عبيد الله بن الحر
«عندما تضطرب الأهواء تغضب البطولة. وعندما تتعدد الأحزاب تتجرد سيوف الشجعان، ليضرب بعضهم رقاب بعض.»
آثر ابن الحر أن يعتزل في بيته في تلك الفتن الجارفة التي مزَّقت الكوفة وزعزعت أركانها وأذاعت بها الخوف والفوضى. كان عبيد الله بن الحر الجعفي رجل الحروب والمخاطر، وهو الذي قضى ما مضى من عمره في كفاح منذ كان شابًّا لم يبلغ العشرين إلى أن صار شيخًا نيف على السبعين، ولكنه آثر أن يقيم في بيته متباعدًا عن تلك الفتنة العمياء الجديدة التي أثارها طلاب الملك من كل جانب. وماذا كان يحمل ابن الحر على أن ينغمس في مثل تلك الفتنة التي ترددت فيها صيحات الجاهلية، وثارت فيها عصبيات القبائل الهوجاء؟ لقد أصبح كل حيٍّ ثائرًا بالحيِّ الذي يجاوره، وصار كل قبيل يلتمس لنفسه الحلفاء ممن كانوا حلفاء لأسلافه قبل أن يجمع الإسلام العرب ويؤلف بين قلوبهم.
كانت قبيلة بكر بن وائل تحارب تميمًا، وكانت الأزد تنافس جيرانها من بكر وتميم، فلا جوار ولا قرار ولا عقد ولا عهد، بل هي أطماع ثائرة، وأهواء متنافرة. وما كان ابن الحر الذي شارك في بناء الإسلام في القادسية ونهاوند وهو شاب، ليشارك وهو شيخ في هدم ذلك البناء الشامخ الذي تناولته الأطماع بمثل هذا العنف، وكادت تدك أساسه وتهد أركانه.
وأقام في بيته يناجي الهموم التي ملأت قلبه من ذكريات الحوادث التي مرت به بعد أن تكشفت له حقائق الناس وظهر له ما تنطوي عليه الحياة من نفاق وخداع ومن كذب ودناءة. كان قلبه الفتيُّ من قَبلُ ممتلئًا بالحماسة الخالصة، فما زالت الأعوام تكشف له الغطاء عن الناس طائفة بعد أخرى حتى ضاق بالحقيقة، وعاف المشاركة فيما يتحرك إليه هؤلاء الناس. كان قلبه الفتي منذ أربعين عامًا يمتلئ بالدعوة إلى الحق، ولا يبالي أن يبذل دماءه في سبيل الحق، ولا يرضى في جهاده إلا بأن يكون في صدر الأخطار. ولكنه بعد هذه السنين الطويلة، لم يَرَ إلا أن الخلاف قد أصبح على الحكم والسيادة وسلطان الحياة الدنيا.
كان يسمع في كل موطن من مواطن القتال صيحات الحق والعدل تتجاوب من كل جانب، ولكنه لم يجد في حقائق الحياة إلا الطمع في الأموال والزخارف والحرص على النعيم ومفاتن الحياة، فما الذي يدفعه بعد ذلك كله إلى المشاركة في الفتنة الجديدة؟
وكان ابن الحر فوق هذا يريد أن يذوق شيئًا من السلام إلى جوار امرأته الحبيبة أم توبة، ابنة عمه سلمى الجعفية، التي تزوج منها وقد نيف على الستين، وكانت فتاة في البضع والعشرين، تملأ بيته سعادة، وتشيع فيه السلام. وكانت حسناء رائعة، يزينها ما هو أكبر من الحسن والشباب، من وداعة نفسها ونقاوة قلبها.
