كهف الاسبلرجلز
في عصر أحد أيام شهر أكتوبر، وبينما كنت أتلمَّس طريقي عبر الغابة متوجهًا إلى أفضل الجداول التي يعيش فيها سمك السلمون المرقط، والتي تتوفَّر بكثرة في حي كانان بفيرمونت، كادت ساقي اليسرى تتعرض للكسر في حفرة عميقة بالأرض.
أول ما فكرت فيه كان صنارتي، التي كانت قد تشابكت مع الشجيرات، وأما ثاني ما فكرت فيه فكان ساقي اليسرى، التي لم يُصبها — لحسن الحظ — ضرر كبير، وأما ثالث ما فكرت فيه فكان الحفرة التي تعثرت فيها. كانت تلك الحفرة تقع مباشرة تحت أغصان شجرة بلوط أحمر كبيرة، نَمَتْ على منحدر تل، أو حَيْدٍ من الحجر الجيري المتحوِّل. كانت شجيرات العرعر والعُلَّيْق تكاد تُخْفِي الفتحة، لكنني نحَّيت كل ذلك جانبًا، وانحنيت على أطرافي الأربعة منقِّبًا في الحفرة السوداء، لأي سبب؟ هذا ما لا أدريه. فلم تعد ساقي اليسرى هناك، ولم يكن يهمني بالطبع أن أتعرَّف على قاطني هذه الحفرة أيًّا ما كانوا. لا شك أنهم إما أن يكونوا من الثعابين، وإن كان ذلك غير مرجَّح، وإما من الفئران الجبلية، وإما من الظَّرِبَان؛ وذلك هو الاحتمال الأرجح، ولهذا لم أزحف إلى الداخل كي أستكشف تلك الحفرة، بالرغم من أنَّني كنت أستطيع فعل ذلك، فقط إن تحملت بعض المشقَّة، لكنني تابعتُ طريقي عبر مرعى رودني برينس، قاصدًا الجدول الموجود فيه. وعند الغروب، أحضرت معي إلى المنزل سمكة كبيرة تزن عدة أرطال، لكنني لن أذكر عنها شيئًا لرودني برينس؛ مراعاةً لمشاعره. فقد كان جرانجر الكريم قد أكد لي بجدية يغلب عليها الود في مساء اليوم السابق أنه لم يعد في ذلك الجدول أي من أسماك السلمون المرقط؛ إذ صادها الصبيان قبل وقت بعيد حتى أجهزوا عليها، وإن كان هناك أي شيء بعد، فلن يعدو مجرد أسماك بائسة صغيرة لا يتجاوز حجمها طول أصابع اليد، لا تستحق اهتمام رجل من المدينة يستخدم صنارة بخمسة عشر دولارًا وجعبة مليئة بالحشرات.
بعد العشاء انضممت كعادتي إلى ذلك الجمع الصغير من صفوة الرفاق الذين يلتقون كل مساء في الجزء الخلفي من متجر الشمَّاس بليمبتون؛ لكي يستمتعوا بتدخين الغليون وينتفعوا بما ينطق به مالك المتجر من حكم فَطِنة. وفي محاولة متواضعة مني للمساهمة في تلك المحادثة ذكرتُ عَرَضًا أنني قد تعثرت في حفرة عميقة عصر اليوم، بينما كنت ذاهبًا إلى الصيد. شعرت بالإطراء لما لاقته مغامرتي التافهة من احترام من جانب الرفاق، حتى الشمَّاس الكتوم مال من مقعده على برميل اللحم، ليعيرني أذنًا مصغية، ثم تحدث قائلًا:
«حقًّا! في مرعى رودني؟»
«أجل.»
«تحت شجرة البلوط الأحمر؟»
«أجل.»
غمغم وهو ينفث كتلة من الدخان: «هممم! لقد أفلتَّ بالكاد.»
سألته وقد عزمت أن أكون موجزًا مثله: «من ماذا؟ الظربان؟»
«كلا، الاسبلرجلز!»
وهمس أندرو هينكلي، وهو في أحد براميل أثمن أنواع الدقيق لدى الشمَّاس: «الاسبلرجلز»، وردد أخوه جون من أحد صناديق صابون الغسيل تلك الكلمة الغامضة أيضًا، وحتى سكويار ترول المسئول عن الميزان، وأوريسون ريبلي الذي كان على أحد براميل القالب المُحلى والذي كان الشمَّاس الأمين يبيعه على أنه مسحوق السكر مقابل شلن للرطل، التقطا تلك اللازمة أيضًا وردَّدا في وقار وفي نبرة متناغمة: «أجل، الاسبلرجلز!»
