الفصل العاشر
كنت أحسب أن النوم يسعفني لشدة تعبي، ولكني أحسست بأن كل عصب في جسمي مشدود إلى مداه، وأن كل عِرق في بدني يرفُّ، وأن هموم الحياة كلها تتجمع في أعماق صدري، فوضعت يدي تحت رأسي ونظرت إلى سقف الغرفة، وأخذت أعد عروق الخشب مرة بعد مرة لعلي أغفل وأغمض عيني، وهي حيلة كنت ألجا إليها لأصطاد النوم إذا شرَد عني، ولكني أعدتُ العد حتى مللت، ورأسي ما يزال مشدودًا كأنه يريد أن ينفجر، وجعلت أدقِّق في العروق القديمة السمراء، وكانت كثيرة العُقَد، وجلت بنظري في الألواح الغبراء اللون التي تحتها، وقد زالت عنها قطع واسعة من دهانها الجيري القديم، وكانت بعض أنسجة العنكبوت تلتصق في حناياها وزواياها، والعناكب السوداء في داخلها تتربص بفرائسها وتُداعب خيوطها بأرجلها الطويلة راضية عن نفسها، ورأيت منها عنكبوتًا ضخمة تتحفز لذبابة حمقاء تقترب من بيتها، فقلت في نفسي: «هذا هو!» ولو كانت في تلك العنكبوت شارة حمراء لما شككتُ في أن الله قد مسخ إليها الجندي الفظ صاحب الأشرطة الحمراء، ورأيت برصًا كبيرًا له لون أحمر قاتم، وكان واقفًا في ركن السقف، فتعجبت كيف لا يهوي إلى الأرض وهو يمشي مقلوبًا برجليه إلى أعلى، وكان غليظ الجسم كبير الرأس، وكان وجهه منقطًا بآثار تشبه آثار الجدري كأنه وجه مصطفى عجوة، هذه الحشرات القذرة التي تتربَّص بفرائسها وتلتصق بأقدامها إلى السقف وتُدلي رءوسها إلى أسفل!
وكان هناك ثقب في جانب اللوح يَصلُح أن يختفي فيه البرص ويتدارى عن عيني، ولكنه لم يفعل، حتى الأبراص لا تحبُّ الجحور المظلمة، وأما أنا فإني أُسجَن في تلك الغرفة الخانقة ويغلق علي الباب، وما تزال قبضة يدي تؤلمني من أثر الخبط وما تزال أنفاسي تضطرب من أثر الغيظ.
ونظرتُ إلى الساعة التي في يدي، فوجدتُها الثانية بعد الظهر، وأرهفتُ سمعي إلى حركة البيت فلم أسمع حسًّا، وكان عجيبًا أن يكون الهدوء عميقًا في يوم الجمعة وأمي وأختي بالمنزل، وشعرت بشيء من الخيبة؛ لأني بقيت في الغرفة وحدي، ولم يسأل أحد عني.
وعدت أنظر إلى السقف، وغاظني منظر البرص والعنكبوت فأغلقت عيني حتى أتجنب النظر إليهما.
ولم أدر كم كانت الساعة عندما بدأت أغفو؛ لأني لم أتنبه من نومي إلا بعد المساء، وكانت أمي جالسة في سكون إلى جانب سريري تنظر نحوي، والدموع تسيل من عينيها الحمراوين، فلما فتحت عيني قامت إليَّ وأهوت على جبيني تقبلني وهي تبكي بكاء مرًّا.
