الفصل الثامن
فتحت عيني على أثر لمسة فوق جبيني، ورأيت أمي جالسة إلى جانبي وهي تضع منديلًا مبللًا على رأسي، وشممت رائحة «كولونيا»، وكانت أختي منيرة واقفة على بُعدِ خطوة منها جاعلة ذراعيها على صدرها، وتنظر نحوي في لهفة وعلى وجهها ابتسامة حزينة، ولمحت شخصًا آخر يقف في الناحية الأخرى من المنضدة التي في وسط الغرفة، وسمعته يقول: «صباح الخير يا سيد.» وكان صوت عبد الحميد عباد، فهمستُ بصوت خافت: «ماذا جرى؟»
وقالت أمي في ابتسامة ضئيلة: كيف أنت يا سيد؟ وكانت الدموع تملأ عينيها.
وأردت أن أتحرك لأجلس، ولكن وسطي ومفاصلي وعيناي آلمتني، فعدلت عن الحركة وبدأت أسعل سعالًا شديدًا، فذهبَت منيرة إلى المنضدة وملأت ملعقة من زجاجة هناك وجاءت إليَّ لأشربها، وقالت وهي تتظاهر بالمرح: «أخرج هذا البرد الذي ملأ جسمك.»
فاستسلمت لها وشربت الدواء، فمدَّت منيرة يدها إليَّ بمقياس الحرارة، ففتحت فمي هادئًا كأني طفل مطيع، وعدتُ أسأل سؤال عندما أخرجت منيرة مقياس الحرارة من فمي فقلت: ماذا جرى؟
فقال عبد الحميد: «المسألة بسيطة. كنتَ غائبًا عن الوعي منذ يومين، ثم بدأت تفيق الآن، وكانت حرارتك أربعين درجة فصارت الآن سبعة وثلاثين.»
ولم يُدهشني هذا الخبر كأني كنت أعرفه من قبل، وبدأتُ أتذكَّر أني كنت أكتب قصة، فحركت رأسي لأنظر إلى أرض الغرفة قائلًا: ألم تكن هنا أوراق؟
فقال عبد الحميد في مرح: عظيمة يا أستاذ سيد، ولماذا لا تَكتب على كل ورقة رقمها؟ وجدت صعوبة كبيرة في ترتيب الأوراق قبل أن أقرأها.
فقلت في اهتمام: وأين هي؟
فقالت أمي: لا تجهد نفسك يا ابني.
وقالت منيرة: سأُحضرها لك إذا شربت المرقة التي أعددتها لك.
وخرجت مسرعة فلم تسمع جوابي عندما قلت: لا أريد شيئًا.
وقال عبد الحميد: لم أَعرف أنك أستاذ في القصة.
فقلت في سرور: هل قرأتها؟
فقال: رائعة.
فأردت أن أتكلم ولكن السعال منَعني وكان شديدًا يكاد يمزق صدري.
ودخلت منيرة تحمل صينية صغيرة وضعتها على المنضدة، وقربتها من السرير قائلة: كن ولدًا طيبًا.
وجلست جنبي على السرير أخذت رأسي فوق ذراعها، وجعلت تَسقيني ملعقة بعد أخرى، وكان عبد الحميد يتحدث عن القصة في حماسة، ثم قال: إنها تفيض حياة يا أستاذ سيد وأشخاصها يشعون حرارة. أهنئك. أهنئك بكل قلبي ولو جمعت ما كتبت من هذا النوع لكان كتابًا بديعًا.
فأزحت الملعقة التي كانت في يد منيرة وقلت: إنها أول قصة.
فصاح: مستحيل، أهذه أول قصة؟
وأخرج الأوراق من جيبه وجعل ينظر فيها.
ولم أرض أن أشرب شيئًا بعد ذلك من المرقة، فحملَت منيرة الصينية وخرجت بها فقلت لعبد الحميد: أظنُّك تُجاملني.
فقال في هدوء: لو أردتُ المجاملة لما أرسلتها إلى بريد الأحرار.
فصحت: بريد الأحرار؟
وعاودني السعال الشديد فصاحت أمي: يا ابني، لا تجهد نفسك! ومع كل ألمي من السعال كان قلبي يهتزُّ فرحًا وزهوًا.
