الفصل الثامن والعشرون
لم تكن رهبتي من السجن في هذه المرة مثل الرهبة التي وقعت في نفسي عندما جئت إلى سجن الاستئناف أول مرة.
وبدأتْ تستولي عليَّ حالة من التجرد والتأمل صرفتني عن كل شيء، ووطنت نفسي على أسوأ ما أتوقع، واتجهت بقلبي إلى الله تعالى أن يُثبِّت جناني حتى لا يتزلزل، واستكثرت من الكتب حتى صارت لي مكتبة منوعة أستطيع أن أتنقل فيها كما أشاء، وكنت أقضي وقتي بين التأمل والقراءة والصلاة، وما أشقى الذين تخلُو قلوبهم من الإيمان إذا ألحت عليهم الكروب.
ولما جاءني خبر حكم القاضي بعد أسبوع برفض المعارَضة واستمرار حبسي لم أبتئس منه، بل عزمت على أن أصرف نفسي عن التفكير في المعارضة حتى لا أزعزع فكري بالانتظار والتلهف والتساؤل، وجمعتُ كل إرادتي لأستفيد من وجودي بالسجن، فكنتُ أنتهِز كل فرصة للتحدث مع زملائي، ووجدت في ذلك ذخرًا عظيمًا من التأمل.
كنتُ أشعر في أول الأمر كأن بيني وبينهم سدودًا منيعة يتحصَّنون منِّي وراءها، أو كأن لهم قواقع يَنكمشُون فيها كلما أحسُّوا محاولتي في الكشف عن ضمائرهم، ولكني استطعت بعد حين أن أصل إلى قلوبهم وما فيها من صفحات مطوية في الظلمات، والذين لا يَعرفُون من الحياة إلا الجانب الوديع الهادئ الآمن لا يعرفون من حقائق الحياة إلا قليلًا، فالصفحات المطوية في أطباق قلوب هؤلاء تروي قصص المآسي التي جفَّت دموعها، وتحجَّرَ قلبُها، وكثيرًا ما كنت أسأل نفسي هل ولد هؤلاء هكذا؟ لا. لا! لقد ولدوا أطفالًا أبرياء كما يولد الأطفال بغير شك، وكان من أقرب نزلاء السجن إلى مودتي ذلك السجين رقم ٩٢ الذي ذكرتُه من قبل، وهو الشاب المتَّهم بالقتل وكان اسمه «نوفل»، وكان لا يَنقطِع عن الضحك والغناء والمزاح مع علمه بأنه لا يَنتظر في الحياة إلا ريثما تنظر محكمة النقض في أمره، وكان يتحدَّث عن حكم الإعدام كما لو كان فكاهة، وقد جمعَت بيني وبينه ساعات النزهة في فناء السجن، وكنت أحسُّ نحوه عطفًا عجيبًا، كما كنت أحس منه عطفًا عجيبًا، ولم أستطع أن أدرك السر الذي جعل منه رجلًا سفاكًا للدماء مع كل محاولاتي التدسس إلى أغوار قلبه، وقد عرفتُ من أحاديثي معه أنه نشأ يتيمًا منذ قُتل أبوه في معركة من معارك القبائل بالصعيد، وأبى أهله أن يدلُّوا الحكومة على القاتل ليبقى حيًّا حتى يكبر ابن القتيل فيَنتقِم لأبيه.
وظلَّت أمه تُلقِّنه عقيدة الانتقام منذ صغره، حتى أصبح الثأر عنده إيمانًا مقدسًا، فلما صار شابًّا جعل كل همِّه أن يتربَّص بالرجل الذي قتل أباه حتى تمكن من قتله ذات ليلة.
وجاءني نوفل ذات يوم في ساعة النزهة، وانفرد بي قائلًا: أرجوك أن توصي أحد أصحابك بشراء شمعتين لي.
فضحكت قائلًا: أتخاف من الظلام؟
فقال في جد: نذرٌ للحسين يا عم سيد!
فظننتُ أنه سمع شيئًا عن حكم النقض، وقلت له: مبروك! هل جدَّ شيء؟
فضحك قائلًا: جاءني الخبر من البلد، جاءني ولد.
فشعرت بحزن شديد وقلت في نفسي: مسكين!
وأما هو فاستمر قائلًا: حتى لا يَشمَت بي أولاد عوكل.
فقلت: ومن هو عوكل؟
فقال في مباهاة: قاتل أبي.
فقلت: وماذا يهمك؟
فهز رأسه قائلًا: كانت امرأتُه تَشمت بي؛ لأني لم أخلف ولدًا.
فقلت: ألست تخشى مصير هذا الطفل المسكين؟
فقال: مِن أولاد عوكل؟
فقلت: طبعًا، أليست معركة دائمة؟ كل طفل يأخذ بثأر أبيه.
فقال: ولكن الثأر انتهى عندي. لم يفعل أولاد عوكل وإخوته كما فعل إخوتي وأعمامي، ترك أولاد عوكل أمرَهم للحكومة وانتهى الأمر، وحسبُوا أن نوفل انتهى وانقطع ولده.
ولكن الحُسين جدي، وزارني في المنام يُطالبني بنذره، اصنع الجميل يا عم سيد، واشتر لي شمعتين، الحسين جدي والولد سميته حسين، بودي والله يا عم سيد، بودي لو أطير ساعة واحدة لنجع الساقية وأعود، أوصِ لي على شمعتين بحق الحسين يا عم سيد.
