شاءول بن شمويل اللاوي

«ما زال المستعبَد يحن إلى الحرية وينطق بالأمل فيها، ولكنه قلما يقوى على أعبائها!»

كان لي ولعٌ بالتجوال في الصحراء منذ الصبا، ففيها كنت أملأ صدري من الهواء الصافي الذي لا تعكره أنفاس هذه الإنسانية المزدحمة، وكنت أجد في سمائها جلاءً لبصري، وفي عمق سكونها سلامًا لنفسي. كنت أنقل عيني بين رمالها الصفراء فأجد راحة لا أجد مثلها بين الحقول الخضراء أو على شاطئ اللجة الزرقاء. فإذا سِرت فيها يومًا من أيام الشتاء وقد غسل القطر رمالها، كان من أبدع المناظر عندي منظر حصبائها تلمع مختلفة الألوان في قيعان الجداول الصافية، تزري باليواقيت واللآلئ.

وقد جمع حب التجوال في الصحراء بين قلوب مختلفة الميول متباينة الطباع، ألفت الصحراء بين قلوبهم؛ لأنها كشفت لكلٍّ منهم مخبوء طبع صاحبه، إذ لا شيء يكشف حقائق الناس مثل البعد عن زخارف المدينة وغشاواتها الخادعة. فهناك في الصحراء يقابل الإنسان أخاه وجهًا لوجه، ويقابل الحياة صريحةً لا تمويه فيها.

وكان صديقي الذي أؤثر صحبته في هذه الجولات صديقًا قديمًا منذ أيام الطفولة، وكنا كلما خرجنا معًا إلى قلب الصحراء تبينتْ لنا تفاهة الحياة المتكلفة التي نحياها بما فيها من حدود وأوضاع وعادات ورسوم وعقائد. كان كلٌّ منا يرى في الآخر أخًا من بني الإنسان، لا يحتاج معه إلى رباط أوثق من علاقة الإنسانية.

ولقد طالما تساءلنا فيما بيننا إذا ما خلونا إلى النجوى تحت النجوم المتلألئة السرمدية عن جوهر تلك الحدود التي يخلقها الناس فيما بينهم، وكثيرًا ما كنا نعجز عن الجواب.

وقد قصدت مع صديقي هذا إلى برية سيناء في بعض أيام الشتاء، وكنا نسير يومنا كله على هينة في سيارتنا، حتى إذا أدركنا المساء ملنا إلى أقرب وادٍ فقضينا فيه الليلة، حتى يطلع الصباح فنستأنف السير معرجين على كل ما نمر به مما يسترعي أنظارنا. وكنا نجد في ذلك كله مجالًا فسيحًا للتأمل والدرس.

وفيما كنا نسير في أصيل اليوم الثالث من رحلتنا، سمعت صاحبي يصيح فجأةً: اسمع …

فنظرت إليه فوجدته يحدق بنظره في ناحية عن يسارنا بها مدخل وادٍ ضيقٍ، وقال وهو يوقف السيارة: انظر إلى هذا الموقع. إن شيئًا في مظهره يأخذ بنفسي.

فتأملته لحظة فإذا هو يشبه فناء بيتٍ من تلك البيوت التي يصفها علماء آثار ما قبل التاريخ، عندما كان الإنسان يتخذ من الكهوف منازل قبل أن يعرف سر البناء. وشعرت بشيءٍ يجذبني إليه. فقلت لصاحبي وأنا أنحدر إلى الوادي: إن التمتع بالصحراء لا يتم لمن يسير على مثل هذه السيارة السريعة.

فأجابني صاحبي في ابتسامة عابرة: حقًّا، إن السيارة هنا دخيلة، إنها تدنس أرضًا خلقها الله لتكون وادعة مطمئنة راضية بسير إبلها.

وكان يسير إلى جانبي ويحدثني وأنا متجه بكل اهتمامي نحو مدخل الوادي. ولو كانت الجان تتخذ بيوتًا لما كانت تختار إلا مثل هذا المكان.

وبعد جولة قصيرة في الوادي بدا لنا أن نقضي الليلة هناك، فقد كان منزلًا طبيعيًّا لمن يمر بذلك الجانب من الصحراء. وجلسنا بعد ساعة إلى جانب صخرة قائمة في وسط الفناء الفسيح الذي ينفرج من وراء المدخل الضيق، وأعددنا عليها طعامنا وجعلنا نضرب في شعاب الحديث، كأننا على مائدة في فندق عظيم في عالم مسحور.

