الفصل التاسع
تيقظت من نومي في الصباح على صوت أمي وأنا دهش من أثر السهر والتعب، ورأيتها تمدُّ إلى يدها بورقة، فسألتها ما هي فقالت: «جاء بها رجل وقال: إنها مستعجلة.»
وكانت الورقة بخط رديء بالقلم الرصاص وفيها: «سيد زهير شياخة أبو طاقية صناعتُه وزَّان، يُنبَّه على المذكور بالحضور في الساعة التاسعة صباحًا لأمر هام إلى مركز البوليس.»
فقلت في نفسي: مركز البوليس؟ ماذا أفعل هناك؟ وبدأت أتذكر ما حدث في الليلة السابقة، وكانت الساعة عند ذلك الثامنة، فالوقت متَّسِع لأفطر وأشرب فنجانًا من الشاي، وأرتب في ذهني الحوادث التي وقعت، وقمتُ مسرعًا لأستحم وأتوضأ، وكانت الساعة التاسعة تمامًا عندما بلغت مركز البوليس، ولم أكن خبيرًا بأسرار مكاتب المركز، فعرجت على أول حجرة قابلتني، وسألت الجندي الذي كان فيها، فلم يرد عليَّ لانشغاله بتلميع حذائه، وذهبت إلى الغرفة التي تليها، ولكن المكتب كان خاليًا، فما زلت أخرج من غرفة إلى أخرى لسبب أو لآخر حتى بلغت آخر الردهة، وكانت طويلة مُظلمة فيها حائط على اليمين وأبواب على اليسار، ووجدت في النهاية غرفة مزدحمة بأخلاط من الناس عليهم مظهر البؤس والشراسة، فعرجت على اليمين في ردهة أخرى، فوجدت في صدرها حجرة صغيرة فيها مكتب يجلس عليه جندي ضخم له أربعة أشرطة حمراء على ذراعه، وشارب مفتول في وجهه، وهممت أن أسأله عن سبب دعوتي ولكني لم أجرؤ؛ لأنه بدأ في تلك اللحظة يصيح بأعلى صوته يخاطب شابًّا أمامه قائلًا: من أنت؟ من أنت حتى تُجيبَني بهذه اللهجة؟
وكان الشاب الذي أمامه طويل القامة يلبس جلبابًا من الصوف على زي أهل دمنهور، وعلى رأسه طربوش وفي قدميه حذاء، فاستنتجتُ أنه لم يكن من عامة الشعب، ولكني لم أر وجهه؛ لأنه كان متجهًا إلى المكتب، وسمعتُه يجيب في شيء من الأنفة: أنا علي الحفار؟
فصاح به الجندي: الحفار؟ تشرفنا يا حضرة، يعني حضرتك حفار قبور؟ أو هي صناعة الوالد؟
فقال الشاب في حنق: إذا كنتَ لا تعرفني فلا داعي لهذا الكلام، سألتني عن اسمي وهذا هو اسمي، وأنا تاجر من أهل البلد.
فقال الجندي: تشرَّفنا يا أفندم. أقوم لك وأضرب السلام؟ أهكذا تخاطبني وتصيح في وجهي يا قليل الأدب؟ أهكذا تُكلم …؟
فقاطعه الشاب غاضبًا: لا تخرج عن حدودك.
فقام الجندي هائجًا من مقعده، وخرج من وراء المكتب صائحًا: حدودي؟ ما هي حدودي يا ولد؟ أنت قليل الأدب. قليل الأدب ألف مرة وتستحق التأديب.
وأقبل هاجمًا عليه فضربه على وجهه ضربة شديدة اهتز لها الشاب وثار رافعًا يده للإجابة عليها، فأسرعتُ من ورائه بغير تفكير، وأمسكت بذراعه، فالتفت إليَّ غاضبًا ونزع يده مني.
فقلت له أهدئه: تمهَّل يا أخي حتى لا يتعلل هذا الرجل بأنك اعتديت عليه، كنت واقفًا هنا ورأيت كل شيء وسأشهد بما حدث.