وقالت في بكائها: لمَ تُعرِّض نفسك للأذى يا ولدي؟
وجلست على الكرسي تمسح عينيها، وقالت: لم نعرف ما حدث إلا من هذه الورقة التي تركتها على المنضدة، لم تَقُل لي كلمة وأنت خارج وتركتنا هكذا لا نعرف أين أنت … ولما قرأت منيرة الورقة اصفر وجهها كأنه ليمونة، فعرفت أن في الورقة شيئًا مزعجًا … إنها داهية كبيرة يا ابني، وحماك الله من مركز البوليس ومن كل ما يؤذيك، وأما عبد الحميد فالله يبارك فيه … هذه دعوة خالصة من قلبي … الله يحميه لأمه المسكينة … لم أر أمه منذ سنين، ولما رأيتها وجدت كأني لم أنظر إليها منذ مائة سنة … وطلبت منها أن ترجو عبد الحميد أفندي ليذهب معي إلى أحد المحامين وإلى مركز البوليس لنعرف السبب في دعوتك إلى هناك … وفي دقيقة واحدة كان عبد الحميد أمامي، وأراد أن يخرج وحده ليعمل كل شيء وهو لا يَعلم أن قلبي يشتعل … هكذا الشباب دائمًا لا يعرفون قلوب الأمهات، ولكني قمت معه لأراك ولو من بعيد … مركز البوليس؟ إنها داهية كبيرة، وركبنا عربة ولم أعرف ماذا قال عبد الحميد أفندي للسائق، حتى نزلنا أمام بيت السيد أحمد جلال …
فوثبت من سريري وقلت في صيحة مبحوحة: السيد أحمد جلال؟
فقالت أمي: الله يستره السيد أحمد ويحميه يا ابني، والله لولا هو لما أمكننا أن نعمل شيئًا … ومَن كان يقدر أن يُكلِّم الحُكَّام كما كلَّمهم؟ … ومن كان يقدر أن يجعل المدير يأمر الضابط …
فقاطعتها في ضيق: كانت الحجرة المظلمة أهون عليَّ من هذا.
فصاحت وهي تخبط صدرها: الحجرة المظلمة؟ يا للمصيبة! قلبي أحس بهذا عندما عرفت أنك في مركز البوليس، حيث يذهب اللصوص وقطاع الطريق والفلاحون المُجرمون … الله يبارك فيك يا سيد أحمد يا جلال.
فعدتُ مستلقيًا على ظهري، ووضعت يدي تحت رأسي، وعزمت على أن أستغرق في التفكير في العنكبوت؛ لأصرف نفسي عن سماع أقوال أمي، ووضعت أمي يدها على رأسي وأخذت ترقيني، ودخلت منيرة عند ذلك فقالت في مرح: الحمد لله على السلامة، كفارة يا سيد بك!
فلم أردَّ عليها، وفرغت أمي من القراءة فالتفتَت إلى منيرة قائلة: لا تنسي أن تزوري مني يا حبيبتي، حماها الله وحمى الشباب جميعًا، كانت تُحيي أختك كأنها أختها وجلست طول الوقت جنبي ومالت على يدي وهي تسلم عليَّ عند انصرافي.
يا رب يا ابني أعيش حتى أرى لك عروسًا مثلها، كانت أمها من الفرحة مثل شابة بنت عشرين سنة، العقبى لك يا ابني، كان الباشا هناك ليقدم الشبكة.
وأحسستُ برأسي يدور لانتقال أمي في حديثها من موضوع إلى آخر، ولكني ما كدت أسمع ذكرها لمنى حتى تحولت كل أعصابي المشدودة إلى آذان، عروس مثلها؟ والعقبى لك يا ابني؟ والباشا يقدم الشبكة؟ فهل كان مصطفى عجوة صادقًا؟
وقلت في صوت خافت: شبكة مَن؟
فقالت أمي: شبكة منى، وعريسها محمود خلف، الله يحمي الشباب يا ابني.
فطنَّت أذناي وحاولت أن أصرف النظر إلى السقف، ولكني لم أر أمامي شيئًا، ودوت في رأسي رحى تقول كلمة واحدة: «شبكة منى!»
ولولا وجود أمي وأختي إلى جانبي لأدرت وجهي إلى المخدة وبكيت حتى أخفف الضغط الذي ملأ قلبي.
وقلت لأمي متكلفًا الهدوء: أحب أن أستريح قليلًا.
ووليتها ظهري كأني أريد أن أنام.
ولما أغلق الباب من وراء أمي وأختي وجدت نفسي أنفجر باكيًا كأني طفل بائس، ومرت عليَّ ساعة مظلمة قبل أن أسمع صوت أمي من خارج الباب تناديني: أنت صاح يا سيد؟
فقلت في فتور: من؟
فقالت: عبد الحميد أفندي هنا.
فقلت: سأحضر حالًا.
وقمت مسرعًا لأغسل وجهي أولًا، وتعمَّدت أن أبدل قميصي، وأمشط شعري حتى أبدو نشيطًا وذهبت إلى غرفة الجلوس، فأخذني عبد الحميد بين ذراعَيه وكان قلبي يفيض بشكره، ولكني لم أقل له سوى كلمة عتاب: أهكذا تُحمِّلني جميل السيد أحمد جلال؟
فقال في جد: لم يكن أمامي إلا أن ألجأ إليه هو، أدركتُ من أول الأمر أنه هو الذي حرَّك عليك البوليس، وأنه هو الذي يَقدر على صرف البوليس عنك.