وقلتُ في صوت خافت: أتظنُّ الجريدة تنشرها؟
فقال عبد الحميد مبتسمًا: أظنه يَنشرُها من أجل عنوانها على الأقل.
وأخذت أتذكر العنوان فلم أذكره وقلت: لست أذكر عنوانها.
فتبسم عبد الحميد قائلًا: وضعته أنا «الفيلسوف المحطَّم» أليس هذا عنوانًا يستحق النشر؟
وعلى فكرة، كان الأستاذ علي مختار صاحب بريد الأحرار من أقرب أصدقائي في الدراسة.
لا مؤاخذة إذا تركتُك الآن يا أستاذ سيد؟ وسأحضر في المساء بعد إلقاء دروسي.
واستأذن منصرفًا فضغطتُ على يده شاكرًا، ولكن يدي كانت ضعيفة، فقلت له: أشكرك بكل قلبي.
ولم أحسب أن ذلك المرض يطول بي خمسة عشر يومًا كاملة، ثم لا يفارقني إلا هزيلًا ضعيفًا، فوق ذلك السعال الشديد الذي استمر يضايقني مدة شهرين، ولكن الضعف والهزال والسعال لم تعكر على السعادة التي غمرتني عندما عرفت من عبد الحميد أن بريد الأحرار ستنشر قصتي، وبدأت أخرج إلى المدينة بعد شهر من بدء مرضي، وكانت حركة الانتخابات تجتاحها وتلهبها، كانت جموع المظاهرات تتدفق وتتصادم كل يوم، وكانت اللافتات معلقة في كل مكان، فوق الأعمدة وعلى جدران المنازل وعلى أبواب الدكاكين، وكانت الأبواق المكبِّرة للصوت تصيح في كل ركن، وذهبت عند أول خروجي إلى مطبعة العجمي لأعرف ماذا تمَّ في جريدة السيد أحمد جلال، وكان العجمي زميلًا قديمًا في المدرسة، فوجدتُ عنده جمعًا كبيرًا من الموظفين والتلاميذ ووكلاء المحامين ووزاني المحالج يستمعون إلى خطبة يُلقيها «مهني أفندي» وكيل الأستاذ زكريا إبراهيم المحامي، وسمعتُه يتكلَّم عن ثورة الشباب على «عملاء الإنجليز».
ولما رآني العجمي رحَّب بي، وقدمني إلى الحاضرين على أني كاتب دمنهور العبقري، وأخذ يتحدث عن قصتي «الفيلسوف المحطم» التي نشرتها «بريد الأحرار» في ذلك الصباح بالذات، فاستقبلني الجمع بالتصفيق، وطلبوا أن يستمعوا إلى كلمة منِّي، فاضطررت أن أقف خطيبًا لأول مرة في حياتي بعد أن فرغ الأستاذ مهني من خطابته، وكانت خطبتي تدور حول الشعب المحطَّم الذي ينتظر من يأخذ بيده، ولا يجد من القائمين على حُكمِه إلا الطغيان والأنانية والمبالغة في تحطيمه، وأحسست وأنا أخطب أن المعاني تتدفق على لساني وكنت أجد صدى حماستي في السامعين الذين قاطعوا كلمتي بالتصفيق العالي.
ولما سألتُ العجمي عن الجريدة بعد انصراف الجمع قال لي: لن نعمل لحساب أحد من هؤلاء يا أستاذ سيد، وقد عزمتُ على ترشيح نفسي.
فكان ذلك نبأً سعيدًا عندي ووعدته بأن أجاهد معه بكل ما أستطيع، حتى تضرب دمنهور مثلًا في انتخاب المُخلِصين وإن كانوا من صفوف الشعب.
ومنذ ذلك اليوم أقبلت على معركة الانتخاب فجعلتُها معركتي، وبدأتُ من ذلك اليوم بوضع خطة مع «أنصار الشباب» لنَكتسِح المرشحين من «المنافقين».
وأخذنا نُعدُّ اللافتات وكتبنا عليها بخط أيدينا عبارات تسترعي الأنظار مثل: «الأعيان أعوان الطغيان» و«متى يُسقطُ البرلمان حكومة؟» و«برلمان الأعيان بناء من القش» وأمثال هذه من عبارات الدعاية الشديدة.
