قصة الفردوس
بسم الله الرحمن الرحيم، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتيسير.
أما بعد؛ فهذه نظرات وفِكَر، آمل أن تكون موفقة بعيدة الأثر، و«ثمرات أوراق» يانعات،
١ أرجو أن تكون حبيبة إلى القلوب سائغات، وشطحاتٌ أشتاتٌ
٢ بين حق وما يشبه الباطل، وجد وما يشاكل الهزل الهازل، ومُنَاقَلاتٌ أبكار،
٣ وضعتها على ألسنة أعلام بررة أخيار، ومثاقفات عذراوات عزوتها إلى أديب أُولع
بالأدب العربي القديم، وآثاره العبقريات الأوابد
٤ من نثير ونظيم.
•••
حوال سنة ١٩٠٦م دعاني إليه، المأسوف عليه، إمام اللغة و«البيان» في عصره، الشيخ إبراهيم
اليازجي، وكان قد «نظمني وإياه ودٌّ قديم، ولف هواي بهواه عهد كريم»، حتى إذا أجبته ناولني
دفترًا مخطوطًا، وقال: هذه رسالة الغفران للمعري، كلفني الوراق الناشر المشهور «أمين
هنديه»
أن أصححها وأضبطها بالشكل الكامل كي يخرجها بالطبع على هذا الوضع، فنصحت له بأن تقوم
أنت
بهذه المهمة التي أراها
٥ شاقة مضنية، ولكنك — إن شاء الله — بمثلها زعيم
٦ …
فقرأت الرسالة، ثم توفرت على ضبطها بعد أن اقترحت على الناشر شرحها، فأبى إلا طبعها
مجردة
من الشرح، فكان، وكان أن سُحرت بهذه رسالةِ الغفران، وكان من أثر هذا السحر أن فكرت في
عمل
أنحو فيه هذا المنحى، من جهة المظهر والمبنى، لا من جهة المخبر والمعنى، وأحتذي فيه على
هذا
الحذو البديع، وإن لم يدرك الظالعُ شأوَ الضليع.
٧ فاستخرت الله تعالى فخار لي، وصممت على ارتسام ما رسمت، وأخذت في هذا العمل على
النحو الذي ترى … وأسميته «الفردوس أو سياحة في الآخرة»، وكتبت آنئذ طائفة من الكلام
تنتهي
بوصول الأديب إلى قصر شيخنا الأستاذ الإمام «محمد عبده» في الجنة، ثم صرفتني عنه تصاريف
الأيام، وخَطَرَ الدهرُ مِن خطراته،
٨ وتصرمت السنون، وتجرمت الدهور،
٩ حتى إذا كانت سنة ١٩٢٧ زارني أحد أصدقائي من كتَّاب إحدى المجلات الأسبوعية،
وسألني شيئًا ينشره لي، فعرضت عليه أشياء من بينها هذه القطعة من «الفردوس»، فأخذ في
إذاعتها، فحفزني ذلك إلى إتمامها، فخطوت فيها خطوات رغيبات
١٠ …
وأخيرًا، وفي هذه الأيام، اقترح علي أخ لي كريم أن أبادر بطبع هذا «الفردوس» منجمًا
على
أسفار، على الرغم من غلاء الأسعار، فامتثلت وأنا أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، لا لشيء سوى
أنني
أخشى ألا يروق مثل هذا الأسلوب طائفة من مثقفي هذا الجيل، لما يغلب على بعض مواضعه من
الغريب والصناعة البيانية، من تشبيه واستعارة وسجع وازدواج وتضمين واقتباس ووصف مسهب،
وما
إلى ذلك مما قد ينبو به ذوقُ فِئامٍ
١١ من أدباء هذه الأيام … بيد أني أظن أن هناك على هذا جمهرة متوافرة من عشاق
البيان، ولغة الضاد والفرقان، قد يقع منهم مثل هذا العمل موقعًا تراح له نفوسهم،
١٢ وتصبو إليه أفئدتهم، لا من جهة عرضه هذا العرض المستطرف — وأستغفر الله — فحسب،
ولكن لهذا، ولما تضمنه من فكر وآراء هي نتاج التجاريب، وثمار الاطلاع والبحث والتنقيب،
يظاهر ذلك حق صراح، وصدق صادق محض براح
١٣ …
على أن ما قد يلاحظ من ضروب الصناعة إنما يكثر في صدر «الفردوس» لا في سائره، وفي
أوائل
عرضه لا في أوساطه وأواخره، إذ وُشِّيَ هذا القسم أيام الشباب، وجنون الغرام بالأدب المزور
اللباب،
١٤ أما ما يفرط من القلم أحيانًا مما هو بالهزل والمجون أشبه، فإنما الهدف فيه،
بعد الإحماض والتفكيه،
١٥ هو الاستعانة على ما وراء ذلك، من دقيق الأغراض وخفي المسالك، ورحم الله مَن
قال: إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو والباطل؛ ليكون ذلك أعون لها على الحق … أو كما
قال.
