الفصل العشرون
كانت عودتي إلى منزلنا في الصباح مفاجأة سارة عندما فتحت أمي الباب ورأتني أمامها، وصاحت قائلة: سيد؟ صباح الخير يا حبيبي، صباح النور!
وكانت منيرة واقفة وراءها تقول في مرَح: طبعًا يا ستي هل الهلال.
وصافحتني بعد أن تركتني أمي وهزت يدي قائلة: ها هو ذا لم ينقص شيئًا يا أمي، أتدري يا سيد أنها حلمَت بالأمس أنها رأت الهلال يظهر لها مثل خيط رفيع فاعتقدت أنك مريض؟ الحمد لله على السلامة!
وأخذت أمي تدعو لي ونحن صاعدُون في السلم، واستمرت منيرة تتحدث من ورائنا قائلة: أتعرف يا سيد من كان عندنا أمس؟ ألا تَذكُر عمَّتنا «بهانة»؟ لم أكن أعرف أنها ظريفة هكذا، وعمي محمود وأولادهم عمر وسيد وحليمة.
وقالت أمي: اسم الله عليه سيد، عاشت الأسامي، الخالق الناطق هو سيد بعينه.
فقالت منيرة: أظنه أجمل قليلًا.
وضحكنا جميعًا ودخلنا إلى غرفة الجلوس وكنتُ شديد التلهف إلى سماع أخبار منى، ولكن منيرة استمرت في وصف عمتها وأولادها وزوجها السمين الذي أصبح غنيًّا يذهب إلى الإسكندرية في الصيف.
وقلت لأوجِّه الحديث إلى منى: وصلني الخطاب بالأمس ولكني لم أقرأه إلا في الساعة الحادية عشرة إلا ربعًا؛ ولهذا أخذت القطار «الصعيدي» لأكون هنا في الصباح.
فصاحت أمي: الصعيدي! الحق عليَّ يا ابني، طبعًا انشغل بالك علينا.
فعادت منيرة تقول: الحمد لله على السلامة يا أستاذ، أظنها فرصة طيبة للذهاب إلى الإسكندرية بضعة أيام. «فيلا كولونا» محطة فلمنج أول شارع على اليمين، هذا هو العنوان الذي تركته عمتي حتى نُجيب دعوتها، احفظ العنوان من فضلك.
وكانت تُريد أن تمضي في حديثها ولكني قلت مختصرًا: ماذا حدث لمنى؟
فقالت أمي: منى؟ هي بخير يا ابني! ما لها منى؟
فقلت: ألم تَكتُب لي منيرة أن أحضر لأمر هام يتصل بها.
فقالت منيرة: لم أقل إنه يتَّصل بمنى يا حضرة، لا بأس على الذاكرة!
فبلعت ريقي قائلًا: ماذا حدث إذن؟
وتذكرت حقًّا أن منيرة لم تَقُل إن الأمر يتصل بمنى.
وقالت أمي: كنت من أسبوع هناك، مسكينة الست نور، من يوم رحمة المرحوم وهي دائمًا بخير، وجاءت منى إلى جنبي: الله يحميها وأفرح لك بعروس مثلها! والنهاية سمعت الست نور تشتكي من دفع عشرة آلاف جنيه لحمادة الأصفر.
وغلى الدم في رأسي وصحت أنا الآخر: عشرة آلاف جنيه!
فأجابت أمي: سألت الست نور هذا السؤال فقالت: إن محمد باشا دفعها، طبعًا من مال المرحوم؛ لأنه الباشا هو الذي يتولى إدارة المحلج والأطيان، نسايب طبعًا.
وقمت واقفًا في غضب: لص طبعًا! ألم تَقُولي لها إنه لص، ألم تقولي لها إنه نصاب أفاق دنيء متعصب.
فقالت أمي: أقول لها يا بني؟ أقول لها إن الباشا لص؟ عيب يا ابني؟ حزنت والله يا ابني من أجل الخسارة بغير الفائدة، وقلتُ في سرِّي يا ليتك يا ابني ما تعرضت للخبيث المحتال حمادة.
