الفصل الواحد والثلاثون
سافر عبد الحميد ومنيرة إلى دمنهور بعد إقامة أسبوعين أطلَقا عليهما اسم أسبوعَي الجُبن لا العسل؛ لأنهما لم يَخرُجا فيهما للنزهة في أرباض القاهرة في النهار أو إلى ملاهيها في الأماسي؛ لأن حريق القاهرة لم يدَع لهما انشراحًا إلى الجولات التي أعدا خططها، منازه طريق الأهرام وشواطئ النيل ودور التمثيل والسينما وأبهاء الفنادق الكبرى ومقاصف الريف، كل هذه كانت بين محترقة أو مُغلَقة، وكانت منيرة تخشى الخروج فوق هذا خوفًا، أو — كما قالت هي — جبنًا من أن تَعترضها ثورة جديدة على حين غرة، كما اعترضتني يوم خرجت للنزهة عند الأهرام في الصباح، فإذا هي تثور وتَحرِق قلب المدينة في ساعة، وقد أصرا على أن يأخذا أمي معهما بعد أن عجزا عن حملي على الرجوع إلى دمنهور، ولستُ أُخفي أنني ارتحت إلى هذا الرأي، فما كان من اليسير عليَّ أن أتمسَّك بأمي لتعيش معي وأنا عاطل عن العمل منذ انقطعت عن بريد الأحرار.
ولما بقيتُ في القاهرة وحدي وجدتها غير القاهرة الأولى التي أقبلتُ عليها مملوءًا بالأمل والحماسة، كان في جيبي ستون جنيهًا بعد أن قاسمتُ أمي في الجنيهات المائة والعشرين التي أعادها إليَّ عبد الحميد، وكان لا بد لي من الاقتصاد في النفقة لأستكفي بذلك المال الضئيل أطول مدة مُمكنة ريثما تسوق إليَّ الأقدار عملًا ليس في حسباني.
فاستأجرتُ غرفة في فندق صغير في حي سيدنا الحسين، وكان من السهل عليَّ أن أجد هناك ما يُناسبني من الطعام الرخيص، فكانت الأيام تمر بي موحشة في مدينة تموج كالبحر في أعقاب عاصفة، كل يوم شائعة عن مخاوف غامضة، والأرض تتزلزل تحت أقدام الحكومة الجديدة التي أعقبت حكومة الحريق، وحلقات القهاوي المتواضِعة تَتناقش في حنق، وأندية الجمعيات الشعبية تحفل كل ليلة بهواة السياسة، واستعنت على قضاء الوقت المُوحِش بارتياد تلك المجالس على اختلاف ألوانها ومشاربها، ولم أجد صعوبة في الاندماج فيها، فلم يمض إلا أسابيع قليلة حتى كنت من أركانها وأقطابها، وكان الجميع يقولون: إنَّنا على حافة هاوية، ولا مفر لنا من التردِّي فيها، بأس مظلم في كل مكان، وحيرة مغلقة في قلبي وسؤال واحد يعاودني كل صباح وكل مساء: «أين أذهب؟» وكانت منيرة تبعث إليَّ في كل أسبوع مرة أو مرتين بخطابات لا تُزيل وحشتي، بل تزيدني وحشة وانقباضًا، وفي كل خطاب تُعيد عليَّ عبارةً تَختم بها حديثها، فتقول أحيانًا: «منى تسلم عليك وتريد أن تراك.» وتقول في أحيان أخرى: «منى تُهديك سلامها وتسأل عن صحتك.» فكنت أفرغ من قراءة الخطاب في شيء يشبه الحنق، وأضعه في جيبي مُكرِّرًا في نفسي إنها تُسلِّم عليَّ وتسأل عن صحتي كما يفعل الناس إذا تلاقَوا في الطريق، ثم أزيد على ذلك أقوالًا أخرى أشد قسوة؛ لأني كنت في تلك الأيام قويَّ الشعور بأنَّني عاطل لا أعرف لنفسي وجهة أتجه إليها، ومع كل ما قاسيته من الوحشة والضيق والتعطُّل لم تسمح نفسي بأن أعود إلى بريد الأحرار، ولم أُحاول أن أبحث عن عمل آخر، شيء واحد كان يبعث في قلبي بعض الراحة، وهو اتصالي بجمعية «شبان الفداء»، التي كانت تعقد جلساتها في بيت أحد أعضائها الطالب في كلية الشريعة؛ إذ كانت الخطب العنيفة التي تنطلق