وكتبتُ بيدي لافتة وضعتها في وسط الطريق أمام مطبعة العجمي وعليها عبارة «أيها الشعب … أنا الشعب»، ونسيت في وسط هذه الحماسة ذكر قصتي وما كنت أعلقه على نشرها من الاهتمام وكنتُ أقضي يومي كله وجزءًا كبيرًا من الليل في اجتماعات وخطابة وتدبير الخطط واجتذاب الأنصار، واجتمع لنا عدد كبير من شبان المدينة، ولكن صاحبي عبد الحميد أصرَّ على الابتعاد عن هذه «المهزلة» وقال عندما فاتحته في الانضمام إلينا: لقد شاهدت هذه الملهاة التافهة مرارًا حتى مللتها.
ولكن رفضه الانضمام إلينا لم يَزِدني إلا إصرارًا على عزيمتي، وبدأت أحس أن إيمانًا جديدًا بدأ يقوى ويتجدَّد في نفسي، هؤلاء المساكين الذين تطحنهم الحياة لا يجدون لسانًا ينطق بآلامهم، فعلينا أن ننطق نحن من أجلهم، هذه الألوف المؤلفة من الجياع العُراة الجهَلة لا يجدون من يعطف عليهم، وعلينا نحن أن نعمل من أجلهم، وكانت الخطب التي ألقيها تزيد يومًا بعد يوم والأنصار الذين يُحيطون بنا يتضاعفون ساعة بعد ساعة، واعتقدنا جميعًا أن العجمي قد اجتاح منافسيه في الانتخابات بغير جدال.
وتواعَدنا قبل موعد الانتخاب بأربعة أيام على عقد اجتماع كبير في مسجد التوبة بعد العشاء؛ لأننا كنا لا نقدر على إقامة سرادق كبير يتسع للجموع التي اعتادت أن تتوافد على محافلنا.
ولما بدأ الاجتماع تعاقَبَ الخطباء واحدًا بعد واحد يتحدثون عن الشباب المخلص والأحزاب المزيفة التي ضلت الطريق، والحرية التي تتطلَّب الدماء، والجهاد الوطني من أجل الجلاء، وجاء دوري فأعلن منظم الحفلة اسمي ووصفني بالأديب الكبير والخطيب القدير، وأضاف إلى ذلك عددًا آخر من الصفات جعلني أخجل، وإن كنت في الوقت عينه امتلأت زهوًا وثقة بنفسي.
وقمت لأتكلم فبدأت بطيئًا هادئ الصوت، ورتلت بعض عبارات موزونة كنت نمقتها وحفظتها، وأضفت إليها ألفاظًا رنانة وسجعات مختارة فطرب السامعون لها، وتعالى تصفيقُهم إعجابًا واطمأنَّت نفسي إلى ذلك وبدأت أتدفق، فمن شاء أن يكون خطيبًا ناجحًا، فعليه أن يتحقَّق أولًا من الاستيلاء على عواطف سامعيه فيكون بذلك كأنه يعوم على اتجاه تيار الماء.
وكان لذلك الاجتماع دويٌّ كبير في المدينة في اليوم التالي، وتحدث به الناس مرددين ما قيل، وتجادَلُوا فيه بمجالسهم، فمنهم من أنكره ووصفه بالدعوة إلى الثورة، ومنهم من رضي عنه ووصفه بالإصلاح، ولكن الجميع آمنوا بأن الأمر قد انتهى إلى فوز مرشح الشباب محمود العجمي.
ولم يبقَ على يوم الانتخاب إلا يومان، فاستقر رأينا على أن نضرب الضربة الأخيرة في الليلة المقبلة، وتواعدنا على الذهاب بعد العشاء إلى المسجد وأذعنا في أنحاء المدينة أنه الاجتماع الأخير، ولم ندخر وسعًا في نشر الدعاية بكل ما استطعنا من الوسائل، حتى لقد استأجرنا ثلاث سيارات تجوب الأحياء، وفي كلٍّ منها مذياع لإعلان موعد الاجتماع ومكانه.