وشعرت بكلمته تَلذعني، ولكني لم أُجِب بل أخذت أقول في نفسي ساخرًا: «أنا الشعب!»
وأخرج عبد الحميد من جيبه بعض أوراق، ثم مدَّ إليَّ يده بظرف أنيق قرأت عليه اسم «بريد الأحرار»، فأخذته منه في فتور قائلًا: ما هذا؟
فقال: هذا خطاب جاء إليَّ الآن من صديقي علي مختار، فاقرأه وقل لي رأيك.
وأخذت أقرأ الخطاب وعيناي تقفزان فوق الأسطر حتى بلغت آخره ووجدته يستحق أن يقرأ في عناية، فأعدت قراءته مرة أخرى ولا شك أن وجهي كان ينطق بما في نفسي من الاهتمام، مُحرِّر في بريد الأحرار؟ وعشرون جنيهًا في الشهر دفعة واحدة سوى أجر القصص التي أكتبها؟ خمسة جنيهات للقصة الواحدة؟
وأعدت الخطاب إلى صاحبي وأنا صامت وذهني مُشتعل، وماذا بقي لي في دمنهور؟ أأبقى هناك لأَحضُر حفلة خطبة منى؟ يا للسخرية! ولكني تذكرت المعركة التي دخلت من أجلها الحجرة السوداء، وقلت لصاحبي في دفعه: لن أستسلم هكذا.
فقال: لستُ أفهم.
فقلت: سأبقى هنا حتى تَنتهيَ المعركة.
فقال: حتى بعد هذا الجميل الذي قدَّمه السيد أحمد جلال؟
فقلت في عناد: بل من أجل هذا الجميل.
فقال في تهكم: ولكن المعركة كادت تَنتهي أو قد انتهت.
فقلت متحديًا: إنها لم تبدأ بعد، سيعرف السيد أحمد جلال أني لا أرهبه، سيعرف أنه لا يقدر على تحطيمي، لقد قال لي مرة إنه يستطيع أن يَسحقَني وأن يُحطمني، وأظنه يحسب الآن أنه جعلني أعرف مقدرته على ذلك، لن أترك دمنهور حتى يعرف أنه لا يستطيع أن يحطمني.
فقال عبد الحميد في هدوء: إذا شئت أن تُحارب وحدك فافعل. اجعلها معركة من جانب واحد مثل دون كيشوت إذا شئت.
فقلت في غيظ: لن أترك المعركة.
فقال: حتى بعد أن تَنازل العجمي؟
فصحتُ: مُستحيل!
فقال: هذه هي الحقيقة، لقد تنازل العجمي عن ترشيحه.
فقلت في مرارة: نذلٌ آخر، لا شك أنه لم يكن في تمام عقله.
فقال ضاحكًا: بل كان في تمام عقله؛ لأنه عرف مصلحته.
فقلت: إنها سخرية. عبث دنيء وإهانة للشعب الذي كنا نتحمَّس له، هل كنا نخدع الناس ونهزأ بهم عندما كنا نتحدث إليهم، لست أدري ماذا حمل ذلك الأحمق على هذا التنازل.
فقال في سخرية: كان تعويضه عظيمًا.
وامتلأت غيظًا لقول صاحبي كأنه هو الذي تنازل عن الترشيح.
وصحت به: أي تعويض؟
فأجاب باسمًا: التعويض عن رسوم الانتخاب وعن الأضرار التي أصابته في هدم السرادق وعن أتعاب أنصاره الذين كانوا يقومون بالدعاية لترشيحه.