بغير تحرُّج ولا تحفُّظ كأنها قذائف من الرصاص تُخفِّف من حنقي المكبوت، وكان نصيبي منها لا يفوتني كلما اجتمعنا، فأُفرِغ ما في قلبي من الحنق على الطاغية والطغيان والفاجر والفجور، غير مُتورِّع عن التصريح بأنه الفرعون القزم، ولستُ أدري كيف خفيت هذه الأحاديث عن آذان جواسيس الحكم، فإنها لو بلغتْها لما احتاجت النيابة إلى تفسير أو تأويل في إثبات تُهمة العيب التي قضت خمسة أشهر في إثباتها عليَّ في المرة السابقة، ولكني كنت في كل مرة أذهب فيها إلى تلك الجلسات الحامية أعود إلى غرفتي في أواخر الليل بأعصاب مشدودة تكاد تتمزَّق، وكان يضايقني من المجتمعين في الأندية والقهاوي أنهم لا يستطيعون غضبًا، إلا إذا تحدثوا عن غلاء الطعام والكساء أو كساد التجارة أو ما يُماثل هذا من هموم الحياة، ولا يكادون يتحركون لفقدان الكرامة القومية أو الحريات أو العدالة؛ ولهذا كنتُ أقترب يومًا بعد يوم من الشعور بالفشل، وأن الثورة التي آمنتُ بها وتمنيتُها ووقفتُ كلَّ أملي عليها لا وجود لها في القلوب، وبدأتُ أرى أن الثورة التي أرى علاماتها وأحس خفْقَ أجنحتها في الظلام ليست سوى ثورة أبدان أو ثورة خذلان كتلك التي أحرقت القاهرة، وبدأتُ أُشفق وأتوجَّس حتى امتلأ قلبي غمًّا وهمًّا ويأسًا، وفي يوم من الأيام كنت أؤدِّي فريضة الجمعة في مسجد الحسين، ولا أستطيع أن أصف حالي وأنا قائم أصلي، كنت لا أملك دمعي وأنا أقرأ، وكأنَّ كل عِرق في بدني يَنتفض من حزن غامض، وكان يستولي عليَّ شعور يشبه شعوري عقب وفاة أبي وأنا فتًى صغير، عندما خُيِّل إليَّ أنني أعيش في فضاء لا وطاء من تحتي ولا غطاء من فوقي، وحاولت جهدي أن أتماسك، ولكن الدموع كانت تغلبني، ولما فرغت من الصلاة رأيت «خضرجي» ساعي مكتبي في بريد الأحرار جالسًا إلى جنبي، وسمعتُه يقول لي: «أين أنت يا أستاذ سيد؟» ومضَت لحظة طويلة قبل أن أستطيع إجابته قائلًا: «كيف أحوالك يا أخي؟»
فقال وهو يُصافحني: «حرمًا! تشجَّع يا أستاذ!»
فتذكرت كلمته التي قالها لي يومًا وأنا في المحكمة، وشعرتُ نحوه بشُكرٍ عميق، وقلت مجيبًا: جمعًا إن شاء الله! أشكرك يا صديقي.
وضغط على يدي قبل أن يُرسلها وقال: الأستاذ يسأل عنك كل يوم.
فقلت متكلفًا الهدوء: وكيف حاله؟
فقال: مسكين يا أستاذ سيد، صار لا يُطيق شيئًا، انتهَت مَجالسه الحافلة التي كانت تؤنس الجريدة، وفي كل يوم مصادَمة مع مُحرِّر أو آخر، وأظنه استخرج جوازًا للسفر إلى أوروبا، ولم يخلُ قلبي من الشعور بالأسف والعطف، وتذكرتُ كيف كان يكرمني وكيف كان يشاركني في مشاعري، وقمت مع «خضرجي» خارجَين من المسجد، فتمسكتُ به ليتغدى معي، وذهبنا إلى مطعم الدهان كما تعودت أن أذهب في كل جمعة كأنني أدَّخر منه ذخيرة لمدة الأسبوع، وقضينا معًا بضع ساعات سعيدة بين الغداء وبين شرب الشاي في مقهى الفيشاوي، ولا أُخفي أنني مع كل ما شعرت به من السعادة في مرافقة «خضرجي» والتمتُّع بحديثه، أحسست في كثير من اللحظات بما يشبه الخجل من أن يراني بعض معارفي جالسًا مع ساعٍ في بدلتِه الصفراء، وقد كبحتُ هذا الإحساس في حنق، وكررت لنفسي أن هذا الساعي لو وقف أمام الله إلى جنب محمود خلف لكان هو الأكرم مكانًا.
