آلة العرض بوصفها مصباحًا للمُشاهِد
من بين القطاعات الثلاثة المكوِّنة لظاهرة الفيلم، العرض هو القطاع الذي يواجه فيه أسلوب تفكير بازان خطر الانقطاع أو التجاهل. هل جلَبت الحقبة الرقمية معها تغييرًا جذريًّا في كيفية عرض الأفلام لدرجة أنه ينبغي ألَّا نتوقع بعد ذلك أفلامًا مماثلة؟ أي إنه ينبغي حتى ألَّا نفترض بعد ذلك أن تكون الظاهرة متعلقة بالسينما التي كانت تُعرَف من قبل؟
أُعلنت تحولات حاسمة بشأن لحظات أخرى. يقسِّم جيل دولوز تاريخ الأفلام أثناءَ الحرب العالمية الثانية إلى عصر صورة الحركة، وعصر صورة الزمن. وشهد بازان هذا الانقسام المميِّز؛ حيث استخدم مصطلح «كلاسيكي» بصراحة للإشارة إلى «الديكوباج» (أسلوب هوليوود الكلاسيكي)، ومصطلح «حديث» لتعريف منهج رينوار والواقعيِّين الجُدُد الصاعد حديثًا. ما أطلق عليه وصف «حديث»، على سبيل المثال، هو ما أَعرِضه هنا بوصفه أكثر نهوج الوسيط السينمائي رسوخًا، وهو نهج نضج بعد عام ١٩٤٥، لكنه غير مقيَّد بتلك اللحظة. باتخاذ اللقطات بدلًا من الصور أساسًا، يُمكِن إعادة كتابة تاريخ السينما، بحيث يُنظَر إلى أعمال العشرينيات من القرن العشرين التي أخرجها فلارتي وإريك فون شتروهايم بشكل حداثي، قبل ظُهور المفهوم، تمامًا مثلما أعتقد أن ذلك النهج يَستمرُّ فيما بعد الحداثة في أفلام جيا جونج-كي وهو تشياو تشين.
تُتيح شبكة الإنترنت — أو حتى تَبتكر — أشكالًا جديدة من الانتماء والانشغال بالسياسة؛ أشكالًا وثيقة الصِّلة بعالمٍ فَقدت فيه المواجهاتُ على أرض الواقع وتظاهُرات الشوارع جاذبيتَها وقوتها. ما زالت الأفلام تُخاطِب المُشاهِدين — حقًّا، يُخاطِب المزيد من الأفلام المزيد من أنواع المُشاهِدين بقدر أكبر من ذي قبل — لكن كثافة التجرِبة السينمائية وتزامنها لم يعودا هما النموذج السائد. يسمِّي ريجيز دوبري التليفزيون «أداة التشتيت»؛ فبإضاءته من الداخل، يشعُّ التليفزيون والكمبيوتر الضوء المنبعث من البيكسلات المُهتزَّة؛ ولا يعكسان شيئًا. ولأنهما نادرًا ما يُطفآن، فهما يَبقَيان — بلا مبالاة في غُرَف متنوِّعة من كلٍّ منزل — جزءًا من البيئة مثل اللوحات الإعلانية على الطُّرق السريعة. إلى أي مدًى يَختلف هذا عن شاشة العرض السينمائي التي تصل إليها بعد أن تتجاوَز ستارًا أو بابًا للعثور على مقعد في قاعة مظلمة. دارُ العرض السينمائي مساحة هائلة، أو مُخَيخ عملاق يتأمَّل داخله الناس الذين خَطَوْا خارج حيواتهم صورًا هي نفسها تأمُّلات. حذر جون-لوي بودري ذات مرة من أن السينما هي نموذج حديث ﻟ «كهف أفلاطون» حديثٌ يُحدِّق فيه الناس في الظلال مقيَّدين بسلاسل الأيديولوجيا. لكن لأن المشاهدين يختارون دخول هذا الكهف — بل يدفعون المال ليَدخلوه — فبإمكانهم تحويل افتتانهم بالشاشة إلى نقاش بشأن ما يرَوْنه مُنعكِسًا هناك: رؤية للعالم، وجهة نظر عن كيفية العيش فيه أو كيفية تغييره. هذا ما كان يَعِد به ذلك المجال العام.
قوة العرض
من المفهوم إلى العرض، تُعَدُّ الأفلام «اختزالات» مدروسة للمعلومات، تُركِّز من ثم ما تَعرضه. المرادف الفرنسي لكلمة «بؤرة التركيز» هو التجلية؛ أي الوصول إلى التركيز السينماتوغرافي. لا يجد كل ما في النطاق المرئي طريقه إلى الشاشة، لكن ما يصل إليها يتميَّز بأنه ذو صلة. تسألون ذو صلة بماذا؟ الفصل التالي سيجيب: بأنه «ذو صلة بالموضوع»، بموضوع الفيلم، مهما يكن هذا مُخطَّطًا من البداية بوضوح أو بضبابية. تعمل الأفلام على عرض موضوعها بالتخلُّص مما هو غير وثيق الصلة بذلك الموضوع، رغم أنه في بعض الحالات — أهمُّ الحالات غالبًا — يُسمَح بدخول عناصر عشوائية ومُتناقِضة بسبب أن موضوع الفيلم مُسترسل، أو أنه هو نفسه متناقض بما يكفي لهذا الاسترسال. إن لم يكن بازان هو أول من فكَّر في السينما بوصفها مصفاة، فإنه أول مَن فعل هذا بطريقة نظامية.
