الفصل السابع عشر
كان أول ما خطر لي في الصباح أن أسافر إلى القاهرة وأبعد عن دمنهور وفي دخيلة وعيي أسئلة محيرة كثيرة، ولكني بقيت متردِّدًا حتى صارت الساعة العاشرة، وتبدَّل عزمي إلى ضرورة البقاء حتى أرى خاتمة القصة المُحزنة التي يمثلها حمادة الأصفر وشريكته زينب، ونزلت من البيت على نية الذهاب إلى صديقي عبد الحميد عياد، وعرجتُ في طريقي على قبر والدي لأقرأ عنده الفاتحة، ثم مضيت في سبيلي حتى بلغت مُفترق الطريق بين شارع «أبو الريش» والحارة التي تتَّجه إلى بيت عبد الحميد، ومن العجيب أنني اتجهت بغير تردُّد إلى بيت المرحوم أحمد جلال كأنني كنت أقصد الذهاب إليه منذ البداية.
ولما دخلت إلى الدار وجدتُ جوَّه يبعث الكآبة والحزن، وقادتني الخادمة إلى غرفة الانتظار، وكان أثاثها فخمًا وأضواء النوافذ تنعكس على قطع البلور في ثريات السقف والأركان، ولكن الغرفة كانت مع هذا تبدو مظلمة، كانت التحف الثمينة منكَّسة على حواملها، والستائر والأبسطة مقلوبة على وجوهها، والصورة الكبيرة المعلقة في الصدر مجلَّلة بالسواد تُظهر رب البيت الراحل كأنه هو الحزين، وجلستُ أتأمل ما حولي وسبحت في تأمل معنى هذه الحياة وسخف أطماعها ومنافساتها ومصادماتها، فلم أستيقظ من سبحي إلا على شخص منى يُشرق كأنه شعاع نور في بكرة الصباح، كانت هي بعينَيها اللتَين تشبهان زُرقة البحر الصافي وقامتها الممشوقة يزيدها لبس السواد رشاقة، وقمتُ لأحييها، فنظرت إليَّ شاكرة وفي عينَيها دمعة، فتجلدت حتى لا أبكي وغمرني حزن عميق كأني أنا أيضًا مفجوع بوالدها، ولكني مع هذا الحزن العميق شعرت كأني سعيد؛ لأني رأيت منى على غير انتظار، ولم أجد كلمة أقولها سوى المجاملة المعتادة: البقية في حياتك يا منى.
فقالت بصوت ضعيف: أشكرك يا سيد.
واندفع الدم إلى وجهي أو هكذا خيل إليَّ عندما سمعتُها تناديني باسمي، وقلت لها: علينا أن نتحمل الصدمة يا منى مهما كانت شديدة، وليس لنا من حيلة إلا أن نتحمَّلها.
فأجابت في هدوء: أعرف أنه ليس لنا من حيلة إلا أن نتحمَّل الصدمة وقد حاولت جهدي أن أتحملها، ولكن فقْد أبي على هذه الصورة كان أكبر من صدمة.
ثم تردَّدَت ورفعت منديلها إلى عينيها.
وأدركت إدراكًا عامًّا ماذا تقصد بقولها إنَّ فقْد أبيها على هذه الصورة كان أكبر من صدمة؛ فإن ما سمعتُه من أمي ومن مصطفى عجوة وحمادة الأصفر كان كافيًا لجعل موته في تلك الظروف نكبة شديدة.
وصمتَت لحظة ثم استمرَّت تقول: ليس من الهين عليَّ أن أسمع أقوال القريب والبعيد وهم يتحدثون عن أبي الذي كان يملأ حياتي، والذي كنتُ لا أرى الدنيا إلا في حدود شخصِه، ويُؤلمني أن تبدأ معركة كلها مطامع وأكاذيب وسخافة ولم يمضِ على موته إلا يوم واحد، كل الأحاديث تدور حول ما خلفه أبي من المال، وأما هو فلستُ أجد أحدًا يُحسُّ بفقده غيري.
ورفعت منديلها مرةً أخرى إلى عينيها.
وقلت لها مجتهدًا في إخفاء تأثُّري: تجلدي يا منى؛ فالحياة تمتحننا بأحزانها، لقد فقدتُ أبي عندما كنت في مثل سنك وأعرف كيف يكون فقد الأعزَّاء قاسيًا، ولكن فقد الأعزاء وما فيه من الأحزان من سنن الحياة القديمة، وعلينا أن نأخذ من الحياة نصيبنا، لا مفرَّ لنا من مواجهة الحياة على حقيقتها، وأن نستمد من أحزاننا كل ما نستطيع أن تهب لنا.