«وأما بعد» فإن هذا «الفردوس» إنما هو — كما ترى — وصلة إلى عرض أنماط مختلفة من الكلام،
وألوان شتى من القول، في كل ما عسى أن يفكر فيه المفكرون، من ضروب العلم والعرفان، وأفانين
الثقافة والبيان، وسيطول هذا «الفردوس» ويستوسع، حتى لقد يستوعب عدة أسفار، وحتى ليصح
أن
يعد هذا السفر غيضًا من فيض، بالإضافة إلى سائر الكتاب.
والله سبحانه هو الموفق إلى إتمام هذا العمل، وأن يجعل القبول حليفه، ورضا الناطقين
بالضاد عنه أليفه، إنه سميع الدعاء، وهو حسبي ونعم الوكيل.
ربيع الآخر سنة ١٣٥٩ﻫ/مايو سنة ١٩٤٠م
•••
حدَّث أديبٌ ثبَتٌ
١٦ ثقة قال:
إني لفي بيتي ذات ليلة من الليالي، وقد تزويت في زاوية من السرير،
١٧ وبالقرب مني مصباحي الإضحيان المنير،
١٨ ثم أخذت أُنزه النفس، وأجلو صدأ الحس، في روضة من رياض الكتب والأسفار، ونزهة
من نزه الأدب والآثار، أجتلي أنوارها،
١٩ وأجتني من كثب أثمارها،
٢٠ وأتفيأ ظلها الوارف الظليل،
٢١ وأنسم رَوحها الندي العليل،
٢٢ ويرتع قلبي من جنباتها في مرتع خصيب، ويكتسي لبي من أوراقها بثوب من الحكمة قشيب،
٢٣ وأنفي الهم برحيق كوثرها عن ساحة صدري،
٢٤ وأكرع من جداولها العذاب النطاف وهي بين سحري ونحري،
٢٥ وأستشفي بترياقها من علل هذا الناس وأدوائه،
٢٦ ومن بلايا هذا العالم المنكوس وأرزائه.
٢٧
عَالَمٌ أَشْبَهُوا القُرُودَ وَلَكِنْ
خَالَفُوهَا فِي خِفَّةِ الأَرْوَاحِ
•••
يَحْسُنُ مَرْأًى لِبَنِي آدَمٍ
وَكُلُّهُمْ فِي الذَّوْقِ لَا يَعْذُبُ
مَا فِيهُمُ بَرٌّ وَلَا نَاسِكٌ
إِلَّا إِلَى نَفْعٍ لَهُ يَجْذِبُ
أَفْضَلُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ صَخْرَةٌ
لَا تَظلِمُ النَّاسَ وَلَا تَكْذِبُ
•••
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى
وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ
وما زلت في هذه الروضة الذهنية، وهاتيك النزهة الروحية العلوية، إلى أن شمر الدجى
للرحيل
الذيل، وكاد النهار يصيح بجانب الليل.
٢٨
وَقَدْ فَكَّتِ الظَّلْمَاءُ بَعْضَ قُيُودِهَا
وَقَدْ قَامَ جَيْشُ اللَّيْلِ لِلفَجْرِ وَاصْطَفَا
وكان البيت لا يحتوي أحدًا غيري، فكان الصدرَ وكنتُ في طيه السرَّ المكتَّم، وكان
الحامل
العشراء وكنت الجنين غير التوأم،
٢٩ وكان الجفن وكنت فيه السلاح،
٣٠ وكان السحاب المركوم، وكان مصباحي البارق اللماح.
