الفصل الرابع عشر
عندما دخلتُ في اليوم التالي على الأستاذ علي مختار، بادرني قائلًا: عظيم يا أستاذ سيد!
وكان مُنهمكًا في قراءة المقال الذي كتبته في الليلة السابقة، فلما أتم القراءة نظر إليَّ حينًا في صمت ثم قال: عندي مهمَّة لا يقوم بها على أتم وجه إلا أنت.
ومد إليَّ يده بتذكرة دعوة.
واستمر يقول: هذه دعوة إلى حفلة كبرى بمنزل الوجيه حسام الدين بمصر الجديدة … حفلة استقبال أمير كبير وولي عهد دولة شرقية صديقة، ستكون في الساعة التاسعة من مساء اليوم، والآن الساعة العاشرة صباحًا، لا تعتذر بشيء فلك أن تشتري من الملابس ما تشاء، وسيكون المُصوِّرُون تحت أمرك، ستكون هذه الحفلة موضوع أحاديث المجالس والأندية والمنازل طوال الأسبوع المقبل، وستسهر الإدارة حتى ترسل إليها المقال الذي ستَكتبه في وصفها، لك صفحة بيضاء تكتب فيها ما تشاء بغير مراجَعة، وستكون عربتي الخاصة تحت تصرفك.
لست أقول لك: «ما رأيك» ولكني أقول: «ها هي ذي يدي، إلى اللقاء.»
ليس عندي شيء أقوله لك إلا أن تكتب كما تكتب دائمًا، وهذه مائة جنيه تصرفها كما تشاء.
وتبسَّم عاطفًا وهو يضع أمامي ورقتين من ذوات الخمسين جنيهًا، فوجدت نفسي مثل رجل يرى نفسه واقفًا أمام طيارة على غير انتظار، وشخص آخر يدفعه قائلًا له: «هلمَّ إلى نيويورك.»
أأقول له لا أريد أن أذهب؟ هذه هي الكلمة التي كدتُ أنطق بها لولا أنني سمعته يقول لي باسمًا: «لا تُضيِّع الوقت في الوقوف هكذا يا أستاذ سيد. سنطبع عشرين ألف نسخة فوق ما نطبعه كل يوم.»
وخرجتُ من عند الأستاذ وأنا أسأل نفسي كيف يُفكِّر هذا الرجل، وأي نوع من المقالات يريد مني؟ أهي دعاية للسيد الوجيه؟ أم هي دعاية للأمير ولي عهد الدولة الصديقة؟ أم هي خطة لا أعرفها للبدء في معركة؟ لقد علَّمتني الأشهر التي عملت فيها مع الأستاذ علي مختار أنه رجل عميق الأغوار.
وسألت نفسي إلى أين أذهب؟ ولكني ركبت عربة الأستاذ، وقلت للسائق أول اسم خطر لي: محل مانويل.
ثم قلت في نفسي: ماذا أصنع بهذه الجنيهات كلها؟ بدلة عظيمة وحذاء جديد طبعًا من النوع اللامع وماذا أيضًا؟ رباط رقبة ومنديل وقميصان مثلًا، ثم ماذا؟ أظن أن البائع سيفتح لي أبواب الشراء على وسعها، فلا حاجة بي إلى التفكير في طريقة الإنفاق منذ الآن، وتحقق ظني فلم أجد صعوبة في صرف الجنيهات عندما دخلت إلى محل «مانويل»، كما لم أجد صعوبة في اختيار الملابس والألوان، أخذَتِ النقود تطير مني كالعصافير، قميص بخمسة جنيهات ورباط رقبة بثلاثة، ولم يكن من المناسب أن يكون لي قميص واحد، أو رباط رقبة واحد، والبدلة بثلاثين جنيهًا والحذاء بخمسة، وتذكَّرتُ أني في حاجة إلى ملابس تحتانية؛ لأن مثل هذه البدلة لا يليق بها أن تعتلي ملابسي القديمة، وبعض مناديل حريرية وجوارب وعلبة سجائر وقفاز وبعض زجاجات عطور.
