الفصل الثاني
كانت أمي تُحاول أن تُخفيَ تأثُّرها وأنا أُحدِّثها عن مُحاوَلاتي في البحث عن العمل وما لقيتُه فيها من الخيبة، ولكنَّ عينَيها الرطبتين كانتا تدلان على مقدار رثائها.
وقلت لها في تردد: ولا بد لي من أن أُعيد الكرَّة مرةً أخرى؛ فالمدرسة أصبحت مستحيلة.
فقالت: لا أحب أن أعارضك يا سيد، ففكِّر في مستقبلك كما تحب.
فقلت: يمكنني أن أتقدم للامتحان من منزلي، المهم أن الوظائف تَحتاج إلى الواسطة. كل شيء في هذه الأيام يحتاج إلى الواسطة.
فقالت: أتذهب لعمِّك؟
ولم أكن أنتظر منها أن تُفكِّر في هذا؛ لأني أعرف أن عمي كان على خلاف شديد مع أبي قبل وفاته، حتى إنه لم يَحضُر إلينا عند موته.
وقلت لأمي: لا أذهب إليه أبدًا، وماذا لو تخلَّى عني؟ أظنكِ تعرفين السيد أحمد جلال.
قلت ذلك لأني تذكَّرت أن السيد أحمد جلال جارنا القديم كان كلما رآني يبدؤني بالسلام، وكان من أول مَن زارنا للتعزية، وكرَّر عليَّ أن أزورَه إذا احتجت إلى مساعدة.
فقالت أمي مرتاحة: جارنا القديم والله يا سيد، لا مانع أبدًا. هو صاحب كلمة مسموعة والست نور الله يَحميها، والله كان من الواجب أن أزورها من زمن.
واتفقنا على أن نقوم من ساعتنا إلى بيت السيد أحمد جلال، وكان قد انتقل من حارتنا منذ عشر سنوات إلى بيته الجديد في حي «أبو الريش».
وكان السيد أحمد جلال في مبدأ أمره تاجرًا صغيرًا، ثم اتسعت تجارته وأنشأ محلجًا عظيمًا، وأصبح في مدة الحرب الأخيرة أكبر تاجر قطن في المدينة، وكان صديقًا لأبي، وكثيرًا ما كان أبي يَبعثني إليه بخطاب لآخذَ منه سُلفة على القطن في مدة الصيف كما هي عادة الزراع.
وعندما كان يُقيم في حارتنا كانت أمي تزاور امرأته السيدة نور، وكنت كثيرًا ما أذهب معها، وكانت ابنته منى طفلة صغيرة ظريفة تُشبه الدمية ذات الشعر الأصفر، فإذا ذهبت إلى هناك أسرعت تَجري نحوي، وطلبت منِّي أن أركبها فوق كتفي كأني حصان، ثم تدلي رجليها من أمام صدري وتهزها فأجري بها مُقلدًا وثبات الخيل وأصهل كما يصهل الحصان فتضحك مكركرة، وتطلب أن أعيد الجري والصهيل مرة أخرى، وأذكر أني ذهبت مع أمي للزيارة مرةً في يوم من أيام الشتاء وكانت أختي منيرة معنا، وكانت طفلة في مثل سن منى في حوالي الثالثة أو الرابعة، وركبت منى فوق كتفي كعادتها وطلبت منِّي أن أجري، وكانت الحارة زلقة على أثر مطرة ثقيلة فانزلقت بها ووقعنا معًا في بركة من الطين، فبكت منى وأخذت منيرة تبكي هي الأخرى وهي واقفة على الرصيف، وتحمَّلت وحدي في ذلك اليوم لومًا شديدًا من أمي؛ لأني تسببتُ وفي وقوع منى.
ومع أني أنا الذي اقترحت على أمي أن تذهب إلى السيد أحمد جلال، فإني شعرت بضيق شديد عندما نزلنا متجهَين إلى منزله؛ لأني استصعبتُ أن أُطلع ذلك الجار القديم على أني تلميذ خائب قطعت دراستي، ولم أجد عملًا حتى لجأت إلى مساعدته ليجدَ لي وظيفة أتكسب منها.