واتجهتُ إلى الجندي قائلًا: بأي حق تعتدي على هذا الشاب؟
وهدَّأ الشابُّ نفسَه على مضض، ووقف ينظر نحو الجندي في حنق، فضحك الجندي واتجه إليَّ قائلًا: وحضرتك محام؟
ونظر إليَّ يفحصني من أعلى طربوشي إلى كعب حذائي، فقلت له في غيظ: ليس لك حق في ضرب أحد، ليس الناس عبيدًا لك.
وكان ما يزال واقفًا فوضع يده في خصره ومد رأسه نحوي مثل ديك محارب، وقال: ومن أنت أولًا؟ من أنت يا حضرة؟
فأجبته متحديًا، اسمع أنت يا حضرة، أنا الذي أسألك من أنت حتى تضرب الناس وتشتمهم؟ القانون لا يَسمح بهذا، ويجب أن تعرف الطرق القانونية التي تتبعها.
فتقدم نحوي ثائرًا وقال: يظهر أنك تُريد أن تعرف القانون. القانون هو هذا.
ودفعني في صدري بعنف ليخرجني قائلًا: اخرج من هنا. ليس هذا المكتب قهوة لتدخله هكذا.
ولست أدري ماذا جعلني أفقد اتزاني عند ذلك، وأقدم على العمل الذي منعت منه الشاب، فإني اندفعت بغير تفكير، ورفعتُ يدي بقوة، ودفعت الجندي بقبضة يدي دفعة شديدة؟ صدره ارتد منها إلى الوراء، وهو يتطوَّح، وسخن رأسي فوقفت مُستعدًّا لأعيد عليه الكرة إذا عاد لمهاجمتي، ولكنه لم يتقدم نحوي بل ذهب إلى مكتبته، وخبط بيده على الجرس صائحًا: ما هذه المصيبة التي تصبحنا؟ ما هذا الشيطان الشرس الذي طلع علينا؟ يا قرني! يا علي يا مبارك! يا محمد يا بو زبطة!
ودخل جندي وراء آخر، فضربوا السلام ونظروا إلى الجندي، ثم التفتُوا إليَّ وإلى الشاب الآخر في دهشة.
فصاح بهم صاحب الأشرطة الحمراء: خذوا هذا اللعين، خذوا هذا المجرم ابن المجرم.
فصحت: اخرس.
واندفع هائجًا: سأعرف كيف أؤدبك. تضربُني أنا؟ نهارك أسود، وتقول لي: اخرس؟ إلى السجن حالًا! أما تسمع يا قرني؟ إلى السجن حالًا! مالك واقفًا هكذا يا علي يا مبارك؟ يا بو زبطة يا حمار!
فأحاط الجنود بي ليقبضوا علي، فارتددتُ إلى الوراء صائحًا في ثورة: لا تقتربوا مني!
وتحفَّزت لأدافع عن نفسي، فتقدموا نحوي واحدًا وراء الآخر، ودفعتهم عني واحدًا بعد واحد، فغضبوا وهجموا عليَّ هجمة واحدة يضربونني ويجرُّونني وصاحب الأشرطة الحمراء يصيح بهم: إلى السجن إلى السجن، حالًا! المجرم! الكلب! ابن اﻟ…
فما كدت أسمعه يهم بذكر أبي حتى انطلقت من فمي شتائم لا أدري كيف تدفقت من فمي، وكانت قبضة الجنود على ذراعيَّ الاثنتين وعلى رقبتي مثل كماشات الحديد، فحملوني غصبًا وقذفوا بي في عنف إلى غرفة، وأغلقوا بابها ورائي، وكاد يُغمى عليَّ من الألم والغيظ، فلم أتنبه إلى ما حولي إلا بعد لحظات، فقمت وأعضائي كلها تنبض ألمًا وجعلت أتحسس جوانب الغرفة المظلمة، فعلمت أني في جحر ضيق لا يزيد على مترين في مترين، وأرضه من البلاط وهواؤه عفن الرائحة.
