الفصل الثالث
عندما ذهبت في اليوم التالي إلى المحلج وجدت السيد أحمد جلال على عادته مهذبًا سمحًا كأن لم يَحدُث شيء في الليلة السابقة، فحمدتُ الله على الرأي الذي اهتديتُ إليه، وزادت ثقتي في الرجل وزاد شعوري بالولاء له، واستمر السيد في تكليفي القيام بتدبير الطعام للعمال في الأيام الباقية من رمضان، ولم يكن لي أن أراجعه في ذلك، فما كان ينبغي له أن يقطع عادته في أثناء الشهر بعد أن بدأها.
وبقيتُ في عملي بعد ذلك شهرًا بعد شهر لا أكاد أفطن إلى مرور الزمن إلا في أول كل شهر إذا قبضتُ مرتبي، وقد زاد السيد أحمد ذلك المرتب بعد بدء الموسم الجديد فجعله خمسة عشر جنيهًا، وجعَلني وزَّانًا فاختفى شعوري بالصغر والتفاهة شيئًا بعد شيء.
وكان العمل في أيام الخريف والشتاء لا يدعُ لي فرصة كبيرة في القراءة؛ لأني كنت أعمل طول النهار إلى المساء بغير راحة إلا ساعة قصيرة عند الظهر، وصار السيد أحمد لا يُكلفني الذهاب إلى البيت لقضاء الخدمات الصغيرة، فلم أذهب إلى هناك إلا مرةً واحدة في مطالع الربيع لأحمل هدية جاءت إليه من أحد أصدقائه في الإسكندرية، وهي علبة بديعة الصنع من قطيفة الحرير يدلُّ مظهرها على أنها تحتوي على حلية ثمينة، وذهبت إلى البيت وكنت لم أقابل مني منذ شهور وكان يومًا من أيام مارس والهواء الدافئ يُعلِن أن الحياة بدأت تدبُّ في الكون. كانت أعواد الأشجار وأوراقها الرطبة والأزهار المُتبرِّجة بألوانها الزاهية وروائحها العطرة تقول: «هذا هو الربيع»، وكانت الطيور المرحة كذلك تَتواثب وتُزقزق وتُغنِّي قائلة: إن الحياة تُجدِّد شبابها، ورأيت منى في الحديقة تتمشى في ساعة العصر بين ظلال الشجر وحدها. لم تكن تلعب كما اعتادت ولم تُسرع إليَّ صائحة مرحبة كما كانت تفعل من قبل. كانت في ذلك اليوم مثل زهرة الفول الأنيقة الناضرة إذا بلَّلها الندى في الصباح، وكان عليها ثوب من الحرير الأبيض ووجهها البارع الحسن يزينه كأنه جوهرة. كان لون وجهها الوردي ولون عينيها اللازوردي وشعرها المتموج الذهبي، كان كلُّ ذلك يبدو أروع من كل مناظر الربيع الجديد، ولما رأتْني أحنت رأسها بابتسامة صغيرة فذهبت إليها لأحييها، ومدَّت إليَّ يدها في هدوء، ولأول مرة نظرت إلى وجهها متأملًا. رأيتها مثل وردة كانت في المساء ناعسة في كمِّها، ثم تفتحت في الصباح عن تمامها وزينتها أسرار الطبيعة المتفننة في الإبداع، وجدتها أمامي فجأة وهي فتاة لا طفلة، وكانت نظرتها صريحة كالعادة، ولكن عينَيها كانتا في لون البحر الصافي العميق، فوقفت أمامها مبهوتًا أتأمل صورتها كأني لم أرها من قبل، ولما مددتُ إليها يدي بالهدية التي أحملها، لم أبتسم ولم أنطق بكلمة، بل إني لم أجب على سؤالها: «ما هذا؟» وارتبكتُ وخشيت أن تسمع دقات قلبي، وما كادت تأخذ العلبة وتفتحها حتى هممتُ بالانصراف، ونظرت منى إلى الحلية ونطقَت بصيحة إعجاب خافتة، ثم نظرت إليَّ لتشكرني، وشعرت بأن وجهي يتَّقد حمرة، ولم أجد وسيلة للخلاص من ارتباكي إلا بأن أنطق بتحية قصيرة ثم انصرفت ووليتها ظهري، وما كدت أصل إلى الباب حتى هبَّت عليَّ عاصفة شديدة من الحنق على نفسي، ولم أَعُد أرى شيئًا أمامي، وسرتُ في الطريق كأنني هباءة تضل في فراغ حتى عدت إلى المحلج وأغرقت نفسي بين أكياس القطن في شيء يُشبه الحنق، وأخذت أكتب الأرقام تارة وأزن الأقطان تارة أخرى لا أدع لنفسي فراغًا حتى أظلمت الدنيا.
ولما ذهبت إلى بيتي في تلك الليلة شهدت معركة من أعنف المعارك التي اضطربت فيها خواطري، كيف وقفت أمام منى هكذا كالصنم الأبكم لا أنطق ولا أتحرك؟ أليست هي منى الصغيرة التي كنت ألعب معها لأدخل السرور إلى قلبها، ولكن ما لقلبي كان يخفق كالمجنون وأنا أنظر إليها؟ وكانت صورتها تتمثَّل لي وعِطرها ينفذ إلى أعماق صدري، وعيناها تُشعَّان بالنور في خيالي، وأصداء صوتها الهادئ تتردَّد في سمعي مثل أنغام الموسيقى، وخطر لي سؤال عجيب في ثنايا خواطري: «ليت شعري كيف أبدو في عينيها؟» ثم حنقت على نفسي وعدتُ إليها ألومها على ذلك السؤال الأحمق، وحاولت أن أصرف ذهني إلى شيء يشغله عن تلك الخواطر العقيمة فأخذت أقرأ، ولكني لم أفهم سطرًا مما قرأت. ثم أخذت أكتب أشعارًا ولكني كنت أُسرع إلى تمزيقها ساخطًا على حماقتي.
وطلع عليَّ الصباح بعد إغفاءة قصيرة في آخر الليل، وكنت أكثر هدوءًا، ولكن إحساسًا جديدًا أو قلقًا جديدًا دبَّ إلى نفسي، وهو الرغبة في أن أترك الخدمة بالمحلج، وقضيت سائر اليوم غائبًا في أحلام اليقظة، أفكِّر فيما يمكن أن أشتغل به من الأعمال إذا تركت عملي بالمحلج، وتساءلت مرارًا: «لماذا لا أستقلُّ بتجارة أكون فيها صاحب عمل لا موظفًا صغيرًا في محلج؟»
لماذا لا أكون مثل السيد أحمد جلال الذي بدأ حياته فقيرًا مثلي، ثم استطاع بكدِّه أن يبني لنفسه تجارة عظيمة؟
وقد استولت عليَّ هذه الفكرة الجديدة، فصارت أمنية دائمة منذ ذلك اليوم، تخبو أحيانًا وتبدو أحيانًا، ولكنها دائمًا هناك في أعماقي.