ولكني تغلبت على نفسي وجاهدت شعور المرارة الذي غمَرني، ولم أنطق بكلمة حتى وصلنا إلى البيت، وكان بناءً فخمًا تحيط به حديقة يانعة واسعة، ودخلت أمي إلى الدار وذهبتُ أنا إلى جناح الضيوف، وكان من حسن حظي أن السيد كان هناك، فاستقبلني مُرحِّبًا، وأذهبت سماحته ما كان في نفسي من الانكسار، وطلب لي شرابًا من المنجة، وأخذ يُحدثني حديث جار قديم لا تَكلُّف فيه، ولأول مرة بدأت أعرف الرجل؛ لأني كنتُ لا أراه قبل ذلك إلا من بعيد كما يرى الطفل رجلًا، وشعرت بشيء كثير من الرضى عندما بدأ يُحدثني كرجل.
وكان حديثه سهلًا شائقًا يَجري هنا وهناك في مواضيع شتَّى، فحدثني عن أبي وعن عمي الذي كان من قبل حكمدارًا في دمنهور، كما حدثني عن نفسه عندما كان صغيرًا فقيرًا، وتعجبت من أنه لم يشعر بشيء من الأنَفَة عندما قال أنه بدأ حياته عاملًا عند الحاح علي مطاوع تاجر الغلال، وأنه اقتصد من أجره بضعة جنيهات بدأ بها تجارة صغيرة، فاشترى بعض قناطير من القطن كان يجمعها من الفلاحين رطلين أو بضعة أرطال في كل صفقة، ثم حمل ما اشتراه على عربة نقل فكان يسير إلى جانبها حينًا ويركب عليها حينًا آخر حتى وصل إلى الإسكندرية، وباع ما اشتراه بربح كبير شجَّعه على الاستمرار في التجارة، ونظر إليَّ بعد ذلك قائلًا: إذا شئت يا سيد أفندي أن تَنجح في الحياة فلا تتعلَّق بالمظاهر. وارتحتُ عندما سمعته يُناديني: «يا سيد أفندي».
وشجعني ذلك على أن أفاتحه بأني أريد أن أجد وظيفة في الحكومة. فأجابني قائلًا: لماذا تريد أن تتوظَّف في الحكومة؟ إنها لا تعلم إلا الكسل والغرور.
فقلت له: أريد عملًا أتكسَّب منه؛ لأني فقير.
ولم أشعر بالخجل أن أقول له إني فقير بعد أن سمعتُه يقول إنه كان في صغره فقيرًا هو الآخر.
فتبسم قائلًا: هذا حسن، وأنا في حاجة إلى شابٍّ مثلك للعمل هنا، ولكن على شرط، ليس هنا مكاتب ولا سُعاة ولا أجراس ولا أوامر. هنا عملٌ إذا كنت حقًّا تريد العمل. العمل من الصباح إلى المساء، والأعمال كلها سواء. ليس هنا عمل مُهم وآخر تافه. كل شيء مهم كالآخر، كتابة النيشان على البالات مثل أمانة الخزانة، كلها تحتاج إلى الأمانة والدقة والجد.
وكانت طريقته في الكلام بسيطة، ولكنها حاسمة فقلت له: يسرني أن أعمل معك.
فتبسَّم ابتسامة لم أفهم معناها ولكنها تُشبه قولي: سنرى.
وقال: سأنتظرك إذا شئت في الصباح. الساعة الثامنة تمامًا يبدأ العمل، وأنا هنا منذ الساعة السابعة والنصف.
فشكرتُه مُخلِصًا وكان قلبي يخفق سرورًا. هكذا وجدت العمل في لحظة ولم تعد بي حاجة إلى الوساطة للبحث عن وظيفة في الحكومة.
ولما استأذنتُ لأدعو أمي لنَنصرِف دعاني السيد أحمد لأجول معه جولة في أنحاء الحديقة، وكانت مُنى تلعب هناك، فلما رأتْني عرفتني من أول نظرة، ولكنَّها لم تجرِ نَحوي ولم تطلب أن تركب فوق كتفي. كانت عند ذلك فتاة في نحو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، واتَّجهَت نحوي فسرت إليها لأُحييها، وكان وجهها ما يزال وجه الطفلة التي تُشبه الدمية، شعرها الأصفر وعيناها الزرقاوان وابتسامتها الوديعة والغمازتان اللتان في وجنتَيها، وأخذها والدها تحت إبطه وجعل يداعبها ويسألها: هل تَعرفني؟ فهزَّت رأسها باسِمة ولم تَنطِق بكلمة.