ومُجمل القول أني صرفت أكثر الجنيهات التي أخذتها من الأستاذ، ولم يبق في جيبي إلا بعض جنيهات «فكة»، ولبستُ البدلة لأُجرِّبها فوجدتها بديعة كأنها مفصَّلة على قدِّي، ونظرت إلى صورتي في المرآة ولستُ أبالغ إذا قلت أني كنت وجيهًا حقًّا، بل إني كنت أوجه من محمود خلف، وتمثَّلتُ نفسي واقفًا أمام منى أقول لها: «أما تُعجبك هذه البدلة السوداء؟»
وحمل عامل المتجر ما اشتريت إلى السيارة، فنفحته بربع ريال ثم ركبت حتى وصلت إلى مدخل حارة الشيخ مصطفى، ولم تُهمَّني نظرة السائق عندما أمرتْه بالوقوف هناك أمام حارة ضيقة قذرة، وطلبت منه في تعال أن يعود إليَّ قبل مُنتصَف الساعة التاسعة من المساء.
ولم أجد صعوبة في حمل الربط التي اشتريتها؛ لأنها لم تكن ضخمة، وعرجت على بقال قريب من المنزل، فاشتريت منه رغيفًا وبعض الجبن وعلبة من الفاكهة المحفوظة، وسرتُ إلى المنزل وأنا أتأمَّل في تفاهة الجنيهات المائة التي أحمل ما اشتريته بها في يدي اليُمنى وتحت إبطي.
وقضيت بعد ظهر اليوم في الاستعداد للحفلة، فحلقتُ ذقني واستحممتُ وأكلت واسترحتُ إلى قريب من ساعة الغروب، ثم بدأتُ ألبس ملابسي من تحتانية وفوقانية، وشعرت بوقع خطوات فطومة خارج الباب، ولستُ أدري ما الذي جعلها تأتي إليَّ في تلك الساعة وأنا في ملابسي الأنيقة، فقد خجلتُ من الظهور بها أمامها.
ولما رأتْني الفتاة وقفَت أمامي تُحملِق في وجهي مُندهشة، ثم شهقت وضربت صدرها بيدها، واندفعت نحوي تُطوِّق عنقي بذراعيها قائلة: مبروك!
ولم أعرف كيف أرد هذه التحية العنيفة، وتمنَّيت لو كنتُ تذكرتها لأشتري لها هدية تفرح بها، وخطر لي بعد لحظة أن أهديها أحد المناديل الحريرية التي اشتريتها، فأخرجتُه من ربطته وقلت لها كاذبًا: هذا المنديل هدية اشتريتُها لكِ يا فطومة.
فمسحت يديها في ثيابها، وأخذت المنديل وهي تَصيح في فرح قائلة: الله!
وجعلت تنظر إلى المنديل بعد أن نشرته أمام عينيها، وأخذت تَصيح في فرحة عظيمة: «الله يخليك يا سيد أفندي.» ونفضتْه وثنته ونظرت إلى ألوانه معجبة، ثم جعلته حول كتفيها، وأمسكت طرفيه بيدها فوق صدرها، وتمايلت في تأنق إلى اليمين والشمال وهي تضحك قائلة: ألست أعجبك هكذا؟
وأخذت تَسير متمايلة في الغرفة في زهو، ثم رفعت المنديل وشمت رائحته، وقالت في دهشة: الله!
رائحة الست هدى! ألا تعرفها؟
ولم أعرف من هي الست هدى؛ لأن فطومة كانت تغمرني في أحاديثها بأسماء لا حصر لها، ووددت لو انصرفتْ عني حتى أستعد للخروج، ولكني لم أجرؤ أن أطلب منها أن تخرج.
واقتربتْ مني وجعلت تفحص ثيابي قائلة: أين تذهب الليلة؟
فقلت بغير اهتمام: إلى حفلة.
فقالت في دفعه: فيها ستات؟
فأشرت برأسي: نعم.
وقلت لأَصرفها: أريد أن أتم استعدادي للنزول يا فطومة.
فقالت في شيء من الحنق: طبعًا! حفلة ستات، وتُريد أن أذهب من عندك.
ووضعت المنديل على أنفها وشمته قائلة: هي هي الرائحة. هي الأخرى تذهب إلى الحفلات، ولكنها لا تُريد أن تأخذني، أتدري لماذا؟
ونظرت إلي في خبث، ثم ضحكت ضحكة طويلة وهمست: «تقول لي إني ما زلت صغيرة الآن.»
وتقدمت مني مرة أخرى وجعلت تُبدي إعجابها بلون رباط رقبتي بعبارات ساذجة، وقالت: حتى السنما لا أذهب إليها؛ لأن أبي لا يرضى.