وكنت أترقَّب بعد ذلك أن يبعثني السيد أحمد إلى بيته لتأدية خدمة لعل عيني تقع مرة أخرى على منى، ولكنه لم يطلب إليَّ خدمة لمدة أشهر طويلة حتى شقَّ الأمر عليَّ مع كل ما حاولته من صرف فكري عن تلك الأمنية وتسخيفي لها. كنتُ دائمًا أذكر منى وهي تسير تحت ظلال الشجر في ساعة العصر وشعرها الذهبي يشبه أشعة الشمس المضيئة.
ومرت أيام الموسم من ذلك العام، فاتَّسع وقت فراغي، واشتدت عليَّ وطأة الفكر، فكنت أقرأ كثيرًا وأكتب كثيرًا وأَخرُج إلى الحقول لألهو عن التفكير في منى، ولكني كنت دائمًا أخرج من الميدان منهزمًا، وكثيرًا ما كان قلقي يَحملني على الحماقة، فأتعمد المرور من أمام بيت السيد أحمد في ذهابي إلى خارج المدينة لعلي ألمح منى من بعيد، فكنتُ إذا لمحتها يومًا عدت إلى بيتي كأنني أطير على الهواء وأتصبر بالسعادة التي فزت بها عدة أيام، وأما إذا لم أفز بتلك اللمحة ذهبت إلى الحقول كئيبًا لأنفِّس عن قلبي بجولة طويلة.
وحدث يومًا أنني خرجت إلى شمال المدينة، فمررتُ بمنزلٍ أنيق له سور من أشجار شائكة تتسلق عليها أعوادٌ مُزدهرة ذات أزهار بديعة الأشكال والألوان، وهزني ذلك المنظر حتى وجدت نفسي أسبح في خيالي، فلم أتنبَّه إلا على صوت بوق يصيح من ورائي، فالتفتُّ فإذا هي عربة كبيرة تكاد تدوسني، فأسرعت إلى جانب الطريق في شيء من الغيظ، ولكنِّي ما كدت أبصر من في داخل العربة حتى وثب قلبي دهشة وسعادة. كانت منى هناك تَبتسم ولوحت لي بيدها، ثم انطلقت بها العربة وأنا ثابت في مكاني. كانت هناك مثل الأزهار التي بدَت لي منذ لحظة فوق السور العالي الشائك، تبتسم ولا أستطيع أن أصل إليها، وتعلقت عيني بالعربة حتى اختفت عني ثم سرت على الطريق وقلبي يدق عنيفًا وأنفاسي تَضطرب، وعادت العربة بعد حين وأنا ما أزال في طريقي، فلما اقتربت منى هدأت سرعتها، فاتَّجهتُ إلى منى، وكانت لحظة من أسعد لحظات حياتي؛ إذ رأيتُها تُلوِّح بيدها نحوي وتبتسم في مرح، وقد بقيَت هذه الصورة عالقة بخيالي لا أنساها، وهي ما تزال محفوظة عندي في القطعة الشِّعرية التي ألَّفتها تلك الليلة بعنوان: «زهرة السور العالي».
ومر عليَّ ذلك الصيف في غمرة لا أكاد أتنبه فيها إلى شيء غير صورة منى، حتى بدأ الموسم الجديد، وبدأت أعود إلى أكياس القطن المكدَّسة في المحلج، وعاد إليَّ قلقي وضيقي من العمل الرخيص الذي حبستُ نفسي فيه، وهل أهوَنُ من وزَّان في محلج؟ كانت هذه الفكرة تعذبني في الصباح والمساء وتزداد بي قسوة كلما اقترنت بها صورة منى.
وفي يوم من الأيام طلب منِّي السيد أحمد أن أحمل إلى البيت مبلغًا من الجنيهات «الفكة»، وكان الوقت ظهرًا والجو مطيرًا، فكنت واثقًا أن منى لا تكون في مثل هذه الساعة في الحديقة، ومع هذا فإني كنت سعيدًا بأن أذهب إلى البيت ولو لم أرها، ودققت الجرس عند باب المنزل الداخلي، لأدعو الخادم، وانفتح الباب، وظهرت أمامي منى نفسها، وكان وجهُها يُضيء بابتسامة هادئة، وعيناها تُشعَّان بالنور الصافي الذي أعرفه، وصاحت صيحة خافتة: سيد!
ولم يُسعفْني النطق لأن دقات قلبي عوَّقت لساني، فمددتُ كلتا يديَّ نحوها قائلًا: مَفاجأة سعيدة.
ثم أُرتج عليَّ فلم أجد كلمة أخرى، فأخرجت ظرف النقود من جيبي وقدمته إليها.
فقالت ضاحكة وهي تأخذ الظرف: هي حقًّا مفاجأة سعيدة، هذا إسعاف أشكرك عليه لأني مفلسة، واليوم عيد ميلادي، وعندي وليمة لبعض صاحباتي … وكنتُ أسأل نفسي من ذا يشتري لي فاكهة ممتازة، فهل تحسن الاختيار يا سيد؟
فقلت سعيدًا: ليس أخبر منِّي بأصناف الفواكه يا منى، وكانت دقات قلبي قد هدأت قليلًا، واستطعتُ أن أستمر قائلًا: وأرجو أن تقبليها هدية منِّي لعيد ميلادك.
فقالت في بساطة: أشكرك. لسنا عددًا كبيرًا. أقة واحدة من التفاح وأخرى من الكمثرى، وبعض وحدات من البرتقال. دعني أذهب لأُدرك الكعكعة قبل أن تشيط.