٣١
وإني لكذلك؛ إذ طُرق باب غرفتي طرقًا خفيفًا، ثم قُرع بعد هنية طرقًا عنيفًا، فانتبهت
مما
أنا فيه، ومشى قلبي في صدري حتى شاع الذعر في جميع نواحيه، وقلت في نفسي: ترى مَن بالباب؟!
ومَن الطارق المنتاب؟!
٣٢ أملك كريم، أم شيطان رجيم؟ وانثالت الهواجس على قلبي انثيالًا،
٣٣ وتقاطرت الوساوس على صدري أرسالًا،
٣٤ وإني لمرتطم في هذه الغمرة،
٣٥ وغاشية هاتيك السكرة،
٣٦ إذ تحرك الباب في سكون، وفُتح في رفق ولين حتى لا تكاد تحس اختلاجه الظنون،
٣٧ ثم اقتحم الغرفة شبح نوراني، مفرغ في قالب إنساني، يسطع النور حواليه، ويرفرف
روح الجلال والروعة عليه:
فَتًى رُوحُهُ رُوحٌ بَسْيطٌ كَيَانُهُ
وَمَسْكَنُ ذَاكَ الرُّوحِ نُورٌ مُجَسَّدُ
صَفَى وَنَفَى عَنْهُ القَذَى فَكَأَنَّهُ
إِذَا مَا اسْتَشَفَّتْهُ العُيُونُ مُصَعَّدُ
٣٨
•••
تَنْفُذُ العَيْنُ فِيهِ حَتَّى تُرَاهَا
أَخْطَأَتْهُ مِنْ رِقَّةِ المُسْتَشَفِّ
كَهَوَاءٍ بِلَا هَبَاءٍ مَشُوبٍ
بِضِيَاءٍ أَرْقِقْ بِذَاكَ وَأَصْفِ
فلا تسل بعد ذلك عما دهاني، فقد قبعت كالقنفذ في مكاني، وبراني الرعب حتى لتقتحمني
العين
ولا تكاد تراني، وتقلصت من الفم الشفتان، وكادت تنقطع نياط الجَنان
٣٩ ونال مني الخوف حتى أحالني عرضًا،
٤٠ بعد أن أوسعني حرضًا،
٤١ وفغر الموت فاه،
٤٢ وكادت تطير من جسمي الحياة، ولم يبق فيَّ إلا نفس خافت، وعين إنسانها باهت:
٤٣
رُوحٌ تَرَدَّدَ فِي مِثْلِ الخِلَالِ إِذَا
أَطَارَتِ الرِّيحُ عَنْهُ الثَّوْبَ لَمْ يَبِنِ
وجملة القول أني استحلت إلى حال:
يَكَادُ وَجِيبُ قُلُوبِ الرِّجَالِ
مِنْ خَوْفِ مَكْرُوهِهَا يَسْمَعُ
٤٤
•••
لَقَدْ خِفْتُ حَتَّى خِلْتُ أَنْ لَيْسَ نَاظِرٌ
إِلَى أَحَدٍ غَيْرِي فَكِدْتُ أَطِيرُ
وَلَيْسَ فَمٌ إِلَّا بِسِرِّي مُحَدِّثٌ
وَلَيْسَ يَدٌ إِلَّا إِلَيَّ تُشِيرُ
ثم لمحت الخيال وقد أخذ يتخطر في الغرفة بين جيئة وذهوب وغدو ورواح، وبعد خطوات معدودات
وقف الخيال، وانتصب أمامي انتصاب التمثال، واستقبلني كما يستقبل المصلِّي الإمام، أو
بيت
الله الحرام، ثم حدقني مبرقًا بعينيه، وأتأر إليَّ — ساهم الوجه — ناظريه،
٤٥ ولحظته وكأنه أشفق علي وخاف إن هو مضى في صمته هذا أن أفيظ،
٤٦ وألفِظ النفس الأخير، فأخذ يُليح بيديه إلاحة يريد أن يُفرِخ روعي،
٤٧ ويميت خيفتي، ثم رأيته يترمرم،
٤٨ وأذنت من ناحيته صوتًا خفيتًا رَفيقًا كأنه خفق النسيم في السحر:
٤٩ لا عليك يا أخي لا عليك، وليس إلا الخير صرفًا ساقه الله إليك، وليهنئك ما أنت
قادم عليه
٥٠ … فأنا يا أخي نبي الله الخضر … وقد أُمرت أن أستصحبك وأصعد بك اليوم إلى المحل
