الفصل التاسع والعشرون
كان الصباح التالي ألطف هواءً، وكانت الساعات التي نمتُها كافية لإعادة النشاط إلى جسمي، فاستقبلت اليوم هادئًا منشرحًا، وما أعجب طبيعة الإنسان! إننا ننظر إلى العالم، ونحسب أننا نراه خارجنا، وما هو إلا في داخلنا نحن، كانت الغرفة الضيقة هي هي والنافذة الصغيرة ذات القضبان الحديدية والأرض الحجرية الغبراء والسقف الأسود المُطأطئ، كل ذلك كان باقيًا لم يتغير، ولكن شتان بين صورة ذلك كله في عيني في الليلة الماضية وصورتها عندما طلع الصباح.
ولما جاء حمادة لزيارتي في الساعة العاشرة، استقبلتُه مشتاقًا مُستأنسًا؛ إذ لم أره منذ أيام، ولكنه كان على غير عادته فاترًا حزينًا، وبادرني قائلًا: أراك في خير يا سيد أفندي.
فقلت في دهشة: خير إن شاء الله.
فأجاب منكسرًا: مسافر! راجع لبلدي يا عم. كفاية مصر وما في مصر.
فقلت: ماذا حدث؟
فأجاب: لا يا عم! ما لي أنا وما لها؟ أنا من هنا وهي من هناك؛ حد الله يا سيد أفندي، كانت ليلة زفت. تصدق يا سيد أفندي أن فطومة تقول لي كل هذا؟ يا فلاح، يا دون، يا حمار، ولا مؤاخَذة يا أستاذ سيد.
فقلت مُحاولًا تخفيف الأمر: أهذا كل شيء؟
فقال في حزن: لا لا يا سيد أفندي، تَبحث لها عن حمار غيري، أذهب إليها بسيارة محمَّلة بالهدايا وأتحمَّل وأَصبِر ويكون هذا جزائي؟
فقلت: ألا تُخبرني ماذا حدث؟
فقال: اسمع يا سيدي. ذهبتُ إلى البيت وكانت ست فطومة تستعد للخروج. أتدري مع من؟ أتعرف الست هدى؟ النهاية، وحلف الشيخ مصطفى بالطلاق، وبكَت الست فطومة، ورقَّ قلبي لها واستسمحتُ الحاج مصطفى حتى قبل أن تذهب بشرط أن أكون معها، ونظرَت إليَّ الست هدى تفحصني من رأسي إلى قدمي، ثم قالت: بكل سرور، ورُحنا إلى بيت الست هدى في الزمالك، فيلا أنيقة وحديقة وصالة فخمة وجلسنا ننتظر الضيوف. كانت حفلة يا أستاذ فيها رجال ونسوان، وبعد ساعة امتلأت الصالة وصارت هيصة. تَعرف من كان الضيف العظيم يا أستاذ؟ سي محمود خلف، يا خبر؛ وعرفت القصة من عنوانها وبدأتُ أفهم، وقلت لفطومة: «يلا بنا …» وكأني كفَرَت. قالت: مستحيل؛ وهات يا فلاح ويا دون ويا حمار أخجلتْني، ومع ذلك قلت لنفسي: «هدئ نفسك يا حمادة.» وبعد ربع ساعة جاءت الست هدى تَضحك وتطلب فطومة للمقصف. أي مقصف يا ست هدى؟ ورنَّت الضحكة وقالت لي: «تعال معنا يا سي حمادة!» والبنت تكسف البدر والعيون كلها متَّجهة إلينا، وغلى دمي، وقلت: الأمر لله، هي المرة الأولى والأخيرة، وهدِّئ نفسك يا حمادة، وذهبَت ست فطومة، وجلست أنظر إليها من بعيد وهي تضحك مع الضيوف، ولو كانَت صاعقة نزلت على رأسي من السماء كان أهون عليَّ يا سيد أفندي، وبعد قليل ذهب محمود إليها وكلَّمها وضحك معها، وأحسستُ برأسي تلفُّ، فوقفتُ على رحلي وقلت: ليلته زفت، ولكن العيون كانت مفتحة لي، وأقول لك الحق، تسمَّرت في مكاني. النهاية يا أستاذ فاتت الليلة بالطول أو بالعرض، ورجعنا إلى البيت وطول الطريق أخجَلَتْني يا فلاح يا دون يا حمار يا، يا، لا مؤاخذة يا سيد أفندي، وما صدقت أننا وصلنا إلى البيت وقلت: يحرم عليَّ دخوله. أنا من هنا وهي من هنا. تبحث لها عن حمار غيري. من الليلة مسافر إلى دمنهور، وربنا يلطف بك وبنا يا أستاذ.
