الفصل الرابع

في الساعة الثالثة عدتُ إلى المحلج وبدأت عملي ونسيت فيه كل ما حدث في ساعة الظهر، ولكني تنبَّهت على صوت حاجب مكتب السيد أحمد يدعوني إليه.

وكانت المسافة بيني وبين المكتب تزيد على مائة متر، فأخذت أجمع شوارد أفكاري حتى أحدثه عما وقع بين العمال وبين مصطفى عجوة ليعمل على إزالة ما يدعو إلى إثارة نفوسهم عليه وعلى عمله.

ورأيت مصطفى عجوة واقفًا إلى جانب المكتب ويداه مضمومتان إلى صدره من أمام ولونه قاتم يكاد يكون أسود، وبادرني السيد قائلًا: سلِّم عُهدتك يا سيد أفندي.

فوقفت أمامه لحظة وأنا دهش كأني لم أسمع قوله. لم أتوقع هذه النهاية في تلك الساعة بالذات، ولو طرَدَني السيد أحمد في اليوم السابق أو الذي قبله أو في صباح ذلك اليوم نفسه لما وجدت في ذلك شيئًا يدعو إلى الدهشة أو السخط، وأما في تلك الساعة فإني كنت أنتظر منه كلمة شكر على ما صنعتُ له. كان العمال على وشك تدمير المحلج بغير شك لولا وجودي، ولم يكن فيما فعلتُ شيء يستحقُّ غير الشكر. أيطردني بعد أن أخمدت ثورة كان يشعلها هذا المصطفى عجوة الواقف إلى جانبه ينفخ الهواء من أنفه الضخم؟ أيطردني لأني أزلت ما في نفوس عماله من الحنق عليه وقلت لهم إني سأعتذر إليه بالنيابة عنهم؟ ولو كنتُ عندما ذهبت إلى السيد أحمد أتوقع أن يفاجئني بهذه الكلمة بغير مقدمات لأعددت نفسي لذلك وراجعتُه لأبيِّن له أنه مخطئ، أو أن الذي بلغه كذب، ولكنها كانت مفاجأة أحدثت في نفسي صدمة مسَّت صميم كبريائي؛ ولهذا أبيتُ أن أراجعه بكلمة مع أني كنت أقول في سري: «أهذا جزائي؟»

وأدرت ظهري له صامتًا وخرجت من المكتب لأسلِّم عهدتي، وما هي عهدتي؟ بضع دفاتر وأوراق وأقلام ودواة وعلبة نيشان وفرشة بقيت عندي منذ كنت أرقم البالات. هذه كانت عهدتي، وكان شعوري وأنا خارج من المكتب لا يزيد على شعور رجل تسأله: «كم الساعة الآن؟» لم يكن في نفسي ذرَّة من الأسف في تلك اللحظة.

وخرجت من المحلج حاملًا مِعطفي القديم وأنا عالي الرأس يُخيَّل إليَّ أني أنا الذي أطرد المحلج ومن فيه.

وسرتُ في الطريق متجهًا حيث تقودني قدماي؛ شارع «أبو الريش»، والسوق، وعرجت إلى اليمين هابطًا نحو خارج المدينة، ولما وصلت إلى جانب الترعة بدأتُ أفكِّر أني لم أترك المحلج فقط، بل قطعت صلتي أيضًا بالسيد أحمد جلال والد منى، وسرتُ أُجرِّر قدمي بقلب مظلم كسير. عند ذلك فقط بدأتُ أشعر بأني خسرت خسارة فادحة.

