حبيب آمون
«كان السلطان والعقل يتنازعان منذ آلاف السنين كما لا يزالان يتنازعان إلى اليوم. وقليلون هم الذين يرفضون السلطان طاعةً للعقل.»
كان يومًا رائعًا من أيام الشتاء في طيبة التي لا يشبهها شيءٌ في بهائها ولألاء نورها وزرقة سمائها. وكانت المدينة في ذلك اليوم هادئة على غير عادتها. كانت قصورها الواسعة لا تشتمل إلا على بعض الأتباع والخدم، وكانت معابدها نفسها خالية لا تتردد فيها أصداء الأناشيد، كأن أعمدتها الباسقة وأبوابها العالية ونقوشها الرائعة قد أصبحت آثارًا عملاقيةً من مدينة غابرة بقيت بعد زمانها. وكانت الطرق ساكنة راكدة، كأنها المسالك المهجورة بين المقابر التي يقيم فيها الأبرار إلى الأبد. لم تكن هناك حياة إلا على شواطئ النهر المزدحمة بالسفن التي أتت إليها من أركان البحار السبعة، تحمل خيرات الجزائر وشواطئ البحر الشمالي وأخشاب بونت وخزف كنوسوس وعطور اليمن وعاج كوش.
خرج أهل المدينة في ذلك اليوم لشهود الاحتفال بعودة آمون إلى الكرنك بعد أن حُرمت العاصمة العظمى منذ سنوات كثيرة من مواكب الإله آمون منذ أيام «أخناتون» أمنحتب الرابع، صاحب البدعة الجديدة التي دعا فيها إلى عبادة آتون إله الشمس، وفي سبيله فارق عاصمته واتخذ له عاصمة جديدة في الشمال، مدينة أخناتون.
وخرج الناس منذ الصباح الباكر ليتمتعوا بالنظر إلى فرعون الصغير «توت عنخ» زوج الأميرة الملكية ابنة أخناتون؛ لأنه سوف يداوي الجراح ويُعيد إلى طيبة بهجتها ومرحها ورونقها، ويرجع بركة آمون إلى أهل المدينة مرة أخرى.
واصطف الشعب على جانبي الطريق خارج المدينة من قصر الملك الشرقي حتى مدخل طريق الكباش الذي زينه أمنحتب الثالث الكبير وجعل على جانبَيه صفَّيْن من تماثيل الكباش رمزًا «لآمون». وهناك وقف الحراس يمنعون الناس من اجتياز مداخل المعبد، إلا العظماء الذين كانوا يستطيعون الاقتراب من فرعون.
ولما علت الشمس فوق أفق الشرق، أقبل «توت عنخ» الشاب زوج الأميرة الملكية راكبًا عربته الحربية يجرها اثنان من الجياد البيضاء، ووقف فيها يمسك بأعنة الخيل بيمناه، ويقبض على عصاه الذهبية بيسراه، ولم يلبس تاج القطرَيْن الذهبي المزدوج، بل وضع حول رأسه إكليلًا يمثل الحية الملكية ترفع رأسها من أمام. وعلى مدخل طريق الكباش وقف كهنة الهيكل بملابسهم الكتانية البيضاء ينشدون الأناشيد بأصوات تملأ القلوب خشوعًا.
وكان «توت عنخ» نحيل الجسم، تعلو وجهه صفرة مثل صفرة النرجس الذابل، وتعتري جبينه بين حين وآخر سحابة من العبوس، وتختلج عيناه في قلق يحاول أن يخفيه تحت ستار من الوقار والهدوء. كان مظهره ينم عن معركة خفية تثور في حنايا صدره، ولكن الناس لم يلتفتوا إلى شيء مما بدا عليه؛ لأن تيار الحماسة جرفهم، وخلعت بهجة العيد ورونق الموكب على فرعون نورًا وضَّاءً فلم تقع منه العيون إلا على صفاءٍ وسناءٍ وبهاءٍ.
وسار الملك بعربته بين صفَّي الكهنة تحف بهم التماثيل البيضاء البراقة حتى دخلوا إلى فناء المعبد، فسجد مَن هناك جميعًا من أعيان وأمراء، ومضى الموكب في سبيله والكهنة من أمامه حتى بلغ صدر الفناء الكبير، ونزل من عربته متجهًا نحو العرش الذهبي القائم تحت مسلة تحوتمس العظيم.
وكانت ساحة المعبد مثل غابة من الأعمدة الباسقة والمسلات ذات الرءوس الذهبية التي تشير إلى كبد السماء حيث يلمع ضوء حوريس، وزادها كهنة المعبد رونقًا بما جعلوه بينهما من أشجار ثمينة نُقلت إلى هناك من أقاليم بونت البعيدة، تتخللها الأعلام وسعف النخيل والزنبق المائي في أوعية من المرمر الشفاف. وكان الهواء عطرًا بما يفوح من مجامر البخور من عبق الند والعود والمر واللبان.
