الفصل السابع والعشرون

أصبح عالَمي بعد قليل محصورًا في ذلك المستشفى وأهله؛ الأخت مرسيديا واللواء مجاهد والدكتور عوض الله أفندي، وكانت زيارات أهلي وأصدقائي تقطع رتابة تلك الحياة الهادئة التي بلغَت مبلغ الركود، وتُدخِل إلى وحشتي شعاعًا من الأنس، فكنت أنتظرها في تلهف وأتخذ من كلٍّ منها ذخيرة أتصبَّر بها حتى تحين الزيارة التالية، ومن عجيب الطبع البشري أننا نقبل ما تُحتِّمه علينا الظروف، ونلائم بين أنفسنا وبين الأحوال التي نتقلب فيها، ولو لم تكن فينا هذه المقدرة على الانطباع بالظروف المتغيِّرة لما استطاع كثير منا أن يُطيقوا حياتهم إذا تغيَّرت أحوالهم من اليُسر إلى العُسر أو من الغنى إلى الفقر أو من الجاه إلى الخمول، ولولا هذا الطبع لما استطاع إنسان أن يعيش يومًا واحدًا إذا فقد الحرية وهي الهبة الأولى التي تميِّز الحياة الإنسانية، وتَجعل لها معنًى، الطير والوحش إذا حُبست وحيل بينها وبين حرية الفلوات والفضاء لا تطيق صبرًا على الأسر، وقد تَنتحر أو ترفض الطعام والشراب حتى تموت، ولكن الناس يتمسَّكون بالحياة وإن كانت في سجن مُظلِم تحت أطباق الأرض، وقد عجبت كثيرًا وأنا في سجن الاستئناف من فتًى كان محكومًا عليه بالإعدام ولم يبقَ من عمره إلا أن تنظر محكمة النقض في أمره، ولكنه كان يأكل ويشرب ويضحك ويُهرِّج، ولا يكاد من يراه يَحسبه مهمومًا بشيء، ولو أنه خُيِّر بين الموت وبين البقاء في سجنه طوال حياته لما تردَّد في اختيار السجن مع كل ما فيه من ضيق وعذاب وألم لا يُقاس به ألم الإعدام في لحظة قصيرة.

ومهما يكن من الأمر فقد استقرَّ بي المقام في حجرتي المنعزلة في المستشفى أترقب زيارات أهلي وأصدقائي كما يترقَّب الطفل صباح العيد، وقد صار الناس جميعًا في نظري أعزَّاء والذين كانوا أعزَّاء من قبل أصبحت حولهم هالة من الحنين تشبه القدسية، وأما أهل عالَمي المحدود فقد أصبحَت لكلٍّ منهم عندي شخصية خاصة به، ومكانة لا يملؤها سواه.

وقد جاءني الشيخ مصطفى حسنين ذات يوم، فلم أتمالَك عيني من الدمع عندما عانقني وهو يبكي، هكذا نحن معاشر البشر نقيس الأشخاص والأشياء والأمور بمقاييس متقلِّبة تَختلف مع أهوائنا ومع مشاعر الساعة التي نكون فيها.

وكان حمادة من أكثر أصحابي تردُّدًا على زيارتي ومن أشدهم عناية بأمري، فلا يكاد يخلو يوم من زيارة يؤنسني بها وحده أو مع غيره، وكان قلبي يتوجَّع كلما تذكرت أن منى لم تسأل عني، أما سألت يومًا عن أختي منيرة؟ أما عرفت أنها سافرت مع أمي إلى القاهرة لتكونا قريبتَين منِّي؟ وهل يمكن أن يخفى خبر سجني عنها مع أن الأخبار تنتقل في دمنهور مثل تردُّد الصدى في الوادي الضيق؟

ولكن كنت أعود دائمًا إلى نفسي فأراجعها معتذرًا عنها، فما أدراني أنها عرفت ما أنا فيه؟ وأما الأستاذ علي مختار فإنه لم يأتِ لزيارتي مرةً، ولم يحضر في يوم جلسة من جلسات المعارضة، بل إنه لم يبعث إليَّ بكلمة مع أحد أتباعه، كان ساعي مكتبي هو الرجل الوحيد الذي جاء ليُواسيني ويقول لي: «تشجع.» وهممتُ مرارًا أن أسأل صديقي عبد الحميد عنه، ولكني تكبَّرت أن أسأل عن رجل يتخلى عني هكذا مع أنه شريكي في كل كلمة أنشرها.