وكادت روحي تزهق من الضيق والحنق والشعور بالإهانة والظلم، واندفعت مثل المجنون أصيح بأعلى صوتي، وأخبط على الباب بجمع يدي غير مُبالٍ ما يصيبني من الألم، وجعلت أنطق بشتائم مقذعة وألفاظ عجيبة لو سمعتها من غيري لضحكت سخرية منها، كنت أصيح قائلًا: «افتحوا لي أيها المجرمون … أنا الشعب … افتحوا لي أيها اللصوص، وستجدون جزاءكم … أنا الشعب … أنا الشعب …» ولكن صيحاتي وشتائمي كانت ترتدُّ إلى أذني ساخرة ضاغطة قاسية، وكلَّت يداي من الخبط وخارت قواي وبُحَّ صوتي، فتكومتُ على الأرض مستندًا إلى ظهر الباب، وخُيِّل إليَّ أني انتقلت إلى عالم فظيع ممقوت ليس من عالم الإنسان، وأخذت أسأل نفسي: «أهكذا يُعامَل اللصوص والمجرمون؟» فلو كنت مجرمًا بادئًا أو لصًّا صغيرًا ثم عُوملت هذه المعاملة لخرجت من هذه الغرفة وأنا مصمم على أن أكون قاطع طريق وسفاك دماء.
ومرت اللحظات بطيئة، وخُيِّل إليَّ أنني سأبقى هناك طول حياتي بغير أن يهتم أحد بأمري، أو يقدر أحد على إطلاقي، كأنني حشرة أو فأر أو كلب، وعدت أسأل نفسي: أأنا الشعب الذي كنت أتحدث عنه في خطبتي في المسجد وفي السرادق؟ هل أنا الشعب الذي يَخطُب السادةُ ودَّه في دعاياتهم الانتخابية، ومن أجله يُنشئون مقالات التمجيد في الجرائد اليومية؟
وتصاعَد برد البلاط إلى عظامي فأحسستُ قشعريرة في جوفي وألمًا في رأسي، وغثيانًا في نفسي، فقمت مُنتفضًا، وتضاعف حنقي حتى كدت أخرج عن وعيي، وأخذت أخبط الباب مرة أخرى بيدي الاثنتين وأصيح بأعلى صوتي وأشتم وألعن وأُهدد، وعزمت على أن أواصل الخبط حتى تتحطم يداي ثم أخبط بعد ذلك بقدمي حتى تتكسرا، وبرأسي حتى يتفتت، ولست أدري كيف استطعت أن أستمر على الخبط والصياح هذه المدة التي مرَّت كأنها ساعات طويلة، ثم سمعت بعد حين صوت المفتاح يدور في القفل، وانفرج الباب وتدفق شعاع من النور في الظلام، وتنفست حانقًا وأنا ألهث من الثورة، ولا شك أن منظري كان مخيفًا؛ لأنَّ الجندي الذي فتح الباب تنحى عن طريقي في فزع، وكانت يداي تلتهبان من الألم، ولكني لم أعبأ بهما وخرجت مسرعًا فاتجهت إلى غرفة الجندي ذي الأشرطة الحمراء عازمًا على أن أقتص منه غير مبال ما قد يكون بعدها.
وصحت بأعلى صوتي عندما اقتربت من غرفته قائلًا: «أين أنت أيها النذل الطاغية، أيها العنكبوت الحقير!» ولكني لم أجده وراء المكتب، فقلت مستمرًّا في صياحي: «أين صاحب الشوارب المصبوغة؟ أين العنكبوت الذي كان هنا؟» فضحك الضابط الشاب الذي كان جالسًا وراء المكتب، وقال: «تفضل هنا.» وأشار إلى كرسي بجانبه، وكان وجهه يتألق بِشرًا كأنه يرى منظرًا مسليًا، ولكن منظره هدأ كثيرًا من فورة نفسي، وكان فتى لا يزيد على الخمس والعشرين كأنه تلميذ حسن الهيئة، وأسنانه بيضاء تلمَع من وراء ابتسامته، ووجهُه الأسمر الوديع الذي خلا من الشوارب يخالف في كل شيء شكل صاحب الأشرطة الحمراء.