وكنتُ أُنصت إليه في اهتمام وقلق، وشعرتُ بشيء كثير من الضيق والأسف. لم يكن عدول حمادة عن زواج فطومة هو الذي يُزعجني، بل كان مصير فطومة، بهرتها أضواء المدينة كما تنجذب الفراشة إلى المصباح الذي يَحرقها. أهي سوق رقيق جديدة؟ بخور يُحرَق للشيطان من جثت فطومة وأمثالها.
وتنبَّهتُ إلى صوت حمادة وأنا غارق في تفكيري، وكان يسألني قائلًا: ما رأيك يا أستاذ؟
فقلت غائبًا: في أي شيء؟
فقال: في زواج صاحبك عبد الحميد.
فقلت: هل يُريد الزواج؟
فأجاب: أما كنت أقول لك إني أحب أن أَعرف رأيك؟ إذا كنت تريد أن تزوجه الست منيرة كان بها.
فقلت: وهل هذا من شأني؟
فقال: ومن شأن مَن غيرك؟
فقلت: ماذا تقصد؟
فقال في تردد: أريد أن أسأل. المسألة بسيطة. أظن أن عبد الحميد أفندي يريد أن يخطبها، فإذا كنتَ تُوافق انتهينا، وأما إذا كان لك رأي آخر … أحب أن أعرف؛ لأني أريد أن أبحث …
وتردَّد لحظة فاتحًا فمه في ابتسامة بلهاء، واستمر قائلًا في تعثُّر: هل ترضى بي أنا؟ سأبني لها فيلا والمهر كما تُحب، والأشياء رضا والحمد لله.
فلم أتمالك أن قهقهت من المفاجأة، وقلت: الله يجازيك يا حمادة.
وخبطت على كتفه بيدي قائلًا: ليس هذا من شأني، منيرة هي صاحبة الرأي الأول والأخير في نفسها.
واستمرَّت الضحكة البلهاء على وجه حمادة مدة طويلة، كما بقيت ضحكتي في قلبي طوال اليوم حتى جاءت منيرة لزيارتي في ساعة العصر، فكانت موضع فكاهتي معها.
ولست في حاجة إلى أن أعيد هنا أني قطعت الأمل في الخروج من السجن؛ إذ كان المدعي العام يسير في التحقيق على أكثر من مهله، ومرت الأسابيع تتوالى على وتيرة واحدة، فكنت أقضي الأيام والليالي في القراءة أو الكتابة أو في الحديث مع زملائي في السجن.
ولما بدأت السنة المدرسية سافر عبد الحميد إلى دمنهور، فصارت زيارة أمي وأختي مرة واحدة في كل أسبوع كلما جاء عبد الحميد من دمنهور.
ولم يقطع هذه السلسلة المتصلة من الحياة الرتيبة إلا حوادث قليلة في مدة الشهور الباقية التي أقمتُها في السجن، وأولها إتمام النيابة التحقيق في قضيتي ورفعها إلى قاضي الإحالة الذي أحالها بدوره إلى محكمة الجنايات، وصدر الحكم آخر الأمر بحبسي ستة أشهر؛ لأن القضاء استطاع آخر الأمر أن يجدَ في مقالاتي جريمة العيب في الذات الملكية؛ ذلك الشيء الذي يمس من قريب أو من بعيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تصريحًا أو تلميحًا تلك الذات.
وكان أثر الحكم عندي أقرب إلى أن يكون ارتياحًا؛ لأني كنت أقمتُ بالسجن خمسة أشهر، ولم يبقَ عليَّ من المدة التي حُكم بها عليَّ إلا شهر واحد، كنت مثل بحار في سفينة تتخبط في الضباب، وهو يُمسك قلبه في كل خطوة حتى لا يستسلم لليأس، ثم رأى فرجة في الظلام ولمح الشاطئ أمام عينيه، فمنذ علمت بالحكم تبدَّل استسلامي إلى استبشار، وزال ضغطي على نفسي وكبتي لخلجات أملي، وبدأت أطلق العنان لأحلامي وسبحات خواطري، وكان كل يوم يمر يبعث إليَّ هزة جديدة من التطلع إلى الساعة السعيدة التي عرفت أنها آتية في موعدها.