حمادة يأخذ من الست عشرة آلاف جنيه؟ ما ذنبك يا بني تخسر مائة جنيه؟ قلت أرسل إليك كلمة حتى تعرف، لكن الشرح في الخطاب يطول وأنا أحب أنك تعرف كل شيء، وتتصرف مع حمادة الأصفر لتسترد منه المائة جنيه، كان يَهُون عليَّ يا بني دفع أي مبلغ، والله يا بني كنت في الليل والنهار أدعو لك؛ لأنكَ حفظت جميل السيد أحمد جلال. ولكن حرام! أنت أولى بمالك ومالك حلال بعرق الجبين.
وكنت منصرفًا إلى حديث حانق في ضميري واستمرَّت أمي تتكلم وأنا أستمع إلى أقوالها كأنها مُنبعثة من غرفة بعيدة، وكنت أفكر في الباعث الذي جعل محمد باشا يدفع عشرة آلاف جنيه لحمادة الأصفر إن كان قد دفعها حقًّا، لقد مزقتُ الورقة التي كان حمادة يساوم بها، مزقتها بيدي ورأيت عليها إمضاء السيد أحمد جلال التي أعرفها، لم يكن ذلك حلمًا وأمي تعرف أني أخذت منها الجنيهات المائة لأدفعها إلى حمادة.
وسألت أمي في دهشة حانقة: ألا تَذكُرين الليلة التي أخذت فيها المائة جنيه منك؟ ألم أقل لك إني دفعتها إلى حمادة؟ أكاد أشك في عقلي.
فأجابت أمي: الله يحميك يا بني ويحمي عقلك طبعًا أتذكر فداك مائة جنيه وألف جنيه، ولكنك معذور يا بني.
فقلت مندفعًا: لم يَخطر في بالي أن هذا الخبيث يدور من الناحية الأخرى مثل الثعلب في حظيرة الدجاج … حمادة يحلم بألف جنيه؟ حمادة يأخذ عشرة آلاف جنيه؟ لا بد أن في الأمر مؤامرة أخرى.
وكنتُ مُتعَبًا إلى حد الإعياء من السفر في الليل والقطار الصعيدي البطيء، ولكني فكرت في القيام من ساعتي للبحث عن حمادة الأصفر لأناقشه الحساب، وهممت بالقيام ناظرًا في ساعتي وكانت ما تزال السابعة صباحًا.
فقالت أمي في دهشة: إلى أين يا سيد؟ اقعد قليلًا يا ابني ولا تضايق نفسك، يا منيرة جهزي الشاي يا بنتي ولقمة صغيرة، مسكين يا ابني الحق عليَّ لأني أزعجتك … مسكينة يا بنتي، الله يرحم السيد أحمد جلال كان أمله ومنى عينه أن يرى عرس منى ولكنها آجال، النهاية يا ابني الحمد لله الموضوع انتهى، ولما أردتُ القيام قامت منى توصلني وقالت لي بلغي سيد أفندي أن الموضوع انتهى، والله يا ابني خرجت الكلمة من لساني وقلت لها: «الله يخيبه حمادة الأصفر؛ لأنه أخذ الثمن مرتين.» لا تغضب يا بني والله ما ملكت نفسي، واندهشت منى وقالت: «مرتين؟» ولما قلت لها الحكاية كلها ظهر عليها التأثر، وقالت: «لا بد لي من سؤال سيد عن الحقيقة.» وحلَّفتني أن أبعث إليها في أول مرة تأتي فيها إلى دمنهور، ولكني خفت أن الموضوع يبرد وقلت لمنيرة: يا بنتي سيد غاب عنَّا من شهور، اكتبي له يحضر في مسألة ضرورية، من جهة نطمئن عليك ومن جهة ثانية …
وقلت مقاطعًا أمي: إذن هي مؤامرة ثانية لعصابة أخرى من الأنذال بقصد السطو على منى، هذا الباشا يُريد أن يلعب بها على ما يظهر ولا بدَّ لي أن أقابله وجهًا لوجه كما قابلت حمادة الأصفر في المرة الأولى.
فقالت أمي في فزع: ماذا نقول يا سيد؟ تقابله وجهًا لوجه؟ يا ليتني لم أبعث إليك ولم أقل لك شيئًا، ما لنا والباشا؟ لا تُقابل الباشا وابعد عنه وكفاك الله شره يا بني، انتظر حتى تهدأ يا سيد ثم اذهب إلى حمادة الأصفر.