كنت أعرف أنني لو سألتُ أي سؤال فسوف أضع نفسي في موقف محرج مع هؤلاء الرجال المهمِّين؛ لذلك اكتفيت بأن أردِّد أنا أيضًا: «أوه. الاسبلرجلز»، وأومأت برأسي كما لو أنَّ الهروب من الاسبلرجلز تجربة مألوفة لي.
وبعد لحظات قليلة من الصمت، قال سكويار ترول: «من حسن الحظ أنها لم تسحبك إلى الداخل.»
«لم يتورَّط أحد في مأزق كهذا منذ أن تعثَّر فولار حين كان ثَمِلًا وخُلع حذاؤه من قدميه، أليس كذلك أيها الشمَّاس؟»
حينها، نزل الشماس من فوق برميل اللحم، ملبِّيًا النداء، واتجه إلى الطرف الآخر من المتجر، وعاد بعود ثقاب في يده، ثم أعاد إشعال غليونه وهز رأسه بجدِّية ووقار.
من تلك المحادثة المفكَّكة التي انبثقت واستمرت حتى دقات الساعة التاسعة، والتي حثت الشمَّاس على أن يدخل لحومه المبردة ويُغلق مصراع النافذة، توصلتُ إلى الحقائق والمزاعم التالية:
لسنوات عديدة، منذ أن كان المبجل أوريسون ريبلي طفلًا، كان أهل كانان ينظرون إلى تلك الحفرة الموجودة تحت شجرة البلوط الأحمر برهبة خرافية؛ فلم يكن أحد ليجازف بالاقتراب من تلك البقعة في وَضَح النهار سوى قلة منهم، وأما في الظلام، فلم يكن أحد ليقربها تمامًا. بدا الرأي السائد عن تلك الحفرة وجيهًا وراسخًا؛ فكثيرًا ما كانت تُسمع منها أصوات غريبة وكأنها ضحكات شيطانية تصدر من المغارة، وأصوات أخرى لا يمكن وصفها، تشبه أصوات الخرير والخشخشة. ووفقًا لما عرفته، فقد كان ذلك هو التفسير الوحيد لاشتقاق اسم الاسبلرجلز، والذي جرت العادة على استخدامه للإشارة إلى قاطني هذا الكهف. كان أهل البلدة يعتقدون أنَّ هذه الكائنات الخرافية كائنات شريرة، ليس فقط لما يصدر عنهم من ضحكات ذات فظاظة غريبة، والتي سمعها الكثيرون مرات عديدة على مدى نصف القرن الأخير فحسب، بل أيضًا بناء على شهادة البعض بأنهم قد رأوا رءوسًا شيطانية تبرز من الحفرة، وكأنها الشياطين قد صعدت من الأسفل لكي تستنشق بعض الهواء النقي. ثم هناك ذلك المصير المروِّع الذي لاقاه جيرميا ستاكبول، وهو شاب متهوِّر يميل إلى الأفكار الإلحادية. ففي الحادي والعشرين من أكتوبر عام ١٨٥٨، أعلن بفخر عن نيته استخدام منجل وجمع جوز البلوط من تحت شجرة البلوط الأحمر، وبعدها، عُثر على قبعته بجوار الحفرة، وكان ذلك هو الأثر الوحيد الذي عُثر عليه منه. كان هناك أيضًا جاك فولار، وهو شقيق أمين سجلات البلدية، والذي راح يتجول ثَمِلًا في مرعى رودني برينس قبل أربع سنوات، ثم عاد إلى المنزل وقد أفاق تمامًا وفقد زوجًا من حذائه. وقد أعلن أنه بينما كان يتجوَّل بحثًا عن ثمار عنب الأرض، تعثَّر في حفرة الاسبلرجلز، وأطبقت أَيْدٍ مشتعلة على قدمه؛ كانت مشتعلة للغاية حتى إنَّ أصابعها اخترقت الجلد والصوف في حذائه وأحرقت قدمه، ولم ينجُ من سحب جسده إلى الحجرة إلَّا بعد أن بذل مجهودًا خارقًا. ولحسن الحظ أنه كان مصابًا بمسمار القدم؛ فكان يرتدي حذاءً واسعًا للغاية، وهذا ما أنقذه من الوقوع في قبضة الاسبلرجلز البشعة. أكد فولار بجدية أنه حتى بعد أن خلع جوربه بفترة طويلة، وفرَّ إلى مكان آمن، كان لا يزال يشعر بأثر تلك الأصابع الملتهبة التي أطبقت على مُشْط قدمه.