وجاءني عبد الحميد عياد يومًا وكان معه أحد أصدقائي من المحامين الشبان، وذلك في الليلة التي تَسبق جلسة المعارضة الثالثة، وبدا لي صاحبي على غير ما كان منذ رأيته آخر مرة، عاد كما عرفته من قبل مستقيم العود حاد الملامح هادئ الحركات رصين النبرات، وكان في مظهره شيء كثير من العناية التي تَقرُب من التأنق، ودار أكثر حديثنا حول جلسة المعارضة، ولكن المحامي الشاب لم يكن يعرف شيئًا عن القضية، وخُيِّل إلي أنه لا يعبأ كثيرًا بأن يعرف عنها شيئًا، فشعرت من حديثه بكثير من الضيق حتى لقد تمنَّيت لو حدث شيء يحول بينه وبين حضور الجلسة، ولما انصرف بعد زورة قصيرة مع صاحبي عبد الحميد، هجم عليَّ سيل من الهواجس حتى صارت الساعة الثانية بعد نصف الليل، واضطربت الأفكار السوداء حولي من كل جانب، وأخذت أسأل نفسي عما يكون إذا حكم القاضي باستمرار حبسي مرةً بعد مرة، فهل تبقى أمي وأختي بالقاهرة تقيمان في غرفتي المحطمة؟ وهل عندهما ما يكفي لنفقتهما التي ضاعفتُها عليهما بحَبسي؟ أم أتركهما هكذا لصاحبي عبد الحميد ينفق عليهما وأنا كالمفقود في سجني؟ وقد جعلتني هذه الهواجس أشعر بأنني قد اقترفت جريمة شنيعة؛ لأني لم أفكر في أن ما يُصيبني لا يقف عند شخصي، فلو كنت وحدي في الحياة لكان مقامي بالسجن لا يَزيد على مغامرة تخصُّني ولا تمسُّ غيري، ولكني جنيت على أمي وأختي وأرغمتهما على أن تُغامرا معي بغير أن يكون لهما شعور الرضا الذي يصاحب المغامرة، وقد ألح هذا التفكير عليَّ حتى صرت أقول لنفسي: «من أجل أي شيء أُقدِم على هذا التضحية؟ من أجل حرية بلادي؟ وكل هؤلاء الذين يستقرُّون في بيوتهم ألا يُحسُّون شيئًا من أجل حرية بلادهم؟ ألا يزعم الأستاذ علي مختار مثلًا أنه مجاهد في سبيل الحرية؟ وأين هو الآن؟ أليس يقيم سعيدًا في بيته؟ وماذا يكتب يا ترى في بريد الأحرار؟ لا شك أنه محا عنوان «أنا الشعب»، وجعل في مكانه عنوان قصة عاطفية تغري بالقراءة مثل «غرام غانية» أو «الحب المحرم».

وعندما بلغ بي التفكير إلى هذا المدى تنبَّهت إلى أن الجزَعَ قد استولى عليَّ وجعلني أنكر كل عقائدي وأُبدِّل كل آرائي، فهل كنت هازلًا عندما آمنتُ بالثورة وبالجهاد من أجلها؟ أهكذا أنكل عند أول صدمة وأسمح لضَعفي أن يغلبني حتى أكفر بأعز ما آمنتُ به وأمحو بيدي تلك الصورة التي نصبتُها أمام عيني لتكون أمنية كبرى تجعل لحياتي معنى؟ وأخذتُ أستعيد لنفسي ذكرى وقفتي عند قبر أبي؛ إذ خُيِّل إلي أني أسمع صوتَه يقول لي: «إن الحياة تناديك يا ولدي.» وتذكرت أني عاهدته على أن أُؤدِّي واجب حياتي، وماذا تكون قيمة هذا الواجب إذا كان أداؤه لا يحملني الآلام ولا يُكلِّفني المتاعب؟

وثَقُل جفناي آخر الأمر بالنوم، ولكنه كان نومًا متقطعًا مُضطربًا، وقمت في الصباح الباكر لأستعدَّ للذهاب إلى المحكمة وجاءت الأخت مرسيديا بنفسها لتحمل إليَّ إفطاري وتُودِّعَني معتذرة بأنها ستكون مشغولة عنِّي، ولعلها لا تراني قبل خروجي، وقالت لي وهي تهز يدي: «أرجوك أن تسأل عنا بالزيارة بعد أن يُفرَج عنك، فسيُفرَج عنك اليوم بغير شك!» وقلت لها باسمًا: إلى اللقاء يا ملاكي.

فضحكَت ضحكةً عالية وقالت: لقد تعلَّمتَ الملاطفة هنا.

وانشرح صدري لكلمتها واستبشرت بالفرج القريب، وكان وداع عوض الله أفندي لا يقلُّ عن وداعها بِشرًا وظرفًا، وكان أسفي عظيمًا؛ لأني لم أودِّع اللواء مجاهد؛ إذ كان ذلك اليوم غائبًا عن المستشفى.

ولما خرجتُ في العربة ذاهبًا إلى المحكمة ظهرت المدينة أمام عيني باهرة، كأنها منظر أنيق لم يقع عيني عليه من قبل، وكنتُ أحس في بدني قوة جديدة من أثر العلاج الذي كان أكبر الفضل فيه للأخت مرسيديا، فاستقبلتُ نسيم الصباح في صدري رطبًا عطرًا يملؤني نشاطًا واستبشارًا، وكنت ما أزال محتفظًا في جيبي بالمائة جنيه التي ردَّها إلى حمادة الأصفر وبعشرين جنيهًا أخرى كانت معي من قبل، فما كدت أرى صاحبي عبد الحميد واقفًا عند باب المحكمة، حتى أخرجت المحفظة ودفعتُها إليه بعد التحية قائلًا: خذ هذه النقود فأوصِلها إلى أمي، وأرجوك أن تحملها على العودة إلى دمنهور إذا حكم القاضي باستمرار حبسي.

