الفصل الخامس عشر
نزلت متأخرًا في الصباح التالي من أثر السهر في الليلة السابقة، فلما وصلت إلى دكان الشيخ مصطفى كانت الساعة تقترب من الظهر، وحياني الشيخ قائلًا: ألف مرحبًا.
وكانت الألسنة منذ حين تلوك قصة الوزير الذي يَستقبِل قاصديه بعدد من المُرحِّبات وهو يقصد الجُنيهات التي يطلبها منهم لقاء قضاء حاجاتهم.
فقلت ضاحكًا: لا أستطيع والله يا شيخ مصطفى.
فقال لي مقهقهًا: لا تَخف يا سيد أفندي فأنا أعرف أنك لا تَحتمِل عشر مُرحِّبات، وعلى فكرة أرجو أن تدفع لي المرحبا التي عندك؛ فقد كسروا صندوقين من «الكوكاكولا».
ولاحظت عند ذلك أن أمام الدكان عددًا من الزجاجات المحطمة.
فقلت: ما هذا؟
فقال: الحمد لله يا سيد أفندي خلصتُ منهم بجلدي، يا حفيظ يا رب، تقول: ألفين تقول: عشرة آلاف، ولا بد من تكسير «بريد الأحرار».
فصحتُ في فزع: من هم؟
فقال الشيخ: غيلان! مجانين! أعوذ بالله يا أستاذ سيد. أخذوا كل الأرغفة وشربوا الكوكاكولا وكسروا زجاجها ولكن الحمد لله، كم شباك من بريد الأحرار وهتفوا بسقوط الخائن علي مختار وانصرفوا.
ولكن ما لي أنا؟
وأسرعتُ ذاهبًا إلى الجريدة لأرى ما أصابها، ولم يكن بها سوى آثار تحطيم قليل، فذهبت إلى مكتب الأستاذ علي مختار لأعرف منه ما حدث، وكان ظاهر الوجوم يدخن سيجارته صامتًا.
وبدأني قائلًا: أتعرف ماذا حدث؟!
وكنتُ أتوقع أن يحدثني عن المظاهرة فقلت في دفعة: هذا إعلان إفلاس من الحكومة، هي لعبة قديمة أصبحت مرذولة.
فأشار بيده إشارة استخفاف قائلًا: تقصد المظاهرة؟ هذا عبثٌ لا يهمني، بعض صيحات وبعض ألواح من الزجاج وبعض مضايقات صغيرة، ولكنهم صادروا العدد، ألف جنيه خسارة على الأقل، مائة ألف نسخة كل نسخة بقرش.
وتبسَّم في مرارة وهو مستمر في حديثه: ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وأنا آسف يا سيد أفندي؛ لأنك تأبى إلا أن تكتب بإمضائك، كان يُمكنني أن أتحمل المسئولية وحدي وأحميك أنت لو كنت تكتب بغير إمضاء أو باسم مُستعار كما نصحتك، فأنت مطلوب معي للنيابة في الساعة الثانية بعد الظهر.
ونظر إلى ساعته قائلًا: أوه، قم بنا فإن الموعد قد جاء.
وقام عن مكتبه لنذهب إلى دار نيابة الصحافة، وأنا شاعر في قرارة نفسي أنني المسئول عن كل هذه المتاعب، ومما زاد ضيقي أنني كنت عازمًا على السفر إلى دمنهور في المساء بعد انقطاعي عن أهلي كل هذه الأشهر، ووقفَت بنا العربة آخر الأمر أمام دار نيابة الصحافة ونزل الأستاذ علي مختار، ونزلتُ وراءه حتى دخلنا إلى مكتب السكرتير وكان مزدحمًا بالجالسين، فذهب الأستاذ علي إلى الجالس على المكتب وهمس له بكلمات.
فهزَّ الشاب رأسه وتلفت حوله في فتور، ثم قام ودخل إلى مكتب محقق النيابة فبقى فيه حينًا، ثم عاد إلى الأستاذ فدعاه للدخول.