وعرَّجت إلى اليمين بغير أن أعرف أن هذا الجانب أفضل من الآخر، وكان الجو باردًا ولكن السماء كانت صافية والشمس تميل إلى الغرب في موكب رائع من الألوان البديعة، وشعرت بوجهي المتَّقد يلذُّ مس الهواء وصدري الضائق يرحب بالهواء الطلق، وكانت الحقول تمتد تحت بصري خضراء رطبة ترتاح العين إلى الانسراح فيها، وكانت الدوابُّ مُحمَّلة بأحمال مختلفة، ومن ورائها قطعان الماشية تعود إلى بيوتها قبل الظلام، فجعلت أنظر إليها متأملًا أشكالها وأحجامها وأقايس بين ألوانها وملامحها، وذهني يدور كأنه مُنفصِل عنِّي. هذا شاب بقر قوي يظهر عليه العنف وينظر نحوي بمؤخَّر عينه ويُطأطئ رأسه مهددًا، ووجه يشبه ملامح مصطفى عجوة عندما كان واقفًا إلى جنب المكتب، وهذا حمار أعجف يحمل حملًا ثقيلًا من البرسيم ويزحف تحته مطرقًا، ويلوي رأسه لعله يقدر أن يصل بفمه إلى قضمة من أعواد البرسيم الذي فوق ظهره، ولكنه لا يصل إليها. ما أشبهه بالصبي المسكين عمر غير أنه لا يبكي، وهكذا سرت هائم الفكر حتى وجدت نفسي مرة أخرى عند «كوبري أبو الريش» فعرجت إلى اليمين وسألت نفسي: «إلى أين؟» ولما اقتربت من الفضاء الذي يبدأ منه الطريق إلى مَحلج السيد أحمد جلال كان الظلام قد هبط على الأرض وتبينت في قرارة نفسي أمنية غامضة، وهي أن أُصادف السيد أحمد جلال خارجًا من المحلج، واقتربت من ركن مستور عند مدخل الطريق ووقفتُ أفكر، كأني أريد أن أتذكر شيئًا نسيته، ومر وقت طويل وأنا هناك ذاهل عن كل شيء ولا أدري ماذا أريد، وظهر شخص مُقبلًا من بعيد في الطريق المظلم فخطر لي أنه «هو». لم يَعُد الأمر خافيًا عليَّ فإني كنت هناك أنتظر السيد أحمد جلال، وما كان سيري على الترعة وكل دوراني ولفِّي إلا بقصدٍ خفي أن أعود إلى المحلج لعلِّي ألقى الرجل، ولكن ذلك الشخص لم يكن «هو» فتدارَيت في ظل الجدار حتى لا يراني، وبقيت واقفًا هناك مستندًا إلى الجدار وأنا فاتر الذهن لا أدري إلى متى أبقى واقفًا هناك، وكدتُ أثب في مكاني عندما رأيت السيد أحمد يخرج من باب المحلج في الموعد الذي تعوَّد أن يذهب فيه إلى بيته، ولما اقترب منِّي أسرعت إليه كما يسرع الصديق إلى صديقه يُحاول أن يزيل عنه جفوة طرأت على علاقتهما، ولم يظهر على وجهه عندما رآني شيء يدلُّ على الغضب أو الرضى أو الدهشة كأنه كان ينتظر أن يجدني هناك، وسلم علي في بساطة قائلًا: «تعالَ معي يا سيد أفندي.» فخفق قلبي سرورًا واستبشرت بكلمته، وسرت وراءه بخطوة قصيرة، ولكنَّه دعاني لأسير إلى جنبه، وتمنَّيت بكل قلبي أن أقدر على إزالة ما عنده من الغضب عليَّ ولم أشعر بشيء من الذلة أو الامتعاض؛ لأني كنت عالمًا أني بريء وأنه لم يَعرف حقيقة ما عندي.

ولما وصلنا إلى البيت دخلنا إلى غرفة المكتب، وأخرج السيد أحمد سيجارة فأشعلها ثم جلس وأشار إلى كرسي قريب منه لأجلس عليه. ثم صفق وأمر الخادم أن يأتي لنا بفنجانين من القهوة.

ثم التفت إليَّ قائلًا: هيه يا سيد أفندي.

فقلت في تردُّد: لست أدري السبب في طردي يا سيدي، ولم أجرؤ أن أراجعك عندما كنت غاضبًا، والحق أن دهشتي أيضًا جعلتني لا أفكر في مراجَعة، ولكن من حسن حظي أني أمرُّ من هنا في اللحظة التي تخرج فيها من المحلج.

واحمرَّ وجهي عندما قلت هذه الكذبة، ولكنه كان ناظرًا إلى الأمام مستندًا بظهره على الكرسي الطويل فلم ينظر إلى وجهي.

