الغمرات ثم ينجلينا
«الفتوة والنبل يجتمعان كي تنشأ أمة مجيدة.»
كان لونه الأسمر الذي لوحته الشمس ينم عن أنه من أبناء الصحراء، ولكن ملابسه كانت توهم مَن يراه أنه أحد أبناء الشاطئ الذي يسير فوقه، شاطئ فينيقية الذي أنجب جبابرة المحيط منذ آلاف السنين. كان سرواله الطويل ينتهي من أعلاه إلى منطقة جلدية عريضة تدور حول وسطه ويتدلى منها سيفه المقوس، وكانت هامته الضخمة وقامته العالية وصدره العريض تنادي بأنه محاربٌ تُخشى سطوته، وكانت نظراته الخاطفة تلمع مثل شعاع البرق إذا تلفت حوله كالصقر الحذر، وهو يسير الهوينى على الشاطئ ينقل طرفه في الأفق كأنه يريد أن يستشف ما وراءه من الآفاق المجهولة. وسار فرسه الأبيض من ورائه بغير زمام كأنه كلب أليف أو تابع أمين، يتابع خطواته عن قرب حتى يكون على مقربة منه، رافعًا أذنَيْه متنبهًا إلى كل حركة من حوله. وهبَّ الهواء من جانب البحر رفيقًا لا تكاد نسماته تجعد سطح الماء الأزرق الصافي الذي تنفذ العين في رفارفه إلى القيعان الرملية المتلألئة تحت ضوء الشمس في ساعة الأصيل. كان المنظر يغمر الفتى بالهدوء ويبعث في نفسه شجنًا رفيقًا يساير ما في فؤاده من الآمال المبهمة؛ إذ كان على وشك أن يركب هذا البحر في سرية من الشجعان ليحملوا لأول مرة لواء العرب إلى أرض الروم البعيدة.
كان عبد الله بن قيس الحارثي يتطلع إلى البراح الأزرق الذي أمامه ويفكر في الرحلة المقبلة التي عزم على القيام بها بعد قليل مع أصحابه الشبان الذين تعوَّدوا أن يقوموا بالمغامرات الجريئة تحت قيادته، وإن كانوا لم يركبوا البحر من قبل في مثل تلك الرحلة. وأخذ يصور لنفسه ما هو مُقبلٌ عليه في مغامرته؛ إذ يضرب في آفاق تلك اللجة الواسعة مع رفاقه يطلبون المجد ويرتادون المجهول أو يلتمسون الشهادة. وكلما تمثلت له ضخامة المغامرة بأصحابه زاد شغفه بالمبادرة بها حتى لا يتخلف عن الآخرين الذين سبقوا إلى ميادين المجد والمغامرة والشهادة، وفتحوا سهول العراق وهضاب فارس وأودية الشام وأرياف مصر.
سار عبد الله ساعة غروب الشمس يتحسس ثنيات الشواطئ شاعرًا بأنه سيكون أول عربي يقدم على المخاطرة بغزوة في البحار، التي لم يجرؤ عليها أحدٌ من شجعان العرب من قبله. وكان أصحابه ما يزالون في خيامهم على سفوح الكثبان الممتدة وراء الشاطئ يجهِّزون لأنفسهم الزاد والعدة لأيام الرحلة الطويلة التي قد تمتد بهم إلى شهور في أرض غريبة. وكانت السفينة الرشيقة التي اعتزموا المغامرة بها رابضة في إحدى ثنيات الشاطئ، ترتفع بصواريها الخمسة فوق الصخور العالية المحيطة بالخليج.
لقد عرف عبد الله البحر منذ كان طفلًا يمرح فوق رماله الصفر الناعمة ويسبح بين أمواجه التي كانت تداعبه أحيانًا كأنها أرجوحة وتتقاذفه أحيانًا بدفعاتها العاتية، وعرف أسفار البحر في السنابك الصغيرة التي تسير بين صخور الساحل وتشق مجراها بين شعابها المرجانية ذات الألوان الزاهية.