وقلت لصاحبي: كم من الناس أتوا قبلنا إلى هذا المكان وجلسوا حول هذه الصخرة كما نجلس؟ وكم من أجيال من البشر مرت من مدخل هذا الوادي إذا عرجت لقضاء ليلة هنا في أسفارها الطويلة؟

فقال صاحبي: لعل هذه الصخرة كانت مذبحًا مقدسًا تُنحر عليه القرابين للآلهة التي لم يفهم الناس سرها؟

والحق أنني فطنت عند ذلك إلى سر الرهبة التي أحسستها منذ دخلت إلى ذلك الفناء الفسيح.

وجلسنا لحظة في صمت ننظر فيما حولنا، وخطر لي أن هذا المكان البعيد ينطوي في صمته على أسرار عميقة.

وقلت لصاحبي: ألسنا نشبه بني إسرائيل وهم يغادرون مصر هربًا من طغيان فرعون؟ ألست تضيق ذرعًا بالإقامة في المدن المزدحمة وبين المجامع المنافقة؟ ألست تحس هنا لونًا من الحرية لا تجدها في ربوع المدينة؟

فأجاب: هذا ما كنت أفكر فيه منذ لحظة.

وجعلنا نتذاكر بعض ما تردده الكتب المقدسة من قصص موسى وقومه حتى فرغنا من الطعام، وقمنا نمشي رويدًا في أطراف المكان الساكن.

وكانت لي منذ صغري عادةً سيئةً: أن أخبط بقدمي ما يعترضني من حجارة، فجعلت — كلما مررت بحصاة — أدفعها كما أدفع الكرة، وما كان أشد عجبي عندما خبطت قطعة مستديرة فرأيتها تتدحرج خفيفة كالكرة، فتبينتها فإذا هي عظام جمجمة آدمية.

فصحت بصاحبي: إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية!

فقال بتهكمه الهادئ: أتقصد أن كائنًا بشريًّا مات هنا؟

فقلت في شيءٍ من الاهتمام: أقصد أنه قد وقف هنا بعض إخواننا في الإنسانية الذين مضوا قبلنا، وكانت العواطف تهزهم كما تهزنا وتعصف بهم وتدفعهم وتؤدي بهم إلى المآسي كما تفعل بنا. ونحن اليوم لا نستطيع إلا أن نشعر بآلامهم ونرحمهم مع أننا لا نعرفهم. أتنكر العلاقة القوية التي تربط أجيال البشرية؟

فتبسم وهز رأسه وسار يتأمل جوانب التلال ويميل بين حين وآخر إلى بعض حجارتها فيفحصها ويُبقي منها في يَدَيْه قِطعًا يريد أن يحتفظ بها كما كان يفعل دائمًا في جولاتنا.

فقلت له لأنتقم من تهكمه: إنك لا تعبأ إلا بهذه الحجارة يا صديقي. ألا يهمك كل هذا العالم السحري الذي يحيط بنا؟

ولكنه مضى في سبيله يميل هنا أو هناك كأنه لم يسمع مني شيئًا. وملت على العظمة المستديرة لأفحصها فإذا بي أرى عظمة أخرى قريبة منها قد غمر الرمل أكثرها، فتناولت حجرًا وجعلت أحفر ما حولها حتى استخرجتها فوجدتها تتصل بهيكل آدمي كامل مدفون هناك. فاعتراني انقباض شديد واسترجعت، وجمعت العظام المنثورة التي وجدتها قريبة مني وجعلت أعيدها إلى مدفنها وأجمع عليها الرمال مما حولي حتى لا أزعجها في مقرها الذي ثوت فيه تلك السنوات الطويلة. وفيما أنا في ذلك بدا لي سطحٌ من الخشب تحت طبقة الرمل التي أزلتها بيدي لأسويها فوق العظام، فثارت دهشتي مرة أخرى وتركت ما كنت فيه، وأقبلت على ذلك السطح الخشبي فكشفته وأخذت أحدق فيه بنظري، فوجدت عليه نقشًا غريبًا. فدفعني ذلك إلى أن أحفر ما حوله حتى أخرجته، فوجدته صندوقًا صغيرًا طوله نحو نصف متر في عرض أقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه. وكان صديقي قد عاد يسير نحوي حتى اقترب مني، فلما رأى الصندوق أمامي أقبل يسعى نحوي في اهتمام عظيم، وقال: أراك قد كشفت شيئًا يستحق الاهتمام.

