الفصل الثاني عشر
كانت المقابلة الأولى بيني وبين الأستاذ علي مختار مُرضية لكبريائي؛ فقد استقبلني في مكتبه الأنيق مُرحِّبًا باسمًا وناداني قائلًا: مرحبًا يا أستاذ سيد.
وهو شابٌّ صغير الجسم له نظرة تدعو إلى الإيناس وصوت مليء يبعث الثقة، ونظر في وجهي أو بقول آخر نظر في عيني ولم يفحص بنظراته ملابسي ولا حذائي، بل لم يَلتفت إلى لحيتي التي طال شعرها، وهو في مثل سنِّي، ويسترعي النظر بعنايته بملابسه وشعره ورباط رقبته، وفي يده خاتم يلمع في ضوء الكهرباء، وفي صدره دبوس ذهبي له فص لا يقلُّ عنه لمعانًا، ولم يقم لاستقبالي بل مد يده نحوي وهو جالس وأشار إلى كرسي بجواره ودق الجرس ثم طلب فنجانين من القهوة.
ولم يُضِع وقتًا في كلام كثير، ولكني شعرت من أول لحظة بارتياح واطمئنان؛ ولهذا لم أتحفظ في كلامي كما كنت عازمًا من قبل. سألني: متى وصلت إلى القاهرة؟
فقلت: ظهر اليوم.
فقال: آسف إذا فاتَتْني فرصة الغداء معك.
فقلت ضاحكًا: فاتتْني أنا.
فقال باسمًا: وأين نزلت؟
فقلت: لا تزال حقيبتي عند الشيخ مصطفى حسنين، وهو بقال قريب من هنا.
فضحك ملء صدره قائلًا: بداية حسنة.
وتذكرت كلمة مثلها قالها لي السيد أحمد جلال في موقف يختلف كل الاختلاف عن موقفنا هذا، ومع انصرافي التام إلى حديث الأستاذ علي مختار لم أملك نفسي من العودة حينًا إلى صورة منى، أما من سبيل لأُعلمَها بأني أصبحت في القاهرة ومحررًا في بريد الأحرار؟
وجاء الفراش يَحمل القهوة فأتاح لي فرصة لتأمل صورة منى، لقد بدت لي في آخر مرة رأيتها فيها مثل الزهرة البديعة تظهر في بستان رائع من وراء السور الشائك، فرسمتها في قصيدتي وناجيتها كما أُناجي الزهرة الجميلة التي لا أستطيع أن أمدَّ إليها يدي، وها هي ذي الأيام تظهر لي أن ذلك الخاطر كان أصدق من نبوءة.
ولما رفعتُ بصري إلى الأستاذ علي مختار وجدته ينظر إليَّ فاحصًا، فاعتراني شيء من الارتباك ولكني سارعت إلى التغلُّب عليه، وأخذ يسألني عن صاحبي عبد الحميد ففتح لي بابًا واسعًا من الحديث، وانطلقت أُحدثُه عن الاختلاف الذي بين نظرتي إلى الأمور وبين نظرته، بين الثورة السريعة وبين التطور الذي ينتظر مرور القرون قبل أن يهيئ الشعب للحرية.
وكان يستمع إليَّ في صمت كأنه يريد أن يسبر أغواري.
ولما فرغت من حديثي وجدته ما يزال ينظر إليَّ باسمًا وقال: أشكرك على الإسراع إلى إجابة رجائي، وأعتذر إليك من قلَّة المرتب الذي عرضته عليك.
فقلت مسرعًا: هذا فوق الكفاية.
فتبسم قائلًا: أنت رجل طيب فترضى هكذا سريعًا، ولكن الجريدة تشق طريقها برغم كل شيء، وسنَكبُر معًا.
فقلت متحمسًا: أنا سعيد بأن أعمل معك يا سيدي.
فقال مبادرًا: أحب أن أبين لك طريقتي في العمل حتى لا يداخلك شيء من سوء الظن عندما تعرف أنك ستبدأ عملك بقراءة البروفات، هذه هي طريقتي.
فقلت في سري: «هكذا أبدأ دائمًا: كتابة الأرقام على البالات هناك وقراءة البروفات هنا.»
وأخرجت من جيبي مجموعة من الأوراق فيها قصة جديدة، ومددت بها يدي نحوه.
فأخذها قائلًا: قصة أخرى؟ أُهنئك يا أستاذ سيد ببراعة أسلوبك، ولا تظن أني أقلل من شأنك عندما أطلب منك أن تُراجع البروفات، هذه طريقتي عندما يدخل إلى الأسرة عضو جديد، أحب أن يتعرف هذا العضو الجديد إلى كل الأعضاء الآخرين وأحسَنُ وسيلة لمعرفتهم هي قراءة أفكارهم في دقة واهتمام، ستعرف أفراد هذه الأسرة من ناحيتها الهامة وهي أقلامها.