أتدري لماذا؟
وهمست مرة أخرى: لأني صغيرة وهو لا يُريد أن أرى الروايات التي تعلم الحب.
وضحكت ضحكة طويلة أخرى.
وتعلَّقت بذراعي فجأة وهي تقول: خدني معك يا سيد أفندي. سأضع المنديل هكذا حول كتفي، وسألبس الفستان الجديد، بجُنيه المتر الواحد، اشتراه لي شهاب أفندي، وأراد أن أذهب معه إلى السينما من وراء أبي، ولكنِّي لم أذهب، سأذهب معك ولن يعلم أبي؛ لأنه في كل ليلة يدخل إلى «المندرة» مع أصحابه ويُغلقها، ويُمكنني أن أخرج وأعود قبل أن يفتح الباب.
وعادت تضحك ضحكًا طويلًا.
واندفعت عليَّ فجأة، فطوَّقت عنقي بذراعيها، ورفعت وجهها نحوي.
وكانت مفاجأة لم أتوقعها فذُهلت ورفعت يدي إلى يدَيها لأبعدهما برفق، ولكنها تمسكت بعنقي ونظرت إليَّ نظرة التجاء قوية التعبير، فمسحتُ على رأسها برِفق، وملتُ على وجهها المرفوع فقبلت جبينها قائلًا: لا أستطيع أن آخذك هذه المرة يا فطومة، وأعدكِ أن أذهب بك إلى السينما في ليلة أخرى بعد استئذان والدك.
فحلَّت يديها في حنق، وصرفت وجهها عني نافرة وهي تقول: طيب خلاص!
ثم انفلتت مسرعة من الغرفة.
ونظرت خلفها وهي خارجة ولمحت صورتها وهي مطبوعة أمام ضوء القمر الذي يغمر السطح، ولأول مرة عرفت أن التي كانت أمامي امرأة لا طفلة، كان قوامها وهي تتحرَّك مسرعة في غضبها يشبه قوام أنثى من الوحش تنساب في غابة، جسم لدن مليء حسن التقسيم، وملامح يفيض فيها الشباب القوي، ودفعة وحشية تمتاز برشاقة تُشبه رشاقة النمور في حركتها، ولا أدري كيف أصف شعوري وأنا واقف في مكاني أنظر في أعقابها؛ فقد كان مزيجًا من العطف والنفور والإعجاب والتقزُّز مع شعور آخر من إدراك ما فيها من محاسن ومن لوم النفس على أني لم أتَّخذ معها موقفًا حاسمًا، وارتميت على الكرسي الطويل حائرًا حزينًا مُضطربًا بين هذه المشاعر المتضاربة لا أدري ماذا ينبغي لي أن أفعل بعد هذا، فهل أصدمها صراحة وأقول لها أننا لا ينبغي أن نستمرَّ في هذه المهزلة، وأننا من عالميَن مُختلفين لا يستطيعان أن يمتزجا؟ ولكن أتفهم فطومة قصدي إذا قلت لها مثل هذا القول؟ وهل يمكن أن نفهم أن تعلُّقها برقبتي هكذا مهزلة؟ وكيف يمكنني أن أعرف ما يدور في أعماق نفسها وهي تتعلق برقبتي؟
ولستُ أُخفي أنني كنت في قرارة نفسي أخشى أن أصدمها، فإنها كانت بغير شك تُدخِل كثيرًا من الأنس إلى وحدتي، فكيف تكون الحياة في هذه الغرفة الحقيرة بغير فطومة التي تَحمِل إليَّ إفطاري وتُثرثر لي وتغني وتجمع ملابسي إذا اتَّسخت، وتعود بها إلي نظيفة مكوية، وتنظم لي حجرتي في عناية وذوق حتى أصبحت لا أحسُّ بأني غريب عن بيتي. ثم هي فوق ذلك تبعث إلى وحدتي شيئًا آخر أخفى من كل هذا على إدراك العقل، فإنها كانت تُؤنسني بشخصها، ألم أكن حقًّا أشجعها على التعلق بي، وإن كانت لا أفطن إلى أني أشجعها؟ ألم أكن أبتسم لها كلما جاءت إلى غرفتي وأُحيِّيها وأعطيها شيئًا من النقود بين حين وآخر؟