وأعاد الضابط قوله: «تفضل هنا.» مشيرًا إلى الكرسي الذي أمامه، فجلست صامتًا أفرك يدي وأنا أنهج من الجهد، وكان رأسي ساخنًا وحلقي مُلتهبًا، فقدم الضابط إلى فنجان القهوة الذي كان أمامه فلم أتردد في أخذه شاكرًا، وكان ألذ شيء عندي في تلك الساعة، وكان الضابط في تلك المدة مُطرقًا فوق المكتب ينقر عليه بقلم ذهبي في يده، وخاتمه الماسي يلمع بأشعة براقة مع حركة يده، ودق جرس التليفون فاستند إلى ظهر كرسيه، وابتسم وأخذ في الحديث متبسطًا مسترسلًا كأنه لا يريد شيئًا سوى ذلك الحديث، فكان يُشير بيده إشارات رشيقة معبرة كأنه يريد أن يؤثر في سامعه على الطرف الآخر من السلك، وكان أسلوبه في الضحك أنيقًا له نغمة ظريفة سلَّت من نفسي كثيرًا من حنقي، ولم أستطع أن ألتفت إلى موضوع حديثه؛ لأني شُغلت عن ذلك بما كان يدور في رأسي من الأحاديث الحانقة.
ولما فرغ من الحديث اعتدل في مجلسه، ونظر إلي قائلًا: هيه؟
فلم أدر بأي شيء أجيبه ولا كيف أعبر له عن سخطي واحتجاجي، وما ذنبه هو إذا كان صاحب الشوارب الطويلة قد أساء إليَّ وظلمني؟ وقلت له هادئًا: لست أدري يا سيدي ماذا أقول لك، ولكني أُهنتُ هنا وأوذيت واعتُديَ على حريتي ولن أتنازل عن حقي.
فنقر على المكتب قائلًا: هذا شيء آخر. على كل حال الحاج أمين مُخطئ، ولكنه رجل طيب، وكان يجب عليه أن يبدأ بكتابة المحضر بغير دخول في مناقشات لا فائدة منها، ولا ضرورة لها، على كل حال لا حاجة إلى تكبير هذه المسائل الصغيرة.
فصحت: أيَّة مسائل صغيرة؟
فقال: هذا موضوع آخر نعود إليه فيما بعد، هل أنت سيد أفندي زهير.
فدُهشتُ وكدت أعود إلى غضبي، ولكني قلت في استنكار: نعم أنا سيد زهير.
فقال: هناك بعض أسئلة صغيرة وإن كانت خطيرة، نعم هي أسئلة صغيرة يجب أن تستوفي الإجابة عليها أولًا …
ولكن التليفون قطع حديثه مرة أخرى، فاستند على كرسيه، وأخذ يتحدث متبسطًا كما فعل في المرة السابقة، وبدأتُ أُحدِّث نفسي في أثناء ذلك عما أصابني من الدفع والجر وعن الجحر الأسود المظلم، وقلتُ في نفسي غاضبًا هل يريد هذا الشاب أن يترك كل هذا بمثل هذه السهولة ويُسمي كل ما وقع لي «مسائل صغيرة»؟
ولما فرغ من حديثه قلت له في غضب مكتوم: أحب أن أعرف معنى كل هذا، لم دُعيتُ إلى هنا؟ وماذا تريد أن تفعل لتقتص لي من هذا الجندي الفظ؟ أنا فرد من الشعب، أنا الشعب إذا شئتَ، فهل تُهدَر كرامتي هكذا، وأُلقى في السجن مثل كل عقور ثم يقال لي: «هذه مسائل صغيرة؟»
فقال الضابط مبتسمًا: حصل خير يا سيد أفندي. قل لي أولًا هل خطبت في مسجد التوبة؟
فقلت في دهشة: وما علاقة هذا بموضوعنا؟
فقال في هدوء: هذا هو موضوعنا، هنا شكوى لا يُمكنني أن أسكت عنها، كنت أتمنى أن تمر هذه الانتخابات بسلام، ولكن ماذا أصنع في هذه الشكوى؟
فصحت: أية شكوى؟ كنت أحسب أني دُعيت لكي تسمعوا الشكوى التي عندي، كنا بالأمس ضحايا اعتداء فظيع من أنصار المرشح المنافس لنا، حسبتُ أن في هذا البلد حكومة تمنع الاعتداء وتحفظ على الشعب حريته، هذا ما حسبتُ أني مدعوٌّ من أجله.