فطلب منها أن تصعد إلى الدار لتدعو والدتي، فأسرعت تجري وشعرُها الذهبي يهتز على كتفيها.
وجاءت بعد قليل تَسير هادئة إلى جنب أمي مُمسكة بيدها، فقبَّلتها أمي من جبينها، وسلمت على السيد.
فقلت لها: سأَحضُر إلى هنا في الصباح يا أمي، تفضَّلَ السيد فوجد لي عملًا.
فقال السيد أحمد: لم أتفضَّل بشيء لأني مُحتاج إلى عملك.
فشكرته أمي وأكثرت له الدعاء وهي خارجة، وكان قلبي ما يزال يخفق عندما سرنا في الطريق، وأخذت أحدث أمي عما قاله السيد لي، وكان ذلك أول يوم سعيد مرَّ بنا منذ وفاة أبي.
وفي اليوم التالي بكَّرت إلى المحلج في الساعة السابعة والنصف، فوجدت السيد أحمد قائمًا في فناء المحلج كأنه ينتظرني، فلما سلمت عليه أخذني من يدي حتى دخلنا إلى المكتب، ولم يُضِع وقتًا في تحية أو مجاملة، بل أشار إلى علبة صغيرة فيها لون أحمر ومعها «فرشة» صغيرة؛ لأكتب بها الأرقام على بالات القطن.
ونحن إذا تأملنا الأمور بعقولنا وقبلناها لا نعرف دائمًا حقيقة مشاعرنا، فمنذ أخذت العلبة وسرت إلى مخزن القطن لأبدأ عملي، بدأت أسأل نفسي أسئلة خانقة، ولا أظن أحدًا يستطيع أن يعرف ما يبعثه مثل هذا العمل من الشعور بالصغر إلا إذا جربه بنفسه، أخذت أكتب الأرقام وأتحرك بين البالات الضخمة شاعرًا بأني شخص تافه، ومضى اليوم الأول طويلًا وعدت إلى بيتي حانقًا على نفسي ساخطًا على قضائي، وأخذت ألوم نفسي أشد اللوم على أني قطعت دراستي وأضعت مستقبلي، ولكني عدت بعد حين أراجع حنقي وسخطي عندما تذكرت ما حدث لي في مدة السنة الماضية التي قضيتها عاطلًا عن العمل، وبعد أن أمضيت بضعة أيام في المحلج بدأت أستقر أو بقول آخر بدأت أرضى عن عملي، وعندما جاء أول الشهر أعطاني السيد مرتبي عن الأيام العشرة التي عملت فيها عنده في الشهر الماضي وكانت أربعة جنيهات، فعرفتُ أن المرتب الشهري الذي قدره لي يصل إلى اثني عشر جنيهًا، وهو مبلغ لم أكن أحلُم به، وكان أول ما فعلتُ أن اقتطعت من الجنيهات الأربعة جنيهًا لأشتريَ به كتبًا أقرؤها؛ لأني شعرت بحنين شديد إلى القراءة.
وكان لقراءتي أثر عظيم في تخفيف شدة الشعور بالتفاهة، وهو الشعور الذي كان ما يزال يُعاودني؛ وذلك لأني كنت عندما أقرأ أحسُّ كأني انتقلت إلى عالم آخر غير البالات والأرقام؛ ولهذا كنت أضع الكتاب الذي أقرؤه قريبًا مني لأعود إليه كلما وجدت فراغًا من العمل حتى أخرج به حينًا عن عالم البالات، وقد استمر دأبي على هذه العادة الجديدة فصرت أقتطع في كل شهر جنيهًا أو جنيهين لأشتري كتبًا جديدة كأنها جزء من عدة عملي.
وبدأتُ أتعرَّف على مَن هناك من العمال والموظفين، وأنستُ إلى أكثرهم ما عدا مصطفى عجوة؛ فقد كنت أحس في قرارة نفسي شعورًا عميقًا بالكراهة له وسوء الظن به، مع أنه كان يقذف نفسه عليَّ ويتودَّد إليَّ بطريقته السمجة التي تدعو إلى زيادة النفور.
