الفصل الثالث والثلاثون

تمرُّ علينا أحيانًا لحظات طويلة أو قصيرة نكون فيها مثل الريشة في مهبِّ الرياح المتعارضة لا نَعرف لأنفسنا اتجاهًا، وهذا ما حدث لي بعد خروجي من بيت منى، لم أدر ماذا أريد ولا ماذا أحس، وتنازعتْني دوافع مُتضادة كلٌّ منها يجعلني أشك في حقيقة آرائي وصدق مَشاعري. منى تسألني أن أقف إلى جنبها وتقول لي هذه هي اللحظة الموعودة، وهناك في القاهرة معركة كبرى في سبيل الغاية التي آمنتُ بأن الحياة تناديني من أجلها، وها هي ذي منى تستمع إليَّ وأنا أقول لها في أول مرة من حياتي: «أنا أعيش من أجل حبك، وأخشى أن أكون موضعًا للسخرية.» فتميل برأسها على كتفي قائلة: «لمَ تقول هذا؟»

وبقيت صورتها ونغمة صوتها تتردَّدان في كل كياني، وأنا أتحدث إلى أمي وأختي وأستمع إلى تحياتهما الممزوجة بالعتاب على طول غيبتي عنهما.

ولما جاء عبد الحميد في ساعة الظهر كانت دهشتُه عظيمة لزيارتي المفاجئة، وسألني: متى جئت؟

فقلت: في قطار الصباح.

فصاحت منيرة: وأين كنت؟

فأجبتُ في نشوة: عند منى. ألم تبعثي إليَّ أنها متألمة مني؟

وأخذتُ عبد الحميد لنجلس في غرفة الجلوس، وأفضيتُ إليه بكل ما قلت وما قيل لي، فخبط على كتفي قائلًا: لأوَّل مرة تستحق احترامي.

ودخلنا في مناقشة طويلة بعد ذلك عندما ذكرت له تنازع أفكاري بين إجابة رغبة منى وبين تلبية نداء المعركة التي تُناديني.

فما كاد عبد الحميد يسمع كلمتي حتى انفجر ضاحكًا وقال: لا تكن أحمق بهذا القدر، تستطيع أن تكتب ما تشاء وأنت هنا، ولكنك لا تستطيع أن تقف إلى جنبها إلا هنا.

والمناقشة تَخرُج في كثير من الأحيان إلى مكابرة يندفع إليها كلٌّ من طرفيها مع الكبرياء، كأنها معركة يخشى كلٌّ منهما الهزيمة فيها، وهذا ما وقع بيننا لمدة ساعتَين حتى جاء وقت الغداء وكل منا مُتمسِّك بآرائه، ومن العجيب أنني كنتُ أجادلُ صاحبي وأنا أحسُّ في الوقت عينه بسرور خفي كلما وجدت في حُجته قوة، كأنني كنتُ أريد من المناقشة أن أقنع نفسي بأن عملي سيكون في نظر الناس طبيعيًّا لا موضع فيه للسخرية.

وكان اليوم التالي من أسعد أيام حياتي، فذهبْنا جميعًا إلى العزبة وهي لا تَبعُد عن دمنهور بأكثر من عشرين كليومترًا، وكانت قطعة جميلة من الهندسة والخصْب والذوق الجميل، في تنسيق طرقها ونضرة زرعها وبهاء المسكن الأنيق الذي بناه السيد أحمد جلال قبل موته بعام واحد، وذهبتُ مع الأماني إلى أبعد مذاهبها عندما تخيَّلتُ نفسي مقيمًا في ذلك القصر مع منى، ومن حولنا ذلك الريف الجميل في معزلٍ عن الناس جميعًا، ومرحنا في ذلك اليوم السعيد، كأننا جميعًا عدنا إلى الطفولة، حتى إن السيدة الكبيرة وأمي نفسها نسيَتا أنَّ للسن أو لآلام المرضى ضرائب لا بد من الاحتياط لها، ولكن العاقبة كانت على غير انتظار خاتمة طيبة لليوم السعيد، فقد عادت أمي من تلك الرحلة بذخيرة من المرح والنشاط كما عادت السيدة الكبيرة تسير على قدميها كما تنبأت منى، والشيء الوحيد الذي عكَّر بعض صفاء تلك الرحلة أن السيدة استمرَّت تُجادل منى على طول طريقنا في العودة، وتُصرُّ على الاحتفاظ بالعزبة مهما كانت الظروف، ولكن منى تخلصت من المناقشة الحادة بضحكتها الوديعة قائلة: نستطيع أن نشتريَ أحسن منها. ولما عدتُ إلى القاهرة كانت الدنيا تبدو في عيني بألوان أخرى غير التي تعودت أن أراها، وبدأت أنظر إلى الأمور نظرة جديدة غير التي كنت أنظر بها.

