الفصل السادس والعشرون
مرت ساعة طويلة قبل أن أعرف أني في مستشفى الحُميات، وأني نُقلت إليه في الساعة السابعة من الصباح، وعاد إليَّ شيء من القوة في ساعة الظهر فاستطعت أن آكل الطعام اليسير الذي قُدم إليَّ، ولم يأتِ الليل حتى كنت أقدر على الحديث، وجاءت السيدة التي رأيتها من قبل وهي كبيرة المُمرِّضات فقاسَت حرارتي وكانت تزيد درجة واحدة عن الحرارة الطبيعية، وأخذت تحدثني وكانت نفسي مُستوحِشة فوجدتُ في ثَرثرتها أُنسًا كبيرًا، ثم أخذَت تَربِط ذراعي من فوق المرفق ومن تحته لتأخُذ عيِّنة من الدم، فلما أتممَتْ عملها أهدت إليَّ قصة لأتسلى بقراءتها، وهي امرأة في نحو الخمسين من عمرها وما يزال فيها أثر من نضرة الشباب والجمال، وزادتها طبيعتها العاطفة حسنًا ورِقَّة.
وبعد أن قضيتُ بضعة أيام في المستشفى بدأت العلاقة تتوثَّق بيني وبين من هناك من المُمرضين والموظفين، بل توثقت الصلة بيني وبين حُرَّاسي وهم من جنود الرديف، وكان أقربهم إلى مودتي الفتى «مجاهد» الذي كان يَنتظِر انتهاء مدته في الجندية، ليعود إلى قريته ويتزوج من ابنة عمه «هَنا»، فكان كلما جاءت نوبته وقف عند باب حجرتي في حديقة المستشفى واضعًا بندقيته بين قدميه، وأخذ يُحدثني عن نفسه وأهله وعروسه «هَنا».
وكان لهذه المودة التي نشأتْ بيني وبين مَن في المستشفى أثر كبير في تخفيف وطأة السجن عليَّ وفي تسهيل زيارات أهلي وأصحابي.
وكانت أول زيارة مُفاجأةً سارة بعد عشرة أيام من انتقالي إلى المستشفى، وذلك في الساعة التاسعة من المساء في ليلة مظلمة كان الحارس «مجاهد»، أو اللواء «مجاهد» كما كنتُ أسميه، يُحدثني كعادته بلهجته الصعيدية الظريفة عن بعض مغامراته في حرب فلسطين، وعرى ذراعه فكشف لي عن جرح كبير فيها وأخذ يَحكي لي قصة ويَمزِج وصفه الساذج بفكاهات ساخرة عن القنابل «الرفاسة» التي كانت دائمًا تَضرِب إلى الوراء كأنها بغال خبيثة، ورأيته يلتفت فجأة ويرفع بندقيته ويصيح في عنف: «من هناك؟» وخيل إليَّ أنه على وشك أن يضرب، فأجابه أحد القادمين قائلًا: «عوض الله»، فعاد إلى وقفتِه الأولى، وتقدم عوض الله أفندي رئيس التومرجية ومن ورائه شخص يتعثر في معطف أبيض من ثياب المُمرضين، ولم أعرف من هو حتى خرج من ظل الجدار وبدأت أشعة مصباح الغرفة تقع على وجهه فصحتُ قائلًا: «حمادة! ماذا جاء بك إلى هنا؟»
وتنحَّى اللواء مجاهد حتى وقف على مسافة بضعة أمتار منا، ولأول مرة في حياتي أخذت حمادة بين ذراعيَّ، وكان يحمل في يده ربطة وضعها على المنضدة قبل أن يعانقني وقلت له: «كيف عرفت أني هنا؟»
فقال ضاحكًا: أمال يا عم، تهرب من السجن بغير أن تترك لنا العنوان الجديد؟
وقام فحل الربطة وأخرج منها صندوق السجاير وعلب الحلوى، وأخذ يقدم منها إليَّ وإلى عوض الله أفندي واللواء مجاهد، ثم أخذ يُحدثني عن أمي وأختي وعبد الحميد والشيخ مصطفى وفطومة، كانت فطومة تريد أن تَحضُر معه ولكنها تكاسلت في آخر لحظة.