فقلت حانقًا: النذل! أتعاب أنصاره؟ هل نحن هؤلاء الأنصار؟ أكان العجمي يستأجرنا للدعاية؟ ألم يدفع له أهل المدينة تأمين الانتخاب؟ ألم نَجمع نحن فيما بيننا أجرة السرادق؟ هل قال حقًّا إنه كان يدفع أجرًا للأنصار الذين كانوا يساعدونه بالدعاية؟
فقال كأنه يريد غيظي: طبعًا، وهذا ما يقوله الناس جميعًا. هل يظن أحد أن هناك حمقى يساعدون مرشحًا لوجه الله تعالى؟
وكنت أزيد غليانًا كلما رأيته يضحك ساخرًا، ولكني كدت أنفجر غيظًا عندما استمر قائلًا: واعلم أيضًا يا سيدي العزيز أن محمد باشا خلف تنازل هو الآخر للسيد أحمد جلال، أما تزال تريد أن تخوض المعركة؟
فوثبتُ على قدمي كأني أتحفز لمصارعة، وتمنيت لو كانت الحجرة واسعة فأنطلق فيها صارخًا كالمجنون ألعن وأشتم وأهتف بسقوط الأنذال جميعًا، أهكذا تجري الأمور؟ ولمَ تنازل محمد باشا خلف؟ أكانت منى ثمنًا لتنازل الباشا الأجوف؟
وقلت لصاحبي في حقد وحنق: سأسافر غدًا إلى القاهرة في أول قطار.
ثم عدت إلى مقعدي خائرًا كأن هذه الوقفة القصيرة كانت مجهودًا شاقًّا، وأخذت أُحدِّث نفسي بصوتٍ عالٍ: إنها مخزاة أن نعيش في مجتمع كهذا، الرجال عبيد يُساقون بالسياط أو يشترون بالمال، والنساء أيضًا يُعرَضون في أسواق الرقيق كما كانت الجواري تُشترى، الذهب هو المعبود، ومن أجل الذهب يَبيع الجميع كل ما عندهم حتى الحرية والكرامة، وحتى الحب، هي معركة أكبر خطرًا لا تتسع لها دمنهور.
وكان عبد الحميد ينصت إليَّ وهو مُطرق مستند إلى ذراعيه فوق المنضدة، وقال ولم يرفع رأسه: هذا صحيح يا صديقي، اذهب أنت وجاهِد بقلمك وأعاهدك على أن أذهب أنا كذلك وأستمر على جهادي في مدرستي، لا أملَ لنا في شيء إلا أن نُعلِّم ونُعلِّم ونُعلِّم حتى تذهب هذه الأجيال الملوَّثة، ثم يخرج جيل جديد، أنا أُعلِّم في المدرسة وأنت تُعلِّم بقلمك في الصحافة حتى ينشأ جيل جديد يستطيع أن يفهم الحرية والأمانة والصدق.
فصحت مندفعًا: هذا عين الخطأ يا سيدي، لستُ أقصد شيئًا مما تقول يا سيدي، هذا خطأ يقع فيه كل الذين يُفكرون بعقولهم وحدها. ماذا يعنيني من قلمي ومن مدرستك؟ إذا كان لا بد لنا أن ننتظر حتى ينشأ جيل يستطيع فهم الحرية والأمانة والصدق فلننتظر طويلًا. لا أفهم هذا أبدًا.
فقال: وماذا تفهم إذن؟
فقلت في غل: لا أفهم سوى ما يَفهمه كل حي، أفهم أن أذهب لأجاهد، وأجمع الناس من أهل هذا الجيل نفسه ليجاهدوا، هؤلاء الذين أعيش بينهم وأراهم وأعاملهم هم الذين يقع عليهم واجب الجهاد من أجل حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المسلوبة، لا شيء غير أن يقوم العبيد بالثورة من أجل حريتهم.
فقال في ثبات: هذا تكليف الطبيعة فوق طاقتها، العبيد لا يعرفون الحرية ولا يتحمَّسون لها ولا يُجاهدون من أجلها، الأدب والعلم مثل قطرات الماء تنزل على الصخور قطرة قطرة فتُذيبها وتُحلِّلها.
هذا مُحقَّق وإن كان يحتاج إلى زمن.
فصحتُ ساخرًا: الزمن! الخرافة! ألستَ أنت الذي قلت إن الزمن لا معنى له إلا في عقولنا؟ ما هذه التشبيهات المضلِّلة؛ الماء والصخرة والقطرات التي تنزل نقطة نقطة؟ هذه كلها مغالطات نلجأ إليها عندما لا نريد أن نُعرِّض أنفسنا للمجهودات الشاقة أو الأخطار الشديدة.
فقال في تحدٍّ: كأنك تريد الثورة.
فقلت في غيظ: أتُريد أن تُرهبني بهذا السؤال؟ نعم أريد الثورة ولا شيء غير الثورة.