وبقيتُ وحدي أتلفَّت حولي إلى وجوه الجالسين وكانوا أخلاطًا لا أعرف منهم وجهًا، وتطلعت نحوي عيون كثيرة تفحصني، وكنتُ في ملابسي القديمة فخشيت أن تحتقرني الأنظار، فرفعت رأسي وسرت في هدوء واستعلاء نحو النافذة القريبة، فاتَّكأت عليها وأشعلت لفافة من صندوق السجائر الفاخر الذي اشتريتُه بالأمس، وجعلتُ أنفخ دخانها وأنا أدير بصري في الغرفة ثابتًا.
ولم يَطُل بقائي هناك ثم رن الجرس وقام السكرتير مسرعًا إلى غرفة المحقق وهو المدعي العام نظرًا لخطورة التهمة.
ثم خرج بعد قليل ونادى باسمي، فألقيتُ عقب السيجارة على الأرض ودستها بقدمي في شيء من التحدِّي، وسرت نحو الغرفة رافعًا رأسي، حتى دفع السكرتير الباب بيده، ونقر عليه بأصبعه مستأذنًا فدخلت بغير أن ألتفت إليه، ووجدت نفسي في غرفة صغيرة ليس فيها سوى كرسي كبير من الجلد يجلس عليه الأستاذ علي مختار، وكرسي آخر يجلس عليه كاتب النيابة.
فالتفتُّ حولي لفتة توحي بأني أبحث عن كرسي لأجلس عليه فقال المحقق هادئًا: لا مؤاخذة فإن المقاعد قليلة، ولن نحتاج إلى وقت طويل.
وأخذ يُقلب في ملف الأوراق التي أمامه على المكتب، وكاد الغضب يدفعني إلى أن أحتج لولا أن الأستاذ علي مختار نظر إليَّ باسمًا، وأشار إلى جانب كرسيه الجلدي لأجلس عليه، فوجدتها فرصة لإظهار ما في نفسي من التحدِّي، وجلست على طرف ذراع الكرسي ووضعت ساقًا على أخرى.
ولم يخفَ عنِّي ما داخل المدعي العام من الامتعاض، فشعرت بارتياح جعلني أنتظر هادئًا.
وسألني قائلًا بعد المقدمات المعروفة: ماذا تقصد بقولك: «هذا العهد التعس؟»
فقلت في فتور: لست أفهم أولًا ما هي تُهمتي، ما هو الموضوع الذي جئت من أجله؟ وأي مقال هذا الذي تشير إليه؟ وهل تَقصد مقالًا أم تقصد كلمة قلتها في الطريق؟
فقال في شيء من الامتعاض: طبعًا هنا نيابة الصحافة، وهذا مقالك الذي كتبته بالأمس.
فقلت في دفعة: هذا كلام بسيط واضحٌ ليس فيه غموض، أقصد هذا العهد التعس الذي نعيش فيه اليوم، هذا العهد الذي أُهدرَت فيه القيم الإنسانية وكل الأقداس القومية وكل أصول الحكم المستقيمة، حتى بلغ الأمر إلى ما نراه كلَّ يومٍ ونسمعُه كلَّ يوم، وحتى أصبح الناس لا يستطيعون أن …
وكدتُ أمضي في شبه محاضرة عن فساد الأحوال، ولكن المدعي العام قاطعني قائلًا: هذا غير ما أقصد، فإني أسألك عما تقصد بكلمة العهد، فإنَّ العادة أن تُستعمَل كلمة العهد إذا قصد الملك.
وكانت صدمة شديدة ذكَّرتني بالتحقيق الذي بدأ فيه الضابط في دمنهور، ولم أملك نفسي من الضحك قائلًا: أهي اللعبة المعروفة؟
فصاح غاضبًا: أرجو أن تزن ألفاظك يا أستاذ.