فقال الضابط محركًا يده في رشاقة: هذا موضوع آخر يا سيد أفندي.
ومدَّ يده إلى دفتر وجعل يُقلِّب صفحاته.
فقلت محاولًا أن أكتم غيظي: وهل يمكن أن ننظر في هذا الموضوع الآخر؟
فقال في هدوء: لا بد أن كل الأمور تأخذ مجراها، هذه الشكوى أولًا وهي تقول أنك اعتديت على الذات الملكية.
فصحت من المفاجأة: خبر أسود!
واستمر قائلًا: وأهنتَ الحكومة، وحرضتَ على قلب نظام الحكم، وفرقتَ بين الطبقات.
فقلت متكلفًا الهدوء: متى فعلت كل هذا؟
وأخذ قلبي يدقُّ عنيفًا، ونسيت الموضوع الآخر.
وقال الضابط: هذه أقوالك مكتوبة، وإذا شئت فاقرأها.
ومد يده إليَّ بالورقة وأخذت أقرؤها وأنا لا أصدق عيني. كانت بعض أقوالي هناك حقًّا، ولكنها كانت مقتطفات مقطوعة من هنا وهناك، ووُضعَت كأنها عبارات متَّصلة، فهي أشبه شيء بمواد الديناميت المتفجرة إذا أُخذ كل منها على حدة كان مأمون الجانب، وأما إذا رُكِّب بعضها مع بعض كانت مادة مدمرة، وبلعت ريقي مرارًا وأنا أقرأ والضابط ينظر إليَّ صامتًا وهو ينقر على المكتب بقلمه الذهبي، فلما فرغت من القراءة نظرت إليه مبهوتًا، فقال باسمًا: هيه؟
فقلت في ثبات: هذا تشويه مقصود. هذا من نوع قراءة: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ بغير تَكملة الآية.
فضحك مسرورًا من التشبيه، وقال: ولكنَّها من أقوالك أليس كذلك؟
فقلت: نعم من ألفاظي ولكنَّها ليست أقوالي.
فسألني: أتعرف كاتب هذا البلاغ؟
فقرأت الاسم وقلت: لا. لم أسمع بهذا الاسم في حياتي.
فنظر إليَّ في دهشة وقال: ألم تكن وزانًا في محلج السيد أحمد جلال؟
فقلت في أنفة: هذا كان من زمن.
فسألني: وكيف لا تَعرف مصطفى البلقيني؟
فتوقفت حينًا أفكر ثم هززت رأسي بإصرار وقلت: لا أعرفه قطعًا.
فنادى الضابط الجندي الواقف عند بابه قائلًا: هات مصطفى البلقيني.
وبعد لحظة عاد الجندي ودخل بعده مصطفى، وصحت في حنق: مصطفى عجوة؟
فقال الضابط ضاحكًا: أنتما صديقان على ما يظهر.
فقلت مندفعًا: لا يُمكن أن أكون صديقًا لهذا، هذا أكذب كاذب وأنذل نذل وأجبن جبان.
فقال مصطفى في استياء: اسمع يا حضرة الضابط، اكتب هذا في المحضر.
