الفصل السابع
لم يقع بصري بعد ذلك اليوم على حمادة الأصفر كأنه اختفى من المدينة، ولم أعثر عليه مع محاولاتي الكثيرة في البحث عنه في القهاوي والأزقة المظلمة، ولم أجرؤ على أن أذهب وحدي إلى الأسواق، فإني كنت أشعر أني لن أستطيع شيئًا إلا إذا كان حمادة معي؛ فهو الذي يختار المكان الذي نذهب إليه، وهو الذي يفرز الأقطان ويقدر أثمانها في خبرة ومهارة لم تخطئ في مرة من المرات، ولكني مع هذا لم أكن قلقًا؛ لأن صفقة الشرنوبي كانت تعادل عشر صفقات متفرقة مما اعتدت أن أعقدها في أسواق القرى.
وكانت القراءة تشغل جانبًا كبيرًا من أوقاتي، وكتبت بضع مقالات لجريدة النبراس؛ لأن صاحبها زارني وطلب منِّي المساعدة على خدمة المدينة في أيام الانتخابات، ولكنِّي مع هذا كنت أحيانًا أحس ضيقًا يقرب بي من الثورة على نفسي وعلى القيود الكثيرة التي تقيدني، والسدود المنيعة التي تعترض سبيلي، فماذا صنعت بهذه الشهادة التي أشقيت نفسي بالتفكير فيها؟ وماذا أستطيع أن أفعل في مساعدة أختي بعد أن نجحت في الدور الثاني؟ لا أستطيع أن أساعدها على الاستمرار في الدراسة، ولا تلوح لي بارقة أمل في أن أخرج من الدائرة المقدورة التي أحاطت بها الأقدار حياتي.
وأما التجارة فهَبْني استطعت أن أجمع في كل موسم بضع مئات من الجنيهات، فماذا تجدي علي هذه المئات؟ هل أجرؤ بها أن أذهب إلى السيد أحمد جلال قائلًا: إني جئت إليك خاطبًا؟
وجاء إلي حمادة في منزلي بعد انقطاع شهر كامل، وكان وجهه أشد صفرة مما كان، وعيناه ذابلتين، وصارت الزرقة التي حولهما إلى ما يقرب من السواد، ولم يَبتسم عندما لقيني ولمحتُ على وجهه ما ينمُّ عن الحزن والحنق.
وقلت له: أين كنت؟
فأجاب في صوت خافت: في داهية!
فقلت في اهتمام: ما الخبر؟
فقال حانقًا: الخبر أني حمار لا يُساوي ثمن طعامه، الخبر أني وغد، أتذكر عندما قلت لي هذه الكلمة ونحن صغار؟ ما أزال أذكرها إلى اليوم وأعيدها على نفسي كلما تبين لي أنني وغد حقًّا، اصفعني إذا شئتَ أو ابصق في وجهي أو اطردني من هنا، فإني أستحق كل هذا، اطردني يا أخي!
فضحكت قائلًا: نؤجل هذا.
فقال حزينًا: لستُ أمزح ولا أتفكَّه، بل إن قلبي يدمي ونفسي تتحرق، أنا حمار حقًّا؛ لأني ظننتُ أنها امرأة، وظننت أني إنسان يمكن أن تحبه امرأة.
وكانت هذه أول مرة أسمعه يتحدث عن النساء.
وقلت له: ما كنتُ أعرف أن للمرأة شأنًا معك.
فقال متحسرًا: بلوى! أعترف لك بأني أغبى الخلق؛ لأني أعرف صورة وجهي وشكل جسمي ومع ذلك أكاوح. كل امرأة رأيتها كانت تسخر منِّي ومع هذا أعود إلى غيرها، ولكن هذه اللعينة التي رأيتها في السوق كانت شيطانة، جعلتني أنسى كل شيء وأعتقد أنها تحبني، أتتصور هذا؟ النهاية. لم أكن في هذه المرة إلا كما كنت دائمًا قليل العقل قليل النظر أو بالاختصار كنت حمارًا.
فقلتُ في ضجر: ليس هذا جديدًا عندي. ما لي وكل هذا؟
فقال: النهاية، ذهبت إلى «أبو المطامير» لأشتري صفقة قطن بالنقود التي أخذتها منك، أردت أن أقلدك وأجرِّب حظي، ولم أعلم أني مشئوم مؤبد، ألم أقل لك لا تُحاول إغرائي؟ النهاية، ساقني حظي الأسود إلى أعرابية تبيع عشرة أرطال من القطن، فقلت: أستفتح بها. يا للداهية السوداء يا سيد أفندي، كان وجهُها مثل القمر وعيناها مثل عينَي الغزال وضحكتها تطير العقل، أتعرف ماذا حدث؟ قل لي رأيك بالصراحة ولا تخجل من أن تقول لي: يا حمار! أكبر حمار خلقه الله.
فضحكت برغمي وقلت له: لست الوحيد.
فصاح قائلًا: أبدًا. لا يمكن. أتصدق أن أذهب لأشتري القطن، فتجعلني الشيطانة أغير فكري وأشاركها في تجارة الدجاج؟ وذهبت معها إلى القرية لنشتري الدجاج معًا، ورضيت أن أقيم في عشة حقيرة وأنام على الأرض؛ لأكون قريبًا من شريكتي، وعادت إليَّ في اليوم التالي تلبس شالًا من الحرير وقالت: إن النقود ضاعت منها، وأخذت تبكي، والمصيبة أني صدقتها وأخذت أسرِّي عنها، واستمرت بعد ذلك تعود إلي كل يوم بقصة جديدة وبغير دجاج حتى فرغ ما في جيبي، ولما عرفت أني أفلست انقطَعت عني فذهبتُ أبحث عنها، أتعرف أين وجدتها؟ كانت اللعينة واقفة عند دكان بقال القرية تُضاحكُه بغير خجل، ولما سألتها: ماذا تفعل هناك قالت في وقاحة: «وأنت مالك؟» وجعلت تسخر مني. قل إني مجنون، قل إني وغد، قل إني أي شيء واجعلني أستريح.
