الفصل الثاني والعشرون
عدتُ في الصباح التالي إلى القاهرة، وذهبتُ قصدًا إلى دار الجريدة، وقبل أن أفرغ من كتابة المقالة النارية التي كنتُ أكتبها سمعت طرقًا على الباب، وكانت دَهشتي عظيمة عندما رأيت أمامي حمادة الأصفر.
«ماذا جاء بك إلى هنا؟»
هذا ما صحتُ به في عنف يُشبه التهديد.
ودخل حمادة الأصفر مُبتسمًا وعيناه تلمعان لمعانًا شديدًا، ولكنه كان شخصًا آخر غير الذي عرفته، كان يَلبس ثوبًا صوفيًّا نظيفًا فاخرًا مما يُسميه أهل دمنهور باﻟ «بِنِش»، ويبدو من فتحة صدره «قفطان» من الحرير، وتتدلَّى من كتفِه «كوفية» ذات شراريب طويلة، وعلى رأسه طربوش نظيف، وفي يدِه منشَّة من الشَّعر الأسود ذات مقبض من العاج.
ولم أشكَّ في أن هذا المظهر الأنيق ثمرة للسرقة التي أعرفها، ولم يُجبني على صيحتي إلا بتلك الابتسامة الجامدة، وذهب إلى أقرب كرسيٍّ فجلس عليه هادئًا كأنه يقول لي: «لستُ أعبأ بك.» فكدتُ أنفجر من الغيظ، ودفعتُ الكرسي الذي أنا عليه إلى الوراء، وقمتُ واقفًا وقلت في حنق: من أذن لك أن تَدخُل عندي؟
فقال بصوت هادئ: هذا لقاء الضيف يا سيد أفندي؟ يا أخي لستُ شحاذًا حتى تطردني هكذا، أهذا جزائي لأني حضرت إلى القاهرة في الدرجة الأولى لأبحث عنك، وكل يوم جنيه أجرة تاكسي أدور في كل مكان، ثم أذهب إلى غرفتك فأبقى في انتظارك إلى نصف الليل، ثم أنام على الكنبة بدون غطاء؟ الحمد لله لأني لا أريد منك الإحسان يا سي سيد، الدنيا يا أخي ساقية والقواديس العالية تُفرغ والتحتانية تملأ، قل للسَّاعي يُحضر لي قهوة.
وصفَّق ليطلب القهوة.
فقلت له مُتمالكًا نفسي: ألستَ تَخجل من مقابلتي؟
فقال في جرأة وقحة: كل هذا من أجل المائة جنيه؟ هذه هي يا سيدي.
وأخرج ظرفًا فوضَعه أمامي على المكتب، فتهيَّجتُ وقُلت: أرجو أن تذهب من هنا، أنت لا تستحق أن أجادلك.
فقال غاضبًا: والله لولا أني أحترمك … يا سلام يا سيد أفندي!
ودخل الساعي فوضع الفنجان أمامه وخرج، وأتاح لي فرصة قصيرة للتفكير في هذا الوغد، وأحسن الطرق في صرفه عنِّي بغير أن أفسد على نفسي هدوءها منذ الصباح.
وقلت له: اسمع يا حمادة، لا أرى داعيًا لهذا الحديث، ولستُ أملك وقتي فأرجو أن ينتهي هذا الموقف بسلام، أنت تعرف ماذا كان شعوري نحوَكَ من قبل وماذا يكون شعوري الآن بعد أن حدث منك ما حدث. أنت رجل؟ أنت إنسان؟ … لا داعي لكثرة الكلام؛ لأني لا أرى فيه فائدة، ليس بيننا ما يدعو للعتاب ولا للمناقشة، وليس يخفى عليَّ أنك ما شاء الله أصبحت في نعمة عظيمة، فتفضَّل في طريقك أنت من هنا وأنا من هناك ولا أظن أحدنا في حاجة إلى لقاء الآخر فيما بعد.
ولكن حمادة لم يَزِد على أن وسَّع ابتسامته ونظر نحوي ثابتًا وفي نظرته ما يقرب من العطف والتوسل.
فقلت له: أحبُّ أن أعرف كيف تجرؤ على مقابلتي مع علمك بأنك نصاب محتال مجرم؟ ليس لي إلا طلب واحد وهو ألا تضيع وقتي. لا داعيَ لكلِّ هذا اللفِّ والدوَران لتُغطِّي الموضوع.
فعبسَ لأول مرة وقال في تحد: أُغطِّي الموضوع؟
فقلت في دفعة: ألم أنتزع منك ورقة الزواج؟ وأدفع لك ثمنها؟
فهز رأسه باسمًا وقال: طيب!