وجاءت منيرة بعد قليل فوضعت صينية الشاي على المنضدة وقربتها مني وأخذت تملأ الفناجين، وجاهدت نفسي حتى استطعت أن أنتظر، وعادت منيرة إلى حديث العمة وأولادها، ولكني كنت منصرفًا إلى التفكير في المسلك الذي يَنبغي لي أن أسلكه، كنت حائرًا لا أدري من أين أبدأ، ولما فرغت من الإفطار كانت الساعة الثامنة من الصباح.
فقلت لأمي: أظن الأحسن أن تأتي منيرة معي إلى «البقالة الرشيدة» لتُحدِّث منى بالتليفون وتُخبرها بوجودي هنا.
فقالت منيرة: ما شاء الله! استفتاح عظيم أن أذهب إلى المحل في الساعة الثامنة وأطلب منه كلمة تليفونية، ألا ترى أنك أيضًا في حاجة إلى غسل وجهك ومسح التراب عن ملابسك، كما أني لا أستطيع الخروج هكذا؟
وتذكرت عند ذلك فقط أني في حاجة إلى شيء من الاستعداد للخروج في المدينة، وأن الناس لا يستقبلون أحدًا في بيوتهم في مثل هذه الساعة.
ولما صارت الساعة التاسعة كنتُ أكثر هدوءًا واستراحة بعد أن اغتسلت وغيرت ملابسي التحتانية ونظفت ملابسي من الغبار، ولكني عندما عزمت على النزول كانت منيرة ما تزال تستعد وتُمشِّط شعرها، ولما استعجلتها صاحت من داخل الغرفة: تفضل أنت فإني غير مُحتاجة إلى خفير.
فنزلت وحدي متجهًا إلى المحطة لأبعث تلغرافًا إلى بريد الأحرار مُعتذرًا عن غيابي، ثم واصلت سيري إلى بيت صاحبي عبد الحميد بعد أن استقر رأيي على الابتداء بزيارته.
واستقبلني عبد الحميد كأنه على موعد سابق مني، فصافحني في حرارة ولكنه لم يظهر دهشة، ولمحتُ على وجهه نُحولًا أشد مما لمحته في المرة السابقة، وكانت حلقة زرقاء تحيط بعينيه، وخيل إليَّ أن ظهره بدأ يتقوس، ولكن الابتسامة التي أضاءت وجهه أزالت عني شعور الوجوم الذي هجم عليَّ عندما وقعت عيني عليه، ودخلنا إلى الغرفة القديمة، وبدأنا نتحدث في السياسة، السياسة دائمًا! وقلت لأغير الحديث: كيف أنت؟
فقال: كما تراني، وكيف حالك أنت؟
فقلت: كما كنتُ منذ سميتني دون كيشوت.
فابتسم صامتًا وانتظر أن أستمر في الحديث فقلت: لم تكن مخطئًا عندما سميتَني بهذا الاسم، وأرجو أن تكون صديقًا عاطفًا كما كان سانكو بانزا.
فقال: إذا شئت أن يكون الشبه واضحًا كل الوضوح، فأرجو أن أعرف هل تمكنت من الفوز بقلب الأميرة الجميلة.
فقلت: لك أن تقول ما شئت ولكن …
فقاطعني قائلًا: أليس من العجيب أنك لا تجرؤ أن تقول لها إنك تحبها؟ هل تحبها حقًّا؟
فقلت: ماذا يدعوك لهذا السؤال؟
فقال: الناس كثيرًا ما يغرمون بالخيال ويفرُّون من الحقيقة، كثير من الشعراء الذين ملئوا الدنيا بكاءً وغناءً كانوا لا يُحبُّون النساء أنفسهن بقدر ما كانوا يُحبُّون صورهن الخيالية، فإذا أتيحت لهم الفرصة للفوز بمن يحبون سكت غناؤهم فجأة، وكثيرًا منهم أصيبوا بالخيبة.