ومن واجب الوفاء عليَّ لهذه الأيام الأخيرة من إقامتي بالسجن — وقد نقلت إلى سجن مصر — أن أذكر هنا أنني مدين لساعاتها الهادئة بكتابة أكثر فصول هذه القصة التي بدأتها من قبل، وكان هواء الخريف أرفق بي، وبدأت الأيام تقصر، وكان ذلك يتيح لي فراغًا كبيرًا للقراءة والكتابة؛ لأني في العادة أكثر إقبالًا على العمل في الليل.
وقد حدث أمر آخر كان له أثر كبير في نفسي قبل يوم الحرية الموعود بأسبوع واحد؛ إذ جاءني عبد الحميد مع أمي وأختي، وجرى الحديث بيننا حول ميلادي الجديد بعد خروجي من السجن، وكانت أمي تُردِّد رغبتها في أن أذهب إلى دمنهور، وأنفض يدي من الكتابة التي تقذف بي إلى السجن.
وأما منيرة فكانت تُعارض هذا الرأي، وترجو أن أقيم في بيت محترم حتى تستطيع زيارتي بين حين وآخر، وتتمتع بمشاهد القاهرة التي لم تَزُرها مرة واحدة في مدة إقامتي بالسجن، وقد علمت من خلال هذا الحديث لأول مرة أن بريد الأحرار عادت إلى الظهور منذ شهر بعد خروج الأستاذ علي مختار من السجن، فكان من الطبيعي أن أنحاز إلى رأي منيرة في البقاء بالقاهرة.
وقالت منيرة في حماسة: على كل حالٍ لا يَليق بنا أن نُسافر إلى دمنهور قبل أن تقضي بضعة أيام مع منى.
وتمالكتُ نفسي حتى لا أصيح أو أثب من مكاني، وقلت في هدوء: أين؟
فقالت منيرة: هنا في القاهرة، نسيتُ أن أعطيك خطابها، أين هو يا أمي؟ هل أخذته منِّي يا عبد الحميد؟
فقلت محاولًا أن يكون صوتي طبيعيًّا: ومتى بعثت بذلك الخطاب؟
فقال عبد الحميد: طلبت منيرة منِّي في الأسبوع الماضي أن أمر على بيت منى؛ لأسأل عنها وعن صحة السيدة الكبيرة، فأرسلت منى معي هذا الخطاب.
وأخرجه من جيبه وقدمه إلى منيرة.
فقالت ضاحكة: لماذا أخذتَه مني؟ كنت أحب أن أقرأه مرة أخرى.
وفتحته وأخذت تنظر فيه، وكان قلبي يدق عنيفًا.
وقال عبد الحميد باسمًا: لم آخذْه إلا لأنكِ قذفتِ به على مقعد السيارة.
فقالت منيرة: سأقذف به مرة أخرى؛ لأني لا أفهم منه كلمة.
ومدَّت يدها نحوي بالورقة الزرقاء، وكانت مكتوبة بخط صغير أنيق، تذكرته عندما وقعت عيني عليه. هكذا كتبت لي فيما مضى ورقة صغيرة بمثل هذا الخط تقول لي: «ألف شكر.» وأخذت أقرأ في صعوبة؛ لأني كنتُ أنا الآخر ضعيفًا في اللغة الفرنسية.
قالت منى تُخاطب منيرة بما يقرب من هذا المعنى: «كنتُ في هذه الأشهر الماضية أقاسي متاعب كثيرة ما بين مرض أمي وبعض «مشكلات عملية» أخرى، لم يَسبِق لي عهد بها، وكنت أنتظر منك زيارتي ولكنكِ انقطعتِ عني، حتى خفت أن تكوني مريضة، فأرسلت أسأل عنك وعلمت أنك سافرت مع الوالدة إلى القاهرة، وكان من الطبيعي أن أفهم من ذلك أنك سافرت للتمتُّع بمشاهدة العاصمة الجميلة، فعدت إلى مشاغلي الثقيلة، وكنت أتمنى لو كنتِ إلى جانبي، كما كنتُ أتمنى أحيانًا لو كان سيد هنا ليتحمل بعض هذه المتاعب نيابة عني.»