فقلت في غيظ: كيف إذن تعود لتَطلُب الثمن من الفتاة المسكينة منى؟ لو عرفت أن مكرك يبلغ إلى هذا الحد لكنت بقيت في دمنهور لأُوقفكَ عند حدك.
فضحك ساخرًا وقال: الحمد لله يا سي سيد! لا يوجد في الدنيا رجل آخر يمكنه أن يُوقفني عند حدي.
فقلت: هذا الأبله الأحمق يدفع لك عشرة آلاف جنيه من مال الفتاة المسكينة؟ وسرقة ونصب واحتيال!
فصاح: حيلك! عشرة آلاف جنيه؟ أيُّ لص وأي نصاب قال هذا؟
فقلت في حنق: هل تنكر؟ هل تجرؤ؟ هذه الملابس وهذه المظاهر والدرجة الأولى في السكة الحديدية وتاكسي وكل يوم كم جنيه، كل هذا وتقول إنك لم تسرقه؟
فضحك ضحكة طويلة سمعتها كأني أسمع ضحكة شيطان، وكدت أقوم إليه فأقذف به من الباب، ولكنه نظر إليَّ ثابتًا وقال: الله يسامحك يا سيد أفندي.
اسمع يا سي سيد حكاية ظريفة والله، بعد مُقابلتنا في الليلة إياها جاء لي مصطفى عجوة يَدعُوني لمقابلة محمد باشا خلف، فذهبت.
والسلام عليكم … عليكم السلام، اتفضل يا سي حمادة وهات قهوة يا ولد! وكيف الأحوال؟ والظرف والأدب، وقال لي الباشا: «اسمع يا حمادة، أنت رجل نبيه وعظيم وأحب أن تشتغل عندي.»
وبدأت أستمع إليه في شغف وبدأت أشمُّ رائحة مكيدة.
وبعد لحظة صمت واستمر حمادة قائلًا: أقول لك الحق. لعب الفار في عبي وقلت له: «خدامك يا باشا.» ولكني قلت لنفسي: «خد بالك يا حمادة!»
وعرض عليَّ مرتب عشرين جنيهًا في الشهر مرة واحدة، قلت في نفسي: «عجيبة!» وحسست أنه يريد منِّي مساعدته في الانتخاب، لكني أردت معرفة قرار الحكاية وأظهرت الامتناع، وبدلًا من إصراره على العشرين زادها إلى ثلاثين مرةً واحدة، قلت: بس، لا بد أن الحكاية فيها لعبة.
وملت على مصطفى عجوة وسألته عنك، ولكنه هزَّ لي رأسه، النهاية قلت: لا بد أن الباشا لا يعرف حكاية العقد وأنك أخذته منِّي، قلت في عقلي: «بعدك يا سيدنا الباشا!» وقلت له: «أرجوك مهلة إلى ساعة الظهر.» وخرجت أجري إلى بيتِك وقابلت عم عبد الهادي الزيات على باب الحارة، وسألته عنك، قال لي إنك سافرت في الصباح وسلمتَ عليه من بعيد وقال لك مع السلامة يا بو زهير، وعنها ورجعت أجري للباشا ودخلت عليه كأني مجنون، وقلت له: «اسمع يا باشا! أنت تعرف أني أنا حمادة الأصفر لا أخاف ولا أخجل ولا أحد يخدعني، من قال لك إني حمار أو مغفل حتى تضحك عليَّ في كل شهر بثلاثين جنيهًا؟ الورقة عندي والمحاكم موجودة وأعرف شغلي!» وأدرتُ له ظهري لأنصرف، فقام الباشا وأخذ يلاطفني وأمر الجميع بالانصراف وردَّ باب الغرفة علينا وبدأ يفاوضني، النهاية من هنا لهنا اتفقنا على ألف جنيه يقدمها إليَّ بصفة أمانة أكتب بها ورقة أعترف بأنها أمانة لشراء أقطان، ووعد بأن يشتريَ الأقطان منِّي بالسعر الحاضر، والمكسب لي لغاية شهر ديسمبر، وأنت تعرف الحظ إذا ابتسم يا بو زهير، في الصبح بسبعين ريال وفي المساء بثمانين ريال وبكره بتسعين ريال، النهاية في مدة شهرين يا عم سيد الألف وصلت إلى عشرة وأرجعت له الألف، ومزَّعنا المستند ورجعت إلى السوق من جديد حمادة أفندي وسي حمادة وحمادة بك، ولو كنتَ تَتنازل وتزور مكتبي يا سيد بيه يكون أكبر شرف، عشرة آلاف جنيه؟ أنا أسرقها من محمَّد خلف؟ محمد خلف بن عم خلف المنجِّد، كل ثروته من سرقة الأيتام والأرامل والأمراء المعتوهين، الاختصاصي في نظارة الأوقاف وإيجارات الأملاك أنا أسرقه؟ لو كنتُ أعرف السرقة يا سيد أفندي، كنت أشبع وأكتسي على الأقل، ولا أخدم اللئام، ولا أنافق، ولا أشرب الزفت ولا أرتمي على أكوام الطين، لو كنت أعرف السرقة والنصب ما كنت أجري بسرعة للموت وأتمنَّى يومه، قل لي: دون، قل لي: حقير، قل لي: حشرة. أصدق، لكن: لص؟ لأ. لع! أبدًا حمادة القذر الجائع العاري هو جسم حمادة؛ العظم واللحم والدم. يُنافق ليأكل، ويشحذ ليأكل.