يجب أن يكون خيالُ صانع الفيلم وفكره — أو وجدانه كما قال بازان — واضحَيْن في جودة الاختيار الذي يُصفِّي فُتات المعلومات ذلك من أجل النسخة النهائية؛ لذا فالأسلوب ليس أمرًا مضافًا إلى الموضوع، ولكنه ينشأ بوصفه نمطًا للاختزال والتشكيل المتناغمَين. وكما يقول بازان، فإن الحِسَّ المرفرف فوق الفيلم مثل الحقل المغناطيسي هو ما ينظم ما هو موجود ليُصبِح شيئًا له دلالة أخلاقية. أما المُشاهِدون فلا يستقبلون كل ما يُعرَض على الشاشة بقدرٍ مُتساوٍ؛ فلكَونهم هم أنفسهم كائنات أخلاقية، فهم يُصَفُّون ما يصبح فيلمًا عند عَرضِه فقط. وكما تُشير الكلمة نفسها، يَتجاوز «العرض» ما تمَّ تصويره وتنظيمه. لا يعني العرض بالضرورة رُؤيةَ أكثر مما هو موجود، ولكن الرؤية «عبر» ما هو موجود؛ لذا فإن أي فيلم يُعرض — وهو نتاج مِصفاتَي الكاميرا والمحرِّر — يُصبح في حدِّ ذاته مِصفاة فيما يخصُّ المشاهد. والعرض يُركز الرؤيةَ لتجاوُز ما هو مرئي إلى القدرة على الرؤية. وأحيانًا ما يقال: للوصول إلى الخيالي.
وبسبب عرض الفيلم — ومن أجل الإشادة به — يحتلُّ «السادة المجانين» مكانه بين أبرز ٢٠ فيلمًا تتناول حالات الغشيان، صنعها روش في غرب أفريقيا منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين فصاعدًا. تفصِّل هذه الأفلام سردًا وجدالًا بينما توجد معظم الأفلام الأخرى في هيئة سجلات أرشيفية محضة، في انتظار أي دارس ليتأملها يومًا ما على آلة موفيولا. مع ذلك، فحتى اللقطات الخام غير المعالَجة بعد، يُمكن أن يكون لها آثار قوية حين تُنتزَع من الأرشيف وتُعرض. أظهر بازان قوتها المتأصلة فيها في أول لقاء له مع أعمال روش عام ١٩٤٩ في «مهرجان الأفلام المنبوذة» في مدينة بياريتز. هذه القوة لم تكن أكثر تجلِّيًا بأي حال مما كانت حينما استطاع روش عرض أفلامه عن الطقوس للجماعات المتضمَّنة، بأُسلوب عرض الأفلام المنزلية. في أكثر من مناسبة، شاهد روش أثناء عرضه الأفلام بآلة عرض يمدها مولِّد بالطاقة بعضَ المُشاهِدين يدخلون في حالات غشية كاملة أثناء مشاهدتهم أنفسهم، مُكرِّرين بفعالية أفعالًا تَستنفِد طاقتهم الجسدية، لدرجة أنها يُمكن أن تَستغرِق أيامًا للتعافي منها. دائمًا ما تكون حالات الغشَيان خطرة. وكان روش بحاجة إلى الحذر من العرض، مدركًا هذا اللفظ بطريقتَين: بوصفه استفزازه الذي يوجهه نحو الجمهور الأوروبي، وبوصفه عملية التماهي التنويمي التي تقود موضوعات (أشخاصًا) معيَّنين سريعي التأثُّر للدخول في حالات خطرة.
يَبرُز «السادة المجانين» بوصفِه عملًا قويًّا على نحوٍ خاص؛ لأنَّ موضوعه، وكذلك منهجه، يتضمَّنان عروضًا وعمليات محاكاة وتحوُّلات خَطِرة. نرى أجساد المشاركين تُصبِح وسائط تَسكنها أرواحُ الهوكا. حينما يهتزُّ أحد المشاركين وكأنه «كمسري القطار»، وآخر وكأنه «عَرِيف الحراسة»، يُصبح التمثيل واقعيًّا أمام أعيننا. وتبعًا لذلك، يُغري روش المشاهدين ليُصبحوا غير ما هم عليه من خلال «وسيط» ما، كان يُسميه دائمًا «غشية السينما». إنه مشهد مُبهج، لكنه مُثير للاضطراب بسبب ما نراه. ومثل أولئك الأفارقة، نحن أيضًا لدينا وظائفنا اليومية التي نتركها لندخل دار العرض؛ لنَعبر لعالم آخر من خلال طقس يُصبح فيه التماهي شديدًا. نَرتاح من أنفسنا لبُرهة، ونتواصَل مع رفاقنا، ومع الآخرين الغامضين المُحتجِبين وراء نطاق إدراكنا، ونعود في النهاية لحيَواتنا حينما ينتهي العرض، مُتجدِّدين حسب ما هو مُفترض. أليس هذا تعريفًا شائعًا للتطهُّر؟
على نحو أوضَح من معظم الأفلام الأخرى، يوجد فيلم «السادة المجانين» في حالات ثلاث متفرِّقة، كلٌّ منها قادرة على إثارة الجدل. قليل من النقاد يَلومون روش على توثيق الطقوس السرية للهوكا (أي «التقاطها» وحفظها)؛ لأنَّ الجماعة ألحَّت عليه أن يفعل هذا، ولأن جمع المادة في هذه الحالة الخام هو العرف السائد في علم الإثنوغرافيا. لكن بعض النقاد شكَّكوا في استخدامه البلاغي لهذه المَشاهد الأولية وطريقته في تحريرها إلى نصٍّ خطابي، وهذه هي حالتها الثانية. واستشاط كثير من النقاد غضَبًا من أن «يُعرَض» عمله في أفريقيا أو في الغرب؛ حيث يُمكن جدًّا أن يُحدث آثارًا سيئة خارجة عن نطاق صانع الفيلم؛ آثار الرفض (تقيُّؤ بعض المشاهدين، وعزل بعضهم الآخر الأفارقة في زاوية عقلية منكرة) أو آثار التماهي (مثل دخول المُشاهدين في حالة غَشَيان يخضع فيها الشخص لسيطرة شيء قوي ومجهول).