كانت الحكومات تتعاقب في أسابيع قليلة، وكلٌّ منها لا تدري أين تضع أقدامها، وسألت نفسي مرارًا أين تنتهي هذه المهازل التي يُمثِّلها صغار في أسماء منفوخة، أساليب واحدة وإن تعددت الأدوار التي يمثلها كل منهم والنتيجة المحتومة واحدة، كنتُ كلَّ يوم أسأل نفسي: «إلى أين نصير؟» ولم يكن لهذا السؤال إلا ردٌّ واحد: ثورة أخرى مثل التي وقعت في ٢٦ يناير الماضي، ولم لا؟ غير أني كنتُ أعود دائمًا فأقول: «وماذا نَجني من مثل تلك الثورة؟» وماذا يَجني الجسم العليل الذي تسمَّمت دماؤه من انفجار جلدِه بالقُروح ذات الصديد؟

والآن تَقترِب نهاية القصة على فجأةٍ كما تنتهي القصص الرديئة، وإن كنت أعتذر عن هذه النهاية المفاجئة بأنني لم أتعمدها؛ لأن المقادير هي التي جعلتها تنتهي فجأة، المقادير تصرف شئون الحياة كما تُريد هي لا كما يُريد الأحياء، بل إني أستطيع أن أعتذر عن المقادير نفسها، فأقول: إنها لم تُدبِّر لهذه القصة نهاية بل دبَّرت لقصة جديدة. هكذا الحياة تسير في سلسلة من القصص التي تنتهي كل منها إلى بداية أخرى، ولا يستطيع أحد أن يُعلِّل حوادث المقادير مهما أُوتيَ من الحكمة، فكيف أستطيع أنا أن أُعلِّلها وما أوتيت من الحكمة شيئًا؟ كل ما أفخر به أني آمنت بأن الحياة نادتْني وأن للأقدار حكمة وأننا نتَّجه في الحياة كما تُوجهنا أسرار صغيرة عظيمة أو مواقف تافهة خطيرة، لا نُدرك قيمتها في لحظتها، ولا نعرف أنها هي التي وجهت حياتنا إلا بعد أن نمضيَ على الطريق، ويُصبح من المُحال علينا أن نعود أدراجنا.

قد يقول البعض: إننا نَملِك مصائرنا، وإنَّ الحوادث التي تقع لنا ما هي إلا نتائج محتومة لمقدمات ثابتة، وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن نهاية هذه القصة تُخالف هذه السنة على ما بدا لي، وما أزال أراها من الأمور الغامِضة التي تبعَث الدهشة والعجب، ولقد بلغت بي الحيرة أنني عددتُها كرامة من كرامات الأولياء أو معجزة من معجزات الإرادة الإلهية، وإلا فكيف كنتُ أتصوَّر كلَّ ذلك الانقلاب في الأسابيع القليلة التي قضيتها في القاهرة بعد عودتي من دمنهور؟

فقد اتَّفق وقوع حادثَين في وقتٍ واحد، بل في ساعة واحدة، وكانت فيهما نهاية القصة.

في صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو وقعت الحادثتان معًا، وأنا أسجلهما هنا؛ لأن بهما تنتهي هذه القصة، أو بقول آخر تبدأ قصة جديدة.

فأما الحادث الأول فهو أنني كنت جالسًا إلى جانب المذياع أستمع إلى قرآن الصباح وإلى أخبار اليوم الجديد، فإذا صوت يَنطلِق معلنًا قيام ثورة من الجيش! الجيش! الله أكبر! الجيش الذي كنا نَخشى أن يكون هو عماد الطاغية الرهيب؟

الجيش يعود مرة أخرى ليثبت أنه من أبناء الوطن، وأن الطاغية يسخر منه كما يسخر من الأمة، ويَعبث به كما يعبث بالأمة! إنها لكرامة من الولي الذي جاورتُه في هذه الأشهر الماضية، وكنت أذهبُ إليه كل صباح لأؤدي صلاة الفجر بعين دامعة، وقمت مسرعًا لأصلي في مسجد الحسين؛ لأني في دهشة المفاجأة آمنتُ بأنها كرامته، وإلا فكرامة من؟ الأمة كانت لا تستطيع إلا ثورة مثل التي وقعت في يوم ٢٦ يناير، ولكن هذه ثورة أخرى، ثورة بيضاء تعرف غايتها.

وأما الحادث الثاني فإني ما كدتُ أعود إلى شقتي المتواضعة في باب الخلق حتى وجدت برقية تنتظرني! «تم الاتفاق وفي انتظارك اليوم حسب الاتفاق. منى.»

وسرتُ كما أنا بوضوئي وخشوعي ودهشتي قاصدًا إلى المحطة مخترقًا طرق القاهرة المزدحمة بأمثالي من الذين خرجوا إلى الطريق ليسأل بعضهم بعضًا في دهشة: «كيف حدث هذا؟»

وسافرتُ إلى دمنهور في قطار الصباح، وكنت على طول الطريق أفكر خاشعًا وأسأل نفسي: «كيف يحدث هذا؟» واستقبلتْني منى باسمة، وفتحتُ لها ذراعيَّ، وكانت هي الأخرى تقول إذ تندفع إلى صدري: «كيف يحدث هذا؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