فقلتُ مندفعًا: أظنُّ أني أعرف كيف أزنها؛ لأني أقصد ما قلته تمامًا: هي لعبة قديمة؛ لأن هذه ليست المرة الأولى التي أسمع فيها مثل هذه القصة، إننا نَكتُب للقائمين بالحكم ولسنا نقصد من وراء هذا أن نخاطب الملك، الملك لا يَحكُم كما هو نص الدستور، فماذا يدعوكم إلى تأويل قولي على أني أقصد الملك؟ فهل كلمة العهد لا تُقال حقًّا إلا إذا قصد منها الملك؟
لو كنا في بلد تقول في صراحة: إنَّ الملك يَحكمها حُكمًا مطلقًا. لكان هذا القول الذي تقوله يا سيدي المحقِّق معقولًا، ولكنا في بلد يزعم أن له حكومة دستورية مسئولة تعود عليها كل تبعات الحكم إذا كان فاسدًا، الملك يَحكُم بواسطة وزرائه، ولا يُعفي الوزير من المسئولية أن يوجه إليه الملك أمرًا كتابيًّا يخالف القانون. أليس هذا هو الدستور؟ سلني إذا شئت عن البراهين التي تدلُّ على أن هذا العهد تعس حقًّا تجد عندي من الأدلة ما يكفي للبرهان على أنه تعس قذر نجس. إنَّ الأولى بالمحاكمة هم هؤلاء الجالسون في مقاعد الحكم، فلا تُحاورني بالتعريج على ناحية العرش فإنها لعبة قديمة كما قلت.
فضحك المحقق ساخرًا وقال: يظهر أنك قديم العهد بالتحقيق في معنى كلمة «العهد».
متى كان ذلك التحقيق؟
فوثبتُ على قدمي قائلًا: هل دُعيت إلى هنا لأسمع سخرية؟ ما تهمتي حتى أعرف في أي موضوع تسألني؟ أم هو تحقيق غير محدَّد يشمل كل تحقيق سابق لا علاقة له بالوقت الحاضر؟ أحب أن تُثبِت في هذا المحضر أني محتجٌّ على سؤالي في موضوع سابق لا تَعرف عنه شيئًا إلا من كلمة عارضة قلتها.
فقال في جمود: لك أن تقول كلَّ ما تحب، وهذا الكاتب يثبت كل ما تجيب به، فقل لي الآن ماذا كان موضوع تُهمتك الأولى.
فقلت في تحدٍّ: لم توجه إليَّ تهمة.
فقال: ألم تَقُل إنها لعبة قديمة، وإن مثل هذه التهمة وجهت إليك من قبل.
فقلت: أقول لك: إنه لم توجه إليَّ تهمة، كانت لعبة أراد بعض خُصومي أن يلعبوها فلم ينجحوا، أرادُوا أن يُهوِّشوا عليَّ بألعوبة العيب في الذات الملكية، ولكن البوليس نفسَه لم يجد من مصلحته التورُّط في اللعبة، فصرف الموضوع بغير أن يُعلِّق عليه أهميته، حتى إنه لم يكتب لي محضرًا. هذا كل شيء.
فاستمر في جموده وقال: من هو الطاغية الذي يُفسد الأخلاق ويهدم تقاليد البلاد؟
فشعرت بالخطر ولم أتذكر أني كتبت شيئًا من هذا فقلت في دهشة: أرجوك أن تقرأ لي الفقرة التي تشير إليها.
فأخذ يقرأ في هدوء: «وكان أول ما طالَعني منظر هذه الفتيات في ثيابهن الحريرية الملوَّنة …»
فصحت قائلًا: هذا مثال لم يظهر لأنه عدد الجريدة صودر.