ثم حرَّك إصبعيه يطلب النقود.
ولا أستطيع أن أصف الاشمئزاز الذي غمرني عند ذلك، فلو رأيتُ أمامي حشرة قذرة لكان أهون عليَّ من رؤية هذا الإنسان المحطم.
وأسرعت بإعطائه جنيهًا لأصرفه عني، ووقفت أنظر في أعقابه بشعور من يرى خنزيرًا يخرج من بركة طين.
وداخلني سخط شديد لا عليه وحده، بل على نفسي أيضًا، فكيف عميت عن هذا الرجل ورضيت بأن أتخذه رفيقًا في سبيل الربح من التجارة؟ وكيف سمحت لنفسي أن أقرن نفسي به وأنا كبير عاقل، وهو الذي نفرت من صحبته وأنا صبي جاهل.
ونزلت إلى المدينة سالكًا طريقي المعتاد حتى بلغت جانب الترعة، وكان الجو دافئًا يتنفس بروائح الخريف.
وكانت الساعة عند ذلك الثالثة بعد الظهر، فعزمت على أن أجولَ بين الحقول بقية النهار، وكان معي كتاب جديد من الكتب التي ظهرت بعد الحرب، وعنوانه بالإنجليزية معناه: «المدينة الفاضلة»، وهو يتحدث عن المآسي التي أصابت المدنية الأوربية من فساد الأحكام واضطراب النظم، وفساد القائمين على تلك الأحكام والنُّظُم، الحال واحدة في كل مكان مع فارق واحد، وهو أن الناس هناك يكتبون عن عيوبهم ليلتمسوا الدواء لها.
وكانت أشعة الشمس الخافتة ترنو كالمريضة إلى العالم الذي تتمسَّك بالبقاء فيه، وأوراق الشجر تلمع من أثر قطرات خفيفة تتساقط من غمامة عابرة.
وبقيت هناك إلى ساعة الغروب، ثم عدت إلى المدينة، وكانت رائحة الهواء رطبة تفوح بعبق عطن لا أستطيع وصفه، ولكنه يثقل على الصدر، ولما وصلت إلى شارع المديرية سمعت ضجة بعيدة في ميدان المحطة، فاتجهتُ إلى هناك مسرعًا، وكان الميدان يموج بجموع كبيرة من شبان وأطفال يُلوِّحون بأيديهم ويَتواثبُون في اضطراب، وعلا صوت هتاف من وسط الميدان، فذهبتُ إلى قريب من سور المحطة لأعرفَ ما هناك، وضحكتُ ضحكة مرَّة عندما تبينت أنها مظاهرة سياسية، وكان الهتاف يتعاقب بين حياة السيد أحمد جلال وبين سقوط محمد باشا خلف.
ورأيت عن بُعد شابًّا محمولًا على الأكتاف يهز يديه في عنف، ويصيح بأعلى صوته متأنقًا في ندائه يُوقِّعه توقيعًا منظمًا كأنه منشد مُحترف: يحيا السيد أحمد جلال، يحيا حاتم دمنهور! يحيا المخلص الأمين، وكان يفصل بين كل حياة وأخرى بهتاف آخر من السقوط للمُنافس البائس، وكدتُ أنصرف من الملال لولا أن سمعت صفيرًا عاليًا يشبه صفير حمادة الأصفر، أيكون هو ذلك الشاب المحمول على الأعناق؟ ولم يَخِب ظنِّي عندما شققتُ الصفوف واقتربت منه، فإنه كان عند ذلك ملتفتًا في اتجاهي، وأخذ يُلقي على الجمع المحتشد حوله حداءً والجمع يُردِّد وراءه اسم السيد أحمد جلال: المحسن الكريم، السيد جلال، الوطني الكبير، السيد أحمد جلال وهكذا حتى أتم نحو عشرين حداءً، والجموع تردد اسم السيد من ورائه.
وضحكت برغمي مع شدة حنقي؛ فإن حمادة كان حقًّا بارعًا في تمثيل دوره، ولما فرغ من حدائه رفع يده إلى فمه فصفر صفيرًا عاليًا انطلقت بعده ضحكة من الجمع الكبير، ولم أستطع أن أمنع نفسي من المشاركة فيها، ثم نزل من فوق الأكتاف، وأخذ المتظاهرون ينصرفون في اتجاهات شتى، وبقيتُ أنا في مكاني مُستغرقًا في دهشتي، واقترب مني حمادة بعد أن هدأ الزحام وناداني قائلًا: ماذا تَصنع هنا يا سيد أفندي؟
فقلتُ ضاحكًا: أتفرَّج عليك.
فمدَّ يده نحوي مسلمًا وقال: وماذا تظنُّ يا عم؟ أنموت من الجوع أم نَنتحِر؟ هات نقودًا أصفر لك وأصفق وأهتف، أتظن أني أبله؟ خمسة جنيهات كاملة من أجل شغلة ساعة.