وكان في صباه يجد في البحر مباهج شتى تملأ قلبه سعادة، كما كان يجد فيه مخاوف تملأ قلبه روعة، ولكنه كان في كل حال يحب البحر لما فيه من مباهج ومخاوف. كانت أسفاره في أيام الصبا تطلعه على آفاق متجددة ومناظر متباينة لا يشبه أحدها الآخر إلا في أنها جميعًا مناظر خلابة رائعة، كان يأنس بالبحر كلما تبسمت شمس الصباح أو تجلى البدر في الليل أو كلما تلألأت النجوم في الليالي المظلمة، وكان يعرف في أسفاره نشوة الحياة القوية التي لا تعرف الجمود والسكون. فإذا ما صفا قسيم البحر ملأ صدره من عطره القوي، وإذا ما هبت غضبته وجد في هدير أمواجه أنغامًا مثيرةً تملؤه بالرغبة في الكفاح. وقد علمه خوض البحر أن الصفاء لا يدوم وأن المآزق لا بد تنجلي بعد حين، قد يتحول صفاؤه إلى إعصار في لحظة، وقد تخبو أعاصيره الشديدة بعد حين وتنتهي إلى صفاء بديع.
سار عبد الله على الشاطئ يحدث نفسه صامتًا بتلك الأحاديث حتى مالت الشمس إلى الأفق، وكانت بلونها الأحمر تشبه جذوة النار التي توشك أن تنغمس في الماء، وتنبه على صوت أذان المغرب ينبعث من ورائه خافقًا بين تلال الشاطئ مترددًا في الهواء الساكن: «حي على الصلاة!» فالتفت إلى فرسه وكان ما يزال يخطو من ورائه، حتى إذا ما صار إزاءه وثب عليه وهمزه في رفق، فوثب به كالوعل البري نحو خيام المعسكر ليدرك رفقاءه ويؤمهم في الصلاة.
ولما فرغوا من أداء الفريضة اتجه عبد الله خاشعًا إلى السماء وجعل يدعو الله أن يرزقه العافية في أصحابه وأن يجعله فداءً لهم إذا قُدِّرَ لأحد أن يُصاب في الغزوة المقبلة. ثم قاموا يستعدون للرحيل من ليلتهم متى اعتدلت الريح في تجاه بر الأناضول.
وسارت السفينة تحمل الكتيبة الصغيرة حتى غاب عنها الشاطئ ومَن كان هناك من قواد الجيش الذين أرسلهم معاوية بن أبي سفيان أمير الشام ليُشَيِّعوا أول سفينة محاربة. وبعد أيام لاحت للسفينة شواطئ الروم، ووقف عبد الله يقلب بصره في السماء يشكر الله على سلامة أصحابه في تلك الرحلة الأولى. ولكنه رأى عند الأفق نقطة سوداء تلوح من بعيد كأنها سحابة غبار قاتم، ووقع في نفسه أنها من تلك السحب القاتمة التي تنذر باقتراب عاصفة. ولم تمضِ بعد ذلك إلا لحظات حتى انتشرت النقطة السوداء وارتفعت من حولها سحابات كأنها نفثات هائلة من الدخان تمتد في أنحاء السماء، وبدأ الهواء يضطرب وأخذ وجه الماء يتجعد، فما هي إلا ساعة حتى اشتدت الرياح وجعلت تتقاذف بالسفينة. فنظر عبد الله إلى أصحابه وكانت وجوههم تنطق بما في قلوبهم من الثبات، ولكنها كانت أول مرة يواجهون فيها السماء الغاضبة في لجة الماء. فصاح بهم عبد الله صيحة مرحة، واندفع يعالج القلوع ويديرها بيدَيْن ماهرتَيْن، وبادر أصحابه يساعدونه وهو يشير عليهم بما يفعلون، والسفينة في وسط الأمواج كأنها ريشة في مهب الهواء.
ومضت ساعة طويلة والعاصفة تزأر والمياه تفور من أعلى السفينة وأسفلها وهم يجاهدون الرياح والأمواج حتى بدت ثغرة زرقاء في أفق الشمال، فاستبشر عبد الله إذ دلَّته تجربته الماضية أن ذلك بدء انجلاء الغمرات. وبعد حين رها الهواء وهدأ الماء وعادت السفينة تطمئن على بقايا الموج، وانقشعت العاصفة كما بدأت فجأةً، ولمعت الشمس وضاءة في السماء الصافية كأن لم تكن هناك زوبعة هوجاء كادت تهلك السفينة ومن عليها. ونظر عبد الله إلى أصحابه باسمًا، وقد أسفرت وجوههم وأقبلوا نحوه مستبشرين بالخروج من الغمرة الشديدة، فحل شملته ولوَّح بها فوق رأسه في الهواء وصاح بصوت فيه رنين الفوز قائلًا: «الغمرات ثم ينجلينا.»