الأرفع والملكوت الأعلى، إلى حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر … فقم
يا
أخي، قم ولا تنِ وخلِّ الهوينا
٥١ للضعيف، واتبعني حيثما سرت، ولست أطلب إليك إلا أن تلزم الصمت، ولا تسألني عن
شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا …
•••
وما كاد نبي الله الخضر يتم هذه الكلمات حتى قرت العين، وانكشف الرين، وذهب الأين،
وكأنما
أُنشطت من عقال،
٥٢ فلا وربك: ما البُرء بعد السُّقم، والخِصب بعد الجدب، والغنى بعد الفقر، وما
طاعة المحبوب، وفرج المكروب، والوصال الدائم، والشباب الناعم، بأحلى وأروح من هذه
المنْهَاة، التي انتهت بها هذه المأساة:
٥٣
مَا زِلْتُ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ مُطَّرَحًا
يَضِيقُ عَنِّي وَسِيعُ الرَّأْيِ مِنْ حِيَلِي
فَلَمْ تَزَلْ دَائِبًا تَسْعَى بِلُطْفِكَ لِي
حَتَّى اخْتَلَسْتَ حَيَاتِي مِنْ يَدَيْ أَجَلِي
وبعد ذلك أحسست أنا الآخر كأنني استحلت إلى جسم نوراني شفاف، وأن مادة جثماني آضت
إلى
معنى روحاني، وما هو إلا كَلَا ولَا، أو كحسو الطائر الماءَ وقد خاف الملا،
٥٤ حتى زُويت لنا الأرض،
٥٥ ورأيتني ونبي الله في صحراء دوية براح قذف خلاء،
٥٦ مطوقة أطرافها بآفاق السماء، واسعة الجوانب، مجهولة المذاهب، تغتال الخطى،
٥٧ ويحار فيها القطا:
٥٨
تَجْرِي الرِّيَاحُ بِهَا حَسْرَى مُوَلَّهَةً
حَيْرَى تَلُوذُ بِأَطْرَافِ الجَلَامِيدِ
في فسحة الظنون، بيد أنه تكبو دون غاياتها الخواطر وتخسأ الأبصار،
٥٩ في روعة الخلود، وهل للخلود روعة أروع من ذا أو انبهار!
فَضَاءٌ يَرُدُّ العَيْنَ حَسْرَى
يَقُصُّ جَنَاحَ الفِكْرِ وَهْوُ مُحَلِّقُ
ومفازة هائلة لا تسمع فيها لِواطئٍ همسًا، ولا لِنابح جرسًا،
٦٠ وجوٌّ ساجٍ سجسج،
٦١ وسحر طلقٌ رَوْحٌ أبلجُ.
٦٢
نَسِيمُهُ كَالرَّاحِ لَوْ يُحْتَوى
وَالرُّوحِ لَوْ يُعْقَدُ مُنْحَلُّهُ
•••
مِنْ نَسِيمٍ كَأَنَّ مَسْرَاهُ فِي الأَرْ
وَاحِ مَسْرَى الأَرْوَاحِ فِي الأَجْسَادِ
وسماء زرقاء صافية، ونجوم كأنها في لُجة هذا البحر دراريٌّ طافية،
٦٣ أو أزاهرُ طلَّها الندَى فهي تَرف رفيفًا،
٦٤ أو قلوب لذعها الحب فهي لا تني خفوقًا ووجيفًا، أو هي مسامير أبواب الجنة تبص وتلتمع،
٦٥ أو هي عيون الأبدية ترنو إلينا رنوات تهيب بنا أن نستحي ونرتدع،
٦٦ أو هي ثقوب تخترق طِباق السماوات العلى، فتشع منها أنوار الإله جل وعلا، والبدر
منتصب بين هاتيك الكواكب، كأنه ملك بين أجناده والمواكب، وكوكب الزهرة تأتلق في روعة
لُمعتُه، فلولا التقى لقلت جلت قدرته، والجوزاء كفأرة تسبح، أو غادة ترقص في مسرح، والحوت
يسبح في السماء كما يسبح بِحذْقٍ في الماء.