فقال: ولكنَّك كتبت هذا أليس كذلك؟
واستمر في قراءته: «ألا ما أبدعها من ألوان زاهية مُفصَّلة على قدودهن الرائعة الممتلئة بالحياة، ولكنِّي لم أتأمَّل تلك القدود كما لم أتمتَّع بحسن الوجوه؛ لأني شُغلت عن ذلك بسؤال خطير، فهل انتقلَتِ القاهرة فجأةً من القرن العشرين إلى القرون الخالية التي كان فيها الرجل يستطيع أن يَشتري غادة هيفاء من السوق المُجاورة؟ هل اشتُريَت هذه الفتيات كما يُشترى البطيخ الحلو أو كما تُشترى باقة الأزهار البديعة؟ إنها لنكسة شديدة أن نعود إلى العصور المظلمة في هذا العهد التعس الذي هوى به الطغيان إلى حضيض الفساد، ودنَّس فيه أسمى ما كسبته الكرامة الإنسانية.» ووقف المدعي العام عن القراءة، فنظر إليَّ كأنه يقول: إنه صرعني تحت قدميه.
فقلت في هدوء: أهذا كل ما هناك؟
فأجاب مُتحديًا: ألا يكفيك هذا؟
فقلت: وأين ذكر الطاغية، لم أذكر سوى الطغيان.
فأجاب قائلًا: هذا لا يهمُّ فالجريمة تقع بغير حاجة إلى ذكر الشخص صراحة، العيب في الذات الملكية هو ذلك الشيء «الذي يُمكن أن يمسَّ من قريب أو بعيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصريحًا أو تلميحًا تلك الذات الملكية.»
فقهقهت قائلًا: هذا تعريف بديع يَليق أن يكون شرَكًا لكل صيد كبير أو صغير سواء تكلم أو أشار أو تنفَّس أو سعَل، لا يا سيدي، هذا كلام غير جدير بعقولنا، واسمح لي أن أمتنع عن الإجابة فإني أراها مهزلة.
وتجهَّم وجه المحقِّق حتى حسبته ينفجر غاضبًا، ولكن في تلك اللحظة دخل علينا سكرتير المكتب وهمس في أذنه.
فقام في شيء من التأفُّف إلى غرفة مجاورة، وأغلق بابها حينًا، وبقيت مع الأستاذ علي مختار وحدنا، فقلت له في دفعة: أنا آسف يا أستاذ علي؛ لأني سببتُ لك هذه المتاعب، لم أعرف من قبل أن مقالي هو السر في مُصادَرة عدد اليوم.
فقال الأستاذ علي: هي خُطة مدبرة لا علاقة لها بمقالك ولا بمقالي، إذا لم يصادر العدد بسببك فإنه يصادر بأي سبب آخر، ألا تَذكُر أن هذه هي المُصادَرة الرابعة في بحر ثلاثة أشهر، ومع ذلك فقد كان القضاء يُفرِج عن العدد في كل مرة.
ودخل المحقِّق فقال: مبروك: أفرج عن العدد وأمامنا وقت طويل للاستمرار في التحقيق.
ولا أستطيع أن أصف الشعور بالخلاص الذي غمرني في تلك اللحظة، حتى أستطيع السفر إلى دمنهور.
وكان سرور الأستاذ علي مختار أشدَّ من سروري وأوضح، فما كدنا نصافح المحقق، ونخرج من الغرفة حتى أمسك بذراعي وضمها إليه ونحن سائران قائلًا: لن تَبقى في السوق نسخة واحدة من عدد اليوم بعد هذه المصادَرة المؤقتة.
فقلت: وأظنُّك تسمح لي بالسفر إلى دمنهور لقضاء يومين مكافأة لي على هذا.
فقال ضاحكًا: هذا غير مُمكن. علينا أن نستفيد من كل الظروف التي تتهيأ لنا، غدًا صباحًا سيَظهر مقالٌ من أعنف مقالاتك في مهاجمة الجبناء الذين يتدارون وراء العرش ليستردوا فساد حكمهم.
واضطُررتُ أن أستأذنه قبل أن تُغلَق أبواب مكاتب البريد لإرسال حوالة بريدية إلى صديقي عبد الحميد عياد؛ لكي يُوصِّلَها إلى أمي كما أفعل دائمًا في أول كل شهر.