وأحنت رأسها باسمة ثم انصرفت مسرعة، ولو كانت السماء مفتوحة عند ذلك لانطلقت إليها لأن الأرض كانت لا تسعني، وسرتُ في الطريق والهواء البارد يُرحِّب بي ونور السماء الخافت يبتسم لي والرذاذ المتساقط يرف على وجهي رفيقًا والكون كله يُغني، وكان المطر يَتزايد وأنا سائر حتى صار يَهطل عندما وصلت إلى السوق، وملتُ على دكان فاكهي فاخترت أحسن ما عنده وبعثت به الصبي إلى بيت السيد أحمد بعد أن نفحتُه بقطعة من ذوات القرشَين، وطلبت منه أن يعود إليَّ في القهوة المجاورة بعد أن يوصل الفاكهة إلى البيت، وكانت تلك القهوة مكانًا مختارًا لكثير من زملائي في المحالج، ورأيت جمعًا منهم يضحكون بأصوات عالية حول اثنين منهم يلعبان النرد، وكان جو القهوة خانقًا ولكنه كان دافئًا فخلعتُ سترتي ونصبتها على كرسي لتجف من أثر المطر، ثم جلست وحدي على منضدة بعيدًا عن الزحام، وطلبتُ فنجانًا من الشاي لأستدفئ، وبعد قليل عاد صبي الفاكهي وأعطاني ورقة صغيرة فيها كتابة باللغة الفرنسية: «ألف شكر.» وتحتها الاسم العزيز «منى»، وقرأت الورقة مرارًا ثم دسستُها في جيبي وأعطيتُ الصبيَّ قطعة أخرى من ذوات القرشين، ففرح بها وابتسم بسمة عريضة ورفع يده إلى طرطورِه مُسلمًا وجرى خارجًا، فأخرجت الورقة من جيبي وجعلت أنظر فيها، وكان خطها أنيقًا نظيفًا واضحًا صريحًا أو هكذا تصورته وأنا أرى فيه صورة منى كأنها زنبقة، وأخذت أشرب من الشاي الساخن وأنا أُردِّد بصري في الورقة مستغرقًا في تأمُّلِها حتى تنبهت على حركة في الناحية الأخرى من المنضدة، فالتفت في غير اهتمام لأرى أمامي وجه مصطفى عجوة باسمًا بسمتَه الكالحة، فانقبض صدري وأسرعتُ إلى دسِّ الورقة في جيبي وعدت أشرب من الشاي في صمت، وكنتُ لم أجتمع به منذ ليلة رمضان العاصفة، فخطر لي عندما وقعت عيني عليه أن أسرع في شرب الشاي ثم أنصرف إلى منزلي لأتغدى ثم أعود إلى المحلج.
ولكنه شرع يحدثني فقال: أأنت غاضب مني؟
فلم أُجبْه، وأخذت أرشف بقية الشاي، ولكنه لم يخجل وعاد يحدثني مخلطًا بأقوال شتى تافهة لا تعنيني، ومن العجيب أنني بدأت أستمع إلى أقواله بشيء يشبه الرضى أو الارتياح إلى استطراده من موضوع إلى آخر، وأعجب من ذلك أنني بدأت أرد عليه وأبادله الحديث بعد دقائق، وكان منظر وجهه الغليظ الأزرق بما فيه من حفر صغيرة يشبه في عيني قطعة عجيبة من صنع الطبيعة، وخيل إليَّ أنه من قُبحِ تفاصيله يستهوي البصر في مجموعه، وما زال يستدرجني في الحديث حتى سألني: أتعرف محمود بن محمد باشا خلف؟
وكان سؤالًا غريبًا لا موضع له ولكن غرابته جعلتني أتطلع لما بعده.
فأجبته قائلًا: «كان تلميذًا معي في المدرسة.» وكان محمود هذا صبيًّا سخيفًا مغرورًا غبيًّا، تعوَّد أن يرشو جيرانه ليُملوا عليه الإجابة، وكان كلما قابلنا فتح لنا كفيه قائلًا: «انظروا إلى هذا الوسخ الذي في يدي، إنه صدأ الذهب الذي في خزانة أبي.» فكنا كلما لقيناه بدأناه قائلين: «أرنا كفَّيك يا محمود.» فيفتحهما ويُعيد كلمته المعروفة، وكنا نضحك منه كثيرًا وهو مغتبط بضحكنا، وكان ثرثارًا كثير الادعاء يفاخرنا دائمًا بأنه يأخذ كل يوم دروسًا خاصة في منزله، وكنتُ أتمثَّل صورته باسمًا عندما قال مصطفى: حظوظ يا سيد أفندي. الدنيا حظوظ.
وخبط بيده على المنضدة كأنه حانق.
فقلت له: ماذا تقصد؟
فقال في همس: ألم تسمع بما حدث؟
فثار تلهفي على السماع وقلت في اهتمام: ماذا حدث؟
فقال وهو يصرف وجهه عني: النهاية يا سيد أفندي، لا فائدة.
فزاد قلقي وقلت في ضيق: ماذا حدث؟
فقال محدقًا في وجهي: منى!
وكانت مفاجأة غير مُنتظَرة، وكان الخبيث يرقب كل حركة من حركاتي وانفلتت مني شبه صرخة وارتسَمَ على وجهه ما يشبه التشفِّي واستمر قائلًا: ما لنا نحن يا سيدي؟ أما قلت لك إنها حظوظ؟
وحاولت التراجُع فتمالكت نفسي بعد أن أحسست بما فرط مني، ولكن الخبيث استمر يتحدث كأنه يتعمَّد إثارتي، فقال: محمود الذي خرج من المدرسة قبل الابتدائية! محمود الذي يعرف الجميع أنه لا يساوي مليمًا، محمود الذي لا يعرف من الدنيا شيئًا سوى اللعب والنزهة! يا سلام يا ناس! مصائب يا سيد أفندي، والدنيا حظوظ. نُولَد للهم والغم والتعب ومحمود للعز والسيادة والنعمة ويتزوج منى بنت السيد أحمد جلال!
فصحت في غيظ: من قال هذا؟
فاستمر يقول: يا سيدي قلت لك حظوظ فلنكن نحن في حالنا، نحن نكسب لهم وهم يركبون ظهورنا.
أنت تُعجبني والله يا سيد أفندي لأنك تعرف كيف تُكلِّم هؤلاء بالصراحة، أعجبتَني عندما تكلمت مع السيد أحمد جلال في رمضان. معلومٌ كلهم أنذال وعصابة منافقين، ولكن ما لنا نحن؟ النهاية هذه فرصة لأقدم لك اعتذاري لأني كنتُ أحب أن أقدم لك هذا الاعتذار من قبل العيد، تقول جبان، تقول منافق كما تشاء، ورزقي على الله، ولكنِّي والله مخلص لك، ولولا أني سمعت الخبر بأذني … سمعته بأذني عندما كان الباشا في المنزل. كانت البنت الفلاحة تحمل القهوة وسمعت هذا الكلام، ونقلته إليَّ حرفيًّا، أراك مهمومًا يا سيد أفندي.