كان روش قلقًا بشأن أخلاقيات عرض الكثير من أفلامه. بخلاف آثارها النفسية القوية، وإن لم تكن أكيدة، فإن عرض الأفلام على موضوعات هذه الأفلام (أشخاصها) له تبعات سياسية اجتماعية لا يمكن التنبؤ بها. لا بد أن مشروعه الضخم الذي امتدَّ من عام ١٩٦٧ إلى عام ١٩٧٤ لتوثيق احتفال جماعة الدوجون العِرقية على مدى سبع سنوات، المسمَّى «السيجوي»، الذي يُقام كل ٦٠ عامًا، سيُغيِّر الحدث بكل تأكيد حينما يحلُّ موعده مرة أخرى في عام ٢٠٢٧. لأول مرة منذ ٤٠٠ عام، يُمكن لأفراد الدوجون تقدير شكل المواكب التي يُنظِّمونها حينما تُرى من أعلى (كان روش عادةً ما يضع كاميراه أعالي مُنحدَرات باندياجارا). معنى هذا أن المشاركين في نسخة المهرجان للقَرن الحالي سيُتاح لهم منظور لم يُتحَ من قبل لأسلافهم. علاوةً على ذلك، لم يعودوا في حاجة للاعتماد على ذاكرة الأجداد لتعليمهم هذه العادة التي توارَثَتها الأجيال شفهيًّا منذ القرن السابع عشر. ويُمكن اختبار صور روش لهذه الطقوس المقدَّسة، بعد أن نُقِلت إلى شرائط فيديو، وأقراص دي في دي الآن، في أي أمسية عادية حينما يُشغِّل شخصٌ ما في القرية المولِّد الكهربائي لتشغيل التليفزيون وجهاز التسجيل. وربما أدى هذا لحدوث نقاشات داخل الجماعة لتحسين تصميم الرقصات والأزياء. هل ينبغي اعتبار هذه التكنولوجيا الغربية تقدُّمية في تاريخ شعب الدوجون؟ إذا تراكَمت الطاقة الرُّوحية داخل هذه الطقوس والتعاويذ السرية ثم كُشفت هذه المُمارسات المقدَّسة وعُرضت على العالم، ربما يؤدِّي هذا إلى تبديد الرُّوح التي توحِّد الجماعة.
فتح أبعاد الشاشة
يَزيد نطاق العرض السينمائي من تكثيف هذه التساؤلات الأخلاقية. واتفاقًا مع جودار في هذا الموضوع، يُنسَب إلى كريس ماركر القول: «لا يُصبِح الفيلم فيلمًا إلا عندما يكون الناس على الشاشة أكبر حجمًا من أولئك الذين يُشاهدونه.» صنع ماركر تركيبات متحفية باستخدام الشاشات، وأنتج أسطوانات دي في دي للكمبيوتر؛ لذا فإن ملحوظته لا تؤسِّس نظامًا لترتيب الأفلام، لكنها تؤسِّس تمييزًا؛ فضخامة التجرِبة تَعتمِد على حجم الشاشة. يعود ميلاد السينما رسميًّا إلى أول عرض عام على شاشة في مقهى جراند كافيه يوم ٢٧ ديسمبر ١٨٩٥، وليس إلى اللحظة التي وقَف فيها توماس إديسون لأول مرة على قاعدة بناها لتُتيح لمُشاهِد واحد في كل مرة النظر للأسفل إلى شاشة مُستطيلة صغيرة. أصبحت الشاشات الصغيرة بديلًا مرة أخرى، لكن صور الغَشَيان التي التقَطَها روش يَندر أن تتمكَّن من كسب تأثيرها إن شُوهِدت على تليفزيون تقليدي أو هاتف آيفون.
٨ سبتمبر ٢٠٠٤: اكتشفت الشرطة في باريس دار سينما مجهزة بالكامل في مغارة كبيرة ومجهولة تحت الدائرة السادسة عشر الفاخرة في العاصمة. يَعترف الضباط أنهم مُحتارون في معرفة من بَنى أو استخدم أحد أكثر الاكتشافات إثارة للاهتمام في باريس مؤخَّرًا. عثر بعض الضباط على المجمع السينمائي خلال تدريبٍ تحت مبنى «باليه دو شايو». بعد دخول شبكة الصرف من ماسورة مُجاوِرة لساحة تروكاديرو، صادف الضباط لافتة وراء غطاء تقول «موقع بِناء. ممنوع الدخول.» وراءها كان هناك نفقٌ به مكتب وكاميرا لدائرة تليفزيونية مغلقة مُعدَّة لتُسجِّل تلقائيًّا صور أي شخص يمر. كان هذا النظام يُشغل أيضًا شريطًا لكلاب تنبح، «مصمَّمًا، كما هو واضح، لإبعاد الناس». وعلى مبعَدة من ذلك، كان النفق يُفضي إلى كهف واسع، مساحته ٤٠٠ متر مربع، يقع على عمق ١٨ مترًا تحت الأرض، وكان يبدو «مثل مَدْرج تحت الأرض، يَحتوي على مقاعد ودكك محفورة في الصخر.» هناك عثرت الشرطة على شاشة سينما بالحجم الطبيعي، وآلة عرض، ومجموعة متنوعة من الأفلام تضمُّ كلاسيكيات أفلام «النُّوار» من خمسينيات القرن العشرين وأفلام إثارة حديثة.