وَبَنَاتُ نَعْشٍ يَشْتَدِدْنَ كَأَنَّهَا
بَقَرَاتُ رَمْلٍ خَلْفَهُنَّ جَآذِرُ
•••
وَرَنَا إِلَيَّ الفَرْقَدَانِ كَمَا رَنَتْ
زَرْقَاءُ تَنْظُرُ مِنْ نِقَابٍ أَسْوَد
•••
وَلَاحَتْ لِسَارِيها الثُّرَيَّا كَأَنَّهَا
عَلَى الجَانِبِ الغَرْبِيِّ قُرْطٌ مُسَلْسَلُ
•••
وَسُهَيْلٌ كَوَجْنَةِ الحِبِّ فِي اللَّوْ
نِ وَقَلْبِ المُحِبِّ فِي الخَفَقَانِ
مُسْتَبِدًّا كَأَنَّهُ الفَارِسُ المَعْـ
ـلَمُ يَبْدُو مُعَارِضَ الفُرْسَانِ
يُسْرِعُ اللَّمْحَ فِي احْمِرَارٍ كَمَا
تُسْرِعُ فِي اللَّمْحِ مُقْلَةُ الغَضْبَانِ
٦٧
•••
وَقَدْ لَاحَ فَجْرٌ يَغْمُرُ الجَوَّ نُورُهُ
كَمَا انْفَجَرَتْ بِالمَاءِ عَيْنٌ عَلَى الأَرْضِ
حتى إذا قُوضت خيام الظلام، وفرت أسراب النجوم من حدق الأنام، لمحتُ على قِيد خطوة
٦٨ منا بُراقيْن، أبيضيْن يقَقَيْن،
٦٩ خُيل إليَّ أنهما في انتظارنا، معدَّان لركوبنا، وكذلك كانا؛ فقد تدلَّف
٧٠ إليهما نبي الله الخضر فامتطى أحدهما، ثم أشار إليَّ أن أمتطي الآخر، وما كدت
أمتطي بُراقي حتى رأيت منه عِفريَةً نِفريَة مرِحًا أرِنًا صَلَتان، كأنه كما قيل شيطان
في أشطان،
٧١ يكاد مما يزدهيه صلفُه يطير،
٧٢ فكأنما لسعته الزنابير،
٧٣ أو كأن التُّرب الذي يلامسه حسكُ السَّعدان
٧٤ أو كأنما خالطت هامته الخندريس فهو معربِدٌ سكران،
٧٥ أما البراق فهو الطِّرف نعم الطِّرف
٧٦ وهو لعبقريته يكاد يستغرق الوصف، وحسبه أنه رَكوبة الأنبياء، لا يعرج بهم غيره
إلى السماء، وأنت فإذا نظرت مُنعِمًا
٧٧ إليه، خلت الثريا طالعة بين عينيه، وتوهمت الجوزاء في رُسغيه،
٧٨ وحسبت الضياء قد هُريق
٧٩ عليه.
فَكَأَنَّمَا لَطَمَ الصَّبَاحُ جَبِينَهُ
فَاقْتَصَّ مِنْهُ فَخَاضَ فِي أَحْشَائِهِ
أما عيناه فسوداوان، ولكن سوادهما كله نور، يَريان الشيء البعيد في حلك الديجور.
٨٠
يُرَى طَامِحَ العَيْنَيْنِ يَرْنُو كَأَنَّهُ
مُؤَانِسُ ذُعْرٍ فَهْوَ بِالأُذْنِ خَائِلُ
٨١
وأما أذناه فَمُؤَلَّلتان مرهفتان، كأنهما يَراعَتان محرَّفتان،
٨٢ فكأنه مصغٍ لسماع الإذن بالسُّرى، مِن سائس لهما لا يُرى، وأما متنه فلين
الأعطاف، وطيء الأكناف، فإذا أنت امتطيته أصبت ليانًا في ليان، فكأن ثمة نسبًا بين عظامه
والخيزران، وأما ذنبه فذيل العروس، وجناح الطاووس، وأما حافره فالفيروزج زُرقه، وهو على
ذلك
كله كالهواء رقه.