وجلس توت عنخ على العرش ووقف حوله القواد والأعيان على ما رُسِمَ لهم من المواضع، وطاف الكهنة بتماثيل آمون حول الساحة، والكاهن الأعظم يسير أمامهم يحمل تمثالًا ذهبيًّا وهم ينشدون آيات من الدعوات والصلوات. وما زالوا حتى بلغوا مكان العرش، فوقفوا ووقف الأمير الشاب ليحيي صورة الإله المنتصر. فأشار الكاهن الأعظم إليه بالتمثال الذهبي، واتجه به نحو حرم المعبد، وخر الناس جميعًا ساجدين. حتى إذا بلغ الكاهن قدس الأقداس فتح الباب ودخل، وتبعه الملك وأغلق من ورائهما المصراع. وخيَّم الصمت رهيبًا من الموقف العظيم في الخلوة الخاصة التي لا يطَّلع على سرها إلا مَن يتجلى لهم آمون: الكاهن الأعظم وفرعون.
وكانت حجرة قدس الأقداس مظلمة لا تضيئها إلا ذبالة ضئيلة في قنديل من الذهب، لا يكاد أحد يتبين في ضوئها شيئًا سوى ظلال متحركة يلقيها اللهيب الخافت المتراقص في الأركان.
ولما صار الملك وحده مع الكاهن استلقى خائرًا على كرسي في جانب المذبح، ورمى عصاه الذهبية، وأنَّ أنَّةً ضعيفةً بصوتٍ لا يكاد يُسمع، فقال له الكاهن بصوت رقيق: أي بني، شملتك رحمة آمون …
وكأن هذه الكلمة قد نفَّست عن مرجل فوار، فما كاد الشاب يسمعها حتى انفجر قائلًا: أيها الشيخ، أمسك عن هرائك. فنحن هنا وحدنا لا يسمعنا غير الحق. والناس جميعًا من وراء هذا المصراع لا يسمعون.
فقال الكاهن في هدوء: أعرف أننا هنا وحدنا يا زوج ابنة الآلهة، يا وارث الفراعين. وأعرف أن الحق يسمعنا؛ ولذلك أطلب لك رحمة آمون.
فصاح الشاب في غيظ: أمَا كفاك أنني تحملت ما تحملت من الأكاذيب في ملأ الناس؟ أمَا كفاك أنني كتمت ما في نفسي وخالفت قلبي وأحنيت رأسي لهذا التمثال الأصم؟
فقال الكاهن وفي صوته هزة خفيفة: إنك يا بني ما زلت شابًّا، وقد يغتفر للشاب أن يشك. ولكن هذا التمثال رمز الحق.
فصاح توت في غيظ: إنني لا أشك أيها الشيخ، إنما أنطق بعقيدة لن تستطيع أن تزيلها من قلبي، هي عقيدة الحق الذي لم يعرفه سوى الملك الأعظم أمنحتب «أخناتون» الذي تسمونه المجرم.
فتراجع الكاهن إلى الوراء وقال في صيحة مكتومة: أمَا زلت تذكر المجرم أخناتون؟ ألم توافق على نبذ إلهه المزيف؟ ألم تتزوج من الأميرة «عنخ سنب»؟ أمَا سميت نفسك «توخ عنخ آمون» ورضيت أن تلعن المجرم في ملأٍ من الناس؟
فصاح «توت» غاضبًا: نعم رضيت، وهذا ما يجعلني أمقت نفسي. رضيت لأنني لم أجد بُدًّا من الرضا. إنني هنا لا أنطق إلا بالحق لأن كتمانه يعذبني. أتريدني على أن أخادع نفسي وأنا في خلوتي هنا؟
قل الحقيقة سافرةً أيها الشيخ. قل إنك تطلب مني أن أطيعك أنت. قل إن «آي» الكاهن الأعظم قد انتصر، وإنه يأمر «توت» الصغير أن يذعن له. ليس هو آمون الذي يريد مني الإيمان به، بل هو أنت الذي تطلب مني أن أخضع لك. أنت «آي» الذي تطلب مني أن أعبدك وليس آمون ذلك التمثال الأصم.
وكان الشيخ يسمع هذه الصرخات الغاضبة وهو فاتح عينيه في حنق يحاول أن يخفيه. فلما انتهى الشاب قال الكاهن بصوت خافت: ثم ماذا؟ …
فقال «توت»: لا شيء إلا أن تكون صريحًا معي هنا. لقد كنت أنا صريحًا مع نفسي ومعك عندما رضيت بتغيير اسمي وتركت اسم «آتون»، فقد قلت لك عند ذلك إنني أذعن من أجل التاج. فأرجوك إذا خلوت معي ألا تطلب مني أن ألغي عقلي وأعبد تمثالًا لكبش صنعته أيدي النحَّاتين.