وانتقل بي هذا التفكير المُضطرِب إلى مُحاسَبة نفسي وتشديد اللوم عليها، وانتهى ذلك إلى عزمي المؤكَّد على الانتقال من البيت حتى لا أدع لها ولا لنفسي فرصة أخرى لمثل هذا الموقف المحفوف بالمخاطر لها ولي أيضًا، ونظرَت إلى ساعتي فوجدتُ أن موعدي مع سائق السيارة قد فات، فقمت مُسرعًا وقفزت على السلالم القريبة من مدخل شقة فطومة حتى لا تَراني، ولما بلغت الشارع كان المُصوِّرون وسائق العربة قَلِقين في انتظاري عند مدخل الحارة الضيِّقة وهم لا يَعرفون أين منزلي، وفي لحظات كنا في الطريق إلى مصر الجديدة، وما زلت في أثناء السير أحسُّ في أعماقي حزنًا غامضًا وأجادل نفسي في موقفي من فطومة؛ ولهذا لم أشعر بطول الطريق حتى وقفت العربة ووجدت نفسي أمام قصر السيد الوجيه حسام الدين، فنزلت وأقبل خدم القصر نحوي وانحنوا لتحيتي، ورددت على التحية مُتنازلًا كما يفعل العظماء، واتَّجهتُ داخلًا ولكنِّي ما كدت أرى المنظر الذي أمامي حتى تسمَّرت في مكاني وسألت نفسي: أين أنا؟ هل أنا في مصر الجديدة أم في مصر القرون الوسطى؟ ومن أي سوق اشتريت هذه الجواري الحسان الواقِفات في صفَّين على مدخل القصر المنيف.
نعم كان أمامي صفان من فتيات يَلبسن ثيابًا حريرية من طراز ألف ليلة وليلة تُبدي محاسنهن وتصف أجسامهنَّ وتُظهر لين قُدودهن، ولست أستطيع أن أصف ما اعتراني عند ذلك من الشعور، لم يكن شعوري كما يُنتظر سرورًا بالمنظر الرائع ولا افتتانًا بالحسن البارع، بل شعرت بغصة في حلقي وثورة في قلبي، وكدتُ أصيح بالذين رأيتهم أمامي قائلًا: ما هذا؟ ما هذا التجني على الإنسانية؟ ما هذا الامتهان للآدميِّين؟ هل عادت لنا عهود الرق التي كانت المرأة تُشترى فيها لتكون متعة للعين أو لعبة للهو؟ ولولا أني كنت موفدًا من «بريد الأحرار» لأؤدي وظيفتي الصحفية لوقفت حيث كنت، وألقيت محاضرة في كرامة الإنسان، ولكني تمالكت نفسي ودخلت بين صفَّي الفتيات كما يَدخُل المقاتل إلى ميدان حرب وقلبه مفعم بالقتال، ولم تطاوعني نفسي أن أنظر إلى يميني أو يساري، فاتجهت بعيني إلى الأرض، وكانت الأرض مفروشة بممشى من السجاجيد الفاخرة التي تُزري بألوان الأزهار في أحواض الحديقة المحيطة من الجانبَين، وكانت الأنوار الملوَّنة على جانبَي الممشى تخلع على الزهر بهاءً فوق بهاء الربيع والأنوار الساطعة في القصر تُنادي من بعيد بالعظمة والأبهة، وسمعتُ من خلفي نداءً هامسًا فالتفت فإذا هو مُصوِّر يستلفت نظري إلى صفَّي الفتيات، ويطلب أمري أن يأخذ لهما صورة، فقلت له في اختصار: «خذ أنت وأصحابك ما تشاءون فأنتم أخبر مني بما ينبغي.»
وتركتهم خلفي وسرت متَّجهًا إلى القصر، فصعدت على السلم الرخامي الواسع حتى إذا ما بلغت البهو كنت في جهد شديد أريد أن أستريح كأنني كنتُ في رحلة شاقة طويلة، فما كدت أدخل حتى عمدت إلى ركن من الأركان البعيدة وتهالكتُ على مقعد ووضعت ساقًا على أخرى، واستندت إلى الظهر وأخذت أرقب من هناك من يدخلون من الباب ورأسي مشتعل بما يشبه الحمى.