وكان السيد أحمد يتلطَّف بي ويترفق في معاملتي ولا يُخاطبني إلا باسم سيد أفندي، وكثيرًا ما دعاني إلى الجلوس معه في مكتبه، وهذا شرف لا يناله في المحلج أحد غيري. كان مصطفى عجوة يدخل إليه في المكتب فيقف إلى جانب حتى يتلقَّى أمره ثم يخرج، وأما الموظفون الآخرون فكانوا لا يجرءون على الدخول إلى مكتبه.
ولكنه كان أيضًا يُكلفني في بعض الأحيان أعمالًا تشبه الخدمة الخاصة، فيبعثني إلى البيت لأحمل إليه فاكهة أو لأوصِّل إليه رسالة أو نقودًا، فكانت نفسي في أول الأمر تثور على ذلك، وكدتُ مرة أرفض طلبه لولا أن ملكت شعوري حتى لا أُغضبَه، ولكني كنتُ أجد ترضية كافية تنسيني غضبي إذا صادفتُ منى في الحديقة، حتى صرت فيما بعد أشعر بالارتياح كلما كلفني القيام بخدمة أذهب فيها إلى البيت، وكنتُ أجدها في كثير من الأحيان تلعب مع بعض صاحباتها إذ يقفزن فوق الحبل أو يَلعبن «الأولى» أو لعبة الانتباه، فإذا رأتني أسرعت إليَّ وأصرت على أن ألعب معها دورًا، وكان هذا يُؤخرني أحيانًا، ويُعرِّضني للوم السيد أحمد فلا أجرؤ على أن أقول له السبب في تأخُّري، وقد تعرضت مرة لموقف محرج من جراء إصرار «منى» على مشاركتها اللعب؛ إذ ذهبت يومًا كالعادة إلى البيت أحمل فاكهة، وتمسَّكت بي «منى» لألعب معها لعبة «الانتباه»؛ وذلك بأن أحجل على رجل واحدة وهي تجري أمامي في حدود مربع مرسوم على الأرض، وأخذت أحجل بحماسة وهي تجري وتزوغ منِّي حتى أكاد أقع واستمر الدور أكثر من عشر دقائق حتى استطعت أن ألمس كتفها، ولما التفت إلى ورائي وأنا ألهث من التعب وجدت السيد أحمد جلال واقفًا من بعيد ينظر إلينا، فارتكبتُ ارتباكًا شديدًا وشعرت بأن وجهي يتَّقد وذهبت نحوه أجرر قدمي، ولا أدري ماذا أقول له، ولكن منى صاحت بي غاضبة تدعوني إلى إتمام الدور الثاني لتَنتقم مني، فلما رأت والدها أسرعت إليه تطلب منه في حماسة أن يتركني حتى ألعب الدور الثاني فتبسَّم السيد وأخذها من يدها متجهًا نحو ميدان اللعب وقال لي: «أكمل دورك يا سيد أفندي، وهذا جنيه يا منى للفائز منكما.» فصفَّقَت منى مسرورة وبدأنا اللعب، ولكني لم أتحمَّس، فصاحت منى غاضبة وساعدها أبوها قائلًا: «يجب أن تبذل جهدك حتى يكون الانتصار حقيقيًّا.» فاندفعت في اللعب بكل قوتي حتى تعبت منى ووضعت قدمها الثانية على الأرض بغير أن تمسَّني، وسلمني السيد الرهان، وكان سرور منى بفوزي أضعاف سرورها بانتصارها عليَّ في المرات السابقة، وقد عرفت فيما بعد أن مصطفى عجوة هو الذي سعى عند السيد أحمد جلال، وجعله يتبعني إلى المنزل ليرى أن سبب غيابي هو انشغالي باللعب مع منى، فإني عندما عدتُ مع السيد إلى المحلج سمعته يستدعي مصطفى عجوة ويشتمه بصوت مرتفع ويلعنه ويأمُرُه بألا يرى وجهه مرةً أخرى.
وجاء مصطفى عجوة بعد تلك المقابلة العاصفة وجعل يتودَّد إليَّ ويَحلف لي أنه يحمل لي إخلاصًا لا حد له.
على هذا استقر عملي بالمحلج، وزال عني كثير من الشعور بنفسي وبضآلة وظيفتي، وكان العمال والموظَّفون الآخرون يأنسون إليَّ كما صرتُ آنس إليهم، لا يشذُّ منهم سوى مصطفى عجوة؛ إذ كان يُذكرني دائمًا بأنه ما زال الصبي الخبيث الذي كان يملؤني غيظًا عندما كنا معًا في زمرة حارة «أبي طاقية».