طِرْفٌ تَبَيَّنُ لِلبَصِيرِ وَغَيْرَهُ
فِيهِ النَّجَابَةُ جَارِيًا وَمَقُودًا
•••
هُذِّبَ فِي جِنْسِهِ وَنَالَ المَدَى
بِنَفْسِهِ فَهْوَ وَحْدَهُ جِنْسُ
وَهْوَ إِذَا مَا نَاجَاهُ فَارِسُهُ
يَفْهَمُ عَنْهُ مَا تَفْهَمُ الإِنْسُ
•••
مَلَكَ العُيُونَ فَإِنْ بَدَا أَعْطَيْتَهُ
نَظَرَ المُحِبِّ إِلَى الحَبِيبِ المُقْبِلِ
وبعد أن امتطينا البراقين، طارا بنا في الجو طيرانًا لست أدري ولا إخالني ماذا عسى
أن
يُقال في وصفه، وهو معنى من المعاني ليس في وُسع اللغة العبارةُ عن مثله، وإلا فهل يكفي
أن
تقول: بَاز هَوَى في إثر صيد مِن مَرقب،
٨٣ أو رجمٌ انقض في إثر شيطان من كوكب،
٨٤ أو كأن قد صار له من كل جارحة جناح، أو إذا جرى البرق خلفه كبا البرق وأخطأه النجاح،
٨٥ أو دعوة المظلوم لا تكاد تخرج من فم الداعي حتى تصعد إلى الله ثم تَحيق بالظلوم.
٨٦
تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِوَفْدِهَا
إِذَا قَرَعَ الأَبْوَابَ مِنْهُنَّ قَارِعُ
أو هو ما يغزوه ابن هانئ بقوله يصف الخيل، وكأنه رأى البراق بظهر الغيب:
٨٧
وَأَجَلُّ عِلْمِ البَرْقِ فِيهَا أَنَّهَا
مَرَّتْ بِجَانِحَتَيْهِ وَهْيَ ظَنُونُ
كلَّا، وكيف وما هو إلا رجع الطرف حتى رأيتُني ونبي الله الخضرَ في عالم الأرواح،
واقفينَ
بباب الفردوس ودار الأفراح … الله أكبر، ماذا أرى وأنظر، وفي يقظة أنا أم في منام، وهاتيك
حقائقُ أم هي رؤى وأحلام؟ الحمد لله على سبوغ نعمته، وضفو نيله وعطيته، الحمد لله لقد
أجزل
لي في العطاء، ومنحني ما لم يُمنَحه غيرُ الأنبياء، وسواء أكان ذلك في عالم الخيال أم
في
عالم الحقائق، وفي عالم اليقظة أم في عالم الرؤى الصوادق، فقد أُتيح لي دخول الجنة قبل
الممات، ورأيت كل ما فيها حقًّا، وهيهات ذلك لسواي هيهات.
•••
حدَّث الأديب الثقة قال:
والآن، وقد آن لي أن أقص عليك سياحتي في جنات الفردوس، وأن أصفها لك وأصف كل ما رأيت
فيها
على حقه، فهل تترقب مني أكثر مما كان من ذلك الأعرابي الذي طرأ من البادية على حاضرة
قد
فهقت حضارة،
٨٨ واستبحرت رفاهية وعمارة، وزخرت نعيمًا وترفًا، واكتظت بدائع وطرفًا، ثم حضر
عرسًا فيها لأحد السَّرَوات، فرأى شيئًا لم تقع العين على مثله في الحواضر، بَلْهَ البواديَ
البلاقع المقفرات،
٨٩ ثم أُريد على أن يصف ما رأى، فوصف ولكنه أضحك وما عدا،
٩٠ وأين أنا على ذلك من الأعرابي الذي أذاب الفصاحة وأذابته، وأين عرسه من الجنان
وما حوته؟ كلَّا، لا أين، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة
أبحر
مدادًا للكلام عن الجنة لنفد البحر قبل أن ينفد الكلام.