وقال في بطء: المسألة بسيطة يا سيد أفندي.

فقلت في سري: بسيطة!

وخفق قلبي عنيفًا. إنه هادئ كأنه جدار مصمت! وقلت له متمالكًا نفسي: هي طبعًا بسيطة، ولا ينبغي أن تُؤثِّر في مودتي لك، ولكني لا أعرف السبب في طردي. لا أعرف سببًا يدعو إلى غضبٍ في هذا اليوم بالذات لأني كنت لا أنتظر فيه إلا الشكر. أظنُّك لم تعرف أني وقفت حائلًا بين العمال وبين تدمير المحلج.

فرفع جانبيه وهو يلتفت إلي قائلًا: تدمير المحلج؟

فقلت في حماسة: نعم تدمير المحلج، ولستُ أعجب لأنك لم تعرف الحقيقة؛ لأن مصطفى عجوة يتعمد دائمًا أن يَنقُل إليك أخبارًا مشوَّهة عني.

ونظرت إلى وجهه لعلي ألمح عليه شيئًا يدلني على حقيقة شعوره ولكنه كان هادئًا كالصورة المعلَّقة أمامي على الجدار.

وأخذت أصف له ما حدث بين مصطفى عجوة والعمال في ساعة الظهر، وما حدث منِّي حرفًا حرفًا وختمت حديثي بعبارة حماسية فقلت: إني كنت مدفوعًا إلى تدخلي بشعوري القوي نحوه وبأني أؤدي واجبي نحو رجل أحبُّه وأحترمه، وشعرت بالدم يثور في وجهي مرة أخرى عندما وجدت أنه ما يزال هادئًا.

وجاء الخادم يحمل فنجانين من القهوة فأخذ يرشف من فنجانه وقال لي: تفضل!

ولكني شكرته ومضيت في كلامي: لهذا لم أتوقَّع منك أن تطردني، وكانت دهشتي عندما سمعتك تقول لي سلم عهدتك أشد من أن أحاول الدفاع عن نفسي، والحق أني أيضًا أخذت على خاطري، ولستُ أريد بكلامي هذا شيئًا أكثر من أن أعرف السبب في غضبك؛ لأن الذي يهمني هو العلاقة التي بيننا.

فنظر نحوي باسمًا لأول مرة، ولكن ابتسامته كانت تحمل معنى كأنه يقول: «وما هذه العلاقة التي بيننا؟»

واعتدل في جلسته فصار أكثر هدوءًا كأنه قطٌّ يرقد على فراش وثير.

وقال بصوت خافت: لم أكن أعرف من قبل أنني مهدَّد بكارثة. هذا شيء جديد يا سيد أفندي، ومع ذلك فلماذا لم تدَعِ العمال وشأنهم؟ لم تكن لك علاقة بأعمالهم يا سيد أفندي. دعهم يا أخي يثوروا إذا شاءوا ويُدمروا المحلج، وأنا أعرف كيف أعاملهم. كنت دائمًا أعرف كيف أعاملهم قبل أن تُشرِّف المحلج.

وأحسستُ بالعرق ينضح من جسمي كأن إناء من الماء البارد صب فوق رأسي.

واستمر قائلًا: لا تَغضب من قولي يا سيد أفندي فأنت مثل ولدي وكنت أرجو أن تشقَّ طريقك في الحياة معي. لا أنكر أنك أمين وذكي، وأنا أقدِّرك وأُحبُّك وأعرف أنك من بيت طيب. كنت أود لو بقيت معي حتى تَقدر أن تشتغل بعمل ينفعك هنا أو غير هنا، وكنت أحب أن تفتح عينيك للحقائق وتتعرف أمور الدنيا؛ لأن التجارب هي التي تُعلمنا. كنتُ أتمنَّى أن تبقى معي وتتعلم كما يتعلم هؤلاء جميعًا حتى تصير مثل مصطفى عجوة.

وكانت هذه الكلمة الأخيرة فوق طاقتي فقلت مندفعًا: اسمح لي أن أقول إني لا أرضى بأن أُقارَن بمصطفى عجوة.

