الفصل الحادي عشر
قمت مبكرًا في اليوم التالي لأسافر في أول قطار إلى القاهرة، وجلست للإفطار مع أمي وأختي، وأحسست عند ذلك بأني مقدم على خطوة خطيرة، سأفارق كل من لي في الحياة، وسأترك دمنهور التي عرفتُها حارة حارة وبيتًا بيتًا ودكانًا دكانًا، وخُيِّل إليَّ أنها أعز البلاد وإن كنت قاسيت فيها ما قاسيت، ولم أجد قبولًا لأكثر من فنجان من الشاي باللبن، وقبَّلتُ يد أمي في شغف، وحملت حقيبتي وعرضَت عليَّ منيرة أن تُسايرني في ذهابها إلى المدرسة حتى نبلغ المحطة، ونزلنا ودعوات أمي تشيعنا من فوق السلم، ولم أنس أن أقرأ الفاتحة لسيدي «أبو طاقية» عندما مررت قريبًا منه، وأخذت أحدث أختي عن خطتي التي عقدت النية عليها: وهي أن أفارق دمنهور العزيزة إلى الأبد، وشعرت بغصة في حلقي وأنا أقول لها هذا، وكدت أحدثها عن منى، ولكني لم أجرؤ، فاكتفيت بأن قلت لها: هل أعددتِ ثوبك الجديد؟
ولكني ارتبكتُ عندما تذكرتُ أنها لم تُدعَ لحفلة الخطبة إلا منذ ليلة، فأسرعت قائلًا: عندك أسبوع كامل لتَذهبي إلى خيَّاطة ماهرة، ستكونين بغير شك أجمل فتاة هناك.
فقالت باسمة: ما عدا منى طبعًا، إنها أظرف فتاة عرفتها وكأني لم أفارقها منذ كنا أطفالًا.
وكان بودِّي أن أسألها: هل كانت سعيدة؟ وهل قالت لها شيئًا عن خطيبها؟ وهل سألتها عني؟ ولكنِّي لم أجرؤ، وتركتُها تسألني عن نيتي في الإقامة بالقاهرة، وهل أعتزم الإقامة وحدي أم ننتقل جميعًا لنكون معًا، وأخذت أجيبها إجابات مبهمة؛ لأني كنت في الحقيقة لا أدري بم أجيب.
وبلغنا المحطة فصافحتها بهزة من يدي وأخرى من قلبي، وسرت مسرعًا والحقيبة الخفيفة تهتز في يدي، وخُيِّل إليَّ أن منظر الميدان وما حوله من الأبنية أجمل المناظر، وأن نسيم الصباح الرطب أروح الأنسام، وعرجت على شباك التذاكر، فاشتريت تذكرة من الدرجة الثالثة ودفعت جنيهًا من الجنيهات العشرة التي أخذتُها من أمي قبل خروجي، ثم سرت لأهبط إلى المحطة فسمعت صوتًا من خلفي يصيح قائلًا: «يا أفندي.» فالتفتُّ إلى ورائي، وكان أحد الحمالين يناديني قائلًا: «نسيت بقية الجنيه.» فعدتُ إلى شباك التذاكر واسترددت ما بقيَ لي، ثم اشتريت نسخة من «بريد الأحرار» من بائع الصحف وكان منظرها في عيني بديعًا، وأخذت أتأمل عناوينها الكبرى باللون الأحمر واللون الأسود والصور الأنيقة التي تزين صفحاتها، وداخلني شعور بالاعتزاز بأنها جريدتي.
وجاء القطار وكان الزحام شديدًا، فاستطعتُ بعد جهد أن أدخل العربة وأضع حقيبتي على طرف الرف، ووقفتُ على مقربة من الباب، وارتكنت على ظهر المقعد الذي ورائي، وأخذت أقلب صفحات الجريدة على مهلي.
ولكن الحقول الخضر كانت تَنتزع نظري من الصحيفة، فلم أستطع أن أقرأ شيئًا، كانت جوانب الطريق بساطًا أخضر من القمح والبرسيم تزدهر بما فيها من النوار والبقر والغنم والأطفال في ملابسهم الملونة، ورأيت طفلًا عاريًا كما ولدته أمه يتمرغ في طين بركة، فلوَّحتُ له بيدي ورد عليَّ التحية بأن قذفني بحفنة من الطين، وبصَق في وجهي من بعيد، مسكين هو الآخر؛ لأنه لم يعرف للتحية ردًّا سوى هذا، وفيما كنتُ سابحًا في أفكاري شعرت بيد تسحب الجريدة من تحت إبطي، فالتفت إلى الوراء لأرى رجلًا ضخمًا في المقعد الذي ورائي يبتسم لي قائلًا: «تسمح؟» ولم ينتظر حتى أسمح وأخذ الجريدة قبل أن أقول له: «تفضل.»