فقلت: فقط؟
فقال: تجربة أولى، ولا شك أن التجربة الثانية أغلى، هل سررتَ من طريقتي؟
فقلت ضاحكًا: جدًّا، مُهرِّج من الطبقة الأولى دائمًا.
فضحك حتى بدت أسنانه الصفراء وقال: أنا والله مُعجب بك يا سيد أفندي، أتعرف ماذا يُعجبني فيك؟ أعرفكَ من الصغر وكنتَ دائمًا هكذا، لا يُعجبك أحد ولا يُهمك أحد. أفلاطون!
واقترب مني يريد أن يضع ذراعه حول عنقي للدلالة على إعجابه، فشممت رائحة الخمر تفوح منه، رائحة خمر رخيصة جعلتْني أُبعدُه عني كارهًا.
فقال: ألم أقل لك؟ النهاية يا عم. لماذا لم تذهب إلى السيد أحمد جلال؟
فقلت: وماذا أصنع عنده؟
فقال: أتُنكر منى؟ ألم يبعت إليك مصطفى عجوة؟ والمائة جنيه يا عم سيد؟
فقلت في حنق: أي مائة؟
فقال: هل تظن أني طامع فيك وأريد مقاسمتك؟
فقلت غاضبًا: هذا كذب. أتقول إنَّ السيد أحمد أرسل إلى مائة جنيه؟ ولماذا؟
فقال: ولماذا تغضب يا أخي؟ كلٌّ منا له أجرته: أنا خمسة وأنت مائة، هذا أقل ما يلزم، النهاية يا عم أنا تحت الأمر، وإذا احتجتَ إلى شيء فأنا في خدمتك، سكرتير، محصل، وكيل، كما تشاء، أي خدمة.
فقلت في دفعة: ما هذه الألغاز يا حمادة؟
فقال: اسمع يا عم: جيبي عامر وريقي ناشف وجوفي خالٍ. ها. ها. ها.
وانصرف عنِّي فجأة بغير أن أعرف معنى أقواله، ولكني لم أقف طويلًا عند هرائه المخمور.
وكنت لم أطعم شيئًا منذ الصباح، فعرجت على مطعم يبيع الفول المدمس وأكلت بشاهية عظيمة، ثم شربت فنجانًا من الشاي في قهوة مُجاوِرة له، وجلست أستعرض مناظر يومي منذ جاءني حمادة الأصفر في منزلي، وعاد إليَّ شعور الضيق الذي كان يَملأ صدري، وعاوَدَني سؤالي القديم بتردُّد في إلحاح: ماذا أقصد في هذه الحياة؟ وبدت لي حياة فارغة لا يملؤها شيء، بل تطفو وهي جوفاء مع دفعات التيار الذي يتقاذف بها، لم أُفلِح عاملًا ولا تاجرًا كما لم أفلح طالبًا، واتجهت كالحائر قبل المشرق والمغرب واصطدمت في كل مرة في آخر سيرى بنهاية الطريق، فعرفت أني أسير في عطفة مسدودة.
وقمتُ من القهوة أسير في الطريق لا أقصد إلى وجهة، فدخلت شارع المديرية ثم شارع السوق، ووصلت آخر الأمر إلى شارع «أبو الريش»، وكانت الطريق المؤدية إلى محلج السيد أحمد جلال تتلألأ بأنوار المصابيح القوية، وباب المحلج يبدو من بعيد مثل قصر مزخرف بباقات من الأضواء الملونة، فعرجت إلى يساري ودخلت إلى السرادق الكبير الذي كان في رحبة المحلج، وكان السيد أحمد جلال جالسًا في الصدر، فلما وقع بصرُه عليَّ ناداني في مودة: تفضل يا سيد أفندي!
وقام لاستقبالي، فاتجهت الأنظار نحوي، وقام مَن هناك وقوفًا مع السيد أحمد، فسلمت بتحية عامة بعد أن صافحت السيد، واستأنف الجالسون الحديث، فقال السيد أحمد: نحن نتحدَّث عن هؤلاء الذين يستعينون بالحكومة علينا يا سيد أفندي، مع أنهم يقولون إن الانتخابات حرة.
فصاح مصطفى عجوة: دعهم يفعلون ما يشاءون فنحن الأقوياء، الشعب يُغرق أصواتهم.
ونظر إليَّ وكان وجهه أزرق مُحتقنًا من التحمس، فوضعت يدي على وجهي لأداري ابتسامتي، والتفت السيد نحوي قائلًا: وما رأيك يا سيد أفندي؟
فقلت: في أي شيء؟
فقال: كنا نتكلَّم في إنشاء جريدة.
فبادر مصطفى قائلًا: فكرة عظيمة.
ولم يكن في الفكرة ما يمنعني من أن أقول إنها عظيمة، ولكني عندما سمعت صوت مصطفى عجوة شعرت برغبة شديدة في المخالفة، ولم أجب عن السؤال لأن أصواتًا أخرى تسابقت إلى الإجابة.
فقال الشيخ القرش: فكرة مُدهِشة بغير شك.
وقال الوزان الذي حلَّ محلي واسمه الشيخ مسلم: مشروع وطني.
وقام مصطفى عجوة صائحًا: يحيا السيد أحمد جلال.
فصفَّق الحاضرون وصاحوا يرددون الهتاف، والتفت السيد أحمد نحوي قائلًا: هل توافق على الفكرة؟
فقلت في هدوء: المهم هو تحديد الغرض منها.
فقال مُظهرًا الارتياح: عظيم.