فرفع حاجبَيه وتبسَّم قائلًا: لست أبالي ما يقع بين بعض الموظفين وبعض من هذه المنافسات، ولا أحب أن أفتح أذني لها. هذا شيء طبيعي ولا أعيره التفاتًا كثيرًا، والذي أقصده أني كنتُ أودُّ لو بقيتَ معي حتى تطمئن على مستقبلك. هذا كل شيء.

وسكتَ لحظة ثم اتسعت بسمته وهو يقول: ولكنَّك يا سيد أفندي تريد أن تقفز دفعة واحدة، في وثبة واحدة.

وطقطق بإصبعيه محركًا يده إلى فوق.

وأعقب ذلك بضحكة عالية لأول مرة.

وخطر لي أنه يُلمِّح إلى الأقوال التي سمعها من مصطفى عجوة عن تطلعي إلى منى، فثارت كبريائي وقلت مندفعًا: أتقصد يا سيدي أني غير جدير بأن أتطلَّع إلى أعلى؟

فقال متراجعًا: أبدأ! لا أقصد أكثر مما يفهم من كلامي. لستُ أقصد أكثر من أنك تندفع يا سيد أفندي. أنت جدير بأن تتطلَّع كما تشاء، ولا حقَّ لأحد في منعك من شيء. ليس هذا موضوع الحديث يا سيد أفندي، وأنا أرجو دائمًا أن أسمع عنك ما يسرني.

وأحسست أكثر من قبل بأني أصطدِم في جدار مصمت، وبدأت أثور في داخلي لأنه لم يترك لي فرصة للأمل في مصافاته.

وقلت في شيء من العنف: أشكرُكَ على كل حالٍ يا سيدي، وأنا مسرور من أني أديت نحوَكَ واجبي كاملًا، ويزيدني سرورًا أن أشعر بأنك لم تُنصِفني، لستُ أنسى أن أشكرَك على كل ما سمعته منك وعلى كل ما لقيته من عطفك ومساعدتك. لست أنسى أنكَ مددت إليَّ يدك عندما كنتُ صغيرًا لا أجد أحدًا يمدُّ يده إليَّ، ولكن أحب أيضًا أن تعرف أني لستُ أقل من أحد. هذا ما أشعر به في قرارة نفسي، وإذا كنت أتطلع إلى فوق، فليس هذا أكثر مما ينبغي لي.

وقمتُ لأنصرف ونظرتُ إلى وجهه في ثبات، فوقعت عيني في عينه ولمحت أن نظرته لم تَثبُت أمامي، ولأول مرة منذ عرفته رأيتُ عليه شيئًا يشبه الحيرة أو الارتباك، ولكنه لم ينطق بكلمة، فرفعت يدي مسلمًا عليه من بعيد قائلًا: لعلَّنا يا سيدي نلتقي في أوقات أخرى أكثر مودة، إلى اللقاء يا سيدي.

وخرجت بغير أن أنتظر، وتعمَّدتُ أن أرفع رأسي، وكنت في تلك اللحظة مملوءًا بالثقة والاطمئنان، ولما وصلتُ إلى قريب من باب الحريم لم أملك أن أنظر نحوه نظرة مُتلهِّفة كأني أودعه، وثارت فوق عيني غشاوة من الدمع وقلت في نفسي: «أحقًّا هذه آخر مرة أقترب فيها من هنا؟»

وعدتُ إلى بيتي فأخبرت أمي بما حدث، فلم أسمع منها إلا دعوة طيبة، وكانت في تلك الليلة أكثر مرَحًا واستبشارًا مما أنتظر، وأخذنا نتحدَّث فيما أعمل بعد ذلك، فلما قلت لها أني أعتزم التجارة أظهرت لي رضاءً مُتحمِّسًا، وكررت دعاءها إلى الله أن يوفقني، وكانت ليلتي هادئة على غير انتظار، بل إني رضيتُ عن الظرف الذي اضطرَّني إلى قطع صلتي بالعمل في المحلج، ورأيت أنه جعلني أقدم بغير أسف على الخطوة التي فكرتُ فيها مرارًا بغير أن أجرؤ على أن أخطوها، سأذهب في اليوم التالي إلى السوق لأجرِّب حظي، ولكن شيئًا واحدًا كان يعكر شعوري بالرضا، وذلك أني قطعتُ ما بيني وبين والد منى. لم أعترف فيما بيني وبين نفسي أن هذا آخر العهد بيننا، وكان تحت كل مشاعري أملٌ غامض أن أستطيع في يوم من الأيام أن أعود إلى السيد أحمد جلال قائلًا له: «أنا سيد زهير.»