وكان من عادة السيد أحمد جلال أن يَحتفل في كل عام في شهر رمضان بإطعام العمال والفقراء وتوزيع الملابس عليهم في ليلة العيد، فلمَّا مرَّت السنة الأولى من عملي بالمحلج عهد إليَّ السيد أحمد أن أقوم على تدبير ما يجب تدبيره لذلك الشهر من طعام وكسى، بعد أن كان يَكِل ذلك إلى مصطفى عجوة.
فوضعتُ لذلك خطة توفرتُ على إحكامها، وأظن أن السيد ارتاح إلى عملي فصار يعهد إليَّ بذلك في كل عام كلما أقبل رمضان، وكنت أجد في قيامي به ارتياحًا شديدًا لما فيه من البر، كما كنت أغتبط بما فيه من دلالة على ثقة السيد بي واعتماده عليَّ، ولم أفطن إلى أن عملي هذا يثير عليَّ غيظ مصطفى عجوة إلا بعد عدة سنوات عندما وقعت حادثة صغيرة في شهر من شهور رمضان المتعاقبة، كان لها على صغرها أثر كبير في تغيير اتجاه حياتي.
أقبل شهر رمضان في أحد الأعوام المتتالية وأعددتُ العدة لما يجب له من كل شيء، مهتديًا بتجاربي السابقة، وتحرَّيتُ أن أطرف العمال والفقراء بين حين وآخر بأنواع من طرف الطعام لأدخل على قلوبهم السرور، وكنت أقضي بعد الظهر من كل يوم في تدبير شئون المطبخ ثم أمكث حتى الغروب في خدمة الطاعمين حتى يَفرُغوا من الإفطار، وأذهب بعد ذلك إلى بيتي لأفطر، وقد أتاحت لي ساعات وجودي معهم فرصًا كثيرة للاستماع إلى ما يقولون ولا سيما بعد أن صاحبتهم سنة بعد سنة وأَنِسُوا إلى مودتي.
وبدأت أحاديثهم الصريحة عند ذلك تُطلعني على جانب عجيب من الطبيعة الإنسانية لم أفطن لها من قبل، وبدأتُ أتعلم حقًّا أن الناس كما يقولون: «صناديق مقفلة» تُخفي في كثير من الأحيان ما فيها من الحقائق.
كنت يومًا أجلس في حلقة من العمال حول إحدى الموائد بقصد مؤانستهم فسمعت أحدهم يتحدث ساخرًا بالسيد أحمد جلال.
فقلت له في رفق: إنه لا يستحقُّ منك هذا يا صديقي.
فأجابني في دفعة: أتقصد أنه يُطعمنا؟
فقلت: لا أقصد ذلك، بل أقول لك إنه صديق يعمل دائمًا على إظهار مودته لنا، وما هذه الموائد إلا لفتةً كريمة لا تستحق إلا الشكر.
فقال مُستمرًّا في سخريته: أي شكر يا عم؟ هو يقطع من لحمنا ليُطعمنا، فدعنا نأكل لحمه ونقطع فروه.
وانطلقَت عند ذلك ضحكة عالية من الحلقة كلها، وكان لها وقع بشع في نفسي، فقمتُ من بينهم وقلبي ثائر وصدري مُنقبض حتى وصلت إلى بيتي، فأفطرت بشيء يسير وأنا كاسف البال، وفي الليالي التالية عزمتُ على أن أسبر غور الحلقات الأخرى، فكنت أستمع إلى فكاهاتهم ومناقشاتهم، وتبينت أن السيد أحمد جلال لا يُطعم إلا بطونًا جائعة. كانت قلوب الجميع لا تحمل له مودة ولا تجزيه في قرارتها إلا بالسخرية أو الحقد.
وذهبت ذات ليلة كعادتي إلى بيت السيد أحمد جلال لأقضيَ السهرة بعد أن فرغت من تعهُّد إفطار الفقراء، وكان السيد جالسًا في حلقة ضيوفه المعتادة، وسمعت أول ما سمعت من حديث الجالسين قول الشيخ القرش: ما رأيكم في أن نُسمِّيَ السيد أحمد جلال «حاتم دمنهور»؟ فتعالت الأصوات بالموافقة وأخذ السيد أحمد يقول في تواضع: أستغفر الله!