والتفت إلى من حوله قائلًا: حسن جدًّا، الآن اتفقنا، أتُوافقنا على اقتراح الشيخ القرش؟
ونظر إليَّ قائلًا: ما رأيك في أن يكون اسم الجريدة «الواعظ»؟
فقلت: يُمكنُنا أن نجد الاسم المناسب في كل وقت.
فصاح الشيخ القرش: الاسم أولًا، الاسم هو نعم العنوان.
وصاح مصطفى عجوة معزِّزًا: نعم العنوان.
فقال أحد الجلوس: الواعظ يا مولانا يَصلُح لجريدة دينية، المنار أحسن.
فقام الشيخ القرش واقفًا وقال في غضب: الواعظ يدلُّ على المعنى واضحًا، فيه كل المعاني.
فصاح شيخ آخر: نُسميها المشكاة.
وضحك الحاضرون عندما قال السيد أحمد في سخرية: المشكاة؟
وقال الشيخ: قال الله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.
وتعالى صوت قائلًا: لماذا لا نقول: المصباح؟ هذا أسهل.
وقالت أصوات أخرى: نعم المصباح المصباح.
فصاح الشيخ القرش في غضب: أي مصباح؟ هذه كلمة مُبتذَلة، إذا كان ولا بد فليكن «النبراس».
وصاح مصطفى عجوة: النبراس اسم جريدة هنا، ولا يجوز أن نأخُذ نحن هذا الاسم.
فقال القرش: نُسمِّيها النبراس الجديد يا أخي.
فانفجرت ضحكة عالية من الجميع كان لها أثر في تخفيف حرارة المعركة، وقلت للسيد أحمد جلال: أظنُّ أنه من الحكمة تأجيل اختيار الاسم الآن.
فقال السيد: هذا رأيٌ حسن.
ثم قام قائلًا: تعال معي يا سيد أفندي. عن إذنكم، اسمحوا لي أن أذهب مع سيد أفندي لنُعدَّ المشروع، وخرج من السرادق، وسرتُ وراءه شاعرًا بأهميتي، ولما دخلنا إلى المكتب أشار السيد إلى مقعد قريب منه، فجلست وجلس هو على المكتب وبدأ قائلًا: أنا ممنون جدًّا يا سيد أفندي من هذه الزيارة، وأشكرُك بنوع خاص على إجابة دعوتي.
فقلت في دهشتي: لم تَصلْني منك دعوة.
فرفع حاجبيه قائلًا: ألم يَذهب مصطفى إليك؟
فقلت: لا.
فقال مستمرًّا: على كل حال هذا أملي فيك يا سيد أفندي. أنت مثل ولدي والظروف هي التي تجعلنا نعرف الصديق، لا شكَّ أنك تعرف أن هذه الأوقات عصيبة، وخصوصًا لأن منافسي محمد باشا قريب رئيس الوزارة.
ومع أنهم يقولون: إن الانتخابات حرة فإنَّ المصلحة الوطنية تجعلنا نجاهد في سبيل تحقيق رغبة الشعب، وأنت تعرف يا سيد أفندي أني دائمًا أحب لك الخير.
فشكرته على قوله وانتظرت حتى يقول ما يُريد، فاستمر قائلًا: نريد أن ننشئ جريدة وطنية كما سمعتَنا نتحدث، لتَنطِق بصوت الشعب، الجريدة مجهزة بكل ما يلزم، المطبعة تحت يدي وهي مطبعة العجمي رئيس شباب دمنهور، والورق موجود.
فهززتُ رأسي منتظرًا.
واستمر السيد يقول: وستكون كمية الورق كبيرة وبالتسعيرة، وأما الأجر الشهري فلن يكون محل خلاف، وعلى فكرة، يمكنك أن تأخذ الورق الباقي من المقرَّر لتتصرَّف فيه، هذه فرصة عظيمة يا سيد أفندي، وطِنُّ الورق في السوق يساوي أربعمائة جنيه كما تعرف.
وكنت أُنصتُ إليه وأسأل نفسي: «ماذا يقصد؟»
وختم السيد حديثه قائلًا: هذه فرصة عظيمة يا سيد أفندي والقطار السريع لا ينتظر إلا قليلًا، ثم لا يقف لأحد بعد ذلك.
وقلت في نفسي: القطار السريع مرةً أخرى؟
ولمحت السيد يخرج من جيبه ظرفًا سمينًا، ويضعه أمامي قائلًا: هذا مبلغ صغير يا سيد أفندي، مقدمةً ليس إلا.
ولستُ أدري ماذا حدث لي عندما سمعت قوله، فإني رفعت رأسي قائلًا وقلبي يتحفز: ألا نضع برنامج الجريدة أولًا؟
فأجاب مسرعًا: هذا شيء واضح لا يحتاج إلى إضاعة وقت، أليس كذلك؟ ونحن في حاجة إلى كل وقتنا، المهم أن نكسب المعركة.
فقلتُ متمالكًا شعوري: في سبيل أي شيء؟ ماذا نقصد من وراء المعركة؟ هذا ما أسأل عنه.
فقال في دهشة: هي المعركة الانتخابية.
فقلت: ولكني أسأل عن الجريدة. أليست للنُّطقِ بلسان الشعب؟
فقال بسرعة: طبعًا.