وكان اليوم التالي سوق قرية الدلنجات، فعزمت على أن أقوم مبكرًا لآخذ فطار الصباح، ولو على سبيل التجربة؛ لأرى شئون الأسواق، وأجسَّ المخاضة قبل أن أنزل في الماء، وفي الصباح الباكر أخذتُ معي كل ما كان معي من النقود التي ادخرتها طوال السنوات الماضية لأبدأ حياتي كما بدأ السيد أحمد جلال حياته، وكان الظلام ما يزال حالكًا تحت السماء القاتمة.

ولا يُمكن أن أصف شعوري عندما شممت رائحة الهواء الرطب، وسرت في الطريق الصامتة عالمًا بأن الناس ما يزالون نيامًا في فراشهم، وكان المطر قد سقط في الليل غزيرًا، وتجمعت منه بركة واسعة تملأ الطريق إلى المحطة، فخضتُ فيها؛ لأني لم أجد جانبًا جافًّا من الطريق أسير فيه، وكان حذائي قديمًا له رقبة خفَّفت البلل عن قدمي بعض الشيء، ولما قربت من ضريح سيدي «أبو طاقية» قرأت الفاتحة كما كنت أفعل منذ طفولتي عندما كنتُ تلميذًا في المكتب المسمَّى باسمه.

ولم أقدر أن أصل إلى المحطة إلا بعد ربع ساعة مع أن المسافة لم تكن أكثر من ثلاثمائة متر، وكانت عربة الدرجة الثالثة مُزدحمة ليس فيها موضعٌ لقدم، فاضطررت إلى الجلوس على طرد في الممر بين المقاعد، وكان طرد قماش لأحد التجار الذاهبين إلى سوق الدلنجات.

وكنت لا أعرف من المسافرين إلا عددًا قليلًا أُميِّزهم بوجوههم، ولكني دهشت عندما جاء حمادة الأصفر قبل قيام القطار بدقيقتين، فجاء يتخطَّى الطرود في الممر حتى جلس على طرد قريب مني وحياني قائلًا: صباح الخير يا سيد أفندي.

ولم يخلُ جوابي من التعبير عما هجم عليَّ من الضيق عند اقترابه مني، وكان في يده رغيف مقدَّد من أرغفة دمنهور المنفوخة وقد أكل أعلاه وبقي أسفله في يده مثل الطبق وبه قطعة جبن قديم أغبر اللون.

وقال لي وهو يمضغ: إلى أين العزم؟

فالتفتُّ إليه في شيء من الرثاء والتقزُّز معًا وقلت في احتقار: الدلنجات.

وبدا لي أن المسكين قد زاد تحولًا واصفرارًا، وكانت حول عينَيه دائرتان خضراوان ووجهه المنقَّط بالنمش الأسود يُشبه خرقة قذرة.

وقال في صوت خافت: إلى السوق؟

وهممت أن أصده بكلمة جافية ولكن منظرَه جعلني أمتلئ شفقة، وقلت له: نعم، وأنت؟

فقال: أسترزِق. ربك كريم يا سيد أفندي.

وكان ركاب العربة في هذه الأثناء يختلسون النظرات نحوي، ويتكلمون بأصوات خافتة، ثم استرعى سمعي ضحكٌ عالٍ ينبعث منهم عندما قال أحدهم: قوموا بنا لنبيع التذاكر ونعود يا عم علي.

فرد عم علي قائلًا: ربك يستر يا شيخ عفيفي، ويجعل الدور اليوم على المعيز.

وعلَت ضحكة أخرى أطول من الأولى، واستمر الركاب ينظرون نحوي ويتهامسون، وسألني حمادة قائلًا: ماذا تُريد أن تشتري؟

فقلت له في شيء من المباهاة: قطن طبعًا.