فقلت في حنق: وماذا تقصد بهذا؟
فقال في هدوء: أقصد يا سيدي شيئًا بسيطًا وطبيعيًّا، لم يَفُت الوقت بعد، لا تَدُر حول نفسك هكذا من بعيد وتترك خصمك ينتزع منك كنزك، وتُساعده على أن يأخذه منك، إذا كنت حقًّا تريد «منى» فاذهب من ساعتك هذه إلى بيتها وافتح لها صدرك، وإذا أردتَ أن تُمثِّل دور دون كيشوت إلى نهايته فإنك تستطيع أن تركع تحت قدميها وتُقبِّل طرف حلتها الحريرية وتقول لها: «ها أنا ذا أضع قلبي تحت قدميك.»
ورنت كلماته الساخرة في أذني قاسية؛ لأنها مثلت لي الحقيقة. ألم أُمهِّد لخصمي أن ينفرد في الميدان وفررتُ إلى القاهرة بغير أن أوجه كلمة إلى منى؟
وأخذت أسأل نفسي عن السبب الذي يمنعني من أن أفتح صدري لها كما يقول صاحبي. أأخشى أن تسخر مني؟ أهذا ممكن؟ ولكن إذا كان هذا ما أخشى فلماذا لا أواجه الحقيقة وانتهى؟
وجلست صامتًا أنظر إلى أمامي، وانصرف صاحبي إلى داخل المنزل وتركني وحدي، ولو كنت في تلك اللحظة أعرف ما أريد حقًّا لقمتُ مُسرعًا إلى بيت منى؛ لأقول لها ما كان يضطرم عند ذلك في صدري، من يستطيع أن يملأ قلبي سوى منى؟ من يمكن أن أعيش من أجله غيرها؟ رأيت مئات من الفتيات والسيدات وكنتُ بفِضل مهنتي أختلط بطبقات الشعب على اختلافها، رأيت الحسان والأنيقات والغواني والمغامرات والمطلَّقات والخَفِرات من كل سنٍّ ولون، فلم أجد فيهن من تسترعي مني التفاتة، وفطومة التي كانت معي منذ ليلة! ألم تتجلَّ لي الحقيقة واضحة عندما رأيتها ساحرة الحسن ولكنها مخيفة؟ ألم أعرف أنها لم تُخلَق لي ولم أُخلَق لها؛ لأنها لا تزيد على أنثى، ألم أقل لنفسي إن الحياة كلها لا تحتوي على فتاة غير منى؟ فماذا يجعلني أتردد؟
ودخل صديقي في تلك اللحظة حاملًا معه بعض الفاكهة، واعتذر بأن الخادم في إجازة، يالللأنانية، لم أسأله عن صحة أمه التي عرفتُ في المرة الماضية أنها مريضة.
وقلت له: كيف حال عمتي؟
فأطرق قليلًا وقال: في رحمة الله يا صديقي.
وأطرق حزينًا.
فتمتمت قائلًا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وشعرت بوخزة شديدة من الأسف كما عتبتُ في ضميري على أمي؛ لأنها لم تخبرني.
وبقيت جالسًا في صمت وتردُّد كأن ذهني متوقف، هذا الصديق الذي أضيق أحيانًا بسخريته والذي يدهشني بقوة إرادته التي تصل إلى حد الجمود! هذا الصديق العجيب الذي يبدو لي أحيانًا كالحجر الصلد مع أني أعرفه إنسانًا كامل المروءة كبير القلب واسع العقل، كيف تجتمع كل هذه الأضداد في شخصية واحدة؟ وهذا الحزن الذي يفوح من نظرته ومن إطراقته ومن أنفاسه التي يحاول كتمانها! المسكين ينطوي على نيران تضطرم في أعماقه ولكنه لا يُنفِّس عنها، والتفت إليه وتبادلنا ابتسامة ضئيلة حزينة وأحسستُ نحوه عطفًا شديدًا لم أستطع أن أعبر عنه بالألفاظ.
وقلت له: متى؟ أجاب: منذ شهر.