كان ما أخبرني به الشمَّاس من حكايات مختلفة عن حفرة الاسبلرجلز، والتي استمتعت بها، مختصرًا وموجزًا وشاملًا، وكذلك مدهشًا، فقد كان مما أخبرني به أنها: «الباب الخلفي للجحيم.»
في اليوم التالي، ذهبت إلى بطل قصة الحذاء الذي خطفته الشياطين وسألته: «فولار، كم يلزمك من الرَّم لكي تستجمع ما يكفي من الشجاعة لزيارة حفرة الاسبلرجلز معي في عصر هذا اليوم؟»
أجاب فولار بعد أن تفحَّص ملامحي لكي يتأكد من أنني لا أختبره: «ما يقرب من ربع جالون على ما أعتقد، فليكن ربع جالون بأكمله من باب الحيطة؛ فسوف يجعلني ذلك ثَمِلًا تمامًا.»
سألته قائلًا: «هلا تأتي معي أولًا ثم تأخذ الرَّم بعد ذلك مع قسيمة بقيمة خمسة دولارات كجزء آخر من الصفقة؟»
راح فولار يوازن بين المخاطرة والمكسب، وكان ذلك واضحًا للغاية حتى إنَّ المرء ليرى من جلده صراع الإغراء مع الخوف، ثم فاز الرَّم كما ينبغي له. وفي الساعة الثالثة، جاء السيد فولار في كامل وعيه، وهو يحمل حبلًا ومصباحًا يمكن حجب ضوئه، وصحبني عبر مرعى رودني برينس، إلى شجرة البلوط الأحمر الموجودة على جانب التل.
حين تفحصت الحفرة عن قرب اقتنعت بأنها ليست جُحْرًا لأي نوع من الحيوانات، وحين استكشفتها بعصا طويلة، وجدت أنها تقع بعد طبقة الغبار الموجودة بالقرب من الفتحة، وكانت الجدران من الصخر الصلب. لقد كان ذلك في الواقع نفقًا يؤدي إلى الحَيْد، نفقًا طبيعيًّا قديمًا كتلال فيرمونت؛ أي إنه يرجع إلى العصر البلوري الأصغر. وخلف فتحة النفق، حيث كان الغبار وتربة السطح قد سدَّاها جزئيًّا، كان الممر واسعًا بحجم أحد التفرعات الأساسية من نهر كروتون. وعلى مسافة نحو عشرة أقدام، كانت القناة تتجه إلى أسفل بزاوية ستين أو سبعين درجة. وأما بالنسبة إلى مسارها، فوفقًا لما تمكنت من تحديده بعصاي، فكان أفقيًّا ويتجه مباشرةً إلى قلب التل.
خطوت إلى الداخل وصرخت في فوهة الكهف؛ فأتاني رجْع صوتي مشوَّشًا ومبهمًا، وعندما توقف صدى الصوت، سمعتُ بوضوح صوت ضحك خفيض وغريب، يشي بالذكاء، لكنه ليس بشريًّا. كان قريبًا من أذني، لكنه بدا وكأنه من عالم آخر مجهول.
سمعه فولار كذلك؛ فامتُقع لونه وجرى مبتعدًا مسافة قصبة أو اثنتين، لكنني ناديته بحدَّة فعاد مرتعدًا.
تحدثت إليه قائلًا: «ذلك الضحك الذي سمعناه، نصفه ينبع من أصداء الكهف ونصفه من خيالنا. سوف أزحف إلى الداخل.»
وبناءً على نصيحة فولار الصادقة قررت أن أدخل الكهف عكسيًّا، حتى إذا طرأ أمر، تمكنت من الخروج بسرعة أكبر. أضأتُ المصباح، وربطت أحد طرفي الحبل تحت ذراعَيَّ، أما الطرف الثاني، فقد أعطيته فولار، وأخبرته: «إذا ناديتك فاسحبني بكل قوتك، وإن لزم الأمر، دُر مرتين حول شجرة البلوط.» بعد ذلك، تقهقرت ببطء إلى الوراء، ودخلت بحذر إلى كهف الاسبلرجلز.
قبل أن يختفي رأسي وكتفاي من ضوء النهار، شعرت بقبضة قوية من الأسفل تمسك بكاحلَيَّ، وأدركتُ أنَّ ثمة قوةً خارقة تشدُّني إلى أعماق التل. رحت أصيح بفولار في يأس، لكنَّ صراخي غرق وسط طنين مدٍّ لضحكات انتصار مرعبة راحت تتردَّد في جنبات الكهف. رأيت رفيقي يقفز نحو جذع شجرة كبيرة. لقد بذل قصارى جهده لكي ينقذني، لكنَّ قدمه علقت في شجيرات العرعر وسقط على الأرض، وانزلق الحبل من بين أصابعه التي خدَّرها الخوف. أما أصابعي، فقد علقت بلا جدوى في التراب عند فوهة الحفرة. كانت القوة التي تشدني لأسفل لا تُقاوم. التقت عيناي بعينَي رفيقي اللتين قد امتلأتا رعبًا، ثم أطبق الظلام من حولي وسمعته وهو يصيح: «فليكن الله في عونك!»
