الفصل الخامس والعشرون
مضَت أربعة أيام بغير أن أسمع شيئًا عن التحقيق الذي وُضعتُ تحت التحفظ من أجله، وكان مما زادني ضيقًا أني كنتُ أسمع في كل يوم بالإفراج عن بعض الأرقام الأخرى، ومن بينها التاجر في المخدرات والشاب الذي يعيش في ظلِّ المرأة والمُجرِم العائد صاحب الجرائم الخلقية، كل هؤلاء يُفرَج عنهم بكفالة مالية، وأما أنا فأبقى في السجن حتى يتم التحقيق، ومتى؟
وذهبت في اليوم الرابع لأحضر جلسة المعارضة، وتطلعت إلى الساعة التي أقف فيها أمام القاضي، ولم أجد في المحكمة من ينتظرني غير فرَّاش مكتبي الذي اندفع نحوي مسلمًا ضاغطًا على يدي وقال: تشجَّع يا أستاذ!
وقدم إليَّ سيجارة.
ولم يَطُل بي الانتظار؛ فإن القاضي أخذ يستمع إلى أقوالي في هدوء واعتدال، حتى تيقنت أن الحكم سيكون بالإفراج.
وكانت دهشتي عظيمة عندما أعلن القاضي أن الحكم بعد أسبوع.
ولما خرجت من الغرفة لم أَكَد أُصدِّق عيني عندما رأيت أمامي وجه أمي الباكية، ولمحت إلى يمينها ويسارها عبد الحميد عباد ومنيرة وحمادة الأصفر، وسبَحَ رأسي في الفضاء حتى كدت أسقط، لولا أن تماسكتُ وسلمت نفسي للأم المسكينة التي لم أفهم مما قالت شيئًا، وجاءت منيرة وعبد الحميد يُحاولان أن يهدئاها، ووجدتُ أن الموقف أشد من طاقتي، فحاولت أن أقول بعض كلمات أخفف بها لوعتَها، ولكنِّي لم أجد شيئًا أقوله.
وكان الشرطي المكلَّف بحراستي أكثر إنسانية من أن يَجذبني من ذراعي، فاكتفى بأن قال: «لا داعي لكلِّ هذا، والعاقبة خير إن شاء الله.» فعاد إليَّ شيء من قوَّة الإرادة، ونزعتُ نفسي من يدي أمي في شيء من العنف وتكلَّفتُ قلة الاهتمام، وشددتُ ابتسامةً على وجهي قائلًا: لماذا تُزعجون أنفسكم بالحضور إلى هنا؟ هذه شروط المِهنة يا عبد الحميد، وأنت يا منيرة ألا تُريدين أن تكوني صحفية؟ هناك صحفيات كثيرات أقل منك براعة في تمثيل أدوار البكاء، تعالي يا آنستي معي لترَي أني أُفطر عسل نحل وأتغدَّى كبابًا.
وأنت يا حمادة!
فتقدم حمادة إليَّ ومد يده مُسلِّمًا، وكان وجهه يدل على التأثر، فقلت له: أظنك أنت المسئول عن هذا؟ من أخبر هؤلاء غيرك؟
فقال: يعني يا أستاذ سيد أذهب لأسأل عنك وأعلم أنك في السجن ولا أبعث إليهم؟ يعني كنا كلنا نأكل ونشرب وننام في بيوتنا وأنت تأكل مع المساجين؟ كان لا بد أن أقول لهم ولا بد أن نهتمَّ بك يا أستاذ، والمسألة بسيطة؛ تلغراف: «منتظركم اليوم بالمحطة لأمر هام يخص الأستاذ سيد.» والست الكبيرة دعت لي وهي مرتاحة مع منيرة هانم في بيت الحاج مصطفى، وأنا وفطومة وكلُّنا في الخدمة، ووالله ما يَحمل لك الأكل غيري، يا سلام يا أستاذ! بعض خيرك والله! وكل يوم أطلب مقابلتك والمأمور يرفض، إن شاء الله ربنا يفرجها.
ووضع الشرطي يده على كتفي منبهًا، فنزعت نفسي لأسير معه وأخذت يد حمادة فضغطت عليها، وأبت أمي إلا أن تضمَّني إلى صدرها قبل أن أذهب، وكانت عينا منيرة غارقتَين في الدمع وهي تسلم عليَّ صامتة، وأما عبد الحميد فهمَس إليَّ قائلًا: أنا مُقيم هنا فلا تُفكر في شيء، وعندي كلام كثير أقوله لك قريبًا.
وانصرفتُ مع الشرطي نحو العرَبة المُنتظَرة، وقاومتُ الدافع القوي الذي كان يدفعني للنظر إلى الوراء، ولما أغلق الشرطي الباب من ورائنا قذفتُ برأسي على كفِّي معتمدًا بذراعي على ركبتي، وتمنيت لو أسعفني البكاء حتى أُخفِّف من شدة الضغط الذي كاد يمزق كياني.