فأشفقت أن أنطق له بكلمة مواساة؛ لأني لم أجد كلمة تعبر عن حقيقة مواساتي، ومددت يدي إليه في صمت، فضغطتُ على يده وخرجت من البيت لا أدري إلى أين أتجه، هل صديقي هذا إنسان من البشرية الضعيفة؟ أهذا نقص فيه أم هو امتياز؟
وسرت في الطريق حائرًا كئيبًا، وكانت الحوانيت على الجانبين مُزدحمة والشارع يموج بالناس، بعضهم يسرع نحوي ليحييني، وبعضهم يَصيح بي بالتحية من بعيد وأنا أتكلف البشاشة والإجابة، وانحدرت في أول طريق على يساري نحو الترعة، وكانت هناك الحانة القذرة التي تعود حمادة أن يجلس فيها، ولكنه لم يكن هناك والخواجة مانولي ما يزال واقفًا وراء منضدته العريضة ينظر إلى الخارج نظرة جوفاء، وخطر لي أن أدخل إلى الحانة لأسأل عن حمادة الأصفر ولكني لم أفعل، ولما بلغت جسر الترعة عرجت إلى اليسار حتى وصلت إلى كوبري قلاقة، ثم انحدرت إلى الشارع المؤدي إلى المدينة تاركًا قدمي تحملاني حيث تريدان، وعدت إلى منزلي كاسفًا حزينًا كأني لم آت إلى دمنهور إلا لكي أقطع الطريق هكذا ذاهبًا آيبًا وأنا حائر حزين.
ولما وصلت إلى منزلي كنت ما أزال أحدث نفسي أحاديث متناقضة، ولقيتني أمي عندما أحسَّت بمقدمي، فبادرتني قائلة: «هل قابلت الباشا؟» فهززت رأسي واتجهت إلى غرفتي، ولكني سمعت صوت منيرة وهي تُناديني من المطبخ: أنت مدعو إلى الشاي عندي في الساعة الخامسة تمامًا، وسيكون ضيف الشرف الآنسة منى.
ولم أَدرِ كيف استطعت أن أمنع نفسي من صيحة الدهشة التي كادت تخرج من صدري، ثم أخذت أسأل نفسي أين تكون هذه الدعوة؟ وفي أي موضع نستقبل منى؟
ودخلت إلى غرفتي وذهني يدور مسرعًا، ماذا أفعل إذا أتت منى؟ هل أنزل إلى الباب لأستقبلها؟ وأين تجلس في هذا المنزل المسكين؟ إنها جرأة عجيبة أن تُقدم منيرة على هذه الدعوة وغرفة الانتظار لا تزيد على ثلاثة أمتار في أربعة، ولا تطلُّ إلا على منور بنافذة صغيرة.
ونظرت إلى الساعة فوجدتها ما تزال الحادية بعد الظهر، كأن عقاربها لا تتحرك، وقمت لأبحث عن شيء أقرأ فيه ووجدتُ على مكتبي قصة إنجليزية رخيصة، فجعلت أقرأ فيها لعلي أقطع بها الوقت، ولكن ذلك لم يَنفعني بشيء؛ لأن ذهني كان يدور مسرعًا، ولما ضقت بالقراءة رميت بالقصة على المكتب وقمت لأستريح، ومع كل ما كان في ذهني من الخواطر والهواجس غلبتني الحاجة إلى النوم، فلم أستيقظ إلا عندما نادتْني أمي للغداء وكانت الساعة الثانية والنصف، وتكلفت أن أكون عاديًّا في مظهري وحديثي على المائدة، بل إني تكلفت شيئًا من الخفة والمرح وقلت بعض كلمات مجامَلة بالإعجاب بالطعام.
وسألت منيرة: ما هذا الشاي الذي تتكلمين عنه؟
فقالت: عندي يا أفندم، فهل تتنازل؟
وتبسَّمتُ هذه المرة صادقًا.
وأخذ قلبي يدق في ضعف، وسألت نفسي هل أتماسَك إذا قابلتها؟ أم أرتبك ويلتصق لساني بحلقي كما فعلتُ من قبل مرارًا.
وأخذت مُنيرة تصف لنا الأصناف التي أعدَّتها للشاي، ودخلَت أمي معها في مناقشة عميقة لم أفهم منها شيئًا؛ لأنها كانت على مقادير الزبد والسكر والدقيق والبيض التي صنعت منها كعكاتها وأطباقها، ومنيرة تزعم دائمًا أنها في هذه الميادين لا تبارى.
ولما فرغنا من الطعام عدتُ إلى غرفتي وكانت الساعة الثالثة والربع، فما تزال ساعتان إلا ربعًا بيننا وبين زيارة منى.