وبينما كانت تلك القوة تشدُّني إلى أسفل بسرعة متزايدة، زال عني الرعب في غمرة هذا الابتهاج الغريب بالحركة؛ فقد شعرت بأنني قطار سريع يمرق في الظلام. لم أكن أعرف إلى أين، ولم أعبأ بذلك، وأصبحت كقارب خفيف مربوط في باخرة تجرُّه في أعقابها وهي تشقُّ الماء بسرعة، فتُخلِّف من بعدها صفيرًا. كان صوت هدير الماء يشبه إيقاع الغناء، ثم شعرت بإحساس الدوار الذي يسبق الإغماء، وغبت عن الوعي.
كان أول ما عاد إليَّ من حواسي بعد أن فقدتها جميعًا لفترة غير معلومة من الوقت، هي حاسة التذوق. شعرت بمذاق نوع رائع من شراب البراندي لا مثيل له.
سمعت صوتًا يتحدث: «إنه يستعيد وعيه، لم يعد ثمة حاجة لوجودك.» كان صوتًا أجش فظًّا، لكنه لم يكن قاسيًا.
فتحتُ عيني ونظرت من حولي، ووجدتني راقدًا على أريكة وثيرة في شقة صغيرة، على كل جانب منها ارتخت ستائر ثقيلة تحدُّ من مجال الرؤية. ليس من السهل أبدًا أن أصف أبرز ما يميز هذا المكان؛ إذ كان به سمة لم أجد لها مقابلًا دقيقًا في أي لغة من لغات البشر. كان كل شيء مضيئًا من تلقاء نفسه ويشع ضوءًا، إن جاز التعبير، لا يعكسه. كانت الستائر القرمزية تضيء بوهج قرمزي معتم غير شفاف. كانت الأريكة مصنوعة من النُّحاس، ولكنه كان نُحاسًا يتوهج وكأنه مصدر للضوء، وحتى الشخص الطويل الذي كان واقفًا إلى جواري وهو ينظر إلى وجهي بنظرة ودودة وعطوفة، كان يسطع بالضوء؛ فكانت ملامحه تشع بالضوء، وحتى حذاؤه المطلي بملمع نقي خالص، كان يشع سوادًا عجيبًا، حتى اعتقدت أن بإمكاني أن أقرأ الجريدة على ضوء حذائه فحسب.
كان تأثير هذه الظاهرة الفريدة عجيبًا للغاية، حتى إنني تناسيت آداب اللياقة والسلوك وضحكت بصوت عالٍ.
لكنني اعتذرت قائلًا: «اعذرني، لكنك شديد الشبه بمصباح صيني؛ فما استطعت أن أقاوم.»
ردَّ بجدِّية: «لا أرى شيئًا يستدعي المرح والضحك، هل تقصد لَمَعاني؟»
حثَّني ما أبداه من عدم وعي شديد بالأمر على الضحك مجدَّدًا، وبعد ذلك، حين اعتدت على ظاهرة الضوء المنتشر في كل مكان، بدت جميع الألوان المضيئة طبيعية للغاية، ولم أعد أرى ما يستدعي الضحك والمرح، مثله تمامًا.
التفتُّ إليه متحدثًا كي أغير مجرى الحوار؛ إذ بدا عليه بعض الاستياء: «لقد كان هذا البراندي الذي تفضَّلت بتقديمه لي رائعًا للغاية يا صديقي، ولعلك لا تمانع في أن تخبرني أين أنا الآن.»
«أستطيع أن أطمئنك أنك بين مَن نَحْدَبُ عليهم بالرغم من حماقاتك ومثالبك المخزية. وسوف نحاول أن نجعلك تكفُّ عن الندم على ذلك العالم العبثي الذي غادرته للأبد.»
رددت قائلًا: «إنكم في غاية الكرم، لكن عليَّ أن أعود إلى كانان بأسرع ما يمكن.»
«لن تعود أبدًا إلى كانان. إنَّ الطريق الذي أتيت منه يسير في اتجاه واحد فحسب.»
«وأنتم تعتزمون إبقائي هنا في هذا الكهف الملعون؟»
«هذا لصالحك.»
رددت عليه ببعض الحدَّة: «من المدهش حرصكم الشديد على سلامتي المعنوية.»