فهتف أصحابه من بعده في حماسة يرددون هتافه، وقام عبد الله فيهم إمامًا ليصلوا شكرًا لله.
ووصلت السفينة إلى الشاطئ عند غبش الفجر، ونزلت الكتيبة إلى الأرض الصلبة التي لا تميد بهم إذا ساروا ولا تغوص بهم إذا اشتد عصف الرياح، وتصايحوا يهنئ بعضهم بعضًا بالتجربة الكبرى التي علَّمتهم أن الغمرات لا بد أن تنجلي إذا ثبت لها مَن يقتحمها.
وركبوا خيولهم التي أتوا بها معهم فصعدوا في بطن الوادي الذي نزلوا عنده، وأوغلوا في الأرض ليتموا ما جاءوا من أجله، وهو لقاء الروم. ثم دارت معركة.
وكانت الشمس تسطع فوق الوادي عندما انثنى عبد الله برجاله بعد الموقعة الظافرة عائدًا إلى الشاطئ، فلما بلغه وقف يتفقد أصحابه ليرى ما أصابهم من المعركة، فلما انتهى إلى آخرهم وعرف أنهم لم يُصابوا إلا بجراح يسيرة خَرَّ ساجدًا لله الذي استجاب إلى دعوته. ولما فرغ الفتيان من تضميد جراحهم أقبل عليهم عبد الله مرة أخرى ولوَّح بسيفه في الهواء صائحًا صيحته: «الغمرات ثم ينجلينا.» وردد الفتيان صيحته في حماسة، ورددتها معهم الأصداء المتكررة بين جوانب التلال.
وذهبوا يقصدون السفينة في المرفأ، فوجدوا هناك جمعًا من فقراء أهل القرى المجاورة جاءوا إلى هناك يحسبون القادمين تجارًا يلتمسون منهم الإحسان، فلما اقتربوا منهم جفلوا خائفين وكان أكثرهم صبيةً ونساءً. ولكن الفرسان وثبوا عن أفراسهم، وذهبوا إلى الماء يغتسلون ويتوضئون، ثم وقفوا صفًّا وراء عبد الله بن قيس يؤدون الصلاة.
وتجرأ الصبية فتقدموا نحوهم ينظرون إلى حركتهم في القيام والسجود، وتجرأ من بعدهم النساء، فتقدمن يتصفحن الوجوه ويتأملن ملامحها، وينظرن إلى قامات الفتيان وهيئتهم، ويُعجبن من غرابة ملابسهم. فلما انتهت الصلاة تقدم بعض الصبية في تردد حتى وقفوا بين الفتيان وهم يستعدون للرحيل، فأقبل هؤلاء عليهم يمسحون رءوسهم ويبتسمون لهم، ويلقون إليهم بقطع من الفضة والنحاس. وتقدم بعدهم النسوة في أسمالهن حتى وقفن بينهم يتحدثن باسمات ويسألنهم العطاء، فمد الفرسان أيديهم إليهن بالعطاء ثم غضوا الأبصار عن بسماتهن وساروا نحو السفينة وفي أيديهم لجم الخيل، حتى ركبوا جميعًا وحلوا القلوع وشقوا رءوس الأمواج.
ومرت بعد ذلك سنة في إثر سنة، وتوالت غزوات الفتيان على سواحل الروم، وزادت جرأتهم على البحر، فكانوا يقتحمونه في الشتاء كما يجوبونه في الصيف، وعرفوا مسالكه في ظلمات الليل، كما عرفوا مساربه بين شعاب الخلجان. وكانوا يعودون من كل غزوة ملتفين حول قائدهم الذي دَبَّ الشيب إلى فَوْدَيْه من صراع تلك السنين المليئة بالأحداث.