فهز رأسه قائلًا: أنا أخالفك هنا. الثورة الشعبية تُدمِّر ولا تُفكِّر، ولو فرضنا أن الثورة نجحت فإنها لن تجد الشعب الذي يحسن الاستفادة منها. قد نرضى عن الثورة التي تدمر إذا جنَينا من ورائها خيرًا، ولكن الثورة التي لا يُستفاد منها لا تكون إلا شرًّا محضًا.
فقلت في عناد: وماذا يمنع من أن نستفيد من الثورة؟ لقد قرأت كثيرًا عن ثورات التاريخ، وتعلَّمت من ذلك حقيقة واحدة خالدة، نحن جميعًا من البشر وفينا جميعًا عناصر الخير والشر، وفينا عناصر القوة والضعف، في نفوسنا الأنانية والتضحية، وفينا الشجاعة والجبن، وفينا العدل والطغيان، نحن نَنطوي في الوقت عينه على السماحة واللؤم وعلى السمو والإسفاف، من الممكن أن تتغلَّب علينا عناصر الشر التي فينا، كما أنه من الممكن أن تتغلَّب علينا عناصر الخير، العبرة بالقوة التي تُثير هذه العناصر أو تلك.
فقال في هدوء: عظيم يا سيدي، ولكن هل نسيت أنك تجعل كل الأمور متوقِّفة على شرط غير موجود؟ أين هذا المحرِّك الذي يبعث عناصر الخير؟ هذا المُحرِّك لا وجود له إلا في داخلنا، وعلينا أن نخلقه في الناس بالأدب والتربية.
فقلت في عناد: المسألة مثل الحلقة المفرغة، لن نستطيع أن نصلح داخلنا ما دامت السيادة في أيدي الأنذال والأشرار والسفلة.
ولا نستطيع أن نصلح أمورنا إلا إذا أصلحنا داخلنا، حلقة مفرغة لا نعرف أين طرفاها.
ليس أمامنا إلا أن نثور على هؤلاء السادة المفسدين لنَخلع عنَّا نيرهم ونُحلَّ في محلهم مَن يُثير في الناس عناصر الخير، نحن الشعب، نحن العبيد المحطمون، علينا أن نثور إذا شئنا أن ننجي أنفسنا من العار ونحمي ظهورنا من ضرب السياط، الثورة ولا شيء غير الثورة!
فقال صاحبي في نغمة حزينة: قد أوافقك إذا أمكن أن تكون الثورة عاقلة لا تهدم بل تبني وتضع الأمور في أيدي الحكماء لا الحمقى، ولكن هيهات!
فقلت في تبرُّم: هادئ مثل الملائكة!
فرفع رأسه وكان وجهه محتقنًا كما كان يحتقن في صباه إذا كبت شعوره، ثم قال: كنتَ دائمًا تتَّهمني بالهدوء وتقصد بذلك الفتور؛ لأني لا أُرضيك بالتحمس الثائر، لا يا سيدي فأنتَ لا تعرف ما في داخل قلبي، لست أخشى الثورة ولكني أخشى الفوضى.
وضاق صدري من هذا الجدل، فقلت وأنا قائم: هذا أسلوبك في التفكير دائمًا: أنت تريد أن تنتظر مع الزمن مع أنك تؤمن بأن الزمن خرافة، وأن الحركة هي الحقيقة، وأنا أريد أن أستعجل الأمر بإحداث الحركة القوية التي تختصر الزمن.
فقام ومدَّ يده مصافحًا وقال مبتسمًا: هذا حسن يا صديقي، دعني أمد لك يدي لأقول لك: إننا مُختلفان حقًّا في الأسلوب وإن كانت غايتنا واحدة، لعلَّ في طبعك أن تكون مجاهدًا في الطليعة، فدعني أنا لأكون مجاهدًا في المؤخرة.
فقلت وقد شعرتُ بالأسف على عنفي: أحب أن تعرف يا صديقي مبلغ شعوري بأني مدين لك.
وشددت على يده في إخلاص، ثم قلت: سأُحاول أن أعود إليك بين حين وآخر؛ لأتزود من أحاديثك، فإنك بمناقشاتك تفتح لي آفاقًا جديدة ما كنتُ أراها.
وقمت لأشيعه إلى الباب وأنا شاعر بأني أشيع أستاذي.