أظنُّ أنه قد مر عليَّ أسبوع بأكمله وأنا محبوس بين هذه الستائر المضيئة، بالرغم من أنني لم يكن لديَّ أي وسيلة لقياس الوقت؛ إذ كانت ساعتي تأبى بعناد أن تسير. كان حارسي المضيء يزورني على فترات منتظمة، ويحضر لي الطعام، الذي كان يضيء هو الآخر وكأنه ذو وميض فسفوري، لكنني كنت آكله باستمتاع لا مثيل له؛ إذ كان شهيًّا للغاية. كان يبدو عازفًا عن الحديث، لكنه كان دومًا عطوفًا ومهذبًا، وكان دائمًا ما يحيِّيني ويودِّعني بابتسامة هادئة ممتزجة بالتعالي، لكنها أصبحت في النهاية مزعجة إلى أبعد حدٍّ.
في أحد الأيام كنت قد فقدت كل صبري، وخاطبته قائلًا: «اسمع، أنت تعرف جيدًا أنَّني أستطيع أن أخنقك وأهرب من هذا المكان إيابًا إلى ضوء النهار الحقيقي. غير أنني ضعيف، وما زال بداخلي من الإنسانية ما يكفي لأخبرك بأنني سأكون ممتنًّا للغاية إن أفصحت لي عن هويتك وأخبرتني بسبب ابتسامك الدائم لي بمثل هذا التعالي، وماذا تنوي أن تفعل بي. من أنت على أي حال؟»
أجابني بأدب جمٍّ: «كل هذا ستعرفه قريبًا جدًّا؛ فلديَّ تعليمات بأن أقدمك فورًا إلى سيدي.»
«سيد الاسبلرجلز؟»
«أجل، الاسبلرجلز، إن كان هذا هو ما تختاره. أعتقد أنَّ هذا هو الاسم الذي يطلقونه علينا في ذلك العالم البائس الذي هربت منه لحسن حظك. تعالَ معي من فضلك إلى القاعة التي يعقد فيها سيدي المقابلات.»
كان زعيم الاسبلرجلز ذا شخصية في غاية الجاذبية، وكان يشبه حارسي ومستشاريه وخدمه المحيطين به في القاعة المجهزة بوسائل الراحة (فيما عدا استثناءً واحدًا)؛ فقد كان مضيئًا هو الآخر. أما الاستثناء، فهو ذلك الشخص الذي كان حاضرًا بين خدمه والذي كان يبدو أنه مثلي من البشر، لكنه بذل كل ما في وسعه لكي يعالج هذا العيب الطبيعي. فقد مسح وجهه ويديه وثيابه بالفسفور؛ وراح يشع بضوء صناعي في محاولة رديئة لتقليد تلك الإضاءة الأصلية التي تميز عالم الاسبلرجلز. كان يبدو من تصرفاته ونظراته أنَّ هذه المحاكاة، في حالته، هي أصدق محاولات الإطراء. كانت جميع تصرفاته تجاه الاسبلرجلز تدل على الخنوع الشديد. فقد كان يتحرك رهن إشارتهم، ولا يبتهج إلا إذا أذنوا له بذلك، وبدا ينتفخ فخرًا وأهمية حين يتكرم سيد هذه الكائنات الغريبة بمنحه كلمة أو نظرة توحي بالاستهجان.
تحدث زعيم الاسبلرجلز قائلًا: «يا دودة الأرض! هل أنت مستعد للقبول بفرصة عظيمة؟»
أجبت: «إنني مستعد لأن أزحف عائدًا إلى حياتي الحقيرة في أقرب فرصة.»
تحدث زعيم الاسبلرجلز دون أدنى إشارة تدل على فراغ صبره: «أيها المغفل البائس!»
أجبته بانحناءة قصدت بها السخرية: «شكرًا لك. وبمَ أدعو جلالتك؟»
«أنا أهريمان»، ثم كرر قائلًا: «أنا أهريمان العظيم، الشيطان الجبار أهريمان. يرتعش البشر إن وردت بخاطرهم، ولا يجرءون على ذكر اسمي. كنت أحكم في عهدي إمبراطورية شاسعة من الديفا، وأنزلت بفارس وما حولها الكثير من الأذى والخراب. إنني صديق مروِّع، صدقني، أبثُّ الكثير من الرعب في النفوس.»