فقلت في عناد: إذن فماذا نقول على لسان الشعب؟ إننا نريد أن يلتفَّ الناس حولك عن إخلاص ويشعروا بأنك تَنطِق بلسانهم حقًّا، ومن المصلحة أن نرسم ما تقوله للشعب حتى يعرف المبادئ التي يَنتخبُك من أجلها؟
فقال في فتور: مثل ماذا؟
فقلت: الشعب طبعًا يريد أن يعيش ويشبع ويلبس ويسكن، ويُريد أن يتعلم ويتداوى ويُحسَّ أن الحكومة تخدمه ولا تَسلبُه، يُريد من البرلمان أن يجتمع للنظر في مصلحته لا في مصلحة أعضائه، ويريد أن يكون أعضاء البرلمان خُدَّامًا له لا سادة يستغلُّون ثقته، هذا ما أظن أنه صوت الشعب، وهذا ما يصحُّ أن تُبايع عليه الشعب.
وكان السيد ينظر إليَّ بوجه يَنطِق بالضجر، ولأول مرة لاحظت عليه أنه ينظر إلى وجهي نظرة ثابِتة غاضبة.
ثم قال في استياء: قل لي يا سيد أفندي بالصراحة، هل صحيح أنك تُريد الانضمام إلى محمد باشا خلف؟ هذا ما قيلَ لي ولكنِّي أستبعده.
وبدأت أفهم الموقف على حقيقتِه؛ فقد سمع أني سأعمل داعية لمحمد باشا منافسه، فأراد أن يَشتريَني أولًا، وضحكت من الفكرة؛ لأنها كانت مفاجأة.
فقال غاضبًا: ماذا يُضحكُك يا سيد أفندي؟
فقلت له: أنا آسف. لم أقصد شيئًا سوى أنه لم يَخطر ببالي أن أقوم بالدعاية لأحد، ولست ممَّن يصلحون لمثل هذه الخدمة.
فقال في شيء من الحدة: قل لي رأيك بالصراحة، وأنت حر طبعًا.
فقلت: ليس قولي غامضًا يا سيدي، لستُ أصلح للدعاية إلا للمبدأ الذي أؤمن به.
فقال في فتور: أتتَّهم مبدئي؟
فقلت ثابتًا: لم أعرفه بعدُ يا سيدي.
فقال في أنفة: هذه مناقشة لا فائدة منها، والوقت ضيق لا يحتمل مثل هذا، قل لي في بساطة أنك تَقبل أو ترفض.
فصعد الدم إلى رأسي وقلت: ماذا أقبل وماذا أرفض يا سيدي؟ إنك لم تعرض علي فكرة، كلُّ ما عرضته هو هذا الظرف الذي أمامي والورق الذي يُمكن أن أبيعه في السوق السوداء.
فقام قائلًا: أنت تتعدَّى طَورك يا سيد أفندي. أنت تُكلِّم السيد أحمد جلال.
فقمتُ كذلك قائلًا: وأنت أيضًا تكلم سيد زهير.
فصاح مُنفلتًا من زمامه: هذه وقاحة!
وفي لحظةٍ انفلت الزمام من يدي أيضًا وقلت: بل الوقاحة أن تشتمني.
فاستشاط غضبًا وقال: اخرس، أنت محتاج إلى أن أؤدبك حتى تعرف كيف تكلمني.
وتنبَّهت عند ذلك إلى أيِّ حدٍّ انفلت الزمام منا جميعًا، وإلى العاصفة التي هبت على غير انتظار.
أهكذا يصل الأمر بيني وبين السيد أحمد جلال؟ هذا الرجل الذي لم أرَه مرة في حياتي يغضب؟ أهي حُمى الانتخاب أم هناك سبب آخر جعله يظهر في هذه الصورة التي لم أعرفها فيه طوال هذه السنوات؟
وأردتُ أن أتدارك الأمر فسكت مطرقًا، ولم أجب على كلمته الأخيرة، ولكنه تمادى قائلًا: سأعرف كيف أسحَق غرورك هذا، سأحطمك.
فوجدت نفسي أضحك ضحكة عالية.
وزاد غضبه فقال: سأَعرِف كيف أحطمك وستندم قريبًا.
فقلت في سخرية: وكيف تُحطمني؟ هل أنت إله أيها السيد؟ ثم لماذا تريد أن تحطمني؟ ألأني لا أسخِّر نفسي لك؟ ألأني أرفض أن تشتري ضميري؟ إذن فاسمع أيها السيد، افعل ما تقدر عليه فلست أعبأ بتهديدك، افعل ما تقدر عليه فلستُ أرهب سطوتك، أنت لا تملك من أمري شيئًا؛ لأني غير مُحتاج إليك في شيء، أنت لا تَزيد في نظري على صندوق مملوء بالذهب في قاع المحيط.
وتركتُه مُبادرًا قبل أن يجيبني، وكان ينظر نحوي هائجًا ينتفض من الغيظ.
ولما صرتُ في فناء المحلج واستلقَيت الهواء البارد أحسست أن جسمي كله يشتعل حرارة، وخرجت مُتباعدًا عن المكان الذي فيه السرادق حتى لا يَراني أحد، وكان قلبي يغلي غيظًا، ولكنه كان في الوقت عينه حزينًا آسفًا على هذه العاصفة التي ثارت فجأة.