هذا الاكتشاف الغريب يكشف الآلية الخفية النفسية والسياسية للعرض السينمائي. بالنزول تحت صخب العمل والتبادُل اليوميَّين، يجتاز المشاهد الشجاع بابًا، أو شباك تذاكر، أو مدخلًا، وأحيانًا ستارة مخملية، تجاه منطقة محروسة تُستحضَر فيها رؤًى قديمة (أفلام «النوار» والإثارة) من الظلام. كتب بازان: «يُمكنُني القول عن السينما إنها ذلك الوميض الخافت الذي يَستخدمه الدليل الذي يأخُذنا إلى ليل حلم يقظتنا، وهو المساحة الكبيرة التي تحيط بالشاشة.» ربما سبق أن جوَّف كريس ماركر هذا الكهف في أعماق باريس لإعداد مسرح أحداث فيلمه «المرفأ» («لا جيتيه»، ١٩٦٢). في هذا الفيلم، تتجمَّع مجموعة من الناجين تحت الأرض لتخطيط لمُستقبلهم، بعد عجزهم عن العيش فوق سطح المدينة الملوث. يختارون «متطوعًا» موهوبًا له خيال قوي، ويُسقِطونه في مناطق زمنية مختلفة بحثًا عن حلٍّ ربما ينقذ الواقع المحكوم عليه بالهلاك.
يُجسِّد «المرفأ» تلك العملية الخارقة التي يجدها سلافوي جيجك فعليًّا في كل فيلمٍ يُثير اهتمامه: حينما تبدو الشخصيات التي يُواجه بعضها بعضًا محصورة في مواقفها بلا خلاص، أو حينما يتَّضح أن الكاميرا استنفدت العالم الظاهر في المنظومة النصية للفيلم، أو حينما يَبدو أن العمل السينمائي عازم على تكرار نفسه في دائرة لا نهائية، حينئذ، قد تأتي قوةٌ ما لتشقَّ الشاشة وتَسمَح بخروج طبقة أخرى من الواقع من ورائها. في السينما الكلاسيكية، غالبًا ما أعادت هذه الطبقة الأعمق تفصيل قواعد الدراما، لكن عادة بالتتابُع، أي بالطريقة التي يُعيد بها فيلم «ساحر أوز» بناء كنساس، أو مشهد لحلم يَبزغ ويَخفت، مُقاطعًا القصة «الواقعية» بشيء من خيال شخصية ما. في السينما الحديثة، تَتعايش مثل هذه الطبقات معًا في هيئة صور افتراضية لبعضها البعض؛ «بطريقة غير مُدرَكة» كما يقول جيل دولوز. يَحتفي جيجك بالأفلام الاستثنائية بسبب الطريقة الواثقة التي تقطع بها مَشاهدها نسيج المنظومة النصية للفيلم بعنف، ثم تَخِيطها معًا بمهارة، مُكوِّنة في الغالب إطارًا داخليًّا لحفظ الطاقة المُنتَجة تحت الضغط أو لزيادتها، ولمَنعها من بالتسرُّب. أوضح أمثلته مأخوذة من فيلم يقترح عنوانه معضلة وهو «الحياة المزدوجة لفيرونيك» («ذا دبل لايف أوف فيرونيك»، «لا دوبل في دي فيرونيك»؛ بودفوينا جوتيا فيرونيكي، ١٩٩١). يُصوِّر كريستوف كيشلوفسكي موضوع الفيلم عن الازدواجية في مشهد جميل: تنظر المغنية البولندية أثناء جلوسها في قطار إلى المناظر الطبيعية المُتعاقبة، أولًا من خلال الزجاج المشوَّه لنافذة القطار، ثم من خلال كرة زجاجية تُمسِكها لتعكس المجال البصري. قدم كيشلوفسكي، سرديًّا وصُوَريًّا، عالَمًا أكبر من أي قصة فردية أو منظور فردي، وحافظ عليه، وفعل هذا من خلال الإطار المحدود، أو الواجهة، لكرة زجاجية صغيرة.
يُشخِّص دولوز السينما الحديثة إجمالًا مُحدِّدًا الحضور المُشترك للبدائل (لمَ لا نُسمِّيها «حالات الواقع الافتراضي»؟) في الأعمال الشهيرة التي أُنتج معظمها بعد الحرب العالَمية الثانية. أبرز مثال قابلناه مرارًا هو المثال الذي كان جاك ريفيت يؤمن بأنه دشَّن الحداثة السينمائية، وهو فيلم «رحلة إلى إيطاليا». في هذا الفيلم، عرَّض روسيليني شخصياته ثنائية الأبعاد لطبقات تحت سطح المنظر الطبيعي لنابولي. عند بركان فيزوفيوس، تقف كاثرين (إنجريد برجمان) مدهوشة ومسرورة حينما تُلقي بسيجارتها داخل حفرة، وتتسبَّب في خروج دخان كثيف من تحت الحقل الذي يُحيط بها كله. رغم ذلك، وفي مناسَبات أخرى، لا تودُّ كاثرين مواجهة أيِّ عالم وراء زجاج سيارتها. في المتحف؛ حيث تبدو التماثيل الرومانية ذات العضلات المفتولة حية في أفضل صورها، تُشيح كاثرين ببصرها عنها. وفي المقابر، حيث توجد عظام الموتى ومُواطِنو نابولي في وقت واحد، تتحوَّل كاثرين عنها. في النهاية، تبتعد شاعرة بالألم من إدراكها الكامل الذي تسبَّبت فيه رُفات زوجَين استُخرجت من تحت الأرض في بومبي حيث فاجأهما بركان فيزوفيوس منذ ١٩٠٠ عام بوميض انفجاره أثناء عناقهما، فثبَّتهما على هذا الوضع إلى الأبد مثل صورة فوتوغرافية، تتَّضح تفاصيلها الآن فقط أمام عينَيها. ينتهي الفيلم ﺑ «معجزة»؛ إذ يتدفَّق فيضان من الرقة أو الحب من مستوًى آخر ليشفي زواجًا مشلولًا، ولو إلى حين.