فلم يَقْوَ الكاهن على تمالك نفسه وصاح غاضبًا: حسبك يا ابن الشعب!
•••
فوثب «توت» على قدميه صائحًا: بل أنا الملك المقدس. أنا زوج الأميرة عنخ سنب.
فأجاب الكاهن بصوت أجش: إنك لا تمت إلى الملوك بنسب، فما أنت إلا زوج ابنة قد تموت غدًا.
فرفع الملك رأسه ووقف منتفضًا، ثم أخذ صولجانه من فوق المذبح وأراد أن يتكلم، ولكنه غص بريقه من الغيظ فلم ينطق. ونظر الكاهن الشيخ إليه فاتحًا عينَيْه الواسعتين في ثبات وسيطرة. وبقي «توت» لحظة ينظر إلى عينَي الكاهن لا يستطيع منهما فكاكًا، ثم تخاذل واضطرب وتهالك على مقعده وتقدم نحوه الشيخ حتى صار لا يفصل بينهما إلا قيد شبر، فطرفت عينا الشاب وأنَّ أنَّةً تشبه صيحة مكتومة، فقال له الكاهن في صوت هادئ: المجد لآمون.
ثم وضع يده على كتفه وهو لا يزال يحدق في عينَيْه، واستمر قائلًا: سألقي عليك قصة قصيرة قد تكون سمعتها من قبل في دروسك. نحن نحتفل اليوم بعيد «أوبت» تذكارًا لليوم الذي اختار فيه الإله «آمون» جد زوجتك الملكية تحوتمس الكبير. كان تحوتمس كما تعلم كاهنًا لا أمل له في الحكم؛ لأنه لم يكن سوى ابن جارية لا تجري في عروقها دماء الملوك. وكانت أخته «حتاسو» هي الأميرة الملكية الشرعية. ولكن آمون رضي عن تحوتمس واختاره في مثل هذا اليوم للملك؛ لأن تمثاله الذهبي وقف أمامه في أول دورة من دورات الاحتفال، ومن ذلك اليوم صار تحوتمس الكاهن ملكًا لمصر وسيِّدًا للقطرين.
هذا هو فرعون الذي لم تعرف البلاد سيِّدًا مثله ببركة آمون. أمَا سمعت بهذه القصة من قبل؟
فحدق «توت» في عينَي الكاهن لحظة، ثم ألقى برأسه في عنف على يديه واهتز جسمه في نشيج صامت. فوضع الكاهن يده على رأسه ومر عليه في عطف وقال بصوت رقيق: شملتك رحمة آمون يا ولدي. عندما تخرج من هنا سيدور تمثال الإله دورته في الساحة الكبرى، وستكون جالسًا على العرش المقدس، وسأقول كلمتي على مسمع من رجال الدولة والأمراء والكهنة، وسينصت الجمع كله ليسمع ما تجيب به، فإذا أجبت وقف تمثال آمون أمامك كما وقف أمام تحوتمس، وإلا …
قال هذا ثم سار رافعًا رأسه متجهًا نحو الباب، ففتحه ووقف ينتظر حاملًا التمثال الذهبي. فقام توت فاترًا من مقعده وسار وراءه مطأطئ الرأس، وكانت على وجنتَيْه بقعة حمراء واسعة تتقد في وسط صفحة وجهه الأصفر. وسار الكاهن عائدًا إلى الساحة والملك يسير من ورائه، وخر الجمع المحتشد سجودًا، حتى بلغا موضع العرش وجلس الملك عليه. ثم قام الكاهن الأعظم بين يديه فألقى في المجامر حفنات من العود والند والمر، ثم رفع يديه في هدوء وأخذ يرتل نشيدًا وهو يدور بتمثال آمون الذهبي حول فناء المعبد، ثم صاح بأعلى صوته: «المجد لآمون!»
فقام «توت عنخ» عن عرشه وأجاب بصوت ضعيف: «المجد لآمون!»
فتقدَّم الكاهن إلى الملك فوضع يده على رأسه فمسحه بالعطور وقال له: أيها الملك المقدس، انهض، وتَلَقَّ بركة آمون.
فسجد الجميع مرة أخرى، وقام الملك مترنِّحًا ثم أحنى رأسه وقال مرة أخرى: «المجد لآمون!»
وعلت عند ذلك ضجة عظيمة من الجمع العظيم: «توت عنخ حبيب آمون.» وعلت أناشيد الكهنة تدوي بين جدران المعبد العظيم. ولم يلحظ أحد ما اعترى الملك من اضطراب، ولم يسمع أحد تلك الأنَّة العميقة التي ترددت في صدره تشبه الحشرجة وهو يقول في ألم: أواه!!