ثم أخذ يساعدني على تنظيف الصندوق مما عليه من الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فوجدنا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دَبَّ إليها شيءٌ من الفساد، وكان عليها خطٌّ بقلم غريب يميل لونه إلى السواد. فنظر صاحبي إليَّ وقال: إنها لقية ثمينة!

فقلت له: حقًّا إنها كذلك، ولا شك في أن لهذا الصندوق شأنًا مع هذا المقيم في الحفرة إلى جانبه.

وأشرت إلى الحفرة التي دفنت فيها بقية العظام. وقضينا الليلة التالية في حديث متشعب عن هذه الإنسانية القديمة التي كانت منذ ألوف السنين كما هي اليوم تضطرب ولا تعرف السلام. ولما عدنا إلى القاهرة كان أول همنا أن نذهب إلى صاحبٍ لنا من علماء الآثار ليساعدنا على كشف السر الذي تنطوي عليه الكتابة الغريبة.

وقضى هذا العالم حينًا في فك تلك الكتابة حتى نسيت أمرها أو كدت أنساه، لولا أن جاء صاحبي إليَّ ذات مساء وهو يلوِّح في وجهي بلفة من الأوراق قائلًا: ألا تذكر رحلة سيناء؟ لقد أتم صاحبنا فحصه واستطاع أن يفك رموز الكتابة الغريبة.

«كانت الجلود كلها مكتوبة بالخط الشعبي الذي كانوا يكتبون به في دواوين مصر القديمة في عصر الإمبراطورية.»

فتذكرت رحلة الصحراء والصندوق والجلود البالية المنقوشة بالخط الغريب، وسألته: وما هذه الأوراق في يدك؟

فقال: هي ترجمة عربية فصيحة.

وجلس إلى جانبي وفتح الأوراق وأخذ يقرأ: «أنا شاءول بن شمويل بن شمعون، من عشيرة اللاويين سادة إسرائيل …»

ثم رفع وجهه إليَّ قال باسمًا: أليس هذا اسمًا جميلًا؟

وكان شوقي إلى سماع الترجمة عظيمًا، فقلت في لهفة: هذه الشينات لا تعجبني، ولكن استمر …

فاستمر يقرأ:

«كنت بمصر مع قومي، وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، وكنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير «راحا ترع»، ولكني عُزلت من خدمته عقب الحوادث المشئومة التي جرها النزاع الدموي بين الكهنة وبين «أخناتون»، فطُردتُ من خدمتي؛ لأنني مثل سائر قومي آمنَّا بالإله آتون، الإله الواحد الذي تدين له الخلائق جميعًا، آتون الذي يشرف على الكون من سمائه ويحييه بأنواره ذات الأسرار العميقة.

ثم وُضعتْ بعد ذلك حول رقابنا أغلال العبودية، وحُشرنا في البراري لنعمل اللبن من الطين لبناء مدينة بيتوم، تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي تشبه خشب السنط.

وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر علينا شتاء جاء شتاء آخر أشد منه بردًا، حتى امتلأت قلوبنا غيظًا وحقدًا.

ودفعنا اليأس والألم أخيرًا إلى أن نضرب ونقاوم، وأخيرًا تحرك رجلٌ امتلأ قلبه بالرحمة علينا، فكان يزورنا في الليل ويواسينا، ولكنه دافع يومًا عن أحدنا فقتل رجلًا مصريًّا واضطر إلى الهرب.

وكاد اليأس يغلب الأمل في قلوبنا، لولا أن عاد الرجل الطيب إلينا بعد غيبته، وأخذ يدعونا إلى ترك مصر والخروج معه إلى الصحراء. وكان يجمعنا في الليل خفية ويؤكد لنا أن وراء البرية أرضًا فسيحة يستطيع الناس أن يعيشوا فيها أحرارًا ويعبدون الإله الذي يريدون عبادته.

ولكن الناس كانوا يخافون من البرية، ولا يجرءون أن يخرجوا من أرض مصر؛ لأنهم كانوا في الحقيقة يخشون الجوع أكثر من حبهم للحرية. نعم، فالناس دائمًا يفضلون أن يشبعوا بطونهم على أن يعيشوا أحرارًا.

وأخيرًا أمرنا الرجل الحكيم بالاستعداد للرحيل، فخاطرنا وعزمنا جميعًا على أن نسير وراءه إلى الصحراء.