أتى وعْيي بحساسية الحداثة السينمائية عام ١٩٦٦ مع فيلم «انفجار» (بلو أب). في ذاك الفيلم، أحدث أنطونيوني مايكلانجلو ثقوبًا في الشاشة بذكاء باستخدام الأداة الحادة لوسيط آخر، وهو التصوير الفوتوغرافي. تُشبه نُسَخ الصور الفوتوغرافية المطبوعة المُلتقَطة في حديقة، التي يُحمِّضها ديفيد هيمينجز ثم يُعلِّقها على حبل لتجف، فتحات يَجمح عبرها خياله، وخَيالنا، بالشكوك والسيناريوهات البديلة. نُحدِّق معه، وهو مأسور بثباتها، وخصوصًا بعد الحركة واللون الحيويَّين في المشهد السابق مع موديلاته المراهَقات، خلال مشهد تتابُعي لمُستطيلات بالأبيض والأسود — صور فوتوغرافية، ولقطات، ولطخات — ونَشعُر بريح باردة تهبُّ من فضاء وراء الشاشة. يُعلن فيلم «انفجار» أن أي صورة، مثل أي لوحة أو شاشة تليفزيون، موضوعة داخل الإطار الرئيسي للفيلم، يُمكنها فورًا غمر الشاشة بمادة تَنتمي إلى مستوًى من «الواقع» مُختلِف تمامًا. يُسقِط كلٌّ من الشخصية والمُشاهد مشاعرهما الأخلاقية في هذه الإطارات الداخلية، هذه الواجهات، وهما مؤمنان بأن العالم الخارجي عَرَض شيئًا لا يُرى جزئيًّا في الصور التي نَنظر إليها. لذا فإن «لا نقاء» السينما يتواطأ مع الجهاز الذي يَشغلها: تتفاعَل عناصر مختلفة داخل إطار مُفرد، بينما تنفتح أنواع أخرى من الإطارات داخل الإطار الرئيسي.
الإطار بوصفه عتبة
إحدى الإشارات الرمزية الجذابة عن قوة العرض التي تتمتَّع بها السينما صنَعها المُخرج الإيراني مُحسن مخملباف عام ١٩٩٢، ردًّا على إزالة غموض السينما الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية. يُعيد فيلمه المعنوَن في فيلم «كان يا ما كان سينما» («ونس أبون اتايم، سينما»، «نصر الدين شاه، أكتور إي سينما») يُجدِّد دخول الكاميرا السينمائية القديمة (السينماتوغراف) إلى بلاد فارس في السنين الأولى من القرن العشرين. حيث يَجب على بطل جذاب يتصرَّف مثل الكوميديان تشارلي شابلن إقناع السلطان بقيمة هذه التكنولوجيا السحرية، وهو ما يَنجح فيه بفضل الجاذبية الأشد لنجمته — خطيبته — التي يقع السلطان في حبِّها تمامًا. الواقع أن السلطان يقع في حبِّ صورتها، ويَعتزم الحصول عليها. وتُتاح له الفرصة حينما تَسقط بطريقةٍ ما عبر حدِّ الإطار في الفيلم الميلودرامي داخل الفيلم، حين يُطلق سراحها الشريرُ وهي تقع من فوق جُرف، هابطة في اللقطة التالية إلى الغرفة نفسها التي يجلس فيها السلطان محدِّقًا فيها من خلال ثقب كينتوسكوب عملاق لعرض الصور المُتحرِّكة. بعد اندهاشه، ثم إثارته، يُطاردها حتى تَعبُر داخل ثقب الجهاز عائدة إلى الشاشة، إلى موقعها الوجودي الملائم بوصفها صورة.
يستمر دولوز في تعريف العمليات الأساسية للسينما بأنها الإطار والقطع، مع استمرار القطع في تحرير الصورة من الإطار؛ حيث يَلتمِس كل فيلم طريقه ليُصبح كُلًّا متطورًا. في فيلمه البهيج، يُقدِّم مخملباف هذه العمليات الجوهرية في السينما بطريقة مثيرة؛ حيث يدع الشرير في الفيلم الذي هو داخل الفيلم يقطع الحبل الذي تتدلى منه البطلة باستخدام سكين، ربما تكون هي أيضًا جهاز قطع أجزاء الفيلم ووصْلها. بعد ذلك تقع البطلة من خلال الإطار داخل اللقطة التالية التي يحدُّها إطار آخر. هذا الاستخدام المزدوج للتأطير ثم القطع سيُميِّز السينما — وسيُكوِّن جوهرها كما كان دولوز يعتقد — منذ زمن تحرُّرها من «السينماتوغراف» حوالي عام ١٩٠٨ حتى زمنه.