كانت أم توبة كلها روحًا وذكاءً وطهرًا، فكان لا يحس إذا جالسها بما يفرق بينهما من عدد السنين، وعاد قلبه معها فتيًّا ينبض ويخفق كما كان في العشرين. لهذا لم تستدرجه الأنباء التي كانت تترامى إليه وهو معتكف في داره ولم تُغْرِه الفتن المتعاقبة على أن يعود إلى معامع النضال القاسية. فسمع أن البصرة تضطرب، وأن أميرها ابن زياد هرب لائذًا بالشام. ثم سمع أن الشام تتنازعها الأهواء بين صبية بني أمية من ولد يزيد بن معاوية وبين مروان بن الحكم شيخ قريش. وسمع أن عبد الله بن الزبير يدعو إلى نفسه، ويبعث البعوث إلى الأمصار يستميل أهلها وشيوخها وينازع بني أمية ملكهم.
ولكنه لم يهتز إلى شيءٍ من تلك الأنباء، وبقي على عزلته مغلقًا بابه عليه.
•••
وكانت ليلة من ليالي الصيف، والغبار الثائر في الهواء ينعقد مع الأبخرة في ضباب كثيف، وأحس ابن الحر ضيقًا، فصعد إلى سطح داره بالكوفة ليقضي الليلة تحت السماء مُطلًّا على الصحراء ليتنفس ملء صدره، كما اعتاد أن يملأ صدره؛ إذ كان يضرب في فيافي اليمن قبل أن ينزل مدينة الكوفة.
وجاءه بعد العشاء جماعة يطلبون لقاءه، فشعر بقبضة زادت أنفاسه ضيقًا. فماذا يبغي الناس منه وقد اعتزلهم وباعد ما بينه وبينهم؟ ولكنهم كانوا أصدقاء جاءوا يستأذنون عليه، فلم يستطع أن يردهم بالخيبة.
فقام من مجلسه فاترًا، ولبس عباءة من الديباج الأصفر وخفًّا من جلد لين أحمر، ولف على رأسه عمامة من ثوب يمني، ثم مس بعض الطيب ومسح به لحيته، وكانت لا تزال سوداء تناثرت فيها شعرات بيضاء، ثم نزل متثاقلًا حتى بلغ رحبة الدار، فوثب الضيوف وقوفًا يرحبون به في حرارة.
كانوا جماعة لا تضمهم رابطة من عصبية، تعودوا من قبل أن يجتمعوا حوله ويأتمروا بأمره. وقد جاءوا إليه لأنهم رأوا أمور الناس قد فسدت واضطربت، ولم يجدوا في حيرتهم مَن يلجئون إليه غير صاحبهم الشيخ الباسل الذي طالما علَّمهم أن يلزموا الحق وأن ينصروه في كل موطن.
ودار الحديث بين الجمع، فلمح ابن الحر ما جاءوا من أجله، فجعل يردهم في رفق ويرجعهم عن نفسه في تجمل. وطالت بينهم المناظرة، فعجب الرجال كيف تبدل ابن الحر وتغير، وكيف رضي أن يقيم في عقر داره وقد اشتعلت الفتنة وهو الرجل الذي بنى مجده في معترك النضال من أجل الحق. وتجرأ شابٌّ منهم وقال له: أيجمل بك الاحتجاب يا أبا الأشرس وهذه الحال كما ترى؟
فقال ابن الحر باسمًا: لقد أصبحتُ يا ابن أخي لا أرى. لست أرى شيئًا ولا أعبأ بأن أرى.
فقال الشاب وقد أحس في جواب الشيخ شيئًا من الاستخفاف: ما عهدناك إلا ذا بصر وبصيرة يا شيخ جعفي.
فأطرق الشيخ لحظة ثم قال: لقد علمت حسن رأيك يا جرير بن كريب، ولكني آثرت أن أعكف على صلاتي وأنتظر لقاء ربي.
فقال جرير في شيءٍ من اللجاجة: عرفناك دائمًا مصليًا كما عرفنا أنك تنتظر لقاء ربك في كل لحظة، ولكن ذلك لم يمنعك من نصرة الحق فيما مضى.
فلم يملك ابن الحر أن تبسم وقال في دفعة: الحق؟ أين الحق يا ولدي؟ إنها كلمة تتردد على الألسنة ولا يُراد بها إلا غير الحق.