فقلت منزعجًا: ماذا تقصد؟ ولماذا أكون مهمومًا؟
فقال ضاحكًا في خبث: عليَّ أنا يا سيد أفندي؟ معذور والله إذا كنت تحزن.
فقلت في دفعة: وماذا يُهمني؟
فقال: أنت تسيء الظن بي دائمًا، أنا أتمنَّى لك خدمة وأنت لا تثق فيَّ أبدًا، ولو كان غيرك ما كنتُ أهتمُّ أبدًا ولكنك لا تصدق. السيد أحمد جلال يقدرك يا سيد أفندي ولو كان غيرك قال كلمة واحدة من كلامك في ليلة رمضان … كان طار في ساعتها، هو يُحبك بالتأكيد ويثق فيك وهو على حق، وهي أيضًا بغير شكٍّ يا سيد أفندي.
وشعرت كأن حجرًا صدمني وعجبتُ كيف ساقني هذا الخبيث إلى هذا المدى في الحديث، وتمنيت لو أنني انكمشتُ حتى أختفي من وجهه السمج أو أن أقوم مسرعًا وأتركه ورائي ولكني مع ذلك بقيت جالسًا مهتمًّا بسماع كل ما عنده، كأن شيئًا يُمسكني برغمي، ولست أدري ما الذي سل مني الإرادة وعقد لساني فلم أتحرك ولم أتكلم بل نظرت إلى وجهه الغليظ جامدًا كأني في كابوس ثقيل، وأعاد كلمته قائلًا: قلت لك الدنيا حظوظ. دعنا نحن في بؤسنا.
ووجدت نفسي أندفع قائلًا: اسمع أيها الوغد، أعرف أنك لا تريد إلا أن تملأ قلبي غيظًا بهذا الحديث، وأحبُّ أن أملأ قلبك الأسود غلًّا وحقدًا، اعلم أني لا أهتم بشيء مما تقول ولا أعبأ بمحمود ولا بغير محمود، وأشعر بأني لا أقلُّ عن أحد ولا يُهمني ما تقول إن الدنيا حظوظ. قل عن نفسك ما تشاء ولكن لا تَحشُرني معك. هل تظن أني أقل من أحد؟
ما معنى حظوظ وغير حظوظ؟ لو كنتُ أريد … وتردَّدتُ فلم أنطق بما كنت أريد.
فقال مصطفى: الحق عليَّ يا سيد أفندي. هذا جزاء المودة والإخلاص الحق علي يا سيدي والناصح دائمًا مكروه.
فقلت: ما الذي جعلك تتكلَّم عن محمود خلف؟ ولماذا تقول لي إن الدنيا حظوظ وإننا بؤساء، كن بائسًا أنت إذا شئت ولكني لا أرى أني أقل من أحد، وهل يبعد أن أصير غنيًّا أنا الآخر؟ لماذا لا أكون غنيًّا مثل السيد أحمد نفسه.
فضحك ضحكة عالية وقال في وقاحة: قريبًا يا سيد أفندي، لا مانع أبدًا، تشجع وأسرع قبل فوات الوقت.
ولولا أني خشيت من لفتِ أنظار من في القهوة ومن تناقل الأحاديث الكاذبة وإثارة قصة طويلة في المدينة، لقمتُ إلى ذلك الوغد وأفرغت فيه غيظي بطريقة لا ينساها، ولكني بلعت شتائمي وكتمت حنقي وقمت من مجلسي مسرعًا فلبست سترتي وخرجت بغير أن أنظر إليه، وكان المطر ما يزال يقطر فسرتُ في الطريق لا أحسُّ بردًا ولا أبالي المطر ولا الوحل وفي عقلي سؤال واحد متشعب وهو: «أحقًّا خطبها محمود خلف؟ وهل يرضى أبوها؟ هل ترضى هي؟ أهي جارية تباع من أجل ثروة الباشا؟»
ولما صرت في غرفتي أخرجت من جيبي قصاصة الورق التي بعثتها منى، وأخذت أقرؤها وأعيد قراءتها وأنا حزين بائس، ثم قبلتها ووضعتها مترفقًا في ظرف وجعلتها في مصحف صغير أضعه في درج مكتبي.
وجاءت أمي تدعوني للغداء فكذبتُ عليها قائلًا إني أكلت، وقمت إلى سريري فاستلقيت متعبًا مضطربًا في حالة بين النوم واليقظة تشبه الذهول أو الدوار، وأخذت الرُّؤى تتوالى عليَّ كأنها حقائق، فرأيت كأني أعوم في بحر صاف أشق ماءه في رفق وهدوء، ثم كان البحر يتحول فجأة إلى هواء أسبح فيه مثل الطير ويملؤني شعور بالاستعلاء وأنا أشرف على الأودية والجبال في اطمئنان ثم تهب عاصفة فأجد نفسي أجاهد في موج عال له رءوس بيض تشبه أكوام القطن وتعلو في أنفي رائحة عطنة تشبه الروائح التي أعرفها في حارات دمنهور بعد نزول المطر، فأكاد أَختنق وأقوم من غفوتي لاهثًا، ولكني لا ألبث أن أرى كأني في براح واسِع في آخره حديقة مُزدهِرة أريد أن أذهب إليها فإذا لصوص يخرجون عليَّ ويهاجمونني ويتقدم مني أحدهم بوجه غليظ يُريد أن يطعنني بخنجره، ويحاول أن يأخذ منِّي الورقة التي بعثتها منى، فأهجم عليه وأنزع منه الخنجر وأرفعه لأضربه فيصيح صيحة عالية بصوت مصطفى عجوة فأقوم مُنزعجًا، ثم أعود مرة أخرى فتبدو لي منى من بعيد فأسرع نحوها لأعتذر إليها ولا أدري لماذا أعتذر، فأقف أمامها صامتًا أمدُّ إليها يدي، ولكنها تختفي فأشرد وراءها في اتجاهات شتى حتى أرى بابًا مغلقًا فارتدَّ عنه حانقًا، ولكني أجد الأرض زلقة فأحاول أن أقفز منها إلى سطح رخامي أسفل منِّي بنحو مترَين فأرى كلابًا غريبة الشكل مخيفة تنظر نحوي مُهدِّدة فأستيقظ وقلبي يخفق خفقانًا شديدًا، وكان المساء قد بدأ يهبط بظلامه فوثبت من سريري لأوقد المصباح وسمعت صوت أمي تناديني: أصحوت يا سيد؟
وفتحتِ الباب قائلة: قم لتَذُوق الكعكة التي أرسلتْها منى. يا رب يا ابني أعيش حتى أرى لك عروسًا مثلها، قم معي فقد جهزت الشاي حتى لا يبرد.