وطلع علينا الفجر يومًا من أيام الربيع ونحن نغطي وجه الأرض في قافلة لا أول لها ولا نهاية، وسرنا وراء الحمير التي حملنا فوقها كل ما كنا نملك من المتاع. ولست أنكر أننا قد خدعنا جيراننا المصريين وأخذنا نحاسهم وذهبهم مدَّعين أننا سنردها إليهم بعد العيد. وهذا العمل سرقة بغير شك، ولكنه كان انتقامًا منهم لشدة غيظنا.

وقابلنا في هجرتنا صعابًا وشدائد، وتعرضنا لأخطار جمة نجونا منها ببركة إلهنا الذي هاجرنا من أجله، وكان الرجل الطيب يصلي لله من أجلنا كل صباح وكل مساء؛ لأن موسى — وهذا هو اسمه — كان محبوبًا من الله. ولكنا وجدنا بعد قليل أن زادنا قد نفد، ولم نجد حولنا زرعًا ولا صيدًا، وكان الماء في الآبار مَلِحًا، فعادت الحيرة تملأ قلوبنًا؛ لأن الحرية التي طلبناها كانت تهددنا بالموت جوعًا وعطشًا. وصرخنا إلى موسى نطلب منه أن يعطينا خبزًا وماءً، وأعطانا موسى كل ما بقي معه، فلم يكفنا إلا قليلًا، وصرنا ننظر إلى أولادنا وهم يبكون من الجوع والعطش وتتحرق عليهم قلوبنا جزعًا، حتى انتهى بنا الأمر إلى أن صحنا بموسى: «أعدنا إلى مصر؛ فالإنسان قد يحيا مع العبودية، ولكنه لا يحيا وسط الصحراء بالحرية وحدها.»

وغضب موسى وظهر عليه الاضطراب، وصاح بنا يؤنبنا، ولكن لغته كانت سقيمة؛ لأنه لا يحسن لغتنا وكنا لا نفهم منه إلا بعض ألفاظ عندما كان يتكلم بلسانه المصري.

figure

وجعل هرون أخوه يترجم لنا أقواله؛ لأنه كان يجيد لساننا، فلم نستمع إليه لأن الجوع كان يقرص أمعاءنا وبكاء أطفالنا يوجع قلوبنا، وصحنا نطلب العودة إلى مصر لنأكل من فولها وعدسها وبصلها. وفي الصباح ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى جاشان. فوجدناه يصلي، فانتظرنا حتى فرغ من الصلاة وأقبل علينا بوجهه متهللًا، وقال: «اذهبوا إلى ذلك الوادي.»

وأشار بيده إلى جهة مشرق الشمس، ثم قال لنا: «هناك تجدون على الأرض حَبًّا يشبه القمح، فاطحنوه واعجنوه بالزيت وكلوا منه.»

ثم أشار إلى السماء وقال: «انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة التي تأتي من البحر، إنها رزق طيب، فكلوا من لحومها تُغْنِكم عن فول مصر.»

ولكن السلوى والمن لم يكونا مثل الفول والعدس، والحرية كانت تكلفنا أن نسعى وأن نفكر. كانت الحرية ثقيلة على أكتافنا؛ لأن الذين اطمأنوا إلى العبودية يفزعون من التفكير لأنفسهم.

وأخيرًا وصلنا في سيرنا إلى الجبال العالية التي تغطيها الثلوج في الشتاء، وألقينا رحالنا في «ريفيديم»، وكان البرد شديدًا لم نَقْوَ على تحمله بعد السير الطويل، فتساءل الناس: «هل هذه هي الحرية التي خرجنا نطلبها؟» ولكن موسى كان رجلًا مهيبًا لم يجرؤ أحد على الصياح في وجهه.

فما كاد يصعد إلى الجبل العالي ليناجي ربه حتى اجتمعنا وجعلنا نوقد النيران ونرقص، وصنعنا بعض الشراب من بلح واحة «ريفيديم»، وصنعنا لأبيس تمثالًا من الذهب الخالص وأقمنا لأنفسنا عيدًا. نعم، فإن العبيد ينسون ذل العبودية وهم يرقصون. ولا أستطيع أن أصف ما كان من موسى عندما عاد إلينا ورآنا على تلك الحال. لقد غضب وحطم التمثال وأوقع بالرؤساء وجثا هرون على ركبتيه يعتذر ويتنصل من ذنبنا.