فتحرك القوم قلقين، وقال أحدهم في صوت أجش: أأنكرت الحق يا أبا الأشرس وقد طالما نصرته؟
فعاد ابن الحر إلى الإطراق، وانعقدت على وجهه عبسة وقال بعد قليل: وكيف أنكر الحق وقد قضيت العمر أنصره؟ ألا إني قد رأيت الناس قد صار أمرهم إلى فتنة عمياء. أمَا سمعتم عبد الله بن عمر صاحب الرسول يقول: «إنها فتنة، القاعد فيها خيرٌ من القائم»؟ ألا ترى ذلك يا أخا الأزد؟
فقال الرجل معبسًا: إنها كلمة قالها ابن عمر ليداري بها ضعفه، وما أنت وابن عمر؟ إنه رجل لم تسبق له همة.
فتحرك ابن الحر في شيءٍ من الامتعاض وقال: مهلًا يا عمرو بن جندب. ألم يَكْفِ هذا العالم مَن قد وثبوا به؟ ألا يكفيك أن ترى في الشام مروان، وفي البصرة ابن الزبير، وفي فارس ابن الأزرق، وفي خراسان ابن حازم؟ أتريد أن نثب نحن كذلك على الكوفة فنزيد في الفتنة عصبة أخرى تسفك الدماء؟ ألا لقد آن لابن الحر أن يتجنب دماء المسلمين يا عمرو بن جندب. لقد أرقت من الدماء في حروبي ما أرجو أن يغفره الله لي، إذ أرقتها وأنا أحسب أني أجاهد في سبيله. ولكني أرى القتال أصبح اليوم في سبيل الدنيا وحدها. لا يا عمرو، لن أسفك بيدي هذه دمًا جديدًا في غير قصد. وما الذي جد في أمرنا حتى نتحدث عن الثورة؟ لقد بايعت البصرة ابن الزبير، وما نحن والبصرة إلا كجناحَي هذا العراق. إن في البصرة قومًا لا يقلُّون عنا عددًا، وليسوا دوننا شرفًا، وما أسلموا أمرهم إلى ابن الزبير إلا بعد أن ذاقوا مرارة الفتنة فيما بينهم. ألا تعرفون ما ذاقت البصرة من الويل والخراب إذ وثبت بكر بتميم، ووثبت تميم بالأزد؟ أفتحبون أن ينزل بالكوفة ما نزل بأختها من قبل؟ هذا هو الأحنف بن قيس سيد تميم بالبصرة، وهذه بكر بن وائل مع مالك بن مسمع، وهذه الأزد مع ابن عمرو، قد اتفقوا جميعًا على أن يتجنبوا القتال وبايعوا لابن الزبير، فلِمَ لا تبايعونه وتحقنون الدماء؟
وكان ابن الحر يريد أن يستمر في حجته، لولا أن قاطعه أحد الفتيان صائحًا: لقد صدقت يا ابن الحر. إنك لست ترى شيئًا، ولا تعبأ أن ترى شيئًا!
فغضب الشيخ وعبس عبسةً مظلمةً، والتفت إلى الفتى قائلًا: ألمثلي يُقال هذا يا مجشر؟ أمَا والله لولا علمي بما عندك من المودة لأجبتك جوابًا لا ترضاه …
فقال المجشر معتذرًا: لم أقصد يا أبا الأشرس أن أسيء إليك، بل أقصد أن أقول لك إنه قد جدَّ في الأمر جديد لا تعرفه، وقد كنا نحسبك قد سمعت بما كان.
فسكن ابن الحر وقال هادئًا: وما ذاك الجديد يا مجشر؟
فقال الشاب في حنق: الجديد أن البصرة تحترق في ثورة جديدة. خرج ابن أبي عبيد: المختار بن أبي عبيد الثقفي، وثار أتباعه اليوم فقتلوا الشرط، وهرب الأمير ابن مطيع عامل ابن الزبير.
فوجم ابن الحر ونظر إلى القوم فاتحًا عينَيْه كأنه لا يصدق ما يسمع، ثم قال في شيءٍ من الحزن: أهي فتنة أخرى؟
فصاح جرير: هي صفقات بيع وشراء … خرج المختار مناديًا بدم الحسين ليقبض لنفسه ميراث الحسين!