وذهبت السفن تتهادى مرة أخرى في مطلع الصيف إلى ذلك الشاطئ كما تتهادى القافلة على فدافد الصحراء. وكان الفتيان عند ذلك قد صاروا رجالًا، وتبعتهم طبقة بعد طبقة من الفتيان الذين جذبتهم مغامرات البحر. ولكن أميرهم عبد الله كان دائمًا عند مقدم السفينة الأولى يرتاد لهم الطريق ويختار لهم مرافئ النزول.
وهبط بهم عبد الله على الساحل على مقربة من المرفأ الأعظم، وصفَّهم صفًّا على الخيل، ولكنه تردد عندما نظر إلى المدينة العظمى التي كانت تلوح من فوق التلال البعيدة، وهي ثغر الروم الأعظم الذي أودعوا فيه بقية شوكتهم.
كانت مخاطرة عظيمة أن يتقدم بفتيانه نحو المدينة الكبرى، ولكنه لم يطل التردد وعزم على أن يخوض المعركة. ورأى أن يذهب وحده ليرتاد ميدان المعركة قبل أن يقدم عليها.
فانتحى ناحية يصلي، وأعاد دعاءه أن يحفظ الله فتيانه وأن يجعله لهم الفداء. ثم نزل في سفينة صغيرة مع ملَّاح فرد ليتحسس الساحل ويستطلع ما فيه من حصون وجنود قبل أن يسير إليه بجيشه الصغير. ولبس ثياب تاجر ليخفي سلاحه ودرعه، وهبط بقاربه الخفيف إلى المرفأ حتى نزل في بقعة منعزلة من البر متواريًا في الصخور. وجعل يتعرف معالم المدينة.
ولم يكن هناك سوى بعض نسوة يحتلن على اصطياد الرزق من قواقع الشاطئ، فلما رأين عبد الله وقفن يطلبن إحسانه، فمد إليهن يده بالعطاء وأسرع عنهن يثب فوق صخور الساحل، وتركهن ينظرن إلى ما ألقى في أكفهن من قطع الفضة والنحاس. وصاح النساء صيحات فرح، وهتفن به شاكرات، ووقفن ينظرن في أعقابه وهو يسير خفيفًا على الشاطئ برأسه المرفوع وقامته المديدة، وجعلن يتحدثن عنه في إعجاب. وكانت فيهن امرأة طال تردادها على تلك السواحل منذ سنين وجابت أطرافها منذ كانت شابة، حتى ذهب شبابها وعصفت بها الأيام فلم تبقَ منها إلا أسمالها البالية وجسدها النحيل. فلما انصرف التاجر العجيب وقفت تنظر في أعقابه مشدوهة، كأنها تتفقد شيئًا غاب عنها … تنظر حينًا إلى ما في يدَيْها من العطاء وتسرح حينًا في أخيلة الذكرى، ثم تنظر نحو الرجل وهو يتباعد عنها رويدًا رويدًا، فتذكَّرت أنها رأت تلك الصورة يومًا. ثم سنحت لها الصورة من عالم بعيد، فصاحت صيحة مكبوتة، والنساء من حولها يتضاحكن ويتغامزن ويتهامسن عنها قائلات: «إنها لتنظر إلى الرجل الغريب ولا تكاد تثني عينَيْها عنه.»
فصاحت بهن المرأة: «ويحكن أيتها الخبيثات! فما بي من صبوة تحملني على النظر في أعقاب هذا الكهل، وأنا اليوم امرأة عجوز!»
فصاحت بها فتاة من بينهن: «فما خطبك إذن؟ وما لك تبرقين في أعقاب الرجل وقد انصرف عنك؟ أمَا سحرتك قامته السمهرية؟ أما خلب لبك ما يلوح عليه من خيلاء؟ أما أطمعك فيه كرمه، وحرك جشعك ما عليه من مخايل الثراء؟»
ولم تجب العجوز عليها بحرف، بل صاحت تقول: «إنه صاحب الصيحة الغريبة وقائد الفتيان. إنه صاحب الغارات التي روعت هذا الساحل منذ سنين. إنه هو الذي هزم هؤلاء الذين يزعمون أنهم أبطال الحروب.»
