الفصل الرابع والعشرون
صحوتُ مُتعَبًا إلى حدِّ الإعياء في الصباح، وكانت الساعة السادسة، فجلست على المكتب حائرًا، وكان رأسي مُصدَّعًا ثقيلًا ومفاصلي وأضلاعي تنبض بالألم، وقمتُ أترنَّح إلى الباب فدققتُه دقتَين حتى انفتح، وكان الذي صبَّحني بوجهه شرطيٌّ عابسٌ أصفر الوجه كأنه هو الآخر قضى ليلة مثل ليلتي.
وسألته: أأستطيع أن أغسل وجهي؟
فأشار بيده إليَّ بغير أن يتكلَّم، واتجه بي إلى دورة الماء ووقف عند الباب ينتظرني، وكانت النوافذ هناك محصَّنة بقضبان حديدية متينة هي الأخرى.
وشعرت بشيء من الانتعاش بعد أن غسلتُ وجهي بالماء البارد، وتمنيت لو أمكنني أن أتوضَّأ لأصلي فريضة الصبح التي تعوَّدتها منذ صغري، ولكن كيف أخلع ملابسي وحذائي وأين أضعها؟ وهل أتوضَّأ ثم أسير حافيًا إلى الغرفة على الأرض التي كنتُ لا أقدر على تمييز لونها من الطين الذي فوقها؟ فاكتفَيتُ بأن جففتُ وجهي في منديلي، وعدتُ في حراسة الشرطي إلى مقعدي فوق المكتب، وكانت المتاجر ما تزال مغلقة والطريق خاليًا، وكل شيء هادئًا تحت أنفاس الصباح الرطبة، فلم أجد شيئًا يَشغلُني عن الهواجس العنيفة التي انفرَدَت بي؛ ولهذا مرت عليَّ ساعة كانت من أطول ما مر بي في حياتي، ثم بدأتِ الحركة تدبُّ شيئًا فشيئًا في الطريق، وكان من أول من ظهر لي هذا الطفلان البائسان اللذان رأيتهما بالأمس، وكانا يُسرعان من رصيف إلى آخر كعصفورين جائعين يلتقطان رزقهما في الصباح مع فارق واحد، وهو أن العصافير تخرُج عند مطلع الشمس من أوكارها التي تأوي إليها في ساعة الغروب، وأما هذان فليتَ شِعري أين قضَيا ليلتَهما؟ هل هما أخ وأخته؟ أم هما شقيان آخى بينَهما الشقاء وألَّف بين قلبَيهما؟ أيكونان في الحياة الواسعة وحدهما بغير ثالث؟ وماذا يَفعلان بهذه البضاعة التي يجمعانها بين الصباح والليل؟ وهل هي تكفي لإطعام هذين المسكينَين؟
ورأيتهما يقفان من بعيد عند باب دكان فول مدمس ويتوشوشان، لست أدري أكانا يتآمران على سرقة رغيف أم كانا يتناجيان برائحة الفول الذكية؟ وسأسأتُ لهما وناديت بأعلى صوتي قائلًا: اسمع يا ولد! يا بنت!
فتلَّفَتا حولهما في فزع، ولكنهما لم يعرفا أين أنا حتى أشرت لهما بيدي من بين القضبان، فأقبلت الفتاة نَحوي مُتردِّدة وبقيَ الولد بعيدًا ينظر إليها مترقبًا، فلما صارت على الرصيف المقابل للنافذة قذفت إليها بقرشَين وقعا تحت قدميها وقلت لها: اجري افطري وقولي لصاحب دكان الفول يبعت لي طبق فول بزيت ورغيف وسلطة، هنا في القسم، هنا!
فتبسَّمَت مُرتاحة وهزَّت رأسها وأسرعت إلى الصبيِّ فأخذتْه معها ودخلت معه إلى الدكان، وبعد قليل جاء صاحب الدكان ليَسألني عما أريد فقلت له: أنا هنا محبوس في القسم وأريد أن أُفطر؛ طبق فول بزيت وسلطة ورغيف.
فقال: والعساكر؟
فقلت: سلِّم الأكل لأحدهم واتركه معه.
وقذفتُ إليه بقطعة فضية ذات خمسة قروش، فاقتنع وذهب.
وبعد قليل فتح الباب ودخل الشرطي العابس يأمرني بالذهاب إلى المحكمة.
فقلت له: لم أفطر بعد.