فقمت آخذًا بذراعها وكنت سعيدًا لأقوم من غفوتي على هذه البشرى، هدية منى؟
وقلت لأمي: أنت أجمل الأمهات جميعًا.
وانحنيت لها باسمًا، وأشرت إليها إشارة متأنِّقة لتجلس في صدر المائدة، فجلست تضحك ضحكتها الطيبة وجسمها يرتجُّ وأخذت تدعو لي.
وقلت: أين منيرة؟
فقالت: نسيتُ أن أقول لك. ذهبت مع منى.
فقلت في دهشة: منى؟
فقالت أمي وهي تضحك: والله يا ابني أصبحت مثل أمي المرحومة: أقول أول الكلمة وأنسى آخرها. أما قلت لك إن منى جاءت إلى هنا؟ ولما رأتني انحنَت على يدي وطلبت أن تذهب منيرة معها، قلت لها: «هي أختك يا حبيبتي.» وذهبت معهما لأوصلهما إلى العربة عند أول الحارة.
وكانت سعادتي بهذه الزيارة التي لم أنتظرها تُعادل أسفي على أني لم أكن متيقظًا لأستقبل منى.
ومددتُ يدي بالطبق لتقطع لي أمي نصيبًا من الكعكة، وذهب عني أثر تلك الأحلام المزعجة التي أفزعتني، وكانت الكعكة من ألذِّ ما ذقته في حياتي، كما كان الشاي عطرًا منعشًا، وجاءت منيرة قبل أن نقوم عن المائدة فأخذت تقصُّ علينا حديث الحفلة التي دعيت إليها، وكانت هي الأخرى سعيدة بأن جددتْ عهدها بصديقة طفولتها.
وذهبتُ في اليوم التالي إلى عملي في المحلج بقلبٍ خفيف، وكان ضغط العمل شديدًا، ولكني لم أشعر منه بتعب ولا ضيق، ولم أعبأ بمصطفى عجوة الذي كان في ذلك اليوم على غير عادته يتظاهر بالسلطان ويَسير هنا وهناك بين بالات القطن صائحًا بالعمال شاتمًا مؤنبًا كأنه يريد أن يقول: «أنا هنا.»
ولما أوشك عمل الصباح أن ينتهي جاء مصطفى إليَّ ووجهه يلمع أكثر من عادته وقال لي بصوته المجوف: ألا تحبُّ أن تشرب معي كوبًا من الشاي؟
وكان أول خاطر همَّ بنفسي أن أقول له: «امش من هنا.» ولكني لم أجبه ومضيت في عملي صامتًا، فعاد قائلًا: «عندي كلام هام أريد أن أقوله لك.» فثار الفضول في نفسي برغم اشمئزازي منه وقلت له: ليس عندي غير ربع ساعة.
فقال ضاحكًا: بركة. يكفيني الشرف يا سيد أفندي.
وانتظر حتى فرغت مما في يدي وسار معي واضعًا يده تحت ذراعي كأحسن ما يكون الأصدقاء، ولما دخلنا إلى قهوتنا المعتادة صاح بالخادم: اتنين شاي!
وجلست إلى الجانب الآخر من المنضدة متحفزًا له بكل أعصابي كأني أعتزم منازلته.
وبدأ قائلًا: عندي لك نصيحة يا سيد أفندي.
فصحت متعجبًا: هل جئتُ معكَ لأسمع نصائحك؟
فقال باسمًا: لا تغضب قبل أن تسمع. هي نصيحة إذا أردتَ وإلا فهي بشرى. خبر سار تعمدتُ أن أقوله لك لأبرهن لك على صدق مودتي، وإن كنتُ أعرف أنك لا تُصدقني. النهاية اعمل الجميل وارمه في البحر. على فكرة. لماذا لم تَقُل لي السلام عليكم وأنت مُنصرفٌ بالأمس.
وضيقت عيني وأنا أنظر إلى وجهه فاحصًا ولم أنطق بحرف واستمر هو يقول: النهاية يا سيدي على رأي الشاعر: «تظهر لك الأيام ما كنت جاهلًا.»
وضحكت برغمي قائلًا: وتحفظ الشعر أيضًا؟ قل لي أولًا ما هي نصيحتك يا مصطفى.
فقال: عندما تركتُك بالليل كان قلبي يتألم من أجلك، وإن كنت تركتني بغير سلام. ما علينا، وفكَّرت طول الليل في شأنك والطريقة التي يُمكِن بها أن أخدمك وأزيل ما عندك من سوء الظن بصديقِك. الشاهد أني عندما جئتُ اليوم في الصباح كان كل ذِهني يُفكِّر في مسألة سيد أفندي.
فقلت ساخرًا: مسألتي؟ وما هي؟
وجاء الخادم عند ذلك يَحمِل كوبين من الشاي، فاتَّجه إليه مصطفى وطلب منه قطعتين أُخريَين من السكَّر وكوبًا من الماء، ثم أخذ يُقلِّب الشاي بالمعلقة في بطء وذاق منه رشفة قبل أن يتكلَّم.
قال: أنت تعرف أني الساعد الأيمن للسيد أحمد جلال.
وانتظر ليَسمع رأيي فلم أجد ضرورة لتكذيبه.
فاستمر قائلًا: أنا هنا في المَحلج من عشر سنوات قبل أن تدخله أنت، ولولا ملاحظتي ومراقبتي وخوف العمال منِّي كان الناس أكلُوه وشربوه.
ورشف رشفة طويلة من كوب الشاي كأنه يقول: «شربوه هكذا.»
ثم قال: والسيد أحمد يثق بي ثقة تامَّة؛ لأنه يعرف أنه يَضيع لو ترك أعماله لغيري. هو يعلم أني أخدمه مجانًا. نعم مجانًا. ستة جنيهات في الشهر لا تُساوي ثمن عشرين رطل قطن يأخذها أحد العمال في جيبه. الشاهد! انتهزت فرصة جلوسه وحده في المكتب، وأخذتُ أجسُّ لك نبضه.
ففزعتُ وقلت في دفعة: لماذا؟
فرشف رشفة أخرى من الشاي ثم قال: هل يُغضبك أن أجسَّ لك نبضه من أجل منى؟
فوثبت قائمًا من الغيظ وقلت: هذا لؤم.