وكنت أعرف الشيخ القرش منذ نشأتي، وهو تاجر عجيب الطباع بدأ حياته فلاحًا فقيرًا، ثم صار طالب علم بالأزهر، ولكنه قضى عشر سنوات في دراسة لم تُفِده شيئًا سوى عمامة كبيرة، فاشتغل بالتجارة، واتخذ لنفسه دكانًا صغيرًا في السوق يجمع فيه أنواعًا من البضائع لا صلة بينها، من الطعام والبقول والملابس والأواني، كما جعل عند مدخله صندوقًا لبيع السجائر وآخر للمرطبات المثلجة، وكان يضع أمام دكانه بعض الكراسي ويجمع عليها بعض أصحابه، فإذا جاء وقت الصلاة قام ليصلي بهم جماعة فوق الرصيف، وكان من أقواله المأثورة: «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.» كما كان يقول دائمًا إذا سُئل عن أصله: «أصلك قرشك.» لهذا سماه الناس بالشيخ القرش، وكان معروفًا بينهم بالحماقة والشراهة والرياء.
ولا شك أن وجهي كان ينمُّ عن الغيظ عندما سمعته يستمر قائلًا للسيد أحمد: لسنا وحدنا نقول هذا، لهؤلاء المئات من الفقراء يقولونه وهم يأكلون طعامك.
وكنت منذ أيام أفكر في أن أتحدث إلى السيد أحمد في إبطال هذه المآدب التي يُقيمها ولا يُجزى عليها بالشكر، وأقترح عليه أن يزيد في أجور عماله بمقدار ما يُنفقه عليها من الأموال، فلما سمعتُ قول الشيخ القرش نظرت إليه حانقًا.
وأحسَّ الرجل بمعنى نظرتي، فاتجه إليَّ قائلًا: ما رأيك يا سيد أفندي؟
فشعرت بأن لساني يلتصق في سقف حلقي، وأن الدم يصعد إلى وجهي. أأكذب وأوافقه؟
ولما رأى الشيخ تردُّدي صاح في حماقته: هل يجرؤ أحد أن يُكابر إلا أن يكون أعمى؟
وانتهز مصطفى عجوة الفرصة فقال: العُمْيُ كثيرون يا مولانا.
فصاح الشيخ يخاطبني في غضب: أتُنكِر فضل السيد أحمد جلال؟
فاندفعت قائلًا في غيظ: من الذي ينكر؟ وما معنى هذا الغضب يا مولانا؟
فاستمر قائلًا: أهذا هو إخلاصك؟
فشعرتُ بما يشبه الوخزة في صدري وقلت غاضبًا: ما لك أنت وإخلاصي؟ أظن السيد يعرف المخلصين وغير المخلصين، ولكنكَ تريد أن تخدعه بهذا الملق يا سيدي الشيخ. كنتُ أتمنى لو لم أكن هنا ولو لم أسمع كلامك هذا، أو على الأقل كنتُ أتمنى ألا تُوجِّه إليَّ هذا القول الذي لا معنى له.
واتجهت إلى السيد أحمد قائلًا: ومع هذا فإنها مُناسَبة حسنة يا سيدي لأن أقول لك كلمة. أنت تعرف أني أُجلُّك كوالدي، ولكنك لا تعرف حقيقة ما في نفوس هؤلاء الذين تُطعمهم بالمئات في فناء محلجك، والفرق بين الذين يجلسون هنا والذين يجلسون هناك هو أن هؤلاء يَتكلَّمون أمامك والآخرون يتكلمون من خلف ظهرك، وأما أنا فإني أسمع ما يقول الجميع.
وكان مصطفى عجوة جالسًا في ركن بعيد فسمعتُ صوته الأجوف يقول: ماذا تريد أن تقول يا سيد أفندي؟
فغاظني صوته أكثر مما غاظني سؤاله، واندفعت قائلًا: لست أوجه إليك كلامي.
وقال الشيخ القرش: يريد أن يقول إن كل الناس كذابون.