فقال ابن الحر في حنق: برئ الحسين منهم. أشهد لقد سمعت الصادق يحكي عن هذا الرجل أنه ما كان يبغض في الناس أكثر من بغضه عليًّا وولد علي.
وأخذ الفتيان يصفون ما يعلمون من حال البصرة وما صارت إليه أمورها.
وصاح المجشر متحمسًا: نحن اليوم بين أمرين لا غنى لنا عن اختيار بينهما: نقيم في يد المختار الثقفي، أو نقاومه لنمنع طغيانه ونفاقه.
وشمل الجمع سكون مدة لحظات طويلة، كانوا فيها ينتظرون جواب ابن الحر. كانوا ينظرون إليه ويرقبون حركات وجهه إذ هو مطرق واجم محمر الوجه، كأنما ينتظرون صوت القضاء. وكان ابن الحر في إطراقه يفكر وتتقاذفه الخواطر وتتجاذبه الميول. أيخرج من عزلته التي ركن إليها وأمل أن يبعد فيها عن الفتن ليذوق السلام فيما بقي له من أيام؟ أم يتبع أصحابه ويعود إلى المعامع القاسية مرة أخرى غضبًا من أن يتولى الأمر طاغية ظالم؟! أيجدر به أن يبقى على عزلته ويترك الأمر يئول إلى المختار بن أبي عبيد ويتحمل ذنب كل ما يقع منه من المفاسد والمظالم؟ ولكن ما هناك في الزعماء إلا ظالم وطاغية؟ … إنهم جميعًا يبيعون ويشترون ولم يكن منهم مَن يقصد إلا أن يحرز لنفسه منفعة.
ورفع ابن الحر رأسه في بطء وقال: أيها الشجعان، لا أحسبكم تظنون بي الجبن عن خوض الحروب حرصًا على بقية ضئيلة من الحياة، فلقد كنت كما تعلمون في صدر الأخطار كلما دعاني الواجب. ولكني رأيت هذا الأمر قد صار إلى منازعة الأطماع بعد أن ذهب الأخيار إلى القبور. فإذا أنا اليوم قاتلت فلن يكون قتالي إلا في سبيل بعض مَن يريد شراء عرض من أعراض هذه الدنيا. ولن أبذل في سبيل هؤلاء نقطة من دماء المسلمين. لا، لن أكون في مثل هذا أبدًا!
فعاد السكون لحظة أخرى طويلة، وتردد الرجال بِمَ يجيبون وهم حائرون بين هيبة شيخهم وبين حنقهم من تخذيله إياهم. ثم انفجروا غاضبين، وجعل كلٌّ منهم يلقي إليه سهمًا من قوله. وقام ابن الحر غاضبًا مما جبهوه به، وقال في صوت متهدج: لقد بلغتم من عمكم ما بلغتم، فحسبكم. إنها كلمة لا أقول غيرها، لن أدخل في شيءٍ من هذه الفتن الجامحة.
فطأطئوا رءوسهم حزنًا وقاموا وهم يكتمون ما على ألسنتهم من ألفاظ الحنق، ولكن المجشر التفت نحوه وهو منصرف وقال: أوَتحسب يا أبا الأشرس أنك تقيم في دارك آمنًا؟ والله لتعودن إلينا إذا رأيت الطلب حثيثًا في آثارك. والله لن يتركك ابن أبي عبيد في أمنك هذا. اقعد ما شئت فسوف يحتوشك الكلاب. ولئن عدت يومًا إلى ما ندعوك إليه الآن لتجدنَّنا سراعًا إلى تلبية ندائك.
ثم سار الجمع وهم صامتون، وعاد ابن الحر إلى مجلسه من ابنة عمه فأفضى إليها بما كان، وجعل يحدثها ويعيد عليها حجته التي رد بها أصحابه، وكأنه أراد بذلك أن يقوي نفسه، إذ أخذ يشعر أنه قد خانهم فيما عاهدهم عليه من قبل.