وبكرت قبل الموعد بنصف ساعة ذاهبًا إلى المسجد، وكنت قد أعددت في نفسي حديثًا ناريًّا تخيرت له مقدمة مسجوعة تأنقت في عباراتها، وكنت وأنا سائر في الطريق إلى المسجد أرددها وأستمع إلى جرس ترتيلها لأقدر موقعها من نفوس السامعين إذا بدأتهم بها، ولما وصلت إلى منعرج الطريق إلى الشارع الضيق الذي فيه المسجد، وجدت بعض جنود الشرطة يسدُّون منفذ الطريق وهم يَلبسون الخوذ الحديدية، ويُمسكون في أيديهم العصي الغليظة، وهب الضابط رئيسهم عن كرسيه فسألني عن وجهتي، فلما أجبته قال لي في جفاء: «إنَّ المسجد مُغلَق.» فأدهشتني المفاجأة وأخذت أجادلُه فأمسك بكتفي في غلظة ودفعني قائلًا: «تفضل!»
وهممت أن أدفعه كما دفعني، ولكني تذكرت أن ذلك قد يؤدي إلى عُقَد لا ينبغي أن أتورط فيها في ذلك الوقت، وانصرفت عنه في مظهر التحدي الصامت، ولما بعدتُ عنه وقفت مترددًا أفكر في ذلك الطارئ الذي لم نتوقعه، ولم أدر كيف نستطيع أن نتدارك الأمر، وتلفتُّ حولي لعلي أرى أحدًا من أصحابي وأنا قلق حانق، فرأيت بعد بضع دقائق أربعة منهم يجرُّون أقدامهم في خذلان ويُقبلون من ناحية طريق المسجد، فأسرعت إليهم ليُفرغ كل منا حنقه إلى الآخرين، وكاد شعورنا بالخيبة يصرفنا إلى أن نيئس وننفض أيدينا من الأمر كله، ثم اتفقنا على أن نذهب إلى العجمي لنرى رأيه، ولعلنا نجد عنده بعض أصحابنا الآخرين فنتداول الرأي فيما نصنع بعد هذه الصدمة، وكانت أفواه الطرق إلى بيته مغلقة بجماعات من رجال الشرطة، فاضطُررنا إلى أن نتفرق أفرادًا ونتسلل من الحواري الضيقة إلى البيت، وكان العجمي هناك يَغلي حانقًا لأنه سبقنا إلى المسجد وحدث له مثل ما حدث لنا، واجتمع إلينا بعد قليل عدد كبير من أصحابنا وأغلقنا علينا الأبواب وأطفأنا الأنوار إلا شمعة ضئيلة في الغرفة التي كنا بها في آخر البيت.
وبعد ساعة من جدال عنيف أجمعنا الرأي على أن نُقيم لنا سرداقًا كما يقيم الآخرون سرادقات لهم، فإن الإدارة لن تجد سبيلًا علينا ما دامت تبيح ذلك لغيرنا، وتبرعت في حماستي بخمسة جنيهات، واندفع بعض الأصحاب يتبرعون حتى اجتمع لنا ما يكفي لإقامة السرادق واستئجار الأثاث والمصابيح، ولم أعد إلى منزلي في تلك الليلة إلا في ساعة الفجر بعد أن اتفقنا مع الفراش على إقامة سرادقنا في فضاء واسع في جنوب المدينة.
وكان اليوم التالي آخر أيام الدعاية، ولا بد لنا من أن نضرب فيه ضربتنا الأخيرة، فتفرقنا في أنحاء المدينة نعلن على الناس نبأ الاجتماع في السرادق الكبير الذي يحمل اسم «شباب دمنهور».
وقضيتُ ساعتَين بعد الظهر في إعداد خطبتي، ثم ألقيتها مرتين لأسمع صوتي وأقدر ما يكون وقعها في الأسماع، فلما حانت الساعة الموعودة كنت مستعدًّا مطمئنًّا، وخفق قلبي سرورًا عندما ذهبت إلى السرادق فوجدتُه مزدحمًا بألوف من أهل المدينة، واستقبلني جمعهم بالتصفيق والهتاف كأني أصبحت زعيمًا.