وقضيت الليلة الأولى بعد عودتي إلى السجن في أشد من الجحيم، فلم أذق طعم النوم فضلًا عما كنت أعانيه من الآلام والهواجس، كما أني لم أَذُق طعامًا في الغداء أو العشاء، بل وزعت ما جاءني على بعض المساجين الآخرين، ورجوت المأمور أن يَرفُض قبول أي طعام من الخارج من أجلي.
ولم تَنقطِع آلامي وهواجسي في اليوم التالي، وزادني غيظًا أن الطعام استمر يأتي إليَّ برغم إلحاحي في رفضه، فكنتُ أوزعه على زملائي من الأرقام الأخرى، وأعدتُ الكرَّة مرةً ثالثة على المأمور قائلًا له: «إنني أحتجُّ احتجاجًا شديدًا لإرغامي على قبول طعام لا أريد قبوله.»
والظاهر أنَّ حمادة كان يَحتال على إيصال الطعام إليَّ بإهداء بعض الهدايا إلى حراس السجن، فإن المأمور اضطرَّ إلى إحضار رئيس الحراس أمامي وهدده بالعقاب إذا هو تساهل في إدخال أي طعام يأتي باسمي، وبعد ثلاثة أيام من هذا الاحتراق المُستمر شعرت في الليل بقشعريرة شديدة والتهاب في الزور، وقمتُ في صباح اليوم الرابع لا أكاد أقدر على بلع ريقي، وتردَّدتُ في أن أعرض أمري على المأمور فتحملتُ آلامي ولم أَذُق شيئًا من طعام السجن الذي جاء إليَّ، ولو كنت في تمام صحتي لما وجدتُ له شهوة؛ إذ كان لونه ومنظره يكفيان لصد النفس عنه، ولما أقبل الليل خيَّمتْ على قلبي كآبة شديدة زادتْني ألمًا على ألم وزادَت حرارة جسمي حتى كنتُ أُحسُّها في أنفاسي المكروبة ورأسي المصدَّع وأعضائي النابضة بالوجع، وخشيت أن يكون قد أصابني مرض خطير يقضي عليَّ قبل الصباح، فتحاملت على نفسي حتى وصلت إلى الباب، فدققتُه لأدعو السجان، وبعد حين فُتح الباب وسألني الرجل في لهجة اللائم عما أريد، فلما علم أن الأمر لا يَزيد على أني مريض أجابني قائلًا: وماذا أصنع لك؟
ثم أغلق الباب وانصرف عنِّي بغير أن يزيد كلمة، ولم أجد فائدة في إعادة الكرَّة عليه فتهالكتُ على سريري، وألهاني الوجع عن التفكير في فظاظة ذلك السجَّان، وأغلقتُ عيني لأغريها بالنوم، ولكن سلسلة من أخيلة مَحمومة لا معنًى لها أغرقت وعيي، وجعلت تَتطارد وتتواثَب في شبه حلم مُضطرب، وعادت إليَّ القشعريرة أشدَّ مما كانت في الليلة الماضية فقمتُ أبحث عن شيء أتغطَّى به فلم أجد شيئًا، وجعلت أنتفض وأرتعدُ ساعة طويلة حتى زال البرد وهجمَت عليَّ حرارة شديدة كادت تُزهق رُوحي.
وطلَع الصباح آخر الأمر وطلبتُ من السجان أن يُبلغ المأمور أني مريض، فما هي إلا ساعة قصيرة حتى جاء الطبيب ليَفحصني، ولو كنت قطة مدلَّلة لكانت عناية الطبيب بي أكثر من عناية ذلك الرجل الذي جاء إليَّ فنظر إلى وجهي ثم قال: ماذا تشكو؟
فأشرت إلى زوري قائلًا: زوري أولًا، وقد بدأتُ أسعل في آخر الليل سعالًا شديدًا، وجسمي هامد، ورأسي مصدع، ولم أَذُق النوم، وانتابتْني في الليل قشعريرة شديدة.
وأظن حرارتي …
ولكنه لم يصبر حتى أتمَّ قولي.
فقاطعني ساخرًا: يظهر أنك تَعرف كل شيء، فلم يبقَ إلا أن تُشخِّص المرض.
فقلت مُغتاظًا: وماذا أعمل وأنت تسألني؟
فقال في جفاء: هذا شيء عادي يحدث كل يوم.
وهمَّ أن ينصرف.
فقلت في حنق: أليس لهذه اللوز المُلتهبة دواء؟ أظن واجبك لا يقتصر على كتابة شهادة وفاتي.
فقال غاضبًا: لم أَنتظِر تشريفك حتى تعلمني واجبي.
وأدار ظهره وانصرف، وسمعت وقع الأقدام تتباعد وأنا في شبه غيبوبة.
ولم أعرف ماذا حدث بعد ذلك حتى صحوتُ لأجد نفسي في غرفة أخرى وإلى جنبي سيدة في ملابس المُمرضات، ولما هممتُ بالقيام قالت في لهجة أجنبية: أرجوك أن تهدأ الآن.