كانت الساعة العاشرة من المساء عندما خرجت من محلج السيد أحمد جلال، وسرت في الطريق المؤدية إلى جسر الترعة وأنا موزَّع بين الرضا والأسف والقلق: أما الرضا فلأني كنت أحس وجودي منذ وقفت أمام السيد الكبير وجبهتُه برأيي ورددت عليه إهانته وتحديتُ سلطانه عندما هددني بأن يَسحقني ويحطمني، وأما الأسف والقلق فلأني كنتُ أُفضِّل لو لم أصطدم بالسيد أحمد مثل هذا الاصطدام الذي لم يدَعْ سبيلًا بيننا إلى الأمل في حفظ مظاهر المودة والمسالمة، فإني عندما خرجت من خدمته من قبل لم أقطَع ما بيني وبينه قطعًا يحُول دون الرجوع إلى مصافاته؛ ولهذا لم أتردد في أن أذهب إليه لأبيع له قطن الشرنوبي، ولم يتردَّد هو في أن يبعث إليَّ لأكون معه في أيام الانتخابات، ولكن تلك المصادمة الأخيرة جعلت موقف كلٍّ منا نحو الآخر لا يقلُّ عن موقف العداوة الصريحة، وما كنتُ أحرص على شيء مثل حرصي على حفظ مظاهر المودة بينه وبيني على الأقل، وقد تحرَّج الموقف بيننا فجأة، ولم يكن ليخطر ببالي أن ذهابي إليه في تلك الليلة يؤدي إلى مثل تلك المغاضبة.
سرت في الظلام أراجع نفسي وأجادلها، والدوافع المتعارضة تتقاذف بي حتى اقتربت من عطفة من العطفات الصغيرة التي تنتهي إلى الجسر، فلمحتُ عندها جمعًا كبيرًا من رجال ونساء وأطفال تعلوا أصواتهم في سكون الليل، ولا يظهر منهم في الظلام إلا أشباح تتحرَّك في الأشعة الخافتة من مصباح ضئيل عند رأس العطفة، ولم أجد بقربي عطفة أخرى أستطيع أن أنفذ منها إلى المدينة حتى أتفادى المسير بين ذلك الجمع، فلم أجد حيلة سوى أن أتقدم وأشق طريقي، وكان الناس يتزاحمون ويتواثبون ويُصفِّقون في زياط، ويثيرون الغبار القذر بأقدامهم حتى ضاقت أنفاسي من روائحه، فأسرعت في السير كاتمًا نفسي حتى اجتزتُ بهم وبدأت أملأ صدري من الهواء الخالص عندما بعدت عنهم، ولكني سمعت من خلفي صيحات مذعورة تنادي: «الإسعاف»، وأصوات أخرى تصيح: «لقد مات!» فتوقفت عن سيري ثم اندفعت بغير تفكير عائدًا إلى موضع الزحام لأسأل من هناك عما حدث، وكان أول ما خطر لي أن هناك غريقًا يحتاج إلى إسعاف، وتدسستُ بين الجمع حتى وصلت إلى قلب الحلقة، فإذا أنا أمام شخص حمادة الأصفر مُلقًى فوق كومة من التراب لا يعي شيئًا، ومن حوله بركة قذرة من المواد العفنة التي طردَها من جوفه، وشعرت بوخزة مؤلمة في رأسي كأن مسمارًا دقَّ في أعلى صدغي، وملتُ عليه في قلق لأستمع إلى دقات قلبه، وأنا متقزِّز من الرائحة الكريهة المنبعثة منه ومن الكومة التي حوله، وكان جسمه رخوًا تغطيه رطوبة لزجة، وقلبه يدق ضعيفًا، فلم أدر ماذا أفعل، فما كنت أقدر على أن أتركه هناك وأمضي في سبيلي، وما كنت كذلك أقدر على البقاء في ذلك المكان القذر لأشارك المتزاحمين حوله في الصباح عبثًا أين الإسعاف، فأخرجت منديلين من جيوبي، وأخذت أمسح وجهه ورقبته ويديه مما علق بهما من القذر وألقيت بهما إلى جانب، وصحت في الجمع قائلًا: هيا بنا أيها الرفاق نحمله إلى جهة نجد فيها الإسعاف.
ولكن الواقفين نظروا نحوي في تردُّد، ونظر بعضهم إلى بعض، فقلت لهم: أليس هنا صيدلية قريبة؟
فقال أحدهم: في السوق.
فقلت متوسلًا: أرجو أن تساعدوني على نقله إلى مكان قريب نطلب منه الإسعاف.
فاستجاب ثلاثة من الشبان إلى ندائي، ومالوا في صمت إلى الجثة الهامدة ورفعوها معي، واتجهنا إلى ناحية «أبو الريش» وهي الأقرب إلى العمران، ولما سرنا نحو مائتي متر بلغنا الباب الخلفي لمحلج السيد أحمد جلال، فصاح الشبان في نفس واحد: هنا!
وعرجوا إلى الباب ليلقوا فيه حملهم قبل أن أجد وقتًا لمناقشتهم، وهناك ظهر وجه حمادة في ضوء المصابيح الكهربائية القوية أبيض مثل وجه الموتى، وهبَّ البواب ومعه ثلاثة من العمال يمنعوننا من الدخول، ولم يُجدِني نفعًا أن قلت لهم إنه «حمادة الأصفر»، وتلفت حولي لأرى موضعًا نضع عليه الجسد الذي نحمله، فوجدت دكة البواب فطرحناه عليها، وصاح البواب بنا غاضبًا، ولكني لم ألتفت إلى أقواله، وأخذت أمسح العرق الذي كان يتصبب مني، وأخذ الشبان الثلاثة يتشاورون بالنظرات فيما يفعلون، وصاح أحد العمال بنا: «امشوا من هنا.»
فصحت به: «أما تراه يا رجل؟ نُريد أن نطلب الإسعاف.»
فقال مهددًا: خذه من هنا وانصرف.
فصحت به في غيظ: لقد كان في المغرب يَهتف للسيد أحمد.