ومن الواضح أني عندما قرأت هذه العبارة أعدتُ قراءتها مرارًا، وشعرت بسعادة عظيمة، وقرأت بعد هذا: «لا يُمكنكِ أن تتصوَّري بردَ دمنهور في هذا العام ولا تلك الأمطار التي لا تنقطع في الليل ولا في النهار، وهذا ما زاد صحة أمي اعتلالًا؛ لهذا لم أحاول أن أعرف شيئًا من أخبارك حتى زارنا الأستاذ عبد الحميد ليسأل عنا ويُهدي إلينا تحياتك الكريمة، ولأول مرة عرفت منه السبب المؤلم الذي جعلك تسافرين إلى القاهرة، فأنت مثلي إذن بل أشد مني ضيقًا. أنا آسفة من أجل سيد، وإن كان حبسه لا يدعو إلى الخجل، ولا عار عليه أن يُحبَس في تهمة صحفية، ولكنها على كل حال كانت مفاجأة شديدة الوقع عليَّ وعلى والدتي، حتى إنها بكت وكادت تُبكيني، ومما يدعو إلى الارتياح أن سيد سيخرج كما علمت بعد أسبوع واحد.
كان الأطباء قد أشاروا على أمي بتغيير الهواء، فعرضت عليها أن نسافر إلى القاهرة لنقيم بها بضعة أيام، فرحبتُ بالفكرة وأظن أنها ستكون فرصة طيبة لنرى المتهم البريء ونهنئه بالخلاص، ما دمنا لم نقدر على مواساته في أيامه القاسية، سأكتب إليك بيوم حضوري وإلى اللقاء يا منيرة، وأنا واثقة من أنك ستقومين مقامي في تقبيل يد الوالدة وإبلاغ اعتذاري إلى سيد …»
وكان قلبي يثب عنيفًا عند كل كلمة تذكرني منى فيها، ولم أرفع رأسي عن الخطاب حتى قرأته مرة أخرى ووقفت عند كثير من فقراته لأقرأها مرارًا.
وحاولت أن أكون طبيعيًّا أيضًا عندما رفعت رأسي آخر الأمر لأعيد الخطاب إلى منيرة، ولكني لم أستطع أن أُخفيَ حماستي عندما سألتني منيرة عن رأيي الأخير في السفر إلى دمنهور عقب خروجي؛ فقد أجبتها سريعًا: لا شك أننا نَنتظِر هنا.
وقبل أن يودعني عبد الحميد عائدًا إلى دمنهور همس في أذني: أحب أن أحتفل بخروجك من السجن بطريقة لا تُنسى.
فقلت في هدوء: هل تكون هنا في الأسبوع المقبل؟
فأجاب باسمًا: هذا يتوقَّف على إرادتك.
فقلت باسمًا: ماذا تعني؟
فقال هامسًا: أعني أني أحب أن أسألك هل تُوافق أن أحتفل بخروجك في الأسبوع المقبل بطريقة مبتكَرة؟ ما رأيك في أن أقيم لك احتفالًا أقدم فيه شبكة منيرة؟
فانطلقت منِّي ضحكة لم أملكها وقلت: أتسألني أنا؟
فقال ضاحكًا: أنا أيضًا دون كيشوت بغير أن أدري. لم أجرؤ أن أسأل غيرك؟
فضغطت على يده قائلًا: لا تكن أبله.
ولاحظت أنه تَحاشى الاقتراب من منيرة وهو منصرف، كما لاحظت أن منيرة نظرت إليَّ في شيء من الارتباك وهي تُودِّعني.
وامتلأ قلبي بعد انصرافهم بسعادة لا تُوصف، وكنتُ أردِّد الدعاء لأختي وعبد الحميد بالسعادة، وبقيت طوال الأسبوع الأخير أطوي في صدري الأمنية الكبرى التي أنتظرها؛ سأخرج من السجن وألقى منى.