وسمعني أحد الركاب، وكان إلى جانبي فصاح قائلًا: أبشروا يا جماعة … فرجت! الأفندي تاجر قطن!

فصاح الشيخ عفيفي: أبشِر يا عم علي.

فقال الشيخ علي: قلت لكم من الأول. الأفندي أكبر من البيض والفراخ.

وعاد الضحك وصارَ عامًّا، وشاركت فيه؛ لأني بدأت أفهم سبب التهامس والمزاح، وأخذ الجميع يتحدَّثون عما حدث في يوم الثلاثاء الماضي عندما جاء أفندي من الإسكندرية واشترى كل ما كان في السوق من الدجاج والبيض بأثمانٍ عالية؛ لأنه من المورِّدين للجيوش؛ ولهذا لم يقدر عم علي والشيخ عفيفي على شراء شيء منها وهما من تجار الدجاج، فلما رآني الركاب حسبوا أني أفندي آخر جئتُ لأزاحم في شراء الدجاج والبيض كما فعل الآخر، وكانوا يتبادلون الفكاهات عنِّي وأنا غافل عنهم، وكانت هذه الغلطة موضوعًا جديدًا للفكاهة استمر الركاب يتناقلونه مدة طويلة، فسهل علينا قطع الطريق.

وسألني جاري عن اسمي، فلما قلتُه له عرف أبي وأخذ يترحم عليه، وبدأ الآخرون يتودَّدون إليَّ عندما أخذ جاري يُعرِّفهم بأبي ويذكرهم به.

وأخذنا نتحدث معًا عن الأسواق وأسرارها، فتلقَّيت في هذه الجلسة أول دروسي في تجارة الأسواق، وخرجت بفوائد لا تُتاح إلا لمن يَتبادلون أنفاسهم مع الناس، ويعرفون من الحِكَم ما لا تُعلِّمه لهم القراءة أو التأمل، وعزمتُ فيما بيني وبين نفسي أن أحفظ ما أسمع من هؤلاء الذين لا يتلقَّون ما يقولون عن أحد. إن كل كلمة يقولونها تصدر عن حكمة مُتواضِعة لا تدعي الحكمة، وهي التي يتعلمونها من وخزات الحوادث وغمرات المآزق.

وبلغنا الدلنجات آخر الأمر، ونزلنا نتدفق من العربة إلى الفضاء الواسع متجهين إلى السوق، وكلٌّ منا يَحمل في يده ما أعده للبيع أو للشراء، وكنت لا أحمل في يدي إلا ميزانًا في كيس من أكياس الخيش، وكان منظر هذا الجمع الكبير وهو يتجه في صف طويل أشبه بمنظر الجيش الزاحف.

وكان حمادة يَجتهد أن يبقى قريبًا مني، مع أني تعمدت ألا ألتفت إليه عندما نزلت، وكان يحمل على كتفه كيسًا لا أعرف ما فيه، وينظر نحوي في شيء من التردُّد كأنه يريد أن يجد سبيلًا إلى أن يكلمني، ولما لم يَجدني التفتَ إليَّ تجرأ وقال لي: ألست في حاجة إلى من يساعدك يا سيد أفندي؟

وكان في صوته انكسار زادَني إشفاقًا عليه وقلت له: في أي شيء يا حمادة؟

فشجعه جوابي واقترب مني قائلًا: في أي شيء، أحمل لك ما تشتري أو أساعدك في الشراء، وأنا خبير بالأسواق.

ثم همَس قائلًا: ومن أجل المساعدة أيضًا، فوالله إني لم آكل منذ الأمس إلا هذه اللقمة التي رأيتها في يدي.

فقلت له عاطفًا: وهل تَجيء إلى السوق في مثل هذا الصباح بغير وجهة؟

فقال: وماذا أعمل؟ أقصد باب الله يا سيد أفندي. هو العمل الذي أقدر عليه ما دام الناس لا يُريدون أن أعمل معهم. كلُّ من أعمل عنده يطردني. لماذا؟ لا أدري. نحس. شؤم، بختي زفت.