وكان المرح يشيع في الجو الدافئ، والحسان الكثيرات يُقلِّبن أبصارهن في الحضور من وراء أكتاف الرجال الجالسين حولهن، ويُوزِّعن البسمات الفاتنة هنا وهناك.
ورأيت حسناء تَجلس وحدها في ركن قريب مني، وتشعل سيجارة، وتضع ساقًا على الأخرى كما فعلت أنا، ولست أدري ماذا جعلني أبتسم من تلك الحركة التافهة، فحسبَتِ الحسناء أنني أبتسم لها فردت بابتسامة عاطفة، وجاء صاحب الدار الشاب عند ذلك، فحياها وتحدَّث معها بكلمتين في رقة، ثم أقبل عليَّ يُحيِّيني، ولما عرف أني مندوب «بريد الأحرار» رحب بي ترحيبًا كريمًا، ودعاني إلى استقبال الأمير، فقمتُ معه وبدأت أتعرَّف إلى بعض الوجوه المزدحمة قريبًا من مدخل البهو، وكان هناك صحفي عرفته ذات يوم في دار النقابة، وهو شابٌّ يمتاز بشخصية عجيبة استرعت نظري منذ أول جلسة، ولما رآني أسرع نحوي وصافَحني ووقف إلى جنبي، والظاهر أنه استأنس بي عندما رآني كما استأنست به؛ لأننا كنا غريبان هناك، وأخذ الأستاذ عطية يُحدثني أحاديث لاذعة عن الواقفين حولنا في همسات عالية شعرت منها بحرج شديد، وأشار في أثناء حديثه إلى الحسناء السمراء التي بادلتُها الابتسام عن غير قصد، وأخذ يُحدثني عنها قائلًا: أتعرف من هذه الفاتنة؟
فقلت: لم أرها إلا في هذه الساعة، ولكنا تبادلنا الابتسام.
فضحك ضحكة عالية ثم قال بهمسته العالية: حاذِر يا صديقي فإنها جبارة، هي الست هدى العبقرية.
وكدتُ أصيح عندما سمعتُ اسمَها، وتذكَّرت اسم السيدة التي تحدَّثَت عنها فطومة، واستمر الأستاذ عطية يقول: هي تَجمع في شخصها عالمًا كاملًا: صحفية وتاجرة وسياسية ومورِّدة للجيوش وواسطة خير في كل شيء، وغير ذلك ما يخطر وما لا يخطر على بالك، ثم هي بعد ذلك صاحبة صالون مُدهِش للكبار من المصريين والأجانب ولكلِّ مَن له موهبة من الشباب من الجنسين.
وضحك ضحكة عالية أخرى.
فقلت في فضول: وأين تسكن؟
فنظر إليَّ في خبث وقال: هكذا سريعًا؟ هي تَسكن في كل القاهرة، لها بيوت في كل الأحياء من السيدة إلى بولاق ومن جاردن سيتي إلى مصر الجديدة.
وحدثت حركة في المُستقبِلين عندما جاء الأمير وتسابق من هناك إلى التقدم بين يديه فوقفت في مكاني، وجعلت أقرأ الحركات من بعيد، وكان الأمير شابًّا أسمر الوجه وسيمًا تبدو عليه علائم الفتوَّة، وكانت تحياته تَجمع بين التعطُّف والتحفُّظ، واتجه في حلقة مُستقبِليه إلى مكان الصدر، وابتدأت بعد قليل مراسم الحفلة.
وأخذت أجمع في وعيي كل ما تَقع عليه عيني، الحسان يتهافتن على الأمير كأنهن الفراشات يتدافعن نحو الأنوار، وسارع بعضُهن إلى خدمة الضيوف في المقصف وهن شبه عاريات، فما هذه الملابس التي لا تسترُ إلا ما دون الأكتاف، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها نساءً في هذا الزي بعيني، إنها ملابس تكشف عن مفاتن الجسم، وإن كانت تدعي أنها تسترها، وقُدِّمت كئوس الشمبانيا فكانت تتلألأ في أيديهن وتُباهي خواتيم الماس التي في أصابعهن.