فصحت ثائرًا: أي محضر؟ أنتم مجموعة من الحشرات القذرة! من الكلاب الضالة، لا تتردَّدون في سفالة، من أجل لقمة تافهة يلقى بها سيدكم عند قدمه تبيعون ضمائركم، ولمَ تَتدارى يا مصطفى يا عجوة في الذات الملكية والحكومة والطبقات وكل هذه الكلمات التي لا تفهم معناها؟ أما كفاك أنك جئت بهؤلاء المُجرمين بنبابيتهم لتهدموا السرادق علينا؟ هذه طريقة قطاع الطرق التي تليق بك إذا أردتَ أن تخدم سيدك وتستحق مكافأته.
ونظر مصطفى عجوة إلى الضابط بابتسامة بلهاء قائلًا: أتسمع يا سيدي؟
فتجاهلت قوله والتفتُّ إلى الضابط قائلًا: ليس في الأقوال التي قلتها في خطبتي سوى الطعن في الأنانية والفساد والظلم والطغيان، ليس في أقوالي سوى الاحتجاج على الرشوة وانحطاط الأخلاق العامة وتعريض سمعة البلاد للسخرية بين أمم العالم، ليس في أقوالي غير التحريض على مقاطعة اللصوص وأصدقاء الشيطان والقوادين ومصَّاصي الدماء وأصدقاء الساقطات وسماسرة السوء، ليس في خطبتي شيء عن ذات ملكية ولا غير ملكية ولا حكومة ولا طبقات، لم أَقُل سوى أوصاف عامة يريد الشعب أن يتخلص من أصحابها ومن عارها ومفاسدها، فإذا كان هذا يؤخذ على أني أقصد الذات الملكية والحكومة، فالذي يقول هذا هو الذي يجب أن يُسأل عن تأويله هذه الأقوال العامة وتفسيرها بأن المقصود هو الذات الملكية والحكومة، هذا هو الجدير بأن يؤاخذ ويُحاكَم إذا كان الأمر يدعو إلى المؤاخذة والمحاكمة؛ لأنه هو الذي يوجه الإهانة، إنها تجارة رخيصة يستغلها مثل هذا النذل كما يستغل كل سلعة رخيصة.
ونسيتُ نفسي وأنا مندفع في أقوالي فلم أتنبه إلى أن التليفون دق مرة أخرى، وبدأ الضابط يتحدث بطريقته الخاصة، وسكتُّ حتى فرغ من الحديث وخُيِّل إلي أنه يتكلم مع شخص كبير؛ لأنه كان يجيب قائلًا: حاضر يا فندم! حالًا يا فندم!
وعجبت عندما وضع السماعة، ونظر إلى مصطفى قائلًا: اذهب أنت الآن وسندعوك إذا احتجنا إليك.
ودُهشت لهذا الانقلاب الفجائي، وكدت أقول له: «أريد إذن أن أعرف ماذا تنوي أن تفعل مع صاحب الأشرطة الحمراء، ومع الذين أفسدوا علينا حفلتنا الانتخابية.» ولكني كنت متعبًا كارهًا للبقاء في ذلك المكان الذي تعذبتُ فيه منذ الصباح، وكان أحب شيء عندي أن أعود إلى بيتي لأستريح من أثر ما عانيت من الآلام والهزات النفسية مع ما كنت فيه من الضعف من آثار المرض.
وقال لي الضابط: «تفضل الآن أيضًا إذا شئت، وسأدعوك إذا قضت الضرورة.»
فقمتُ فاترًا وقام الضابط ليُحييني باسمًا، وشكرته بكلمتين مبهمتين، وسرت خارجًا أسأل نفسي عن معنى كل هذا، الجحر المظلم والذات الملكية والطبقات ومصطفى عجوة، ثم هذا الانقلاب السريع من التحقيق إلى التحية الباسمة، ولكنِّي كنتُ في حالة إعياء، وكنت تلوح أمام عيني في كل خطوة أخطوها مناظر أسرَّة أريد أن أستلقي عليها.
وفتحت باب البيت ودخلت إلى غرفتي آخر الأمر مُتسللًا؛ حتى لا يراني أحد، واستلقيت على السرير بملابسي.