فقال غاضبًا: عُدنا إلى الشتم؟ الحق علي يا سي سيد ولا داعي للكلام.
وهم بالقيام.
فقلت له في دفعه: من أذن لك أن تتكلَّم عنِّي؟
فقال: لم أتكلم عنك يا سيدي. اجلس من فضلك واسمع أولًا، وأيُّ عيب في أن أتكلم عنك؟
ووجدت أن الأمر أخطر من أن أغضب هكذا وأنصرف بغير أن أعرف قرار هذا الخبيث ومدى ما دبره لي من الكيد.
فجلستُ عازمًا أن أملك نفسي حتى أعرف كل ما عنده.
وبدأ يتكلم: ألم تَقُل لي يا سيد أفندي إنك لا تقلُّ عن محمود خلف؟ ألست ترى أنك لست أقل من أحد وأنك أولى بها؟ لماذا لا تكون في يوم من الأيام مثل محمود خلف وأحسن منه؟
وهل من العجب أن تحبَّ منى وتريد أن تتزوجها؟ الحق عليَّ يا سيد أفندي وسأتعلم أن أكون في حالي ولا أهتم بأحد.
وكاد قلبي ينفجر من الغيظ ولكني لم أتكلم، وأخذت كوب الشاي لأشغل نفسي به حتى لا أظهر اضطرابي.
ومضى هو يقول: قلت للسيد إنكَ شابٌّ طيب ومن أسرة طيبة، والسيد أحمد نفسه يقول إنه يعرف والدك وعمك، الذي كان حكمدار المديرية. هل كنتُ أنا أعرف هذا؟ فقلت إنها فرصة لأودي لك خدمة وأظن أني نجحت. قلت له إن الفقر والغنى من الله، وأنك ستكون غنيًّا في يوم من الأيام ولمَ لا؟ ألم يكن هو الآخر فقيرًا، ولما وجدتُ أنه لم يَغضب قلت له أيضًا إنك تحمل شهادة الثقافة ولمحت له أن الزواج يجب أن يكون على أساس المحبة.
فوثب قلبي إلى حلقي وقمتُ واقفًا وقلت له: اسمع يا دون، لا تَحسب أنك طعنتني أو قدرتَ لي على أذى، وأحبُّ أن أقول لك كلمة أخرى لعلها تنفعك إذا نقلتَها للسيد أحمد جلال.
وبدلًا من أن يغضب مدَّ يده إلى القطعة الباقية من السكر ووضعها في فمه وشرب عليها بعض الماء، وجعل يمصها وهو يقول: «عجيبة يا سيد أفندي» ولولا خشيتي من أن أحدث فضيحة لهشمت أنفه الغليظ بقبضة يدي، وقلت له: أعلم أن إيقاعك عند السيد أحمد لا يُهمني، ولن أدافع عن نفسي، وسأنتظر صامتًا حتى أرى النتيجة. أنت تُريد أن توقع بيني وبين الرجل لأمرٍ في نفسك. هذا خبثٌ قديم لا أجهله، ولكن قد ينفعك أن تَعرف أني لست عبدًا مثلك، ولو صدَّق هذا الدسَّ الذي تدسُّه لي لكنت سعيدًا أن أترك محلجه، ولن أبقى في محلج السيد أحمد جلال يومًا واحدًا إذا صدَّق كلامك، أهذه أقوال تنفعك؟
ونظرتُ إليه نظرة نارية وانصرفت من القهوة وقلبي يغلي، واتجهت إلى منزلي فلم أعد إلى المحلج حتى أنتظر النتائج بغير أن أحرِّك ساكنًا، وقلت لنفسي إن أكبر ما أخشاه أن يطردني السيد أحمد، ولمحت في قلبي لونًا من السرور عندما فكرت في هذا لأتخلَّص من عملي في المحلج بغير أن أكون أنا البادئ بالقطيعة، فلماذا لا أبدأ بالتجارة وقد تجمَّع لي أكثر مما كان عند السيد أحمد عندما بدأ بالتجارة؟ وقضيت ذلك اليوم والليلة التي بعده أحاول أن أشغل نفسي بشيء عن التفكير في نفسي، فأخذت أقرأ حينًا وأكتب حينًا آخر ولكن فكري كان دائمًا يعود إلى التجارة. لماذا لا أبدأ من الغد بأن أشقَّ طريقي في الأسواق؟ عند ذلك فقط أستطيع أن أتقدم إلى السيد أحمد جلال وأقول له ما أشاء، ولكن ألم يَخطبها محمود خلف؟ هل خطبها حقًّا؟ وهل يمكن أن تَحدُث خطبتها هكذا بغير أن يعرف عنها أحد شيئًا سوى مصطفى عجوة؟ وجعلت أستعرض المشروعات التي يمكن أن أبدأ التجارة فيها. جنيهات قليلة هي التي في يدي، وماذا تكفي؟ هل أذهب إلى الأسواق لأشتريَ بعض القطن بالرطل والرطلين والعشرة ثم أبيعها؟ كان هذا ممكنًا منذ خمسين سنة وكان كافيًا ليُصبح السيد أحمد جلال غنيًّا، ولكن لماذا لا أحاول؟ ومن يدري؟
وخرجت من منزلي هائمًا في المدينة وما حولها مُتلفتًا حولي إلى المتاجر وإلى وجوه المارة. لماذا لا أضرب في الحياة مثل هؤلاء؟ هل كل هؤلاء يعملون في المحالج؟ ونمت في آخر الليلة نومًا عميقًا بعد أن تعبتُ من السير، وسُررت عندما قمت في الصباح هادئًا نشيطًا.
وذهبت إلى المحلج بغير تردُّد متوقعًا أن يكون مصطفى قد وجد الفرصة الكافية لإتمام مكيدته: وكان كلُّ همي أن أستطلع ما يخبئه لي اليوم من المفاجآت.
ولكن السيد أحمد استقبلني كالعادة سمحًا مهذبًا وقال: لا بأس عليك يا سيد أفندي؟ لم تَحضُر بالأمس بعد الظهر.
فقلت له: أشكرك يا سيدي. كنت متوعِّكًا قليلًا.
وبدأت أحسب أن كل ما قاله مصطفى عجوة كان ادعاءً وكذبًا لا يُريد به إلا أن يملأ قلبي غيظًا، وأقبلتُ على عملي منشرحًا، وكان الزحام حولي على أشده لأني لم أحضر بالأمس بعد الظهر، ولم أجد وقتًا للذهاب في ساعة الظهر للغذاء، فبعثتُ أشتري رغيفًا وقطعة جبن وأكلت وأنا أعمل، ولم يتركني مصطفى، بل جاء إليَّ قبل الغروب، ووقف قليلًا إلى جنبي ولاحظت أنه كان يقرأ الأرقام التي أكتبها وينظر إلى الميزان، وكانت هذه أول مرة أراه يَقترب مني هكذا ليُراقب عملي، ولكني لم أعبأ به ولم أوجه إليه كلمة تجاهلًا مني له.