فقلت باسمًا: إذن لم تُسافِر إلى دمنهور.
فقال: ما لي أنا يا سيدي، هنا وطني.
فقلت: وانتهيت؟ أقصد عقدتَ العقد؟
فقال: اشترينا الملبس والشربات، وذهبتُ إلى المنزل على حسب وعد الحاج مصطفى، ولكن الست فطومة حلفت ما يُمكن العقد حتى يخرج سي سيد من السجن، قلت: الحق معها، يا سلام يا أستاذ!
وكان عوض الله أفندي قد عاد إلينا بعد أن غاب في جولة بالمستشفى وطلب من حمادة أن يَنصرِف.
وقام حمادة بغير أن يُتمَّ حديثه، وكان وداعه حارًّا، وسار يتعثر في ذيل معطفه الذي استعاره من عوض الله ليستخفيَ به، وغاب وراء ركن البناء بعد قليل، وبقيتُ وحدي جالسًا على الكرسي الطويل سابحًا في تأمل هذا الرجل العجيب حمادة الأصفر، لم أستطع أن أعرف حقيقته منذ كنا أطفالًا، ولا عندما كان يتمرَّغ في الأوحال، ولم أستطع أن أعرف حقيقته بعد وهو يتخطى الأسوار ويُعرِّض نفسه للمتاعب من أجل زيارتي.
وقطعَتِ الأخت مرسيديا كبيرة الممرضات سلسلة أفكاري عندما جاءت لتأخذ عينة الدم من ذراعي، وتُعطيني الحقن كما كانت تفعل كل ليلة.
وقلت لها ضاحكًا: أهي مؤامَرة لنزف دمي؟
وكانت لها طريقة ظريفة في معاملتي تُشبه طريقة الأم إذا أرادت أن تتغلب على مقاومة طفلها العنيد في رفق، فاستسلمتُ لها حتى فرغت والتفتت إليَّ قائلة: هذه مكافأة صغيرة على طاعتك. أظنها قصة تُعجبُك وهي من أحدث ما ظهر.
فقلت وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب: أتعجُبني من أجل هذه الصورة؟
وكانت صورة امرأة غجرية حسناء تكاد تكون صورة فطومة.
فقالت مرسيديا: هذه «ردمويا»، هي امرأة متوحِّشة لم تُفسِد المدنية طبيعتها الأصيلة؛ ولهذا تنطق بما يقول قلبها.
فأخذت أقلب الصفحات وأنظر إلى الصور الأنيقة التي فيها، وهي تمثل الغجر الذين يقيمون في خيامهم في قلب المدينة كما كان يعيش الإنسان الأول.
وكانت قصة مسلية مؤثِّرة في وقت واحد، فتاة غجرية حسناء يتَهافت على خطبتها شباب القبيلة، وكان أحرصهم على الفوز بها «نمرادا» ابن شيخ القبيلة، وهو فتًى ممشوق القامة، جميل الصورة، ولكن «ردمويا» رفضَت حبه وقالت له تتحداه: «دمائي لا تألفُك.»
ولم أستطع أن أقاوم ميلي للقراءة برغم تحذير الأخت مرسيديا، ألا أطيل السهر، وأخذت أقرأ في تمهُّل بغير أن أجد في مدخل القصة شيئًا يسترعي اهتمامًا خاصًّا، ثم بدأت صور الأشخاص تتمثَّل في ذهني كأنها تخرج من وراء ضبابة، وبدأت آنس إليها وأعرفها، ولم أشعر بمضي الوقت حتى شعرتُ بيد تَخطف القصة منِّي، وسمعت صوت مرسيديا تقول في غضب: الحق عليَّ أنا! ألم أقل لك ألا تقرأ هذه الليلة؟ أهكذا تَسهر إلى الساعة الواحدة من الصباح؟
ولم تتركني حتى رقدتُ في فراشي وسوت عليَّ الغطاء وأطفأت النور وأغلقت باب الغرفة وأخذت الكتاب في يدها، ولم أستطع أن أنام فبقيت أستعرض مَناظر القصة التي كانت تمر أمام عيني مثل فيلم ناطق.
