جابر بك يراقص غادة حسناء كأنها جنية خرجت من البحر في أقل ثيابها، وكان ظهرها العاري يكذب برد الشتاء، وقد لبست في يدَيْها قفازين من الجلد الرمادي يغطيان معصمها وبعض ساعدَيْها، وكانت يمينها معتمدة في رفق على كتف صاحبها، ويسارها في يمينه. ونظر جابر نحو الأستاذ عطية فتلاقت عيناهما وخُيل إلى عطية أنه يبتسم. وكان على رأس الغادة طرطور من ورق ملون له ذؤابة تترجح بحركة ناعمة مع حركات الرقص، وقد عقدت في شعرها شريطًا من الحرير الأحمر ورشقت فيه وردة حمراء كبيرة.

ووقف الأستاذ عطية ذاهلًا يتطوح ويسأل نفسه: مَن هذه الساحرة الجريئة؟ ووثبت إلى ذهنه المخمور صورة صديقه كوكو المسكين وهو يراقصه بجسمه العاري وذؤاباته الملونة ووردته الكبيرة الحمراء. ثم لاحت له من ثنايا لمحات وجه الحسناء ملامح صورة قديمة يعرفها، صورة الفتاة الصغيرة الوديعة «بسمة» الدعجاء. وصرخ في مكانه صرخة خافتة، وكاد يعيد صرخة عالية يناديها باسمها. وفي مثل لمح البصر ملأ الغضب قلبه على صاحبه الذي غضب على كوكو عندما رآه يرقص معه في أول الليلة.

حقًّا كان كوكو عاري الجسم ولكن هذه أيضًا عارية، وهي تلبس طرطورًا أحمر وتضع في شعرها وردة حمراء، لا فرق بينها وبين كوكو. لا فرق بينهما سوى أنها حسناء وهو قبيح، وأنها ابنة محمود بك صعبان وهو المهرج المسكين. أي فرق بين هذه الحسناء التي ترقص بين ذراعَي جابر بك وبين كوكو عندما كان يرقص إلى جانبه؟ ولماذا قال له جابر إنها رقصة مجنونة؟ ولماذا قال له إنه همَّ بأن ينزل ليعيد إلى كوكو عقله بصفعة؟ ولماذا أراد أن يضع كوكو في إصلاحية أو في السجن؟ فهل كوكو وحده المتوحش الذي يجلب على البلاد السخرية لأنه يسير عاريًا ويرقص ضاحكًا؟ ولم يدرِ ما هو فاعل عندما اندفع في ضحكة مخمورة واخترق الصفوف بين الراقصين حتى وصل إلى صديقه وصاحبته.

وقبل أن يفطن جابر بك إلى وجوده قريبًا منهما، اندفع الأستاذ عطية نحو الآنسة صائحًا: مساء الخير يا كوكو!

وبضحكة عالية انتزع الحسناء من بين يدي صديقه المذهول واندفع يراقصها كأن شيطانًا يقهقه في جوفه. وفي لحظة قصيرة عم الاضطراب وانفلتت صرخة عالية من الفتاة الحسناء، وأسرع جابر إليها لينقذها من بين يديه، ولكن عطية اندفع في عنف يرقص ويغني كما كان يرقص ويغني مع كوكو.

كانت حقًّا رقصة مجنونة!

وسقطت الفتاة مغشيًّا عليها، وسقط الأستاذ عطية قريبًا منها لا يسمع شيئًا!

وفي تلك اللحظة انطفأت الأنوار بناءً على برنامج الحفلة كما جرت العادة في نصف تلك الليلة، فتسلل جابر بك من البهو وهو يترنح، وكانت تلك آخر مرة دخل فيها إلى قصر الوجيه محمود صعبان، وآخر مرة سمحت له الآنسة بسمة بزيارتها كخطيبة.

وأما الأستاذ عطية فقد خسر صداقة جابر بك إلى الأبد، وكان فيما بعد لا يسمح لأحد أن يعيد ذكر تلك الحادثة على مسمع منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