قلت معلقًا على حديثه: «عفوًا أيها العم أهريمان، لكن أأنت متأكد من أنك لا تزال مرعبًا كما كنت من قبل؟»
تسلَّل إلى ملامحه تعبير يدل على كبريائه الجريحة، ثم أجاب متردِّدًا بعض الشيء: «ربما، ربما توقفت عن الممارسة قليلًا؛ فالسنوات والظروف قد حدَّت من مجال عملي، لكنني لا أزال مرعبًا. بيلزباب، أَوَلستُ مرعبًا للغاية؟»
تحدَّث صوت مألوف من خلفي: «سيدي أهريمان، إنك مرعب على نحو يفوق الوصف.» نظرتُ حولي فرأيت أنَّ هذا الرأي قد صدر من حارسي ورفيقي القديم.
تابع أهريمان: «أسمعت بيلزباب؟ إنه يقول إنني مرعب على نحو يفوق الوصف. يمكنك أن تصدق بيلزباب؛ فهو من أصدق الشياطين في مجتمعنا ويقظ الضمير. صحيح أنه يحتقر الطبيعة البشرية، لكنَّ رأيه لا يختلف عن رأي أي فرد آخر في مثل هذه الأمور. أجل، إنني مريع بلا شك. أليس كذلك يا ستاكبول؟»
رأيتُ الرجل الذي كنت قد لاحظت من قبل أنه بشري مثلي، والذي كان منصاعًا لجميع رغبات الاسبلرجلز وأهوائهم، وقد تقدم من بين الحشد، ورفع عينَيه من الأرض حتى التقتا بعينَي أهريمان، ثم راح يهتز ويرتعش كمن صعقه الرعب فأخرسه عن الكلام. وحينها عرفت أنَّ الخسيس كان يتمثَّل كل ذلك؛ حتى إنني أعتقد أنه قد غمز لي غمزة ماكرة حين عاد إلى مكانه، وكان قد انتهى من الارتعاش.
التفت أهريمان لي بفخر وقال: «أرأيت! يا له من تأثير عظيم هذا الذي يبثه حضوري في صديقنا الموقر جيرميا ستاكبول، بالرغم من أنه قد اعتاد رؤيتي لقرابة عشرين عامًا.»
كان هذا البشري إذن هو ذلك الشاب الملحد من كانان، والذي عرفت بقصة اختفائه الغامض عام ١٨٥٨ في متجر الشمَّاس بليمبتون، وقد عرفت بعد ذلك أنَّه قدم إلى كهف الاسبلرجلز بالطريقة نفسها التي قدمت بها إليه، غير أنه على خلافي، تصالح مع الأمر بسرعة. كان مجتمع الشياطين المتقاعدين في أعماق الأرض مناسبًا لميوله تمامًا؛ فإذ اطمأن أنهم سيكفلون له حياة مريحة طوال عمره، لم يحاول أن يهرب من الكهف على الإطلاق، ووجد أنَّ من مصلحته أن يكتسب ثقة آسريه بالتملُّق لهم ومجاراة غرورهم الذي لا ضرر منه.
تابع أهريمان بنبرة متعالية: «والآن أيها الإنسان، قد ترى أن من الغريب أن نفكر — نحن الأرواح الشريرة — بالرغم من جبروتنا وما نُثيره من هلع في النفوس، أن نفكر في أي ترتيب آخر لجسدك التافه وطبيعتك الحقيرة خلاف محو وجودك تمامًا. لكننا في الواقع نعتقد أنه من الملائم أن يكون بيننا إنسان أو اثنان للقيام بالعمل الشاق للجماعة، وللمساعدة في تطوير الموارد الطبيعية الضخمة للكهف»، ثم أضاف: «لسنا بالكسالى، لكننا في فترة تقاعدنا المبجلة قد أصبحنا على الأرجح أقل نشاطًا وحماسًا من ذي قبل؛ ولهذا السبب نقدم لك الفرصة للاستمتاع بالمزايا الرائعة لهذه الرفقة الأبدية مع كائنات عظيمة مثلنا.» وتابع هذا الشيطان المروع وهو يستخدم ذيله المسنن، والذي لم أكن قد لاحظته من قبل، في التهوية: «يا للهول! إنَّ الجو حار! مولوخ، خذ هذا الإنسان بعيدًا؛ فكثرة الكلام ترهقني للغاية.»
الحق أنني شعرت ببعض القلق إثر سماع هذا الاسم الذي طالما أرعب البشر عند سماعه على مدى قرون طويلة. ثمة شيء وحشي في فكرة الذهاب مع مولوخ القاسي المتعطش للدماء، والذي أريقت على مذابحه دماء الآلاف من البشر قربانًا له. غير أن ظهور حارسي الجديد كان مطمئنًا؛ فقد ظهر مولوخ بابتسامة ودود، وربَّت على رأسي، وعرض عليَّ أن يُريني الكهف. كان شيطانًا سمينًا، حسن الطباع، يبدو عليه الكسل، له وجه غريب ولمعة مرحة في عينَيه، وقد أحببته من أول وهلة.