واضطربَت نبرات صوته وهو ينطق بكلماته الأخيرة.
ورفع يده إلى عينَيه متأثرًا ثم أسرع عنِّي كأنه يهرب مني.
وأتى عبد الحميد بالشمعتين بعد ثلاثة أيام من ذلك اليوم ليُهديَهما إلى نوفل، وكانتا بيضاوين طويلتين منقوشتين من ذلك النوع الذي يكثر استعماله في الاحتفال بأسبوع الميلاد، وقد عقد لكلٍّ منهما رباطًا من الحرير في أعلاها، ولكن نوفل المسكين لم يرهما؛ لأن موعد إعدامه كان في اليوم التالي، فلم يَنزل إلى طابور النزهة في ذلك المساء.
ولم أبكِ في حياتي مثل بكائي المرِّ في الليلة التالية، فإن ذلك الشاب الذي كان لا ينقطع عن الضحك والغناء والتهريج، مع علمه بأن حكم الإعدام مُعلَّق فوق رأسه كالسيف، قد تبدل فجأة إلى حالةٍ فاجِعة من الجزع والثورة منذ علم بأنه رُزق ولدًا، وقضى الليلة كلها يرسل من غرفته صيحات تُشبه زئير الأسد الجريح، وكان في صوته نغمةُ جزعٍ وحشيٍّ تهز أعماق قلبي، وتبعث الدموع من عيني. هو واحد من ألوف وألوف ساقتْني المصادفة إلى طريقه أو ساقته المصادفة إلى طريقي، فلمحتُ منه لمحةً من المآسي الإنسانية التي تنطوي عليها أطباق الحياة المظلمة، ولم أشعر يومًا كما شعرت في تلك الليلة بأنني لا أعرف من الحياة إلا طرفًا ضئيلًا، وبأنني أكذب على نفسي وعلى غيري عندما أقول: «أنا الشعب.» لأنني أغضب وأنطق عندما أحسُّ بالغضب، ولكن ألوفًا من الألوف لا تستطيع أن تنطق؛ لأنها خرساء، وهناك ألوف من ألوف أخرى من أمثال الطفلين البائسين اللذَين وقع بصري عليهما وأنا محجوز في قسم البوليس. هؤلاء يَنشئون في العراء، كأنهم أعشاب البَرِّ التي لم يَبذُر أحد بذورها.
هم لا يُقدِّمون للحياة شيئًا، بل يَسلبونها أشياء، ومع ذلك فالراعي لا يعبأ بقطيعه إلا عندما يشعر بالجوع فيَذبح خرافه العجاف واحدًا بعد واحد، إنه الراعي الأحمق الذي يستحق مصيره إذا فنى قطيعُه وهلَك هو بعد ذلك جوعًا … ولكن ما بال القطيع؟ ما بال القطيع ينتظر طويلًا على الراعي الأحمق؟
قضيتُ تلك الليلة أحدث نفسي حانقًا حزينًا حتى طلع الصباح الذي حدد لتنفيذ الحكم على نوفل المسكين، ورفعت العلم الأسود فوق قلبي، وبقيت في غرفتي كأن ذلك المحكوم عليه بالإعدام أخي من أبي وأمي، واستمرَّت الدموع تنحدر من عيني برغم كل محاولاتي في التماسك، مع أن المسكين كان قد تخفَّف من كل أشجانه بالموت.
كانت أصداء الصرخات الوحشية التي أرسلها الفتى المسكين في الليل ما تزال ترن في سمعي وتصدع قلبي، وتمنَّيتُ لو استطعت البكاء، ولكني كنتُ أَختنِق بغير دموع، وكانت الليلة التالية من تلك الليالي الحارة الراكدة التي يتعثَّر فيها الخريف في شهر سبتمبر، وزادها شدة لسع البعوض الصغيرة الذي كان يَنتشِر مثل سحابة في الغرفة، واستلقيتُ كأنِّي ضالٌّ مُجهَد في غابة كثيفة لا ينفذ البصر فيها، ويتصاعد من خلالها زئير الوحوش، واجتذبَ نور المصباح بصري كما كان يجتذب أسراب البعوض الصغير، وكانت تَنبعِث منه إلى عيني خيوط ملونة من الضوء تنساب متراقصة وتختلط فيها الحمرة بالزرقة والخضرة، وتتشكل في رسوم هندسية بديعة، وكلما أغمضت عيني ثم فتحتها، خُيِّل إليَّ أن صورًا ملوَّنة تتطاير حول الصباح وتسبح في بطء، وتتواثب كالفراشات ثم تخبو ألوانها شيئًا فشيئًا حتى تزول، فاستغرقت في النظر إليها، وتصورتُها كائنات خفية من أرواح جاءت تسبح في جو الغرفة كالجنيات الصغيرة المرحة التي صورها شكسبير في القصة التي كنت أقرؤها في الليلة السابقة، ولم لا؟ إن الأوهام تخفف عن البؤساء كثيرًا مما يعانونه من الأثقال ولو إلى حين، وما معنى الحقيقة التي نتحدث عنها؟ ألا تكون الحقائق حقائق إلا إذا لمسناها باليد أو ذقناها بالفم؟ وما زلت مستغرقًا في تأمل هذه الصور حتى سُرِّي عنِّي بعض الشيء، وبدأت أسأل نفسي: «إلى متى أبقى هنا سجينًا؟»
ثم هبَّت نسمة خفيفة قبل الصباح، فلطفت من زمتة الحر، وأحسست بأجفاني تسترخي.