ولم أرَه بعد ذلك حتى ساعة الانصراف فجاء إليَّ وقال في مرح: سأسقيك شايًا على حسابي.
فقلت في دفعة: امش من هنا.
فأجاب هادئًا: إذن نتكلم في الطريق.
فقلت: قلت لك امش.
فقال معاتبًا: أنت غريب الأطوار.
فقلت: لا داعي للكلام.
فأجاب جادًّا: إذن فليكن حديثًا رسميًّا. عندي لك كلام يتعلق بالمصلحة.
فوثب جوابي: وما لك أنت؟
فقال في زهو: بأمر السيد أحمد.
فتركته بغير جواب ولبستُ مِعطفي وطربوشي، وسرتُ بغير أن أنظر إليه ولكنه سار إلى جنبي حتى خرجت ثم وضع ذراعه تحت ذراعي وقال في هدوء: اسمع يا سيد أفندي. هي كلمة واحدة وأنت حر.
فقلت في فتور: ما هي؟
فقال: هل هذه طريقة الوزن يا سيد أفندي؟ لم أَعرف أنك تفعل هذا وكدت ألطم وجهي اليوم، فهل كنت دائمًا تفعل هكذا؟
فقلت: وما دخلك أنت؟ هل رأيتني أسرق؟
فقال في وقاحة: ما دخلي؟ لو سرقتَ كان أهون. ما معنى هذا؟ ما دخلي؟ ما دخلك أنت؟ أنا أكلمك باسم المحلج وباسم عيشي وعيشك وباسم المصلحة. المحلج الذي يطعمني ويطعمك.
فصحت غاضبًا: قلت لك ابعُد عنِّي.
فأجاب وهو ينزع يده من تحت إبطي، ما هذا الكلام الفارغ؟ إذا كان لا يعجبك أحد فما معنى بقائك معنا؟
فصحت: اخرس.
فقال غاضبًا لأول مرة: اخرس أنت. لو كان كل الوزَّانين مثلك ما بقيَ محلج السيد أحمد جلال.
فقلت حانقًا: لأني أسرق؟
فقبض على ذراعي وهزَّها قائلًا: أنت أبله. أنت لا تفهم. أنت تشخط وتنتر كأنك السيد والناس جميعًا الخدم. من أين يدفع السيد أحمد مُرتَّبك ومرتبي ومصاريف المحلج والولائم والإحسان؟ هل يأتي بأموال من الترعة الخطابية؟ من أين يدفع أثمان القطن الغالية وأنت تعرف أن ثمن محلجنا أعلى الأسعار في دمنهور؟
فقلت في نغمة ساخرة: ماذا تقصد؟
فقال: ماذا تقصد أنت؟ ما معنى هذه الطريقة في الوزن؟ قنطارين وعشرين رطلًا. عظيم! ثلاثة قناطير وأربعة أرطال ونصف! ملك!
فقلت متحديًا: وماذا كنت تريد؟
فأجاب: إذا كنت لا تعرف فاسأل. اسأل أهل العلم يا أخي.
فصحت في غيظ: أمسك لسانك: سألتُ عقلي وضميري وسألت قلبي وواجبي.
فقال في سخرية: وماذا قال هؤلاء؟ قالوا لك: اخرب بيت السيد أحمد جلال؟
فقلت مُنفجرًا: اسمع أيها الرجل، إذا كان عندك كلمة فقُلها لغيري ولا تُصدِّع رأسي بهذا الهراء. ماذا تريد؟ هل تريد أن أسرق، وبدلًا من كتابة قنطارين وعشرين رطلًا أكتب قنطارين، أهذا ما تُريد؟
فقال في وقاحة: هل تخيفني بهذا؟
فقلت: قل باختصار، هل هذا رأيك أنت أم هو رأي السيد أحمد؟ هل هذه رسالة؟
فأمسك ذراعي قائلًا: من قال إنها رسالة؟ أنا أُكلِّمك كصديق، أنا أنصحك لله في لله. أنا أعرف السيد أحمد جلال ولو عرَف أن هذه طريقتك لم تبقَ في المحلج يومًا واحدًا. أنا أعرف أنه لا يشبه الناس. لا يمكن أن يقول لك كلمة. هو بئر عميقة وداهية كبيرة. يلتفت هنا أو هنا لليمين والشمال وتحت قدميه ويخطو أول خطوة في بطء كأنه يجسُّ الأرض ثم يندفع كالسهم. لا تغتر بأنه لا يقول لك كلمة. لا مؤاخذة إذا كنت أعرض نفسي مع علمي لسوء ظنك، والحق عليَّ لأني لا أتعلم.
فصحت: كذاب. أنت تُريد أن تجد بابًا جديدًا للدس، ومع ذلك فاعلم أيضًا أن كل هذه المحاولات لا تُهمني. اعلم أني سأستمر على طريقتي التي أملاها على ضميري.
فقال وهو يهز رأسه آسفًا: لقد نصحتُك والسلام يا سيد أفندي، وكان وجهه المبهوت في نظري مُضحِكًا ولا أدري لماذا، فضحكتُ برغم غيظي مقهقهًا، ولم أنتظر أن أسمع الكلمة التي رأيته يفتح فمه بها وقلت له في سخرية: سلام عليكم!
وسرتُ عنه مسرعًا، وكان قلبي يفيض سرورًا؛ لأني استطعت أن أُدخلَ على قلبه شيئًا من الغيظ آخر الأمر.