فصاح مرة أخرى في لهجة أعنف: قلت لكم امشوا من هنا، واقترب البواب والعاملان الآخران ليجعلاها معركة، ولكن حمادة تقلب في تلك اللحظة واختلج جسمه خلجات شديدة، وأخذ يطرد بعض ما تبقى في جوفه من الفضلات العفنة، فبعد البواب والعمال صائحين شاتمين، ولم نجد بدًّا من حمله والذهاب به عندما جاء البواب وأصحابه يعيدان الكرة علينا، فصحت بهم: قولوا للسيد إن هذه البركة العفنة هي بضاعته ردت إليه، هي الجنيهات الخمسة التي أخذها حمادة ثمنًا للهتاف في المظاهرة.
وحملنا حمادة وسرنا به في الظلام على الشاطئ الموحش، وأخذ الشبان يبرطمون غضبًا، واقتربنا من مخزن قطع سيارات قديمة، فأسرع الشبان إليه، وألقوا بالجثة عند بابه وعادوا أدراجهم مسرعين.
وجاء صاحب المخزن ينظر إليَّ في استنكار، فقلت له مستعطفًا: بعض الماء من فضلك.
وملت على حمادة أدلك يديه، واستمعت إلى دقات قلبه مرة أخرى، وسمعت صاحب المخزن يدمدم قائلًا: ما هذه الداهية؟
فقلت له: هذا بائس مسكين وجدتُه مغمى عليه في الطريق.
ويظهر أن الرجل أحس شيئًا من الرحمة، فأتى بكوز من الماء فرششت منه على وجه الصريع وكانت دهشتي عظيمة عندما رأيته يتحرَّك، فناديته مسرورًا ولكنه أخذ يطرد من جوفه فضلات أخرى، فبعدت عنه كما بعد عنه صاحب المخزن مُشمئزًّا وهو يلعن قائلًا: من يمسح هذا؟
فأخرجت له ورقة من ذوات نصف الريال وقلتُ له: أنا آسف لإزعاجك، وأرجو أن تدعو من يساعدك على تنظيفه.
فأخذ الرجل النقود صامتًا، ونظرت إلى وجهِه فوجدته ينطق غضبًا وغيظًا.
فناديت في حنق: حمادة!
فتحرَّك وأراد القيام ولكنه لم يقدر، فأسرعت إليه لأساعده، وكان جسمه لا يكاد يتماسك، ثم استطاع آخر الأمر أن يقوم مستندًا على كتفي وقال بصوت ضعيف: سيد أفندي؟
فقلت: أتقوى على السير؟
فهز رأسه ولم يجب وسار يجر رجليه وأنا أكاد أحمله، ووجدت صعوبة كبرى في أخذ أنفاسي؛ لأن رائحته الكريهة كانت تَنفذ إلى خياشيمي.
وكان من حسن الحظ أن مرت بي عربة نقل مما يَحمل القطن، فصحت أنادي السائق أن يقف ليساعدنا، ولم يُخيِّب الرجل رجائي، فوقف وجاء يساعدني، وسألت حمادة: أين يقيم؟ فأجاب في صوت ضعيف ساخر: لا أعرف.
فقلت لصاحب العربة: على طول.
وعزمت على أن أذهب بذلك العبء المخزي إلى أقرب قهوة، وأتركه بها ما دام قد أفاق، ووصلنا بعد قليل إلى قهوة صغيرة، فأجلستُه بها، وبعدت عنه قليلًا؛ لأملأ صدري من الهواء، وفي نفسي مشاعر شتى من الرثاء والاشمئزاز والعطف والنفور، وجاء خادم القهوة فطلبت له فنجانًا من الشاي وقطعة من الليمون، ووقفت حتى رأيته يشرب، وكان وجهه ما يزال مثل وجه الميت وعيناه غائرتين وشدقاه منطبقين وجلد وجهه مكرشًا وعليه خطوط زرقاء عميقة، وتبسم لي شاكرًا فبرزت أسنانه كأنها في جمجمة رمة بالية.
وقال بصوته الحاد: لا شك أني سببتُ لك تعبًا شديدًا، أنا منحوس كما قلت لك يا سيد أفندي، ولكني لم أقل لك أتعِب نفسك. ما كان يضرني شيء لو بقيت في الطريق حتى أفيق، هكذا أفعل كلما سقطت، وهذا ما أستحق، لا تؤاخذني فإني لا أحب أن يَرحمني أحد، أكنت تسألني: أين أسكن؟
ثم ضحك ضحكة عصبية واستمر يقول: أين تقيم الكلاب الضالة؟ أين تقيم الحشرات؟ أقيم مثلها حيث أجد جحرًا يُظلني، في هذه المواخير التي أجد فيها مأوى، أراك تدير وجهك عني، لست أخشى أن تَحتقرني ولا أطلب منك ألا تحتقرني، افعل ما شئت فلست أقدر أن أحتقرك أنا الآخر. تفضل أنت يا سيد أفندي. هل دفعت ثمن الشاي؟ هات لي قرشين أولًا.
وفرك إصبعَيه كالعادة.
فقلت متعجبًا: كان معك خمسة جنيهات غير الجنيه الذي أخذته مني.
فضحك مرة أخرى قائلًا: كانت في جيبي … وأخذتْها المرأة طبعًا، هي حقيرة مثلي، ونحن نتعامل في صراحة، هي تسرقني وأنا أسرقها، هي تقول لي: يا وغد، وأنا أقول لها: يا ساقطة، ولكنَّها مع هذا تُؤويني ولا يجرؤ أحد آخر على إيوائي، كانت المرأة الأخرى حقيرة مثلها، ولكنها وجدت من يخطفها مني، فأقفلت بابها في وجهي، ها ها ها ها.