ويتذلَّل ليجد السقف في الليل، ويرضى بالإهانة من أجل القلب الجائع، ولكن من تحت الحمادة الجسم يوجد حمادة الصحيح — حمادة الحقيقي — لا يَرضى أن يسرق أبدًا.
ولو كنتُ طاوعتُ دفعتي في هذه اللحظة لقمت إليه وأخذته بين ذراعي، وقبلته بين عينيه المتقدتين كعيني الذئب، ولكنِّي نظرت إليه كما أنظر إلى جدول الماء الصافي الذي يخرج من عملية تحليل مواد المجاري في مزرعة الجبل الأصفر، ماء رائق يتلألأ في نور الشمس، ولكن النفس تعافه؛ لأنها تَعرف أصله.
وقلت لحمادة مُخلِصًا: أنا آسف يا حمادة؛ لأني ظلمتك، مع السلامة.
وقام حمادة لينصرف، ولكنه وقف حينًا في تردُّد ثم ضحك قائلًا: بالله عليك صارحني بكلمة، لا أحب أن أزاحمك يا أستاذ سيد، وأريد أن تقول بالصراحة، ما شعورك من جهة فطومة؟
وفاجأني سؤاله فقلت في حدة: أما تَنسى هذا الهراء؟ متى عرفتها؟
فقال في حماسة: لما طرفت الباب نزلت لي فطومة، الله يا سيد أفندي، والله عمري ما رأيت عينين تشبه عينيها، وسألتُها عن اسمها، وكان صوتها مثل الكروان بالله يا أستاذ سيد صارحني.
فقلت في اختصار: قلت لك: لا داعيَ لهذا السخف، إذا كانت أعجبتك فتلفع بها وتفضل.
فهزَّ يدي مرة أخرى قائلًا: طيب يا سيد أفندي، تلفيعة حرير والله العظيم، ما رأيك في أن تُقدمني للشيخ مصطفى حسنين؟
ومع أني كنت أعرف أن حمادة إذا رأى امرأة حسناء صار كالذبابة إذا اندفعت إلى طبق من العسل، فإني دُهشت؛ لأنه تدلَّه بفطومة في مثل هذه السرعة، ولكني شعرت بارتياح داخلي لست أدري سببه.
وقلت له: يسرُّني أن أفعل إذا مررتَ عليَّ بعد أن أفرغ من عملي، إلى اللقاء الآن يا حمادة.
وعندما خرج من عندي وضعت يدي على رأسي وغرقت في أفكاري: أهذا هو الباشا الذي يُريد أن يتكلم باسم الأمة ويحاسب الوزراء! أهذا هو الذي يريد أن ينتزع منى ليَتجر بأموالها كما يتجر النخَّاس بالرقيق؟ وقمت ثائرًا أتمشى في غرفتي وأسأل نفسي كيف أضرب ضربتي، ما لي أكتب في الفراغ وهذا الوغد يَستحقُّ أن يشنق؟
ودخل عليَّ الساعي في هذه اللحظة يطلب منِّي المقال الذي لم أفرغ منه بعد، فاستمهلته قليلًا وعدتُ إلى مكتبي وبدأت أقرؤه مرة أخرى، كنت في أول الأمر أحسبه مقالًا شديدًا يُعجب الأستاذ علي مختار ويهنئني عليه، ولكنه بدا لي فاترًا سخيفًا لا يحمل معنى، ولم أفكر مرتين قبل أن أجمع أوراقه وأمزقها قطعًا صغيرة ثم أرمي بها في سلة المهملات، وبدأت أكتب مقالًا جديدًا عنوانه: «هكذا يكون الباشا»، وفي نصف ساعة كنتُ قد أتممته ووقعته بإمضائي وأخذت أقرؤه مرة أخرى، لم أذكر اسم الباشا، ولكن أوصافه كانت بغير شك تُشير إليه، ولولا علمي بأن الأستاذ علي مختار لا يُحبُّ أن يهاجم الأشخاص مهاجمة شخصية لكنت حددته بالاسم، ولكني ميزته حتى لا يخطئ أحد في معرفته.