ولما ذهبت في اليوم التالي إلى المحلج كنتُ مطمئنًّا، ولكني كنت أشعر بشيء يشبه الشعور بالإهانة، وكنت متحفزًا لأسمع كلمة ولو يسيرة من السيد أحمد جلال تُشير إلى طريقتي في الوزن حتى أقول له ما في نفسي صريحًا، ولكن السيد أحمد جلال لم يكن في ذلك اليوم أقل تلطفًا مما كان في أي يوم آخر، وكانت الجموع التي حولي تَتزاحم عليَّ وتَصيح بي تستعجلني، وتحريت في ذلك اليوم تحريًا شديدًا في أن يكون وزني صحيحًا، ولم أُفقْ من غمرة عملي إلا في الساعة الواحدة بعد الظهر، فأسرعت خارجًا لآكل لقمة، وخطر لي أن أغسل يدي ووجهي أولًا كالعادة، وكانت دورة المياه على مقربة من الباب المؤدي إلى بناء آلات الحلاجة، وفيما كنت أجفف وجهي سمعت لغطًا بعيدًا يشبه صوت العراك في داخل عنبر الآلات، فذهبت لأرى ما هناك فإذا جمع كبير من العمال يضطرب ويموج في داخل العنبر حول مصطفى عجوة، فأسرعتُ لأعرف السبب ودخلت بين العمال كما يدخل الطفل الغرير في المآزق التي لا يعرف خطرها، واقتربت من مصطفى عجوة لأسأله ما الخبر، وما كاد يَراني حتى ثار ثورة شديدة، وجعل يسبُّ العمال ويصرخ فيهم مهددًا، ودفع أحدهم بيده في صدره فاتَّقَدت حماسة زملائه، وصاحوا هائجين، ورفع أحدهم يده فلطم بها وجه مصطفى، وأخذ الآخرون يشتمونه ويلعنونه.
وزاد مصطفى هياجًا وتهديدًا وقال: إنه سيُبلغ الأمر إلى السيد أحمد جلال ليخرب بيوتهم.
فما كاد العمال يسمعون ذلك حتى اندفعوا يشتمونه ويشتمون السيد أحمد جلال ثم أخذوا يلكمونه بقبضات أيديهم ويَركلونه بأقدامهم حتى كاد يهلك بينهم، وهو مع ذلك لا ينقطع عن السب والتهديد، وتصايَحُوا يُحرِّض بعضُهم بعضًا على تدمير المحلج، فصحت بأعلى صوتي قائلًا: «اسمع أنت وهو!» والتفت الجميع نحوي ومضَت لحظة هدوء قصيرة انتهزتها لكي أخاطبهم قائلًا: ما هذا أيها الإخوان؟
وكان فيهم وجوه كثيرة أعرفها فأخذتُ أخاطبهم بأسمائهم في نغمة عتاب ألين فيها حينًا وأعنف حينًا، وأقبلوا عليَّ يَشكُون لي ما أصابهم من مصطفى عجوة.
وصاح مصطفى: أتفتَح أذنك لهؤلاء وأنت تسمع شتائمهم.
واندفع غاضبًا يشق الزحام خارجًا وهو يُهددني معهم فشيعه العمال بضحكة عالية ساخرة من ألفاظ السباب المقذع، فقلت لهم: أيليق بكم أيها الإخوان أن تسبُّوا رجلًا غائبًا لم يُسئ إلى أحد منكم؟ ألا تعرفون عطف السيد أحمد عليكم حتى تُجازُوه بمثل هذه الشتائم؟
فصاح أحدهم وهو أكبرهم: هو يُسلِّط علينا شيطانه هذا يعذبنا كل يوم، ويذلنا و…
وصاح آخر: وذنبنا أننا فقراء يعني؟ وهذا المصطفى العجوة يُعاقبنا لأن المطر يُؤخِّرنا في الصباح؟
وصاح ثالث: ولو قطع القرشَين وذهب في داهية لكان أهون من لسانه المر. لسان يقطر السم.
وقال رابع: كل يوم شتيمة وإهانة؛ «السيد أحمد يطعمنا والسيد أحمد يكسونا، كأنه يقول لنا بالسم الهاري.»
وصاح كبيرهم الأول: أحبُّ أن أفهم الداهية التي يُهددنا بها سي مصطفى عجوة كل يوم. هل الدنيا فوضى؟ نروح في داهية لأنه يشكونا للسيد أحمد؟ لأ يا سيدي. نكسر دماغ سي مصطفى ونروح في داهية بحق.
وصاح آخر: والدولاب يُقطِّع أجسامنا مجانًا، وأولادنا تموت ولا يعجب سي مصطفى أن نحزن، وإذا مرضنا رمونا في الطريق.
وصاح شابٌّ إلى جنبي: وهذا الصبي ما ذنبه؟ هذا المسكين يقطع منه مصطفى خمسة قروش لأنه تأخر ربع ساعة؟
وكان الصبي الذي أشار إليه لا يَزيد عن طفل في سن العاشرة ووجهه النحيل الأصفر يزداد اصفرارًا من الدموع المنحدرة على خده.
فناديتُه: تعال يا أخي.
ووضعت ذراعي حول عنقه، وكان منظره محزنًا حقًّا عندما بدأ يسعل وزادت دموعه انحدارًا.
ومسحتُ على رأسه قائلًا: ماذا جرى لك؟ ما اسمك؟
فقال بصوت خافت: عمر.
فقلت في عطف: عيب يا سيد عمر. لا تبكِ كالطفل.
فقال وهو يجفف دمعه: قطع عم مصطفى منِّي خمسة قروش.
فقلت له مُضاحكًا: فداك يا أخي.
وكادت الدموع تفرُّ من عيني من أجله. كان جسمه يختلج وهو يسعل كأنه عود في عاصفة.
وصاح عامل من الخلف: لو كان الولد يُخوِّفه لقطع منه قرشين فقط. أمه مريضة وأبوه ميت. حظه أسود منيل. يا ابني الحق بالوالد أحسن من العذاب.
وساد صمت رهيب على الجميع، ومسحتُ مرة أخرى على رأس الصبي وقلت له: تعال معي يا عمر. يلا يا جماعة، سأذهب إلى السيد أحمد وأعتذر بالنيابة عنكم. يلَّا للغداء وارجعُوا لأعمالكم وانسوا هذه الغضبة.
تعال معي يا سيد عمر.
وأخذت الصبي في يدي وسرتُ وأنا أسمع همهمة خافتة من ورائي، وتدفق العمال من العنبر خارجين يدعو بعضُهم بعضًا في مرحٍ كأن شيئًا لم يحدث.
وفي أثناء السير عرفتُ من الصبي أن أمه مريضة تسعل وتبصق الدم وهو يشتري بأجره الطعام والدواء، ولن يقدر على شراء ذلك بعد خصم القروش الخمسة.
وكانت الساعة قد بلغت الثانية فأعطيتُ الصبي ما كان في جيبي إلا قرشين أبقيتهما لأشتري رغيفًا وقطعة من الجبن، وكنتُ سعيدًا عندما نظر إليَّ الصبي باسمًا ومسح دموعه. المسكين، إنني ما أزال أتذكر نظرته.