همس في أذني: «سأخبرك بدعابة جيدة، ما أسخف الأمم التي عاشت على وجه الأرض؟ ها، ها! إنها جيدة، أؤكد لك.»
أجبته: «ليس لديَّ أدنى فكرة.»
قال وقد بدأ يهتز كقنديل البحر وهو يكتم ضحكه: «لماذا؟ أسخف الأمم هم الآشوريون وأهل نينوى وأهل بابل، أفهمت؟» ثم انفجر مولوخ في نوبة من الضحك.
ضحكت بصدق وقد بدا ممتنًّا للغاية لتقديري لحس الفكاهة لديه، فقال بثقة: «سأخبرك بأخرى أفضل منها فور أن أتذكر الإجابة؛ فقد نسيتُها. إنها عن فتاة لَعوب وضفدع مغامر، كلا، لست متأكدًا، لكنها من أفضل الدعابات التي يمكن أن تسمعها على الإطلاق إن قيلت بالطريقة الصحيحة.»
في طريقنا للخروج من غرفة المقابلات إلى أحد الحقول الموجودة تحت سقف الكهف الظليل، والذي رأيت فيه مختلف الشياطين، والتي لم يكن يبدو على مظهرها ما يوحي بأنها قد تُسبِّب أذى، وإنما كانت تعزق الأرض وتنظف الذرة مما حولها من حشائش، واصل مولوخ حديثه: «هؤلاء الشياطين الذين تراهم هناك هم من الآشوريين وعفاريت بريتا والراشكا المرعبين من الهندوكا. لقد اعتادوا أن يطوفوا الأرض بألسنة دامية وأسنان كأسنان الغيلان وشهية كشهية آكلي لحوم البشر. أما الآن، فهم لا يأكلون إلا العشب والحشائش. حسنًا، لقد شهد جنسنا تطورًا كبيرًا منذ أن تقاعدنا عن العمل.» ثم أضاف وقد بدت عليه أمارات صراع عنيف من أجل كتم الضحك بداخله: «يمكنك أن تقول إنها مسيرة الحضارة.»
مررنا بشيطان عملاق يجلس على صخرة تهتز به، ويُمسك بقبضته اليمنى الضخمة قارورة من الخوص. همس مولوخ: «إنه تايفون، وهو الإله سِت عند قدماء المصريين، كان سِت ينفث النيران والدخان ويقذف أعداءه بالصخور الملتهبة. لعلك تذكر أنه قد أرعب الآلهة جميعًا ذات مرة، وطردهم من البلاد، لكنه لن يؤذيَك؛ فقد أصبح مسالمًا للغاية الآن، حتى وهو ثَمِل. إنه يشرب الكثير من الخمر، وهي في غاية الضرر عليه الآن، كما تلاحظ. لقد تدهور سِت كما ترى.» ثم أضاف مولوخ وهو يضحك: «سيت، سات، سوت.»
فتحدثت قائلًا: «يا لك من مهرج كبير يا مولوخ!»
أجابني مولوخ: «إنها طريقتي في المزاح فحسب؛ فأنا أستمتع بالدعابات الجيدة. أحيانًا يخرجونني إلى المنفذ المؤدي إلى كانان كي أُضحك وأُرهب مواطني القرية الموجودين بالخارج. هل تلاحظ ذلك المرح الاستثنائي في عيني؟»
على مدى جولتي مع مولوخ في مجتمع الاسبلرجلز أدركتُ كم أنَّ هذه البعابع العتيقة كائنات مسالمة وساذجة. فحتى إن كانوا من قبلُ كائناتٍ شريرة؛ فقد تخلَّوا عن ذلك يوم أن نبذتهم الخرافة. وكغيرهم من السادة النبلاء المتقاعدين في مختلف المجالات، لا يزال بعضهم يفتخر بشرِّهم القديم، لكنَّ ذلك الظل الباهت كان سخيفًا، على عكس المادة الحقيقية. راح مولوخ الودود يتحدث إليَّ ويخبرني بالعديد من الدعابات الظريفة التي لا أتذكرها للأسف، وأخبرني أيضًا بأنَّ الشياطين الأحدث والأكثر عصرية قد حلوا بعقيدتهم ومذهبهم محل شياطين الزمن القديم، فانسحبوا من فوق وجه الأرض، وجاءوا يتقاعدون في هذا الكهف تحت جذور هذا الجبل الثلاثي. هنا جاءت الشياطين التي كانت قد استنفدت قواها الأعوام الطويلة التي قضتها في العمل على مدى أربعين قرنًا، لتخبو هنا وتصدأ تدريجيًّا لتصبح على الحالة التي وجدتهم عليها حين سُحبتَ سحبًا إلى مجتمعهم.