ونظر إلى سلمى ينتظر جوابها ويستوحي خاطرها، فقالت وقد علمت ما يريد: أحسنت والله يا أبا الأشرس لو أن المختار تركك آمنًا في بيتك.
فأطرق ابن الحر حينًا وهو صامت، ثم رفع رأسه وتكلف الابتسام وقال لامرأته في حزن: سنرى ما يفعل ابن أبي عبيد.
ثم انتقل معها بالحديث إلى حيث كانا من قَبْلُ يتناجيان.
ومر الصيف ومضى من بعده الشتاء، وأقبل الربيع في موكبه تهب فيه الريح رخاءً، وتسرح السحب البيضاء في السماء الصافية، والمرج يزهو في حلته الخضراء، والزهر يبسم للحياة الجديدة. ولكن ابن الحر لم يكن في بيته؛ لأنه كان قد خرج مع سبعمائة من أصدقائه الشبان إلى المدائن وعسكروا هناك يستجمون بعد رحلة طويلة هبطوا فيها من الجبل.
لقد صدق ما تنبأ به المجشر عندما قال لابن الحر منذ عام إن المختار لن يتركه في الكوفة آمنًا في عزلته. فلم يقنع المختار منه بالعزلة وأوفد إليه الرسل ليذهب إليه، فرد ابن الحر الرسل معتذرًا ولم يذهب، وألح عليه المختار ولج هو في الإباء. فساء ظن الطاغية فيه وأخذ يدبر للإيقاع به كما أوقع بمئات غيره من سادة الكوفة الذين اعتكفوا في بيوتهم اتقاء الفتنة. وأتاه أصحابه يومًا يحملون إليه نبأ ما يدبره المختار للإيقاع به، فتردد حينًا حتى استيقن من الأمر، ولم يكن له بدٌّ من الخروج معهم. وغادر الوطن وخلف ابنة عمه وراءه في الكوفة وأمسك قلبه أن يخونه عند الوداع.
وكان يومًا عاصفًا باردًا من أيام ذلك الربيع، وقد مالت الشمس إلى الغرب وصبغت الأفق بألوان الشفق.
ونزل ابن الحر وفتيانه في وهدة ملتفة الشجر عند المدائن، يكمنون فيها حتى لا يبصرهم مَن يسير على الطريق الواضح. وأقاموا على مداخل الوهدة ربيئة تحرسهم من أرصاد العدو، وجلسوا حول حفرة أوقدوا فيها نارًا ليستدفئوا. وكانت رحالهم وأحمالهم مبعثرة في أطراف الوهدة تتخلل الشجر وتغطي الساحات الفسيحة التي بين الدحال الملتفة، تنبئ بأنها أُلْقِيَت هناك على عجل. ولما غابت الشمس هبوا إلى الصلاة يؤمهم ابن الحر، حتى إذا ما انتهوا من الصلاة ذهبوا إلى رحالهم يلتمسون عشاءً أو يستريحون من الجهد، وبقي ابن الحر مائلًا على النار مفكرًا ينظر إلى لهيبها وينسج منه في خياله صورًا. وحمله الخيال إلى الكوفة وإلى داره التي خلف فيها أم توبة من ورائه. وكان بين حين وحين ينظر نحو الغرب قلقًا، يحاول أن يرى ما بين الشجر من ضوء القمر، ثم يعود إلى إطراقه ويميل على النار يتأمل ما تُخيله له من الصور. وكان القمر قد توسط السماء وأوشك أن ينحدر إلى الغرب، عندما لاح له شبح راكب يسرع بين الأشجار، فقام نحوه في لهفة فإذا هو رسول جاء يحمل إليه بعض الأنباء.
وقال الرسول في صوت المواساة: لا يرعك ما حملت إليك يا أبا الأشرس!
وكان هذا القول كافيًا ليفهم ابن الحر أن صاحبه يحمل إليه مأساة.
وقص الرجل عليه قصة قصيرة أذكت في قلبه نارًا تتأجج. فصاح بصوت ترددت أصداؤه في الليل الساجي: يا غوثاه!