وأمرنا موسى بالتأهب لغزو أرض «موآب»، كأنه أراد أن يعاقبنا على خطئنا. فوقع علينا ذلك الأمر مثل الصاعقة، وصاح الناس: «هل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ هل معنى الحرية أن نحارب ونموت؟»

فانفجر موسى غاضبًا، وقال: «إن الحرية أغلى ما يملك الإنسان في الحياة، فحاربوا لكي تكونوا أهلًا لها.»

ولكنا لم نفهم أقواله، وقعدنا على الأرض عازمين على العصيان، وقال بعضنا له في وقاحة: «اذهب أنت وربك فقاتلا.»

فغضب موسى غضبًا لم يسبق له مثله، وصاح بنا: «أيها العبيد، إنكم قد نشأتم في الذل فلا تعرفون الكرامة، وعشتم في الخسف فلا ترون في الحياة ظلمًا تأبونه. إن دمكم لا يحمى ولا يعنيكم إلا الطعام. فعودوا إلى مصر وارجعوا إلى فولها وبصلها وعدسها وإلى عبوديتكم فيها. لن يفهم جيلكم هذا للحرية معنًى؛ لأنه لا يعبأ إلا بالطعام. فها أنا ذا سائرٌ إلى الأمام، ولمن شاء منكم أن يرجع إلى مصر. ستبقون حيارى حتى ينقرض هذا الجيل وينشأ جيل من بعده يستطيع أن يدرك قيمة الحياة الحرة، وعند ذلك يستطيع الأحرار غزو أرض موآب.»

ولما انتهى موسى من قوله سار مسرعًا وأمر بالرحيل ضاربًا في البرية على غير هدى.

ولقد كنت أحب موسى وأجلُّه، وكنت من أكثر الناس عطفًا عليه وتقديرًا لآرائه، ولكني شعرت عند ذلك بالغيظ يملأ قلبي. فقد كنت من بني لاوي سادة إسرائيل، فكيف يصيح بنا هكذا؟ ولما رأيت الناس يسيرون خلفه ثارت ثائرتي عليهم وصحت فيهم: «إنكم عبيدٌ حقًّا.»

وعزمت على مفارقتهم.

وجاء إليَّ امرأتي ليلًا فرأتني أتململ ولا يجد النوم سبيلًا إلى جفني، فسألتني عن سبب اضطرابي، فأعلمتها السبب وأخبرتها أنني عزمت على مفارقة موسى. وكانت المرأة حاقدة على موسى؛ لأنه لم يعد إليها حليها التي وهبتها لتكون زينة لتمثال أبيس يوم العيد المشئوم. فما كادت تسمع قولي حتى أخذت تشجعني على مفارقة موسى والعودة إلى مصر، وجعلت تتدفق بعبارات حانقة على مَن كان السبب في خروجنا إلى الصحراء.

فما طلع الفجر حتى كنا في الطريق إلى أرض جاشان.

ولكن أواه! إنني أستحق كل ما وقع عليَّ من عقاب الله. لقد تركت موسى، ودفعتني الكبرياء إلى مفارقة الرجل الذي كان يريد لي الحرية والكرامة، فماذا وجدت عند فرعون؟ لقد قبض عليَّ حراس فرعون هنا.

إنني الآن في هذه الحجرة المظلمة، أجلس في انتظار كلمة من فم الظالم الذي قبض عليَّ، ويمرُّ في خاطري كل ما وقع لي في الشهور الثلاثة الأخيرة كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق. لقد أخذوا امرأتي وأبنائي وساقوهم إلى حياة الذل ليكونوا عبيدًا وإماءً، وأما أنا فلست أنتظر سوى العقاب العادل الذي قدره عليَّ «أدوناي» الإله المنتقم؛ لأني لم أفضل الجوع والخوف على العبودية.

الموت آتٍ بلا شك، ويا ليتني بقيت حُرًّا وقابلت الموت حُرًّا.

إنني أسمع ضجة عند باب حجرتي، وها هو ذا المفتاح يصر في ثقبه.»

وإلى هنا انتهت القصة، ونظر إليَّ صديقي متأثرًا، ونظرت إليه صامتًا، وعُدت بخيالي إلى ذلك الوادي البعيد في الصحراء حيث وجدنا الصندوق والجثة، وسبحت في عالم بعيد أتصور ذلك السجين المسكين وهو يستقبل الداخلين عليه في حجرته المظلمة، التي لم يَبْقَ منها أثر فوق الرمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