الشاشة إذًا عتبة يَجتازها المشاهد (أو شباك الرؤية في الكاميرا) على طريق التجرِبة البصرية. وتُضيف العتبة بُعدًا ثالثًا إلى الإطار، عمقًا أو زمنًا. وبصفتها خصيصة معمارية، تظلُّ العتبة في علاقة دائمة بالفضاءات التي تقع على أي من جانبيها؛ لكن بما أنها تسمَح بفعالية لفضاءات مُختلِفة بالتواصُل، وبما أنها تعمل عمل المعبِّر من مكان لآخر، تُشير العتبة ضمنيًّا إلى حركة لا يَفعلها الإطار ولا النافذة مطلقًا. ندخل الأفلام من خلال مجموعة من العتبات بدءًا من ديكور دار العرض والبهو الذي يَحوي ملصقاتها، ثم مرورًا بالستار الذي يُفضي إلى قاعة العرض. نجد مقاعدنا في ضوء خافت بينما يبدأ عرض الإعلانات ودعاية الأفلام التي تجتذب انتباهنا وتركز رؤيتنا على الشاشة تدريجيًّا. وتُظلِم القاعة كليًّا، ويُضبَط الإخفاء مع بداية الفيلم؛ وحتى في هذه المرحلة، يجب علينا المرور عبر شعار الاستوديو، وشارات البداية، ومجموعة من المقدِّمات التمهيدية النصية التي تُسميها نظرية السرد بدقة «أدوات التأطير». هذه الأدوات هي عتبات السينما التي نَعبُر من خلالها في طريقنا إلى ما تحمله الشاشة وما لا تحمله.
إذا كان المتحف اختَطف رسميًّا بِنيةَ الإحساس بالفيلم، بحيث يَحتويها من أجل إسعاد جمهوره؛ فالكمبيوتر فعَل شيئًا مشابهًا من أجل المستخدمين الشخصيِّين. لا يُشاهد الأفرادُ الأفلامَ على كمبيوتراتهم الشخصية بطريقتهم الخاصة وحسب، ولكنَّهم يُشاهدونها في نافذة واحدة من بين بضع نوافذ قد تكون عاملة في اللحظة نفسها (ومنها نوافذ بريد إلكتروني، وقاعدة بيانات أفلام على الإنترنت، وملحوظات شخصية، ومدونة مفضلة، وحالة الطقس). تُشكِّل السينما نوعًا واحدًا فقط من محتوى البرامج المتاحة لأنظمة تشغيل «ويندوز» القوية وعتاد الكمبيوتر الشامل. بطلبِ الفيلم من خلال خدمة «أون ديماند» أو عبر «يوتيوب»، يظهر فيلم على «لوحة مسطَّحة»؛ حيث يَختار المُشاهِد بقدرِ عدد النوافذ المعروضة، ثم يَسحبها ويُحرِّكها هنا وهناك مثل أوراق اللعب في لعبة «سوليتير». وتبدو كلمتا «المرقاب» و«العرض» أكثر ملاءمة من كلمة «شاشة» للإشارة إلى التجرِبة البصرية التي يقدمها الكمبيوتر.
لا يُدرك أنو أن هناك أشياءَ تراها دون أن تراها بالفعل، وأشياءَ أخرى تُحدِّق في وجهك لكنها لا تعكس أي تجرِبة واقعية؛ أن هناك لحظات يجب عليك فيها ألا تُحدِث ضوضاء شديدة؛ أن هناك أشياء موجودة في كل مكان لكنها غير ذات أهمية، وأخرى غائبة لكنها قوية؛ أن هناك كذبات جمعية وحقائق جزئية. باختصار، أن هناك تجارِب تجد السينما صعوبة في معالجتها (لكن يكفيها شرف المحاولة).
يَكمن جلال السينما في التوقُّعات التي تثيرها، وفي الجهد الإدراكي الذي تتطلَّبه، وحتى في قصورها في وجه ما يستعصي على التمثيل المعد سلفًا. شكا داني من أن فيلم أنو يهدف لتقديم صورة جميلة في كل لحظة. وفي فعله هذا، يهمل موضوعه، وكذلك دراما استكشاف ذاك الموضوع، حينما يُجذب المشاهد، كما في السينما الأصيلة، من صورة إلى لاحقتها بحثًا عن شيء لا تستطيع الشاشة عرضه. رغم أن فيلم «الحبيب» مأخوذ من راوية كتبتْها مارجريت دوراس، مسكونة بالماضي، فهو يعلن عن نفسه مثل مُلصَق إعلاني. ولكونه إظهاريًّا تمامًا، لا يملك الفيلم ما يخفيه؛ ومن ثم فليس لديه ما يُقدمه أكثر مما نراه.
من الأمثلة الأقرب إلى زمننا هذا فيلم حديث نوعًا ما، هو فيلم وونج كار-واي «في مزاج للحب» («إن ذا مود فور لف»، ٢٠٠٠) الذي أصبح فيلمًا «فتيشيًّا» حينما أخفى بدقة كبيرة الخواء الذي يَسكن قلبه. لا يتوحَّد المشاهد أو يتعاطف مع الحبيبَين اللذَين يؤجَّل غرامهما باستمرار، مع بحث الكاميرا عن علامات ثم آثار للمشاعر. تستجيب الكاميرا، بمرورها مثل المُتلصِّص وسط السلالم والأبواب المواربة والأَرْوِقة المغوية، للتلميحات والهمسات، متجهة للداخل دائمًا، مصوِّرة مساحات ربما تكون مملوءة بالعناق؛ حيث تنتظم فيها الشخصيات ومَشاعرها على نحو ملائم. كل هذا، وربما كل السينما، يُوجَز في الخاتمة في معبد أنجكور وات؛ حيث يهمس البطل بشوقه داخل شَق، هو المكان المقدس للفيلم (وللحبيبَين). تسد كومة من التراب هذا الشق لإيقاف الرغبة. وبتجول الكاميرا خلال ممرات المعبد وأعمدته بعدئذ، يمكننا تقريبًا سماع أصداء الهمسات المنحدرة من ثمانية قرون من الصلاة والحج، ثمانية قرون من المشاعر الإنسانية المرتقى بها إلى سموٍّ فانٍ في هذا الموقع المقدَّس وإن يكن فارغًا. يعمل معبد أنجكور وات عمل دار عرض سينمائي تحلِّق فيها وفوقها ومن ورائها رومانسية مؤجَّلة. ليت الكاميرا استطاعت — رغم كل تتبعها المستمر — التنقيب في هذا الشق في الحائط الأثري كاشفة الرغبة للأبد! في هذه اللحظة، في هذا المكان، تنقلب المشاعر على نفسها بعدما فشلت في التعلق بشيء مُناسِب. أليس هذا بنيان الحنين إلى الماضي، الشعور اللائق بالولع بالسينما؟ أصبحت اللقطة التتبُّعية في تصميم مشهد التصوير الداخلي هي قوام الولع بالسينما. وكما في فيلم «العام الماضي في مارينباد» («لاست يير إن مارينباد»، «لانِّيه درنيير آ مارينباد»؛ رينيه، ١٩٦١)، يَشعُر المُشاهد بعبوره من إطارات إلى إطارات أخرى، بنكوص لا نهائي، ودوار سامٍ، لينتهيَ به الحال إلى لا شيء إلا الشعور الذي يحدثه هذا العبور.