فقال في جفاء: هل هنا مطعم؟
فقلت: لا. هنا قسم بوليس، هل حضرة الضابط هنا؟
فقال: حضرتك صاحبه؟
فقلت: نعم، أشكرك جدًّا، وكان الشكر مُوجَّهًا إلى صاحبي الشرطي الآخر الذي جاء في تلك اللحظة يَحمل طبق الفول والخبز والسلطة.
وقال في بشاشة: صباح الخير يا سيدنا الأفندي، كنتُ في العربة عندما جاء الرجل بالأكل فعرفت أنه لك، ما لك يا حضرة الباشجاويش؟ حرام يا رجل! النهار طويل ولُقمة الصبح تسند قلبه.
وكان في قوله الأخير متجهًا إلى الشرطي الآخر الذي حاول أن يمنعه من إدخال الطعام إلى الغرفة.
وانصرف الشرطي العابس غاضبًا، ودخل صاحبي الآخر فوضَع الطعام على المكتب قائلًا: تفضَّل!
فقلت له: بسم الله يا أخي.
فقال: بالهنا والشفا.
ومدَّ إليَّ يده بقرشَين قائلًا: بقية ربع الريال.
فتبسمت قائلًا: هل أفطرت؟
وأشرتُ إليه أن يأخذ القرشين.
فقال مُرتاحًا: الحمد لله. أشياء رضا.
وذهب خارجًا وأتى إليَّ بكوب من الصاج مملوء بالماء، وكنت قد بدأت آكل وأنا واقف، وتبادلنا ابتسامة صغيرة قبل أن يخرج قائلًا: على مهلك يا أفندي!
وكانت الساعة الثامنة والنصف عندما وصلنا إلى دار النيابة، ولكن المكتب كان خاليًا، فجلست في حجرة الكاتب ووقف الشرطي عند الباب يحرسني.
وكانت الحركة والطعام قد أعادا إليَّ نشاطي، وذهب ما كنت أحسه من التعب والوحشة، وبعد قليل دخل صبي المقصف ليرى هل بالغُرفة أحد فطلبت منه كوبًا من الشاي ورجوته أن يشتري لي علبة من السجاير لأتسلَّى بالتدخين.
ومهما يكن من الأمر فإني شربتُ ثلاثة أكواب متفرِّقة من الشاي بين كل منها والآخر نحو ساعة وأحرقتُ نصف علبة السجاير، ولم يحضر أحد إلى المكتب، حتى صارت الساعة الحادية عشرة، ثم جاء الكاتب آخر الأمر وقال لي في خفَّة: آسف لأنَّ البيه مشغول في قضية أخرى، ولا يحضر إلى هنا اليوم.
فقلت متثاقلًا: ومعنى هذا؟
فقال: لا شيء، التحقيق مستمر، غدًا أو بعد غد، لا بد أن ينتهي على كل حال.
ثم مدَّ يده إلى الشرطي بورقة وخرج مسرعًا يتلفت في الغرفة ويهز يده بظرف كبير يحمله، ونزلت إلى العربة المعهودة فركبتها مع الشرطي، ولم أعرف إلى أين حتى وقفت العربة، وقال الشرطي في صوت نحاسي: تفضَّل يا أفندي.
فقلت: إلى أين؟
فقال: الاستئناف!
يا خبر! سجن الاستئناف؟ دخلتُ إلى ذلك السجن من قبل مرة عندما ذهبت مندوبًا عن الجريدة لأشهد إعدام أحد كبار المجرمين. كان مَنظرًا لا أنساه أبدًا عندما رأيت المسكين قبل أن تعصب عيناه ليصعد فوق المشنقة، فقد كان ينظر في فزع شديد إلى الحبل المعلق الذي سيحتوي على عنقه، وجعل يقول لمن حوله بصوت مرتعد: «اطلبوا لي الرحمة يا ناس!»
فلم أُطِق أن أستمر في موقفي؛ إذ كان من المؤلم لي أن أرى الرجل يَنهار هكذا، لو نظرت إلى ذئب جريح يلفظ أنفاسه الأخيرة لما أعجبني منه أن يُمأمئ مثل الشاة مُستغيثًا متخاذلًا؛ فالأجدر به أن يموت ذئبًا وحشًا مستعدًّا للهجوم إلى آخر لحظة من حياته، كنت لا أتألم هكذا لو بقي ذلك الرجل جبارًا سفاكًا متحديًا فظيعًا حتى النهاية، ولكنه صار مثل أرنب في يد الجزار يرتعد ويطلب الدعاء بالرحمة.