ثم ارتمى على جذع نخلة ووضع رأسه بين يديه. فتحركت الأغطية فجأةً في جوانب الرحال المنثورة بين الشجر، وتهاوى أصحابه إليه يترنحون من أثر النعاس، حتى التفوا به وجعلوا يتساءلون عما أصابه. فقص عليهم الرسول قصته: انتهب المختار ضياع ابن الحر وأحرق داره، وساق امرأته سلمى النبيلة أم توبة إلى السجن، ولم يرده عن قسوته أنها امرأة آمنة في بيتها.
وما كاد الفتيان يسمعون القصة حتى انصرفوا في صمتٍ إلى الرحال، وجعلوا يستعدون سراعًا للمسير.
وانحدر القمر إلى الغرب وطلع الفجر، وكان ابن الحر وأتباعه سبعمائة فارس يمسحون بسنابك خيلهم عقود الندى الغزير المخيم على البساط الأخضر من عشب المرج عند مداخل الكوفة، ثم تسللوا من جبانة السبيع إلى موضع السجن.
وكان الحراس قد هدءوا وغطوا رءوسهم بالأقبية الصوفية الغليظة يستدفئون من البرد القارس، ويصيبون من النوم إغفاءة في السحر، فأيقظتهم أصوات فتيان ابن الحر عند رءوسهم يحطمون أبواب السجن في حنق، ولم يفلت منهم إلا مَن استطاع أن يهرب، وانطلق ابن الحر في سراديب السجن يعدو في تلافيف الحجرات والسيف مصلت في يمينه وهو ينادي: «أم توبة، هذا ابن عمك يسرع إليك.»
فلما بلغ أقصى السجن سمع صوتًا ضعيفًا كأنه ينبعث من تحت أقدامه قائلًا: إليَّ أبا الأشرس!
فاندفع نحو الباب المطأطئ الذي دونه، فحطمه بطعنات رمحه ودفعات جسمه، ورأى أمامه امرأته الحبيبة كأنها شبح أصفر لا تكاد تقوى على الوقوف. فاحتملها بين يَدَيْه وعدا بها وهو صامت اللسان خافق القلب، حتى إذا بلغ رحبة السجن وجد أصحابه لا يزالون يضطربون ويحطمون، فصاح بهم: أطلقوا مَن تجدون في حبس الطاغية …
ثم انتحى بابنة عمه، فوضع عليها عباءته، وفتح لها ذراعَيْه، وقال لها: فداك دمي أيتها الحبيبة!
فاندفعت سلمى بين يَدَيْه باكية.
فضمها إلى صدره كما تضم الحمامة فرخها إلى جناحها، وقال وهو يهدر في ثورته: لأثيرنها عليهم نارًا لا تُطفأ، ولأبعثنها عليهم زلازل لا تُبقي ولا تذر، حتى أدك صرحهم الخاوي الذي لا قوام له إلا على مثل هذا الجرم الشنيع.
وفيما هو يحدث امرأته سمع حوافر خيل مقبلة، فأسرع إلى فرسه وصاح في فتيانه: هلموا إلى الجبابرة الأنذال …
وسارع الفتيان فركبوا من حوله وهو مردف حليلته من خلفه، حتى خرجوا من السجن إلى الأرض البراح وكان صدامًا عنيفًا بينهم وبين جنود الطاغية حتى خرجوا من صفوفهم المتراصة.
ولما نزلوا أخيرًا عند المساء في الوهدة الغائرة بين الدحال وطلع القمر فوق الفضاء الساكن، سمع الفتيان صوت شيخهم يتغنَّى عند رحله بأبيات شجية من شعره، وكانت نبراته المختلجة تنم عمَّا في صدره من الأشجان.
ثم نادى أصحابه في صيحة عالية، فلما اجتمعوا حوله رفع يده عالية وقال في صوته الجهوري: «سنعود إلى القتال الليلة أيها الشجعان. لن ننتظر الصباح حتى لا يطول أمد الطغيان.»