فقلت مسرورًا: هذه نظرة صائبة وأنا سعيد بأن أعمل معك.
ووقفت لأنصرف فمد إلي يده مصافحًا، ولكنه وقف لي في هذه المرة قائلًا: إلى اللقاء غدًا في الصباح.
وخرجتُ من عنده وأنا أسأل نفسي أي صنف من الناس هو، ومع كل ما ظهر لي من بشاشته وأدبه خرجت من عنده وأنا أحسُّ أنه أعمق غورًا مما يبدو.
وذهبت إلى دكان الشيخ مصطفى فوجدته جالسًا على الدكة عند مدخل الدكان وفي يده رغيف محشو بجبن يَقضم منه، فلاقاني كما لو كنا أصدقاء منذ سنوات وقال لي: مرحبًا.
وفسح لي مكانًا إلى جنبه وأخذ يسألني عما جئت من أجله، ولما علم أني كنت مع الأستاذ علي مختار قال في حماسه: علي بيه؟
فقلت: أتعرفه؟
فأجاب ضاحكًا! أراه كل يوم ولكنِّي لا أعرفه.
وكنت لم أطعم شيئًا منذ الصباح فقلت: أتسمح لي بشيء من الطعام؟
فمسح فمه بيده قائلًا: رغيف وجبنة وحلاوة وسردين وكل ما تريد.
وقام ليجهز لي الطعام ثم وضعه على الدكة فوق ورقة قديمة من أوراق الصحف قائلًا: تفضل بألف هنا.
وأخذت آكل بشاهية عظيمة وهو يُبادلني الحديث، وأخذ يسألني عن قصدي حتى عرف أني جئت لأعمل محررًا في الجريدة.
ولما عرف أني من دمنهور قال لي: تشرفنا، أحسن تجار أهل دمنهور.
فقلت مباهيًا: وأنا كذلك كنت تاجرًا.
ففرك يديه بعد أن فرغ من طعامه وقال: الحمد لله، رضا، اسمع يا أفندي، الأرزاق بالله فلا تحزن ولا تيئس، التجارة مثل المرأة اللعوب تَضحَك مرة وتَغضَب عشرين، هل خسرت كثيرًا؟
فقلت: لم أخسر بل ربحت.
فقال في دهشة: ومع ذلك تترك التجارة؟ وماذا تريد من هذه الجريدة؟ تكتب فيها؟ ما هذه الخيبة! اسمع يا سيدنا الأفندي، إذا كنتَ لم تخسر في التجارة فارجع إليها حتى تخسر، اسمع نصيحتي ولا تشتغل في الجرائد، كلام فارغ، كل جريدة تشتم الأخرى وكل كاتب يقول للآخرين: «أيها اللصوص» «أيها الخونة» يعني إنَّ الجميع لصوص وخونة، فماذا تريد؟ ارجع إلى التجارة وافعل مثلي، والله لو أعطاني علي بيه خمسين جنيهًا في الشهر لم أقبل أن أترك التجارة.
فضحكت قائلًا: لست أصلح للتجارة.
فقال: قلت لك إنها كالمرأة اللعوب، تُضايقك؟ لا تتضايق. تحزنك؟ لا تحزن، صالحها، ضاحكها راجعها بكل وسيلة، وإذا لم ترضَ عنك عاملها بالقوة، اضربها، العنها، جرها من شعرها، ولكن لا تيئس، الحمد لله، رضا!
وأخذ يُقبل يده ظهرًا لبطن.
فقلت له: يظهر أني لم أخلق لها.
فقال وهو يهزُّ رأسه: مسكين! الله يساعدك.
ولما فرغت من طعامي مسحت يدي وفمي في منديلي، ودفعتُ له الثمن وقمت قائلًا: تسمح لي بإبقاء الحقيبة عندك؟
فقال: مرحبًا! محلك يا سيدي، تفضل في أي وقت لغاية الساعة العاشرة، أين تقيم؟
فقلت: لا أدري.
فقال: اسمع يا أفندي. اسم الكريم؟
فقلت: سيد زهير.
فقال: عاشت الأسامي، اسمع يا سيد أفندي، أنت رجل طيب ويظهر أنك ابن ناس طيبين، وعندنا غرفة في سطح البيت وكان فيها رجل طيب مثلك، فيها سرير وكرسي أسيوطي وكنبة وشباك بحري وقدمها أخضر، لم يبقَ صاحبنا هناك إلا سنة ثم انتقل بترقية، عقبى لك، سافر إلى الإسكندرية درجة ثامنة.