ومن ذلك اليوم اعتقدت أن سجن الاستئناف هو الذي حوَّل هذا الجبار إلى رجل منهار، ومن أجل هذا كرهته.
فهل أنا ذاهب إليه كما يذهب إليه القتلة؟
أأذهب إليه لأني أكتب مقالات أُترجِم فيها عما أحسه ويحسه الناس من غضب على الفساد والطغيان والحكم الذي يُذلنا ويسقطنا ويدنس أرواحنا؟
ودخلنا سجن الاستئناف، ومنذ دخلته أصبحت مثل شيء تتلقفه الأيدي ولا إرادة له، سلَّمني الشرطي إلى المأمور، وسلَّمني المأمور إلى سجان، وسار بي السجان إلى الغرفة التي خصصت لي ورقمها ٢٩٨، ومنذ اللحظة التي دخلت فيها إلى الغرفة صرتُ رقمًا مجردًا سابحًا في الفراغ، فرقم ٢٩٨ يصعد إلى غرفته، ورقم ٢٩٨ يُدعى إلى النزول، ورقم ٢٩٨ يتناول طعامه، وكانت الغرفة التي دخلت فيها أحسنَ مما كنت أنتظر؛ إذ كان فيها على الأقل سرير يمكن أن أتمدد عليه، وكانت بها نافذة عالية ذات قضبان متينة، ولم يضايقني إلا سواد لون السقف والأرض.
ولم يكن بي حاجة إلى التفكير في الذهاب إلى دورة المياه؛ لأن «الجردل» كان هناك في ركن الغرفة أستطيع أن أقوم إليه لأقضي به حاجتي بغير عناء، مرحى! لا شك في أن هذا السجن تأديب وتهذيب وإصلاح كما يقولون، ولا عجب إذا كان القاتل الجبار قد تحوَّل فيه إلى جبان رعديد!
وجلست على السرير في شبه ذهول لا أكاد أتحقق من أني أصبحت سجينًا، ولا أدري كم بقيت جالسًا هكذا حتى دخل عليَّ سجان ليضع لي غطاءً نظيفًا على السرير، ومع كل ما داخلني من الارتياح لذلك لم أظهر له اهتمامًا.
ثمَّ جاء الرجل إليَّ ببعض الطعام، ولكنَّني لم أشعر بجوع، فرفضت أن آكل شيئًا، وبقيت في حالتي الذاهلة حتى جاءني السجان مرةً أخرى يدعوني إلى طابور النزهة مع سائر أرقام عالَمي، فقمت خارجًا لأن ساعة أقضيها في الهواء الطلق خير من الجلوس في الغرفة المغلقة.
ونزلت إلى فناء السجن وهو لا يَزيد على قطعة صغيرة من الأرض تُحيط بها الجدران العالية من كل جانب، وسِرنا في طابور النزهة رقمًا وراء رقم، وجعلنا ندور حول الفناء مرةً بعد أخرى، ولاحظتُ أن المساجين مثل سائر الناس لا يَستطيعون التخلِّي عن الكبرياء مع أنهم يعرفون أنهم لا يَزيدون على أرقام مجرَّدة، فقد وجدتُ أن كثيرًا منهم يتأنَّق في ملابسه ليظهر في الطابور كما يَنبغي لمثله؛ وذلك بالطبع إذا كانوا ممَّن يُسمح لهم بلبس الملابس الخاصَّة مثلي، وقبل أن ينتهي طابور النزهة دعاني مأمور السجن لمقابلته، فذهبت إليه وكنتُ ما أزال ذاهلًا، وكانت دهشتي عظيمة عندما وجدتُه يستقبلني في بشاشة وعطف، ويُجلسني على كرسي إلى جانب مكتبه، ثم أشار إلى حقيبة كبيرة في ركن الغرفة قائلًا: «هذه حقيبتُك.» وأعطاني سيجارة فأخذتها شاكرًا، وداخلني شيء كثير من الأنس والارتياح وسألته: من جاء بهذه الحقيبة؟
فقال: لا أدري. رجل جاء وأراد أن يراك ولكن لا مُؤاخَذة فالأوامر مشددة؟
ثم أخذ يحدثني عن نزلاء سجنه حديثًا فكهًا يقطعه بالفكاهات المرحة، فأذهبَ عنِّي ما كان بصدري من الضيق.