أتعرف من هي؟ زينب التركية، زينب الشقراء، أتعرف من هو …؟ صاحبها، الرجل العظيم الذي كنت أُصفِّق له وأصفر وأهتف، كان ذلك منذ سنوات طويلة، رآها مرةً عندما بعثتها إليه تطلب بعض النقود؛ لأني كنتُ مريضًا، وهي بغير شك جميلة يا سيد أفندي، فأسعفني ببعض النقود ولكنه خطفها مني، أتفهَم؟ وبعد أسبوع واحد طردتْني من بيتها ها ها ها. النهاية يا عم سيد، عمر الشقي بقي، لم أَمُت عند ذلك وقلت لها: في داهية، وذهبت إلى زينب الأخرى، زينب الفلاحة التي أعيش عندها، وهي تعاملني وأعاملها كما يُعامل الكلاب بعضها بعضًا، أليس معك نقود يا بو زهير؟
فأخرجت من جيبي ورقة بخمسين قرشًا وقذفتُها أمامه، ودفعت إلى خادم القهوة ثمن الشاي، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل.
فقلت لحمادة: أظنك تقدر على السير وحدك. ألا تُحاول أن تكون رجلًا؟
فضحك قائلًا: ومن قال لك إني أريد أن أكون رجلًا؟ اذهب إذا شئت ودعني، أنا حشرة، أنا كلب ضال، دعني أسرع، دعني أجري، طريق عفنة مظلمة كلها خوف وقذارة، خوف بالليل والنهار وخوف من أمامي ومن خلفي، قلبي وعيني وسمعي كلها مخاوف، الأمس مُخيف والغد مُخيف والحاضر فزع، وأنا أجري وأجري أطلب النجاة، ولكني أتعثر وأقع وأتخبط والطريق مظلم والأوحال تجعلني أنزلق، ومن ورائي أشباح كثيرة تُطاردني، فأُسرع لكي أتخلَّص، أتخلص من هذه الحياة ومن الأشباح التي تطاردني فيها، ولكني لا أرى أمامي طريقًا للهرب، أتعرف الخوف يا سيد أفندي؟ هو الذي يجعلني أهرب، ولكني عندما أحاول الهرب لا أجد مكانًا أهرب إليه، فأهرب من نفسي، أريد النسيان لأهرب، أريد المرأة لأهرب، أريد الخمر لأهرب، اذهب عني أنت ودعني.
وامتلأ قلبي غمًّا مما سمعت، وكان منظره وهو يتكلم يشبه منظر المجنون الثائر، فانصرفت من أمامه حزينًا أسائل نفسي: هل يستطيع أحد أن يُنقذ ذلك المسكين؟ وعدت إلى المدينة وأقوال حمادة البائس اليائس تتردد في ذهني، وكانت الطرق خالية موحشة والدكاكين مغلقة، ولكن الجو كان رطبًا لطيفًا، ولما وصلت إلى كوبري السكة الحديدية اتجهت في الطريق المؤدي إلى شبرا، وهو طريق مظلم زاده السكون رهبة لولا رجل مخمور آخر يسير متطوحًا ويغني: «الفجر أهو لاح قوموا يا تجار النوم!» هو الآخر يُحاول الهرب والنسيان ولكنه يغني، وتركته ورائي لأنه كان يتقدم خطوة ويتأخر خطوة، كم بين الناس من هؤلاء المساكين الذي يحطمهم الخوف! أيستطيع أحد أن يمد إليهم يد المساعدة؟
وبلغت منزلي وكانت أمي وأختي تنتظران في قلق من غيابي، وحاولت أن أظهر لهما هادئًا، بل حاولت أن أكون مَرِحًا، ولكني استأذنت لأذهب إلى غرفتي، وما كدت أدخلها حتى وجدت نفسي أبكي بكاءً مرًّا.
وكان ذهني يَضطرم بشعور مختلط من الحزن والغم والرثاء والعجز والضآلة، كانت صورة حمادة تمر في خيالي في أوضاع شتى بين تاجر الأسواق المرح وبين قائد المظاهرة المهرِّج وبين السكِّير البائس المُحطَّم.
وأخذت قلمي وجعلت أكتب ولا أدري ماذا أريد أن أكتب، ولكن الأشباح التي كان حمادة يتحدث عنها صارت تطاردني وأنا أكتب، وكان قلمي يسرع كأنه يريد أن يجد هو الآخر سبيلًا إلى الهروب.
ولما تعبتُ من الكتابة وضعت يدي على رأسه فوجدته يتَّقد حرارة، ولكني لم أتوقف عن الكتابة، وكلما فرغت من ورقة ألقيتُ بها على الأرض فتطير وتقع حيث تشاء، ولم أشعر بمضي الوقت وكنت لا أكاد أعي ما أكتب، وكلَّت يدي من الكتابة، ولكني لم أتوقف حتى فرغت من القصة، ولست أدري أكان فراغي منها هو الذي جعَلني أُحسُّ الإعياء أم أن الإعياء هو الذي جعلني أفرغ منها، وقمت أترنَّح حتى استلقَيت على سريري بملابسي، وكان رأسي يدور ويهتزُّ كأن في داخله عاصفة، وكانت عضلات جسمي تَنبِض كما ترفُّ العين، وأحسستُ في ظهر وعيي طرقًا على الباب، ولم أعرف من الطارق، وكان آخر ما أذكر أني رأيتُ وأنا مُغمِض عيني كأن شريطًا أغبر اللون يمر أمام بصري في سرعة.