فقلت باسمًا: وتريد أن تُجرِّب حظك مرة أخرى معي؟

فقال: خليها على الله! والله يا سيد أفندي هو البَخت. لكن يمكن. يمكن بختك يغلب يا أخي. جرِّب يا سيد أفندي، والله كلهم كسبوا وربحوا معي ولكني منحوس، فازوا بالمكاسب وطردوني، ومد يدَه إلي ليأخذ مني الكيس الذي حملتُ فيه الميزان فقبضت ذراعي وقلت له: هذا ميزاني وأنا أولى بحمله. أين موضع السوق؟

فقال: ألا تعرفه؟ تعال من هنا.

وكنا قد بعدنا عن المحطة مسافة تقرب من مائتي متر.

فسألني: كم معك؟ ولا مؤاخذة في السؤال يا سيد أفندي.

فقلت في شيء من الخجل: عشرون جنيهًا.

فجذب يدي واتجه بي إلى جهة الطريق الزراعية إلى يَميني وقال: وهل تريد أن نذهب للسوق. تعال إلى هنا.

وسار بي على الطريق حتى بعدنا عن القرية بنحو خمسمائة متر، ووقف لحظة يتلفت حوله ثم اتجه إلى شجرة على جانب الطريق، وقال: ها هنا موضعنا.

فقلت في دهشة: ماذا تريد؟

فقال: هنا موضعنا. نجمع من الفلاحين بالرطل والرطلين والعشرة. هنا تجارة الأمانة. انصب ميزانك هنا. بعشرين جنيه وتُريد الذهاب إلى السوق؟ هل عندك كيس؟ انتظر.

وحل الكيس الذي معه فأخرج منه كيسًا كبيرًا من أكياس القطن الفارغة وفرشه على الأرض، وأخذ مني الميزان فنصَب قوائمها وعلقها.

وكانت الساعة تبلغ السابعة من الصباح عند ذلك، وقد تحوَّل الجو على صحو صاف، ولمعت الشمس فوق الأفق، وكان الفلاحون يَتسارعُون على الطريق، بعضهم يسير على قدميه وبعضهم يركب، وكلٌّ منهم يحمل بضاعته.

وقال حمادة: أجلس أنت هنا كالأمير ودعني.

ثم ذهب إلى وسط الطريق وأخذ يُصفِّر صفيرًا عاليًا بمهارته التي عرفتها منه، فلم أستطع أن أقاوم الضحك، واستمر بعد ذلك يصفق ويصيح قائلًا: هنا تجارة الأمانة! هنا تجارة الأجواد! هنا تجارة سيد أفندي زهير!

وكان الفلاحون يَنظُرون إليه في دهشة، ثم يقفون حوله فيشير لهم نحوي، وقمت إلى ميزاني فسويتُه، واتخذت هيئة التاجر المجرِّب، فكلُّ من أتى إليَّ بما معه من الأرطال وقفت أنظر فيها وأقلبها ثم أزنها وأكتب الوزن على ورقة وأكتب أمامها اسم صاحبها، ثم يجيء حمادة فيفحص مرة أخرى ويُساوِم في الثمن حتى يرضى البائع فأصرف له النقود.

ولم تمض إلا ساعة قصيرة حتى فرغَت نقودي ولم يبق معي إلا ما يكفي للعودة بما اشتريناه إلى دمنهور، وأخذ حمادة يُعدُّ الكيسين الذين معه ليُعبئ فيهما القطن واستأجرنا عربة لتحمله إلى المحطة، واستطعنا أن نعود ببضاعتنا إلى دمنهور في قطار الظهر، وهكذا مر اليوم الأول من تجربة حظي في التجارة مع حمادة الأصفر، وكان ربحُنا فيه عظيمًا لا يقلُّ عن خمسة جنيهات فوق كل ما صرفناه في سفرنا وأُجرة النقل وثمن الأكياس، وكان حمادة سعيدًا في آخر النهار عندما أعطيته خمسين قرشًا، ولم يتركْني حتى تعاهَدنا على أن نذهب معًا في كل مرة إلى أسواق القرى المجاورة.

وكان سرور أمي من هذه المغامرة الأولى عظيمًا، وقالت تُوصيني بحمادة: تمسك بهذا المسكين، فمن يدري يا ولدي، لعل هذا رزقه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