فقالت منى في توجع: وماذا تستطيع أن تهب الأحزان لنا؟ الفراغ الذي خلا من الوالد العزيز والحقائق البشعة التي تتكشَّف لنا في الأطماع والأحقاد، وهذه الأحاديث الخبيثة التي لا أظنك سمعتها بعد، وهذه المعركة الحقيرة التي يُريدون أن يثيروها في المحاكم حول التركة العزيزة عليهم ولا يبالون فيها أن يُمزِّقوا سمعة أبي ويلوثوها في سبيل المعركة، لست تعرف يا سيد أي نكبة هذه التي ألمَّت بنا.
فتجرأت ووضعتُ يدي فوق يدها وقلبي يَسيل رحمة وقلت في صوت خافت: سمعت كل ما قيل يا منى.
ونظرت نحوي بعينَيها العميقتين وكانت نظرة كلها ثقة والتجاء، ورفعت يدي عن يدها وقلبي مُمتلئ بشعور شديد من المواساة، وبإيمان عميق بأنَّ وقوفي إلى جانبها في ذلك الوقت هو همي الأول والأخير في الحياة.
وقلت لها مستمرًّا: لا تحزني هكذا من أجل أقوال لا يُقصَد من ورائها إلا تحقيق أطماع هزيلة.
فقالت في حرارة: إذا كان الأمر لا يَزيد على أطماع فليأخُذُوا ما يشاءون وليتركوا أبي المسكين راقدًا في سلام، ليأخذوا كل ما تركه أبي من الأموال ويدعوا لي اسمه كما كان شريفًا نبيلًا، خير لي أن أكون أفقر الناس وأنا ابنة السيد أحمد جلال الكريم النبيل من أن أكون أغنى الناس واسم أبي ملطَّخ بالأوساخ.
واندفعت تبكي بكاء شديدًا.
ووجدت نفسي أبكي أيضًا.
وقلت لها بعد أن خفَّت حدة البكاء: علينا أن نُفكر في الأمر تفكيرًا هادئًا، واسمحي لي أن أشاركك في التفكير إذا لم يكن ذلك تدخُّلًا فيما لا يعنيني.
فقالت في دفعة: وكيف لا يَعنيك يا سيد؟
فزادت جرأتي وقلت في شيء يُشبه التحدي: هل لي أن أتدخل في هذا الأمر؟ أليس هناك مَن لا يَرضى عن تدخلي؟
فأجابت في شيء من الدهشة: ماذا تعني؟
فقلت في ثبات: ليس لي طبعًا أن أفرض نفسي، ألا تظنين أن ذلك قد يغضب محمود بك مثلًا؟
وشعرت كأنَّ طعنة أصابت صدري عندما نطقتُ باسم «محمود بك».
ونظرت إلى وجهها لأرى أثر قولي فوجدتها مُطرقة في وجوم وهي تعبث بأصابعها، ثم أجابت بعد حين قائلة: طبعًا لك أن تتدخَّل وليس لأحد أن يغضب من ذلك.
ولو كان لي أجنحة عند ذلك لحلقتُ في الجو الواسع؛ لأنَّ الحجرة كانت لا تتسع لي.
وقمت أستأذن قائلًا: أشكرك يا منى.
ولما مدَّت يدها إليَّ خطفتها ملهوفًا ولم أدرِ ما صنعتُ حتى كنت قد رفعتها إلى شفتي، ثم أسرعت منصرفًا حتى لا أرى تعبير وجهها خوفًا من أن ألمح عليه شيئًا من الإنكار.
ولما صرت في الطريق تدافعت عليَّ أمواج من الأفكار المضطربة تتوارد من جهات شتى، واتجهت حيث تحملني قدماي، فإذا أنا بعد قليل عند الحانة القذرة التي اعتاد حمادة الأصفر أن يجلس فيها، وكان جالسًا هناك يشرب من كأس فيها الخمر الحمراء الداكنة.
ودخلت هاجمًا عليه كأني أخشى أن يُفلت مني، ولما اقتربت منه قام يترنح، وفتح ذراعيه بحركة غير إرادية كأنه يريد أن يعانقني.
فأزحت يديه في شيء من الحدة وقلت له: أريد أن أكلِّمك كلمة يا حمادة.