الكتابة باستخدم الإطار
يُرتِّب أوفالس ورينيه ووونج كار-واي لقطات استدعاء أو اجترار ذاتي من أكثر الموضوعات تلاشيًا، وهو الرغبات المحبطة. وبطبيعة الحال، فإنهم يُساهمون بقدر كبير في دراسة لعناصر السينما وبنياتها. لكن نموذجهم لتجرِبة الفيلم يَنطبِق عمومًا على كل الأفلام التي تبحث عن موضوع يصعب تصويره. ليس فقط في صنف الرومانسية أو التوق للماضي، ولكن في أي صنف (سحري أو كوميدي أو شكوكي أو ساخر)، يعني الذهاب «إلى» السينما، الذهاب «مع» الفيلم، وملاقاة رؤيته للعام برؤًى من عندنا. الشاشة — المَسامِّية ولكنها في قبضة الإطار — هي مكان اللقاء المضطرب الذي تُعرَض عليه شظايا من عوالم غير محدودة من الاتجاهَين كليهما. تمتزج مجموعة من الأصوات والصور (رغم أنه تم التقاطها وتنظيمها وتصميمها من أجل هذا) وتنصهر مع المشاعر والأفكار المجلوبة لها من المُشاهِدين الذين يأتون من الشارع.
يحتلُّ العرض مكانه في النهاية المفتوحة لعملية سينماتوغرافية تبدأ بتكوين الإطارات. نقول إن منظرًا أو موقفًا أو قصة أو نقاشًا يوضع في إطار حينما تؤخذ عناصر وثيقة الصلة معًا بصفتها مجموعة، بحيث يُحَدِّد موقعُ كل عنصر ووظيفتُه موقعَ غيره ووظيفتَه بالتبادل، وبالنسبة إلى الكل. بعد ذلك يستقر عالَم كامل على الشاشة، ويتكشف طبقًا لتصميم حَبْكته. ثم يَنطلِق العرض من الإطار، ويكون هذا بمعنيَين. من جهة، كما فصَّلنا بالفعل، فإن الشاشة المسطَّحة يمكن أن تغزوَها عناصر آتية من خلفها أو من ورائها، وكأنها من بُعد ثالث. ومن الجهة الأخرى، يُسقِط المشاهد نفسه باتجاه الشاشة آخذًا الفيلم إلى ما وراء سياقه الأصلي داخل إطارات لم يتوقَّعها صانعها.
بتشخيصه بهذه الطريقة، على أنه تمزيق للإطار وتفصيل للرؤية، يعمل العرض السينمائي تمامًا بالطريقة التي يصف بها بول ريكور الاستعارة. حينما يُفاجأ خطاب موضوع في نطاق لغةٍ ما بتعبير جريء دخيل، فإن مفردات نطاق لُغوي آخر ومنظوره يَجرفان الأول، مُظهرَيْن جوانب جديدة للموضوع. على سبيل المثال، حينما وُصِف صوت آلة التوبا الموسيقية لأول مرة بأنه صوت «ثقيل»، انتشر طيف من ألفاظ «اللمس» انتشرت في نطاق الأدوات الموسيقية، معزِّزة إدراكنا الحسي للصوت بمنحها إحساسًا ما (ناعمًا أو هشًّا … إلخ)، على الأقل إلى أن تلاشت صدمة الاختلاف وأصبحت صيغة مُنتشرة. بالمثل، وبمجرد أن يُفاجئنا «شكل» سينمائي (مثل تثبيت الصور هنا وهناك في فيلم «جول وجيم»، على سبيل المثال، أو معارضة هذا الفيلم نفسه للتركيبات الدائرية والمثلثية)، تَنفتِح الشاشة على مستوًى جديد من الدلالة، متطلبة مجهودًا في التفسير، لتجسيد تصميم مرئي، حديثًا في الموضوع.
وفقًا لرأي ريكور، الإسقاط هو تفصيل لموضوع النص، بجانب أنه «تطبيق» لدلالته المدرَكة للعالم الذي نعيش فيه. في السينما، يحدث هذا الإسقاط المزدوج على موقع الشاشة؛ لأنه في هذه الحالة يُصبح الإسقاطان موضوع تركيز واندماج: أحدهما يُصفِّيه المخرج، والآخر يملؤه المشاهد. السينما هي «إسقاط» يحدث داخل عتبة الشاشة.