وأقبل الأستاذ عطية على المقصف متعطشًا إلى الشرب وإلى التمتُّع بالمنظر البديع، فبقيت وحدي أحاول أن أتناول ما أعرفه من الأصناف وهو قليل إلى جانب ما لا أعرف، وبعد أن لعب الشراب في الرءوس بدأ دور الموسيقى، وذهب الراقصون اثنين اثنين إلى المرتع الصقيل الذي يتوسط البهو الفسيح، فذهبت إلى ركني الأول الذي كنت فيه، وجلست واضعًا ساقًا على أخرى، وجاءت السيدة السمراء ذات العينين الواسعتين اللامعتَين تتأبط رجلًا أنيقًا … أهو السيد أحمد جلال حقًّا أم تخدعني عيني؟ وماذا يصنع هنا؟ وتذكَّرتُ في تلك اللحظة أنه أصبح نائب دمنهور، وأنه لا ينبغي له أن يَغيب عن تلك الحفلة التي تحتوي كل العظماء … وجلس معها في ركن قريب يتفرجان على الراقصين، ويَميل إلى صاحبته بين حين وآخر هامسًا ثم تَنطلِق منهما ضحكة مرحة.
وهمَّ بنفسي أن أمر أمامه حتى يراني، ووددتُ لو أمكنني أن أسلم عليه، وأرى كيف يستقبلني ولكني لم أفعل، وبقيتُ في مكاني أقرأ الوجوه والحركات، وتدافع الراقصون في رشاقة وهم يتناظرون بلحاظ وانية، وكانت ملابس النساء تلمع تحت الأنوار كأنها قوس قزح، والوجوه الحسان السابحة فوق المَرتع تبرق بالأدهان والألوان من فوق أكتاف الفرسان الذين يُخاصروهنَّ، ويُجِلن عيونهن النجل في الآخرين والأخريات يَفحصن أيهن وأيهم أبهى رونقًا، وكانت الظهور البضة العارية تتمم محاسن النحور الغضة السافرة، وأطراف الملابس الزاهية تتطلَّع نحو الصدور المرمرية كأنها تعجب من بعيد بمحاسنها، وتذكرت فطومة وضحكت في سري وأنا أقول لنفسي: «ماذا كانت تصنع لو كانت هنا؟»
وكان المصورون في شغل جاد يلتقطون المناظر وأنا ساكن في مكاني، فرأيت الأستاذ عطية يتجه إلى السيدة السمراء الجالسة مع السيد أحمد جلال ويَطلُب منها في ظرف أن تقوم لمراقصته، فقامت تراقصه بعد أن نظرت إلى السيد كأنها تستأذنه بابتسامة أنيقة.
وكانت الساعة عند ذلك الحادية عشرة، وجاء المصورون ليقولوا إنهم قد فرغوا من التصوير، فشعرتُ بارتياح إلى أني أستطيع أن أخرج من الحفلة، وقمت معهم خارجًا بغير أن أحاول أن أستأذن السيد الوجيه صاحب الدار.
وتعمَّدت في خروجي أن أقترب من السيد أحمد جلال وأمر من أمامه، والتفت نحوه كأنني التفتُّ عفوًا ثم أظهرتُ دهشتي من رؤيته هناك كأنني رأيته فجأة، ومددت يدي إليه لأحييه ولا أستطيع أن أصف دهشتَه عندما رآني أمامه، فإنه قام مُرتبكًا وحياني مرحبًا تحية صديق عزيز قديم، ودعاني إلى الجلوس معه، ولكنِّي اعتذرتُ وحييتُه مُنصرفًا برأس مرفوع، وداخَلَني زهو عظيم وسرور فيه كثير من الخُبث عندما رأيت أمارات الدهشة والارتباك التي بدَت على وجهه عند انصرافي.
ولما وصلت إلى العربة ارتميتُ على مقعدي كأني خارج من صراع عنيف، وبقيَ رأسي يدور بما فيه من الصور حتى وصلت إلى «بريد الأحرار»، ودخلت إلى مكتبي وأخذت أكتب وصف الاحتفال.
ولست أدري بأي أسلوب كتبت ولا ماذا كتبت، ولم يكن الأستاذ علي مختار هناك، ولكنه ترك أمرًا بإعداد وصف الحفلة للنشر في الصفحة الأولى، وبقيتُ في مكتبي حتى قرأت البروفة، وخرجت ذاهبًا إلى منزلي، وكان الإعياء النفسي والذهني قد بلغ مني مبلغًا عظيمًا، فما كدت أخلع ملابسي، وأرقد على سريري حتى غبت في النوم فلم أشعر بشيء حتى ضحى اليوم التالي.