وجعلت تقص على صويحباتها ما شهدت من عبد الله وما سمعت عنه في غاراته التي شهدتها مرارًا، وذكرت لهن صيحته العجيبة التي طالما ترددت أصداؤها بين أودية تلك السواحل بعد الانتصار. ثم جعلت تفيض في وصف الفتيان الذين كانت تراهم أحيانًا كالجان فوق الخيول وأحيانًا كالرهبان في الصلاة.
ولما انتهت من قصتها نظرت نحو الرجل الغريب، وكان ما يزال يضرب فوق الصخور بقامته العالية وخطاه الخفيفة، فصاحت مؤكدة: «أهذا أيها الحمقى تاجر السلع؟ أهكذا يمشي قعيد الحوانيت؟ أهكذا يثب على الصخر سعاة الأسواق؟ أما رأيتن عطاءه عطاء الملوك؟ أما وقعت عين إحداكن في عينه؟»
ثم مضت غاضبة من حماقتهن وسخريتهن.
وسار النساء نحو المدينة وهن يتحدثن عن العجوز الشوهاء وعن التاجر السخي بالعطاء، ويُعدن قصة الرجل الغريب على كل مَن تجمعه بهن الطريق.
ومضى عبد الله بن قيس يسير على الساحل ويتدسس في ثناياه ويفحص صخوره وخلجانه، ويعد حصونه ومسالحه، حتى مالت الشمس إلى المغيب وألقت بشعاعها الفاتر إلى صفحة الماء من خلال السحب ذات الألوان الباهرة، واسترعى نظره جمال الأفق الغربي، فوقف حينًا ينظر إليه مبهوتًا خاشعًا. ولما عرف أهل المدينة من النساء نبأ الزائر الرهيب خرجوا إلى حراس المدينة يطلبون النجدة. ولمح عبد الله جمعًا في أسفل الشاطئ، ولمع له من خلاله بريق يشبه أن يكون بريق السلاح، فلمس مقبض سيفه من تحت ثوبه الفضفاض وعلت وجهه عبسة جد صارمة، وساءل نفسه: «مَن يكون هؤلاء؟»
ولكنه لم يذكر سوى فتيانه، وخشي أن يُؤتى إليهم من بعض الشعاب على غرة، فاندفع عائدًا إليهم يثب فوق صخور الساحل كأنه يسابق ظلال المساء، ولكن الجمع المقبل اتجه إليه وانتشر يأخذ عليه أفواه السبل، فعرف أنه هو المقصود، وامتلأ قلبه سكينة أن يكون هو غرض الروم دون أصحابه، ووقف يستعد للقتال. وأحاط به الروم مع طلائع الليل، وأسرع الظلام يلف الأرض حتى صار عبد الله يتحسس مواقع خطاه وهو يقفز من صخرة إلى صخرة، وهو يقاتل بسيفه من أمامه ومن حوله، والأعداء ينحدرون إليه من كل جهة ويوشكون أن يلتئموا عليه. وما زال يدافعهم حتى بلغ قريبًا من مرسى السفين، وصاح صيحته: «الغمرات ثم ينجلينا!»
وأقبل على الروم يحاورهم ويواثبهم والجراح تنهال عليه من مئات الرماح. وتصايح جنود الروم في حنق عندما سمعوا صيحته التي ذكَّرَتهم وقعاته الماضية وزادتهم به علمًا، فتواثبوا عليه حتى تعثَّر في الصخر ووقع إلى الأرض والتأمت عليه السيوف والرماح.
وسمع عبد الله وهو طريح يعاني سكرات الموت صيحة ترددت أصداؤها في الظلام مجلجلة صدعت سمعه الكليل، فعرف أنها صيحة الفتيان. وانتفض يريد أن يثب على قدميه ولكنه لم يقوَ على النهوض. وسمع الروم الصيحة فتلفتوا ثم تصايحوا وانتشروا هاربين في الظلام، وتركوا جثة عبد الله حيث كانت على الصخر وقائم السيف ما يزال في يمينه. واهتدى الفتيان بعد حين إلى موضع قائدهم الباسل، فحملوه وكانت على وجهه ابتسامة وهو يتمتم بالصلاة في آخر أنفاسه، وسمعوا آخر كلماته إذ يشكر الله على أنه استجاب دعوته وجعله لصحبه الفداء.