كان كل رقم من هؤلاء النزلاء يمتاز عنده بشيء يجعله جديرًا بالتحدث، فالرقم ١١٠ تاجر في خان الخليلي وهو متَّهم بتجارة المخدرات، وبلغت أرباحه في العام الماضي وحده مائة ألف جنيه، ولم يُضبط لسوء حظِّه إلا في آخر مرة عندما اختلف مع رجل من أهل الصعيد على شراء صفقة كبيرة، كان الرجل يُريد أن يَشتريها بخصم ١٠٪ من ثمن القطاعي، ولكن التاجر أبى فأبلغ المشتري رجال البوليس عنه، وانقلب إلى مساعد لرجال الأمن حتى تمكَّنُوا من ضبطه، وكان نازلًا بالسجن تحت التحفظ حتى يتمَّ التحقيق، ولكنه يُكلِّف المأمور مشقة عظيمة في مراقبته حتى لا يعقد صفقات جديدة داخل جدران السجن، وقد لاحظتُ في طابور النزهة أن ذلك الرقم رجل ضخم يسير شامخ الأنف ويلبس جلبابًا من الحرير الأبيض، ويُمسك في يده منشة بيضاء أنيقة.
وأما الرقم ٢١٣ فإنه من صنف آخر، وقد لاحظت أنه يلبس بيجامة فاخرة من الحرير الملون، ويُدلي من جيبها الأعلى على يسار صدره منديلًا أحمر، وقال عنه مأمور السجن: إن الطعام الفاخر يأتي إليه كل يوم من المرأة التي يَعيش في ظلها، وهي كل يوم تحمل إليه الطعام بنفسها وتبكي؛ لأنها لا تتمكَّن من رؤيته، وتُهمتُه أنه طعن منافسًا بالسكين من أجل المرأة.
وأما الرقم ١٩٠ فإنه رجل شاذٌّ لا يكاد يقضي مدة السجن في جريمة خلقية حتى يعود إلى ارتكاب جريمة أخرى.
وكان المأمور خبيرًا بكل أحوال رعيته يتحدَّث عن كل رقم منها كما يتحدَّث صاحب المزرعة الهاوي عن السلالات الممتازة من الحيوانات التي في حظائره.
ولما فرغ من حديثه أخبرني بأنه قد اختار لي غرفة ممتازة في الدور الأعلى فيها مصباح كهربائي وفراش نظيف، وعلى مَقرُبة منها دورة مياه، وقال: إنني أستطيع أن آمر بشراء ما أريد من طعام، وأمر بحمل الحقيبة وصعد معي حتى أوصَلَني إلى غرفتي وهمس قبل أن ينصرف: يمكنك أن تقرأ الصحف عندي في الصباح.
فشكرته من أعماق قلبي وصافحته في حرارة، ولما دخلت غرفتي فتحت الحقيبة، وأخذت أخرج ما فيها وأرتبه في مواضعه، فالركن الذي يلي سريري للكتب، وما كان أكرم هذا الصديق الذي أرسل إليَّ، وهو بغير شك الأستاذ علي مختار، ومن ذا يُمكن أن يفكر في غيره؟ ولم أضع شيئًا في الركن الذي أمامي؛ إذ كان لا يصلح لشيء لقرب الباب منه، وأما الركن الثالث فقد كان يصلح لأن أعلق فيه شماعتين إحداهما على المسمار الأسفل والأخرى على المسمار الأعلى، ويُمكنني أن أضع عليهما ما في الحقيبة من الأقمصة، وأما أدوات الحلاقة والملابس التحتانية والمناديل وما إلى ذلك، فلا يضرُّها أن تبقى في الحقيبة لآخذ منها ما أحتاج إليه في حينه، والمحل الصالح للحقيبة هو الركن المنعزل تحت قدمي السرير، وبالَغَ مأمور السجن في إكرامي فبعث إليَّ ببعض الأطعمة الخفيفة للعشاء مع فنجان لذيذ من الشاي، فعزمت على أن أُكرِّر له شكري إذا نزلت في الغد إلى طابور النزهة، وهكذا وطَّنتُ نفسي سريعًا على الإقامة في سجن الاستئناف، وبذلت كلَّ جهدي في صرف فكرة إتمام التحقيق والقلق من الانتظار، وسلَّمتُ أمري إلى الله تعالى.