فقال عبد الحميد باسمًا: فإذا رفَضَت؟ على كل حالٍ أرجو أن يكون الحكم بالإفراج عنك.

ولم أجد وقتًا للمجادلة؛ لأن الحارس جذبني في رفق من ذراعي ليسير بي، وقلت مختصرًا: أترك كل شيء لتقديرِك، وعلى فكرة أرجو أن تبعث إليَّ ببعض أعداد بريد الأحرار.

وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيت عبد الحميد ينظر إليَّ مبهوتًا وهو يسير إلى جانبي.

فقلت: ألم تَسمعْني؟

فقال في صوت خافت: لم أُرِد إزعاجك بالحديث عن بريد الأحرار.

فصحت: ماذا حدث؟

فقال: هي مغلقة من يوم القبض عليك.

فقلت في دفعة: والأستاذ علي مختار؟

فقال: هو مثلك سجين غير أنه يستعدُّ لعملية جراحية.

فرفعتُ يدي إلى رأسي بحركة قسرية وهجمَتْ عليَّ موجة شديدة من حزن مختلط بالأسف على ما سبق من سوء ظنِّي بالرجل.

واستمر عبد الحميد قائلًا: وأحبُّ أن أقول لك: إن مرتبك وصل إلى الوالدة في أول الشهر، فلا تُزعج نفسك بالتفكير في شأنها.

وكنا قد وصلنا عند ذلك إلى قاعة المحكمة، وكانت المقاعد مُزدحِمة بمن فيها، ولمحت أمي وهي جالسة تمسَح دموعها بمنديلها في الصف الثاني، وأما منيرة فكانت تنظر نحوي وهي جالسة إلى جانب أمي وتُحاول أن تبتسم ووجهها يتحرك حزينًا، وتعمدت أن أظهر طبيعيًّا فتبسمت لهما وحركت يدي نحوهما ثم أدرتُ بصري عنهما حتى لا تنفجر دموعي.

ثم أخذ القاضي في نظر قضيتي وهو هادئ، وكنت مشغولًا عنه بما في داخل نفسي، ثم بدأتْ بعد حينٍ مرافعة المحامي، والظاهر أنه لم يجد وقتًا في الليلة الماضية ليقرأ دوسيه التحقيق؛ إذ كان دفاعُه سقيمًا متردِّدًا لا روح فيه، وختم مرافعته باعتذار سخيف يزعم فيه أني لم أقصد شيئًا من وراء ما كتبت، وأنني أضمر لرجال الحكومة كل تقدير وتبجيل، فكدت أصيح به أن يسكت وشعرت بالدم يتدفَّق إلى وجهي ورأسي، وما كاد يفرغ من مرافعته حتى اندفعت أُكذِّب ما قاله، وأخذت أُبيِّن في وضوح أنني لم أكن هازلًا عندما كتبت مقالاتي، وأنني أشعر شعورًا عميقًا بواجبي في مجاهدة الفساد والانحلال بكل ما أملك من قوة، وهي قوة قلمي. ثم انطلقت أتحدث عما سميته «التَّفاهات المسكينة» التي أغرقَ فيها رجالُ الحُكمِ أنفسهم، وأوشكوا أن يُغرقوا فيها البلاد معهم، وختمت دفاعي بصيحة عالية ناديت فيها كل من يقدر الكرامة الوطنية والحرية ومصلحة البلاد أن يعمل على إزالة الحكم الفاسد حتى لا يجد في نفوس الأمة دعامة يستند عليها.

وكانت كلمتي الأخيرة مصحوبة بإشارة قوية من يدي وخبطتُ على القضبان الحديدية التي أمامي قائلًا: «إن الحُكام لا يستمدُّون سلطانهم إلا من الأمة، ويفقدون كل حق في السلطان إذا تخلَّت عنهم الأمة.» وكانت القاعة ساكنة في أثناء دفاعي كأنها خالية، ولما فرغت من قولي تلفَّت حولي وكانت الوجوه ساهمة شاخصة نحوي، وكان عبد الحميد ينظر إليَّ حزينًا واجمًا، وأما أمي وأختي فإنهما كانتا تبكيان بكاءً مرًّا.

ونطق القاضي قائلًا: «الحكم بعد أسبوع.» هكذا دائمًا! وكان وجهه هادئًا كأنه يقول: «عليكم السلام.» وخرجتُ من قاعة الجلسة، ونزعت نفسي من حلقة أهلي وسرتُ مع حارسي حتى ركبنا العربة وفي قلبي عاصفة، وسارَت العرَبة بي وأنا مُطرِق لا أنظر حولي حتى وقفت آخر الأمر عندما سجن الاستئناف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