أم ردمويا تقول لها: عجبًا لك إذ ترفضين نمرادا! هل تُخفين عنِّي سرَّكِ يا ردمويا؟ أتحبين فتًى آخر؟ حاذري أن يكون قلبك متعلقًا بمن لا يهتم بك.
فقالت ردمويا ضاحكة: ألستُ أختار لنفسي يا أمي؟
فقالت الأم غاضبة: أيام الشباب قصيرة يا ردمويا؟ والزهرة تذبل سريعًا.
فقالت ردمويا: لستُ حمقاء أو غبية يا أمي، ولا أريد أن أضيع حياتي، كيف أهب قلبي كما يوهب العبد؟
فقالت الأم في حنان: لا تَنخدعي بالأوهام يا ردمويا، عندما يقول قلبك: «لا» قد يكون قصده «نعم»، هكذا نحن يا حبيبتي إذا تسرعنا.
فقالت ردمويا: لم أتسرَّع في شيء يا أمي، قضيتُ شهرًا أُغنِّي وأرقص لعل قلبي يرضى، وقضيتُ شهرًا آخر أحرق البخور كل ليلة لنجم الشِّعرى لعله يهديني، ولكن قلبي كان دائمًا يقول: «ليس نمرادا رجلي.»
فصاحت الأم غاضبة: لا تقول هذا فتاة أخرى في القبيلة، كلهنَّ يَبتسِمن له ويرمينه بالحصى من أجلِك.
فقالت ردمويا في تأثر: ليس هو رجلي، هو أنيق مثل عود السَّرو، وصوته ناعم كصوت اليمام، وهو ابن شيخ القبيلة الذي يملك الذهب، ولكنه لا يُحسن إلا تسلق الشجر الأملس، لا يقدر نمرادا أن يُذلِّل الجواد الحرون ولا يشق الأمواج الثائرة، ليس نمرادا رجلي.
فصاحت الأم في يأس: رجلك إذن خيال في السحاب أو شبح في ضوء القمر.
وتركتها ذاهبة إلى الخيمة في حنق: ووقفت «ردمويا» وحدها تحت السماء تنظر إلى نجم الشِّعرى وتُحدِّث نفسها قائلة: ليس هو نمرادا.
هكذا كانت ردمويا تتحدث؛ لأنها تعرف قيمة حياتها، ولا تريد أن تضيعها، قضت شهرًا تحرق البخور لنجم الشعرى ليهديها حتى لا تخطو خطوة حمقاء لأنها ليست مثلنا تتخبط مع الأهواء الزائفة في أخطر موقف في حياتها، فأين هي من منى التي تقول لي: «لم أُفكِّر في أمر هذه الخطبة؟»
ومتى تفكر إذن؟ أم هي تُريد أن تهب قلبها كما يوهب العبد؟
وتمنيت لو استطعت أن أكتب في يوم من الأيام قصة مثل «ردمويا» لأعلِّم الناس مسئولية المرأة في اختيارها؟ ولكن ماذا صنعت «ردمويا»؟ أين هي القصة؟ أوه! كان في وسع الأخت مرسيديا أن تتركَها هنا بدلًا من جعلي أنتظر حتى تأتيَ إليَّ في الساعة الثامنة من الصباح.
هكذا بقيت أحدث نفسي وأنا مغمض العينين، ولا أدري متى دخل النوم إليهما.