وقدمني الأصحاب لأتكلم أولًا، وصعدت متمهلًا وأخذت أخطب هادئًا واثقًا من عطف الأسماع، فما هي إلا دقائق قليلة حتى كنت أشعر بأني أسبح مع التيار، وعلا صوتي شيئًا فشيئًا واتقدت حماستي حتى لم أجد داعيًا إلى قراءة خطبتي، فوضعت الأوراق وتدفقت في الحديث، وتحركت وكانت المعاني والصور تتمثل لي وتستولي على انتباهي حتى كدت لا أبصر شيئًا مما تقع عليه عيني، فلم أتنبَّه إلى شيء إلا عندما لمحت فجأة أن هناك حركة في الصفوف المتزاحمة في السرادق، وسمعت أصواتًا تتعالى عند المدخل، فتوقفت قليلًا لأرى ما تلك الحركة الطارئة، فإذا الصفوف المتراصة تتحرك ثم تَسري الحركة فيما يليها وما هي إلا دقيقة قصيرة حتى صار السرادق كله إلى فوضى شاملة، وبدأ البعض يتماسك بالبعض عند المدخل، وتعالَت الكراسي وهبطت واهتزت المصابيح وانطفأ أكثرها، وتدافع الناس خارجين إلى الطريق من كل جانب، فلم أفهم من كل ما حدث إلا أن الاجتماع قد فشل وحلَّت محله معركة.
وأسرعت إلى مدخل السرادق متحفزًا للعراك، والغضب يكاد ينفجر بصدري، فلما بلغت مكان المعركة رأيت بعض أصحابي مُشتبكين في صراع عنيف، فاندفعت معهم أضرب بيدي وقدمي، وأصابتني لكمات كثيرة لم أعبأ بما نالني منها، ولم أقف لأفكر في جدوى ذلك العراك بعد أن ضاع علينا كل تدبيرنا، وفيما أنا منصرف بكل جوارحي إلى المعركة رأيت جمعًا كبيرًا يهبط علينا من أقصى الطريق وفي أيديهم هراوات يُلوِّحون بها في الهواء ويصيحون: «يلا من هنا.» فتركت أنا وأصحابي من كان في أيدينا من الخصوم، ووقفت مبهوتًا لا أكاد أصدق عيني عندما رأيت في طليعة العصابة شخص حمادة الأصفر يحمل في يده هراوة أطول من قامته، ويشير بها نحوي قائلًا: «يلا من هنا!» فأغماني الغيظ عن كل حكمة واندفعت نحوه آخذًا بتلابيبه قائلًا: «أنت تقول لي هذا؟» وأحاط بي أصحابه ووجوههم تنطق بالشر، فتخلص حمادة من يدي وارتدَّ إلى الوراء، قائلًا في وقاحة: «لا تمدَّ يدك إليَّ، يلا من هنا، قلت لك.» فقلت في حقد: «أيها النذل، أيها العبد!»
فضحك ضحكة عالية حتى بدت أسنانه ونظر إلى أصحابه الذين اندفعوا نحوي وصاح بهم: «دعوه يا جماعة، ارفع يدك أنت وهو! ثم اتجه إليَّ قائلًا: ما لك أنت؟ أنا نذل وعبد وكلب ابن كلب. ما لك أنت؟ يلا من هنا!»
ثم وضع إصبعيه في فمه، وصفر صفيرًا عاليًا وقال: «اسمعوا يا جماعة! يحيا السيد أحمد جلال!» فصاح الجمع بعده يرددون هتافه وصفر لهم مرة أخرى وصفق وضحك صائحًا: «هيسه!» مع المد الطويل، فضحكوا جميعًا وصاحوا مثله، ثم صفر مرة ثالثة مثل القطار ورفع هراوته إلى كتفه وجرى أمام أصحابه وهم من ورائه يصيحون وتركوني واقفًا في مكاني الذي لم يبقَ به غيري، وكان حنقي لا يزيد عليه إلا خجلي وشعوري بالخيبة، وتلفتُّ حولي كالمذهول فلمحت حمادة الأصفر يعانق مصطفى عجوة في آخر الطريق، وا أسفاه! وطفرت الدموع من عيني وشعرت بقلبي كأن يدًا قاسية تعصره، أهذا حمادة الأصفر الذي أراه حقًّا؟ وعدت إلى منزلي يائسًا أحدث نفسي أنها مأساة مضحكة مبكية، هكذا يَحشُد السادة عبيدهم المحطمين دائمًا ليضربوا لهم أعداءهم، حتى يتمكنوا بعد ذلك أن يعودوا إليهم ليَجلدُوا ظهورهم بالسياط!