فضحكت قائلًا: يا سلام! لا بد أنه كان متعلقًا بآخر عربة في القطار.
فضحك هو الآخر قائلًا: أقصد أنه نقل إلى الإسكندرية، وأنه موظف درجة ثامنة فنية، موظف فني مُهم، قدمها أخضر مائة في المائة.
فقلت: وأين المنزل؟
فأشار إلى ورائه إشارة مُبهمة قائلًا: قريب من هنا، في الخدمة يا سيد أفندي.
وخرجت من الدكان أسير إلى غير قصد لأقطع الوقت حتى يأتي المساء، وجعلت أنظر حولي حتى لا أضل الطريق عند عودتي، وكانت المناظر متشابهة والأبنية كلها عالية كأنها توائم، لا يمكن تمييز أحدها عن الآخر، فعرجت على أقرب قهوة حتى لا أبعد في المسير، وكانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف.
وكان اسم القهوة «نادي الأدباء»، فسُررت إذ وجدته فألًا حسنًا، وجلست في ركن على جانب الطريق، وطلبت فنجانًا من الشاي، وأخذت أفكِّر فيما أفعل، وكان منظر الطريق مُسليًا كأنه فِلم سنمائي لا تنقطع فيه الحركة، فخطر لي أن أقيد ملاحظاتي حتى لا تَشرد منِّي تشبُّهًا ببعض من قرات عنهم من الأدباء، وفتحت عيني لكلِّ ما يمر بي، وأخرجت كراسة صغيرة كانت في جيبي، وأخذت أنظر وأكتب، يا لها من لحظات سخف ما أزال أضحك منها كلما تذكرتها، وما أزال إلى اليوم محتفظًا بهذه الكراسة الصغيرة كتذكار لهذه الجلسة.
وأضاءت الأنوار إيذانًا باقتراب المساء، فقمت وكانت الساعة السادسة، فلما وصلت إلى دكان الشيخ مصطفى وجدته ما يزال جالسًا على الدكة عند مدخل الدكان، وإلى جواره عدد من الناس يأكلون وهم وقوف ويتحدثون أحاديث شتى تتخللها السخرية، ويمضغون كلماتهم مع اللقم التي يقضمونها من الأرغفة التي في أيديهم، هي السياسة دائمًا.
فجلست على الدكة إلى جانب الشيخ، وشاركت في الحديث، وكان يدور حول ما يتناقله الناس من فضائح، كأن المدينة قد خلَت إلا من أعوان الشيطان.
وكان الشيخ مصطفى محور تلك الأحاديث، يُضيف إلى كل قول كلمة من رأيه تثير ضحكة عالية.
ولما صارت الساعة الثامنة صرت لا أحتمل البقاء طويلًا، فقلت للشيخ: متى تعود إلى المنزل؟
فنظر إلى ساعته وقال: يا سلام! أتحبُّ أن نذهب الآن؟
فقلت: أحب أن أستريح إذا أمكن ذلك، فنظر إلى أصحابه قائلًا: عن إذنكم يا جماعة، تعالوا نتم سهرتنا في المنزل ونُوصِّل صاحبنا هذا.
وأغلق دكانه وسرنا في حلقة صاخبة نتبادَل الفكاهات عن كل ما يقع عليه بصرنا وأدهشني الشيخ؛ لأنه كان أكثرهم مرحًا وطربًا، حتى خُيِّل إليَّ أنه شخص آخر غير الذي رأيته في ساعة الظهر.
ولم يكن المنزل بعيدًا فدخلنا من بابه الخشبي القديم إلى ردهة مُظلمة سرنا فيها على ضوء أعواد الكبريت، حتى بلغنا فناءً مربعًا فيه مصباح بترول صغير على حامل خشبي مثبت في الجدار، وفتح الشيخ الغرف التي في صدر الفناء حاملًا إليها المصباح، ودعا أصحابه للدخول فيها حيث جلسوا على حصير حوله بعض «الشلت» الصغيرة، ثم عاد وأوقد عودًا من الكبريت ليضيء لي الطريق إلى أعلى السطح حيث كانت غرفتي.
وكان القمر ساطعًا فأغنانا عن إشعال الكبريت في السطح، وفتح الشيخ باب الحجرة، وأوقد مصباحًا على رفٍّ خشبي فيها، فاستطعت أن أرى منزلي الجديد.
وكان هناك سرير قديم ولكنه نظيف، وكرسي أسيوطي و«كليم» صغير ومنضدة وكنبة، ولم أجد فرقًا كبيرًا بينها وبين الغرفة التي اعتدتُ النوم فيها بمنزلي، فأظهرت الارتياح وشكرت الشيخ، فاستأذن مسرورًا عندما عرف أن الغرفة أعجبتني.