وحدثني خضرجي حديثًا بسيطًا لم أشعر معه بمضيِّ الوقت، ووجدته ملمًّا بكثير من أسرار السياسة، فزاد قدرُه في عيني فوق ما كان له من قدر في نفسي، وتبيَّنتُ أننا لا نلمح حقائق الناس إلا إذا فتحَت شدائد الحياة أعيننا، كلٌّ منا يعيش في عالم يُغلقه من حوله، ويقيم حوله الحواجز من كل ناحية، فلا يبصر الآخرين إلا من بعيد، ولا يميز بعضهم على بعض إلا بمظاهرهم.
واستمر خضرجي ينتقل من موضوع إلى آخر حتى استرعى اهتمامي بقوله عن الأستاذ مختار: أظنه صار يخشى التورط، كما يخشى النزول إلى البحر مَن نجا من الغرق.
فسألته: ماذا تقصد؟
فمال على المائدة التي بيننا قائلًا: فضيحة الأسلحة! لا يرضى أن يكتب عنها، مع أنها تعيد توزيع الجريدة إلى أكثر مما كان قبل إغلاقها.
فقلت: وكيف ذلك؟
فأجاب: عندما قدمتُ القهوة منذ يومين لضيفه وجدتهما يتناقشان في شيء من الحماسة وأمامهما ظرف كبير، فوضعتُ الفنجانين ولمحت على وجه الأستاذ تلك السحابة التي أعرفها عندما يكون في حيرة، كان وجهُه مُحتقنًا ونظرته تطلب النجدة، ولا تؤاخذني إذا اعترفت لك أن الفضول دفعني إلى التجسس، فعندما خرج الأستاذ يُشيِّع ضيفه فتحت الظرف، وقرأت عنوان الملف: «فضيحة الأسلحة الفاسدة».
ولما عاد الأستاذ طلب فنجانًا آخر، وأخذ يقرأ الأوراق مُتمهلًا ووجهه يزداد احتقانًا، وعاد الضيف بالأمس، وكانت بينهما مشادة عنيفة، وأرسلني الأستاذ بعدها لأستخرج له جواز سفر إلى أوروبا. ألا ترى أنه يَخاف من التورط؟
أين تُقيم يا أستاذ سيد؟
فقلت في تردد: في فندق الأميرة الصغيرة.
فقال وهو يهمُّ بالانصراف: سيسرُّه جدًّا أن يعرف عنوانك، كل يوم يسأل عنك، إلى اللقاء يا أستاذ.
ومضى بعد أن حياني تحية حارة وشكَرني، وبقيتُ وحدي أجترُّ ما سمعته على مهل مع كأس أخرى من الشاي، وخطر لي أن الأستاذ علي مختار ليس وحده الذي يُشفق على نفسه من التورط، وأي عاقل لا يَخشى أن يذهب إلى السجن بعد أن يذوقه مرة؟ ذلك السجن الذي يُحوِّل القاتل الجبار إلى جبان يرتعد هلعًا، ولكني عدتُ إلى نفسي أقول: إن اللوم علينا إذا تركنا أنفسنا لهذا الخوف ينحرف بنا عن غايتنا، فلو خشيَ المجاهِد في ميدان القتال أن يصاب بجرح مرة ثانية لما عاد إلى الميدان أبدًا، والذي ينجو من الغرق مرة لن ينزل إلى الماء إذا لم يقاوم خوفه من الغرق.
وهكذا مضيتُ في أفكاري حتى صارت الساعة الخامسة بعد الظهر، فقمت أسير على قدمي نحو دار بريد الأحرار؛ لألقى الأستاذ علي مختار.