فقال: ألستَ تحبُّ أن تشرب شيئًا؟
فجذبته من ذراعه في شيء من القسر وقلت له: الوقت ضيق وأريد أن أحدثك حديثًا هامًّا فيه مصلحتك.
فقام وهو لا يكاد يستقيم من السُّكر، وسرتُ به خارجًا من الحانة متجهًا به إلى شاطئ الترعة.
وكأنه أحس بالخطر، فقاومني وجاذبني قائلًا: «لم تجرني هكذا.»
ولم أجبه حتى بلغت جانب الترعة، وكان خاليًا من المارة والنسيم باردًا والجو صامتًا، وهززت ذراعه في عنف قائلًا: اسمع يا حمادة، أنت تعرف ما كان بيني وبين السيد أحمد جلال عندما كنت أنت تخدمه وتجمع الجموع بالعصيِّ لتقولوا لي: «يلا من هنا.» لا تُحاول أن تحتج ولا أن تعتذر، فإني لا أقصد أن ألومك على ما فعلت، بل أريد أن أذكرك بأن السيد أحمد جلال قد انتهى وأنه لم يبق إلا امرأته وابنتُه منى، أنت تعرف أنهما امرأتان وحيدتان وسأقف بجانبهما، ولن أتردَّد في شيء إذا اضطررتُ إلى الدفاع عنهما، قل ما تشاء، واذهب في طول المدينة وعرضها فشنِّع عليَّ كما تريد، ولكن اعلم أني سأستخدم كل الأسلحة في الدفاع والهجوم حتى أُخلِّصَهما من مؤامرتك القذرة.
فصاح في تحدٍّ: ما هذا الكلام يا سي سيد؟ أي مؤامرة؟
فقلت له وأنا أكتم غضبي: نحن الآن هنا وحدنا، فلك أن تقول لي ما تشاء، ولي أن أقول لك ما أشاء، نحن هنا وجهًا لوجه تتكلم بصراحة وحوش الغابة: ثعلب أمام ذئب أو ذئب أمام ضبع يريدان الفصل في معركة حتى الموت.
اسمع يا حمادة، أنا أقصد كل كلمة أقولها لك، ولن أتردد في أن أحطم رأسك بيدي مهما كانت النتيجة.
فضحك ضحكة وقحة، وقال مقهقهًا: كاتب عظيم والنبي، أهذه قصة تريد أن تُمثلها معي؟
ثم عاد فضحك مقهقهًا.
فكدتُ أخبطه بقبضة يدي في أسنانه الصفراء، ولكني شعرت كأنه ألقى علي «جردلًا» من الماء البارد، فتماسكتُ وعاودتُ الكرة: لست أهزل ولستُ أُمثِّل، بل أقصد كل كلمة أقولها لن أدعهما لألاعيبك التي أعرفها.
ما هذه القضية التي تُريد أن ترفعها؟ وما هذه المرأة التي تزعم أنها زوجة السيد أحمد جلال؟ وما ذلك الطفل الذي أخرجتَه من جرابك؟
فقال: وما دخلك أنت؟
وكدت مرة أخرى أصفعه، ولكني قلت: مثل دخلك أنت؟
فأجاب في سخرية: ألا يكفي تدخُّل محمد باشا؟ هو يتدخل في مصلحة نفسه، هو يريد أن يأخذ لقمة دسمة تستحق التعب، ولكن ما دخلك أنت؟
إلى أين تجرُّني يا سي سيد؟ دعني أذهب فلا محل لهذا الكلام، ما لك تجرني هكذا كالكبش العاصي؟ أتريد أن تَذبحني؟ ها ها ها، اسمع يا سيد أفندي، أنت رجل شريف فدعنا نحن نتعارك كما نشاء، نحن الحشرات الحقيرة: أنا ومحمد باشا وزينب وأمثالنا.
ووجدت صعوبة في أن أمنع نفسي من أن أَلكمه، ومددت يدي إلى كتفه وقبضت عليها في عنف، وهززتها قائلًا: دع عنك هذه السخرية إذا أردتَ أن تعرف مصلحتك.
فقال وهو يتوقَّف ناظرًا إلى وجهي: يعني؟
فقلت في دفعة: يعني أنك تُخرج صدري وتُثير غيظي وتدفعني إلى أن أَمحقك. يعني أنك لا تفهم موقفك الحقيقيَّ ولا مصلحتَك.