يَفْنَى الكَلَامُ وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهَا
أَيُحِيطُ مَا يَفْنَى بِمَا لَا يَنْفَدُ
وبِودي كان، أن يكون ذلك في الإمكان، وأن يؤاتيني كما أشتهي وصف الجنان، فأجلو على
أهل
الدنيا معنى لو هو برز لهم لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولاستحال جمالًا
غير
الجمال ما بين طولهما والعرض، ولانجابت حلكة هذه الخاسرة، وحل محلها نور إلهي أبدي من
نور
الآخرة، كما ينجاب الشر بالخير، والضلال بالهدى، والمرض بالعافية، والنقمة بالنعمة الباقية،
نعم، ولو أُتيح لي أن أصف لك الجنة وأنا فيها، راتع بين أهليها، لأتيت لك بكلام علوي
فردوسي
ملائكي ككلام أهل الجنة إن لم يكن منطبقًا كل الانطباق، فعسى أن يكون مقاربًا، ولكني
وا
أسفاه! أحدثك بعد خروجي من الجنة، وتمرغي في أعطاف دنياكم هذه وهويي إلى هذا الحضيض الأوهد
… على أنه إن لم يكن صَدَّاء فماء،
٩١ وإن لم يكن خمر فخل، وإن لم يصبها وابل فطل،
٩٢ ومن لم يجد ماء تيممًا …
رضوان
رضوان، وما أدراك مَن رضوان، ثم ما أدراك من هو؟
هو أحد الملائكة المقربين، وحسبه أنه سيد خزنة الجنة التي أعدت للمتقين، وهو نور
في
نور، يكاد سنا برقه يأخذ بالأبصار، ولو هو صاح في جانبي الديجور،
٩٣ لانمحت آية الليل ولم يبق إلا النهار، وماذا عسى أن يكون القول في ملك هو
ابتسام فم الآخرة … وإذا كان يوم الفصل فهو فيه قطب الرحى ومركز الدائرة، ولا غرو، فمن
ذا الذي يدخل دار السلام إلا بإذنه ورضاه، ومن ذا الذي لا يجعل الازدلاف إليه لذلك وكده
وهجيراه،
٩٤ أما أنا فقد أراحني نبي الله الخضر وكفاني مؤنة بذل أي مجهود في سبيل دخول
الجنة؛ إذ لم تكد عين رضوان تأخذ الخضر — عليه السلام — حتى فُتح لنا باب الفردوس، وفي
هذه اللحظة فرطت مني بادرة كادت تطيح بي في مهواة اليأس من دخولي الجنة
٩٥ إذ أدركتني حرفة الأدب — لها الله — وجال في صدري أن أنظم أبياتًا أمتدح
بها رضوان وأزدلف بها إليه، شِنْشِنتي في الدنيا وشنشنة كل أديب،
٩٦ فاتسق لي ذلك واستقام، وفتح الله عليَّ بقصيد بارع موفٍ على الغاية، أطريت
فيه رضوان ولا إطراء النصارى المسيح ابن مريم،
٩٧ ثم اقتربت من خازن الجنة لأنشده هذا القصيد، وكأن نبي الله الخضر أحس ذلك
مني، فنظر إلي نظرة مروعة استُطير لها قلبي وماث من الخوف كما ينماث الملح في الماء …
فأمسكت وسقط في يدي،
٩٨ واعتذرت إلى الخضر عن هذه الهفوة ونشدته الله أن لا ترهقني من أمري عسرًا،
فإن ربة الشعر هي التي أوحت إليَّ وأغرتني بهذا الأمر؛ إذ سحرني جمال رضوان وملك عليَّ
مشاعري وأنساني ما تشارطنا عليه … ويا لله ما أشأم الأدب على من امتُحن به حتى في
الآخرة! … وما لرضوان الذي خلقه الله من طينة الصدق، وفي مهده درج وفي آفاقه يطير، وما
للشعر الذي أحسنه كما قيل أكذبه!
هوامش