مات بازان بعد أن لمح المواجهة الجذرية للسينما مع الكتابة التي تطوَّرت بواسطة مجموعة «جماعة الضفة اليسرى» التي كان في القلب منها صديقاه كريس ماركر وآلان رينيه. كان قد حجز بالفعل مكانًا مميزًا في السينما الحديثة لمن كان سعيدًا بتسمية أفلامهم «مقالات» («كل ذاكرة العالم»، و«ليل وضباب») تَمزج سردًا أدبيًّا راقيًا خارج الشاشة بحركات كاميرا مثيرة للتفكير. انتقل كريس ماركر بسلاسة من مقالاته في مجلة «إسبري» و«التعليقات» على الأحداث التي كانت تَنشرها دار «إديسيون دو سوي» وكانت تمزج بين النص والصور إلى صناعة فيلم مثل «رسالة من سيبيريا» («لِتَر دو سيبِري»؛ ماركر، ١٩٥٧)، الذي كتب بازان مراجعة عنه تُشيد به قبل أسبوعين من وفاته. أما رينيه، فقد غير وجه السينما بعد موت بازان بشهور فقط بفيلم «هيروشيما حبي» ثم مرة أخرى بفيلم «العام الماضي في مارينباد»؛ حيث يَمزج الفيلمان بين الكتابة وصناعة الأفلام فيما يمكن أن يسمَّى فقط مغامرة نظرية في «الكتابة» المتوسعة. وسرعان ما أمسك كلٌّ من مارجريت دوراس وآلان روب-جرييه — اللذَين قدَّما النصوص في هذين الفيلمَين — بالكاميرا بنفسيهما، وشرعا في إخراج الأفلام. وقد دعمَتهما هَيبة الفيلم المتزايدة في الجامعات وفي الدوريات التي أنتجتها هذه الجامعات.
كانت إحدى الشخصيات البارزة في الانتقال من نوادي السينما إلى ثقافة السينما في الجامعة هي الباحثة الفرنسية ماري كلير روبار التي خلفت بازان في مجلة «إسبري» بعد عام ١٩٥٨. يؤسِّس أول كتابَين لها، وهما «شاشة الذاكرة» و«من الأدب إلى السينما» الإشكالية الأدبية في السينما. ولم يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن تتبنى روبار نظريات جاك دريدا، وتكتب تحليلات مُطوَّلة لفيلم «مورييل»، ولفيلم «أغنية الهند» (إنديا سونج) لمارجريت دوراس الذي ناقشته في أقوى أطروحة لها بعنوان «النص المُقسَّم». لعل جودار أغلق هذه الدائرة حينما طلب من دوراس أن تُمثِّل بنفسها في فيلم «حركة بطيئة» («سلو موشن»، «سوف كي بو (لا في)»، ١٩٨٠). تسألون عن هدفه؟ تصوير الأصالة، ومنح صورة للكتابة.
«السينما بوصفها كتابة» هي فكرة لها جذورها في مقال أستروك الذي صدر عام ١٩٤٨ عن «الكاميرا-القلم» الذي يَفترض المكانة التي لا غنًى عنها للكتابة النقدية بوصفها المُكمِّل الضروري لأي فيلم له مستقبل. قد يُثار النقد بالصور، لكنه يثيرها بدوره أيضًا؛ إذ يُحاول توضيح ملامح واقع ما — موضوع سينمائي — هذه الصور هي آثاره. ولذا، ومن البداية إلى النهاية، بداية من النص أو الفكرة المُدوَّنة بارتجال، إلى التفصيل النقدي، تعمل الكتابة يدًا بيد مع الصور في ممارسة ثنائية القطبين تهدف منها السينما المشوبة، من البداية، للوصول إلى كل أنواع الموضوعات وكشفها وتفصيلها، ومنها الموضوعات التي كانت في وقتٍ ما أو ما زالت غير قابلة للتخيُّل لأنها تنتمي إلى «المادة» أكثر مما تَنتمي إلى «الموضوع» البشري.
في زمن بازان، قدمت فنون الرواية والمسرح والرسم الناضجة موضوعًا ساعد السينما الناشئة في النضوج. واليوم، وبعد أن اكتسبت مكانتها في المناهج الجامعية وعلى صفحات الفن في الصحف والدوريات الثقافية، فإن حيوية السينما و«لا نقاءها» الضروري يأتيان الآن من الاتصال بالكتب المصورة وبالتليفزيون وبالموسيقى الشعبية وبألعاب الفيديو وبثقافة الكمبيوتر. لن تَحتفِظ السينما بحيويتها وثقلها اللذَين عملت على تحقيقهما على امتداد قرن، بمجاراة الثقافة الشعبية؛ ولا ينبغي لها أيضًا التقهقر إلى ملاذ الأفلام ذات القيمة الفنية العالية أو دار عرض الفنون المتخصِّصة (على الرغم من أن هذا يَحفظ رأس مال ضخم من الأفلام العظيمة التي تُموِّل استثمار السينما في أي مستقبل تصنعه). بدلًا من ذلك، يجب على السينما المضي قُدمًا في القرن الجديد باستيعاب الموضوع الذي يُحيطها، وهو ثقافة وسيط جديد على نحو مُتزايد. ستكوِّن الأفلام المشوبة الناتجة، ولا شك، سينما مختلفة عن التي عرفناها، لكنها ستكون سينما جديرة بماضيها إلى درجة أنها تحافظ على ما قد تكون أفضل تُسميه له هي الروح السينمائية. ما ورَّثه أندريه بازان هو توجه أكثر منه مذهبًا؛ توجُّه مليء بالفضول والتلقائية والاستجابة لواقع يُنظَر إليه إلى ما لا نهاية على أنه مُبهَم ويستحق اهتمامنا. يلتقي أفضل صنَّاع الأفلام بأفضل النقاد على عتبة الشاشة حيث تحكم الصور، لكن فقط كي تقود إلى ما وراءها.