فقال في حنق لأول مرة: تُهدِّدني؟
فقلت مستمرًّا في دفعتي: أتظن أني جئتُ بك من الخمَّارة إلى هنا لأتنزه معك؟
فقال في سخرية: قل لنفسك.
وظهر لي جسمه الضئيل كأنه طفل عنيد، وعجبتُ لشدة ثباته إذ رأيت أمامي شخصية صعبة المراس، وكان وجهُه النحيل يُشبه وجه ابن آوي إذا كشَّر عن أنيابه.
وفكرت في أن أسلك طريقًا آخر غير التهديد، فقلت: لستُ أريد يا حمادة أن أضرب قبل أن أَبذُل كل جهدي في تسوية هذا الأمر بسلام؛ لأني أشفق عليك.
فأجاب في غضب: ومَن طلب منك الشفقة؟ أنا أكره الرحمة ولا أحب أن تشفق عليَّ، لا تظن أني أرضى بأن أكون موضعًا للشفقة، لست أخجل من شيء ولا يهمني أن يقول الناس جميعًا أني نذل ووغد ومجرم، ما لكَ أنت؟ أنا آخُذ وألعَن، وآكُل وألعن، وأعيش مع زينب الساقطة، ويحلو لي أن ألعنها وتلعنَني، أنا أصرف من كسبها وأعرف أنها ساقطة وأقوم بأيَّة خدمة قذرة في نظير جنيهات قليلة لأصرفها عند منولي، ما لك أنت؟ اذهب عني ودعني.
وانفلت مني في عنف وأسرع مُنصرفًا وهو يقول بصوت خافت: ما لك أنت؟ أنا قط ضال، أنا كلب عقور، أنا فأر قذر، أي شيء ولكني لا أرضى أن أكون موضعًا للشفقة، لا أرضى أن أكون كبشًا ولا حمارًا، أُخطَف وأُخبَط! وأُرقَع، وأشرب الزفت أو أبلع السم! هذا كل شيء، من قال إني أطلب الرحمة؟
وأسرعت وراءه لأُدركه حتى قبضتُ على ذراعه بشدة، وصحت به في ضجر: أتعني أنك عزمت على الاستمرار في المؤامرة؟ أنت تعرف أنها مؤامرة ملفقة، وأنا أعرف أنها كذلك.
فقال صائحًا في وجهي: طيب، وماذا تريد؟
فقلت وأنا أُهدئ نفسي: أريد أن أُذكِّرك بأنك قلت لي بلسانك أنك مُزوِّر، هذا العقد الذي تُهدِّد به لا يُساوي مليمًا.
فصاح: من قال هذا؟
فقلت في ثبات: أنت. ألا تذكر أنك قلتَ لي إنك تزوجت من المرأة؟ أنسيت أنك تزوجتها وأنها دفعت الجنيه للمأذون؟ فمَن هذا الولد الذي ولدته المرأة؟
فصاح في غيظ: كلام فارغ.
فقلت في هدوء: سنَعرف أنه كلام ملآن. سأُبيِّن ذلك للنيابة لا لك أنت.
فوقف ينظر إليَّ في حنق وقال: تفضل. اذهب إلى النيابة.
فقلت: سأَفعل بغير شك في صباح الغد إذا جاءت الساعة التاسعة صباحًا، أمامك مدة طويلة تفكر فيها، ولكن اعلم أني أقول لك كلمتي الأخيرة، لن أرجع إلى الوراء أبدًا، الآن فرصتك الوحيدة، ولن أقول لك كلمة أخرى سوى أني أعرض عليك الآن عرضًا سخيًّا لا عن تردُّد في عزمي، بل لأني ما أزال أشفق عليك برغمي وبرغمك، مائة جنيه في نظير الورقة التي معك.
وكان ينظر إليَّ في أثناء هذا في دهشة وحشية، ثم قال بصوت حانق: لم أتزوَّج من أحد، وهذه الورقة التي معي لا أتركها بمائة ألف جنيه.
وتركني وانصرف مُسرعًا داخلًا إلى حارة ضيقة، وسرت في طريقي على الترعة حتى وصلت إلى «كوبري فلاقة»، وأنا حائر مُرتبِك الذهن لا أدري ماذا أفعل.
وعدت إلى بيتي ودخلت إلى غرفتي، وارتميت على سريري بملابسي، والحيرة تملك عليَّ كل مشاعري ومسالك أفكاري.
وكذبتُ على أمي، فقلت لها: إني تغديت في المدينة. لكي تتركَني وحدي مع الأمواج المتدافعة في رأسي.