فقلت مستمرًّا: لم أقل هذا يا سيدي الشيخ، ولكني قلت إن هناك من يقولون غير ما تقوله أنت وأصحابك؛ لأنهم يَنطقُون بما في نُفوسِهم بغير رياء.
فصاح مصطفى عجوة: فلسفة!
وقام الشيخ هائجًا وقال: بل وقاحة!
فلم أعبأ بما سمعت منهما وقلت مُستمرًّا: هذا الإحسان الذي تقدمه يا سيدي طعامًا للناس يجعلهم يأكلون وهم يشعرون بسطوتك. هم يعرفون أنك تتفضَّل عليهم لكي يَشكُروك، ولكنهم لا يُحسُّون في نفوسهم شكرًا صادقًا، بل أقول لك بالصراحة إنهم يقولون من وراء ظهرك ما لا يقول هؤلاء أمام وجهك.
فعاد الشيخ إلى ثورته، وجعل يهز ذراعه مهددًا، وصاح متفجرًا: هل جئت هنا لتشتمنا وتسفِّه أحلامنا وتتَّهمَنا بالرياء؟
فانفجرت كذلك قائلًا: لستُ أجيب على هذه الألفاظ الرخيصة؛ لأنها لا ترهبني. أبطل يا سيدي هذه المآدب والولائم، وإذا أردتَ الإحسان الصحيح، فاجعل ثمن هذا كله زيادة في أجر عمالك. دعهم يذهبون إلى بيوتهم ليأكُلُوا مع أولادهم ونسائهم وهم يشعرون أنهم مدينون لعملهم وحده. سيَحرصُون على عملك عند ذلك ويشكرونه لك كما يشكر الرجل الحر صاحبه.
الذين يَركعُون تحت قدميك ليشكروك على عطائك لا يحملون لك غير الرهبة. حرِّر قلوبهم من أسر الإحسان المُذِل، ولا تَستعبدها.
وكان وجه السيد أحمد يدلُّ على شدة ضيقه وارتباكه، وبدأت أشعر بأني أسأت إليه إساءة كبرى، وغمرني الخجل لأني عرضتُه لمناقشة عامة لا شكَّ في أنها مسَّت صميم كبريائه.
ووجدت أن بقائي هناك لا يزيد موقفي إلا حرجًا فقلت معتذرًا: أنا آسف يا سيدي على هذا الحديث كله، وكنتُ أتمنى لو لم أتدخل فيه.
والتفتُّ مسرعًا لأخرج وفي داخلي مرجل يغلي وعلى جسمي فيض من العرق.
ولما خلوتُ في غرفتي تلك الليلة أخذت أفكر فيما أفعل في الصباح التالي. أأذهب إلى عملي أم أنقطع عنه؟ وكان أول رأيي أن أنقطع لأن السيد أحمد لا بد أن يكون غاضبًا عليَّ بعد ما حدث منِّي، وحزنتُ حزنًا شديدًا لتورطي في شأن كنت في غِنًى عن التورط فيه.
ولكني عدت إلى نفسي بعد قليل، وقلت: إني لم أقترف في حق السيد أحمد جريمة ألوم نفسي عليها؛ فقد كنت أحمل له إخلاصًا وولاءً لا شائبة فيهما، وأعرف أنه صاحب الفضل عليَّ وأنه يُكرمني، ولا يَنبغي لي أن أحزن من أجل نصيحة صريحة قلتُها له أبتغي بها مصلحته. لم أكن متهمًّا أمام ضميري؛ ولهذا عزمتُ على أن أخوض المعركة حتى نهايتها، واستقرَّ رأيي على أن أبقى في خدمته، وأواصل عملي حتى يبدأ هو بالتخلي عني إذا شاء.
وصاحبني في تلك الليلة إحساس قويٌّ بالاعتزاز بأني إنسان أستطيع أن أجهر برأيي ولا أتردد في الثقة بنزاهة ضميري، وكلما مرَّت بذهني ذكرى هذه الليلة عرفت أنها كانت من اللحظات السريعة التي تمر بنا، فلا نَفطن إليها في وقتها، ولكنَّا نعرف فيما بعد أنها كانت لحظة خطيرة فيها مفرق من مفارق الطرق في الحياة. بدأتُ أشعر منذ تلك الليلة بأن لي وجودًا، وإن كنت لا أزيد على موظَّف بمحلج يكتب الأرقام على بالات القطن.