ولما وقف القطار في المحطة التالية خلا المقعد الذي إلى جنب الرجل، فدعاني للجلوس وبدأ يحدثني، فقال: إلى أين؟
فقلت مُختصرًا: إلى مصر.
– أنت موظَّف؟
وتمنيت لو سكت ولكنه استمر قائلًا: أنت أبونيه؟
– لا.
– لا مؤاخذة، أظنُّني كنت مخطئًا، هو يشبهك تمامًا.
– من هو؟
– علي أفندي مبارك الأبونيه. اسم الكريم؟
– سيد زهير.
– تشرفنا، كنت في يوم من سنتين — ولا مؤاخذة — كنت أركب هذا القطار نفسه، فركب علي أفندي الأبونيه من دمنهور، وكنتُ لا أعرفه، وتعارفنا كما نتعارف نحن الآن، ونصب عليَّ في جنيهين.
ولم أجد جوابًا فبقيتُ صامتًا.
واستمر يقول: من ذلك اليوم صرتُ أتوقع أن أراه كلما مررت بمحطة دمنهور، ومن العجيب أن الجميع يُشبهونه؛ ولهذا سألتك هل أنت أبونيه.
فانفجرتُ ضاحكًا وقلت: أشكرك، على كل حالٍ لست أنا.
فضحك هو الآخر قائلًا: لا مؤاخذة، يخلق من الشبه أربعين …
ومد رجليه واستند إلى الكرسي قائلًا: فرصة سعيدة على كل حال، أنا الحاج عبده صاحب محل الصابون العطري.
فقلت: مصنع؟
فأجاب ضاحكًا: كل الناس يقولون هذا إذا سمعوا الاسم، ولكنه صالون حلاقة وأرجو أن تُشرِّفنا، شارع المحطة بكفر الزيات، مع السلامة!
وكان القطار قد هدأ سرعته للوقوف في المحطة، فقام الرجل يستعد للنزول، وسألني أن أساعده على حمل ربطاته الكثيرة، فناولته إياها من النافذة وانشغل عنِّي بمقاولة حمال المحطة حتى تحرك القطار.
وجلست إلى جانب النافذة في المكان الذي خلا من الرجل، وأخذت أنظر فيما حولي، ثم استرعى سمعي خصام رجلين من الركاب، وما لبثَ أن اشترك سائر الركاب في المناقشة، وأصغيت إلى حديثهم الحانق مرغمًا، وأنا أعجب من حرصهم على النزاع مع أنهم في رحلة، ولكني رجعت إلى نفسي فقلت: إن الخصام أمر طبيعي لا حيلة للناس فيه وإن كانوا في رحلة قصيرة، وهل حياتنا نحن إلا رحلة قصيرة مهما طالت؟
واستمرَّت المناقشة تخبو حينًا وتَستعِر حينًا حتى اقتربنا من القاهرة، فكانت تسلية مفيدة سهَّلَت على الركاب قطع الوقت بغير أن يملُّوا، ألسْنا نفعل ذلك عندما نقضي حياتنا في خصومات متصلة؟
ووصلت إلى القاهرة أخيرًا وركبت الترام إلى «بريد الأحرار»، ولما صرت أمام المبنى الكبير وقفت في حيرة لا أدري ماذا أصنع بحقيبتي، ولو كانت حقيبة محترمة لما همني أمرها، ولكنها كانت قديمة من الورق المقوَّى ولا أعرف كيف أُسمي لونها؛ لأني نسيت ماذا كان لونها عندما كانت جديدة، وكان لها قفل واحد سليم يعلوه الصدأ، وأما الآخر فكان يأبى إلا أن يمد لسانه إلى فوق كأنه يسخر منِّي، ورأيت على مقربة من الدار دكان بقَّال فذهبت إليها لعل صاحبها يرضى بإيداع الحقيبة عنده حتى أعود من مقابلة الأستاذ علي مختار، وكان صاحب الدكان رجلًا كهلًا له لحية وخطها الشيب وتبدو على ملامحه الطيبة، ولكنه بعد أن رد على السلام في بشاشة لم يرض أن أودع الحقيبة عنده خشيةً من أولاد الحرام الذين اعتادوا أن يضعوا في حقائبهم أشياء خبيثة يدسونها على الناس ليُوقعوهم في التُّهَم.
ففتحتها له وأنا في خجل شديد منها، وأخذت أنفض له كل قطعة فيها ليرى براءتها حتى قَبِلَ آخر الأمر أن يُودعها عنده.