راح مرشدي، مولوخ المرح، يشرح لي: «لقد حافظ أهريمان على قدراته العقلية بصورة أفضل منا، ولهذا فهو يتزعمنا، لكن دعني أسرُّ لك بيني وبينك، أنا لا أعتقد أنه أكثر قوة أو شرًّا من أي واحدٍ منا.»
رأيتُ بالَ وتحدثتُ معه، وقد بدا أنَّ عقله قد خبا بعض الشيء، وكان يعمل في مطبخ البناية، ويُعِدُّ حصص الحساء الفسفوري اللامع. علَّقتُ قائلًا: «إنَّ حساءك اليوم لامع.» فلم أجد ما هو أفضل من ذلك كي أقوله.
أجاب الشيطان المتقاعد وقد بدا متفاجئًا بقوة تعليقي: «أجل، إنه يلمع، إنه يلمع.» ثم توقف وكأنما لم يستطع استيعاب ضخامة الفكرة، ووضع ذراع المغرفة على جبينه؛ فراح يتساقط منها سيل من الحساء على ملابسه، وراح يُردِّد، غير مدرك ما حل بثيابِه من فوضى: «إنه يلمع، إنه يلمع، وثمة شيءٌ ما يطن ويطن في رأسي.» بعد ذلك، راح يغرف الحساء وهو يغمغم لنفسه بذلك التجانس الركيك: «إنه يلمع، إنه يلمع؛ إنه يطن ويطن.»
تحدث مولوخ: «صار بعضُنا أسوأَ حالًا من بال، ولهم مكان مخصص في المؤسسة. إنهم شياطين مساكين، لا يفعلون شيئًا سوى الجلوس أو التجوال بلا هدف، وبالكاد يعرفون كيف يتناولون طعامهم وشرابهم. يجب أن ترى أبادون. إنَّ القلب ليرثي له عند رؤيته. لقد أصبحت حالته سيئة للغاية، حتى إنه لم يعد يستحسن الأحاجي الجيدة.»
بعد ذلك شرفت بلقاء ليليث، وهي عشيقة آدم التي أنجبت له ذرية فتاكة من الشياطين. كانت سيدة مسنَّة لطيفة كجداتنا، وحين رأيتها، كانت تغزل زوجًا من الجوارب الصوفية الثقيلة لبليال، وهو شيطان بليد وكسول ومستهتر. ورأيت أزموديوس الذي كان يقرأ خطابات تيموثي تيتكوم إلى الشباب، وبدا أنه يستمتع بقراءتها استمتاعًا واضحًا. والتقيتُ أيضًا بليفياثان ونرجال وبيلفجور، وقد كانوا يخافون ويرتعشون إن تحدثت بكلمة قاسية. وتحدثتُ أيضًا مع ريمون وداجون وكوهاي وبيهموث وأنتيكرايست، وكانوا جادين ووقورين كالمواطنين الشرفاء الذين كانوا يلتقون كل ليلة في متجر الشمَّاس بليمبتون.
خلال إقامتي مع الاسبلرجلز لعدة أسابيع شعرت ببعض الخزي؛ إذ وجدت أنَّ معاييرهم الأخلاقية حَرِيَّة بأن تُخْجِل عادات البشر وممارساتهم؛ فقد كانوا كائنات غير مؤذية، ولم أرَ منهم ما يشير إلى سمعتهم في الخبث الشيطاني؛ أما حياتهم الخاصة، فكانت بعيدة كل البعد عن أي شبهة. لا يسرقون ولا يكذبون، ويقدسون الثقة كل التقديس، أما حسن ضيافتهم، فأشهد عليه بنفسي. لم أعرف فيهم أي رذيلة سوى السُّكْر، وكان ذلك يقتصر على تايفون ودونه فرد واحد أو اثنان. بالرغم من ذلك، فبينما أنسب إليهم فضائل لا نشهدها على الأرض إلا فيما ندر لسوء الحظ، فإنَّ أمانة القول تحتم عليَّ أن أضيف أنَّني وجدتهم رفاقًا مملين، وقد كنت سعيدًا حين عرفت بسر المخرج من صديقي الطيب مولوخ، ووقفتُ مرة أخرى تحت شجرة البلوط الأحمر في مرعى رودني برينس.
بدا كل شيء أسود وميتًا بعد ما رأيته من ألوان مضيئة ولامعة تُلَوِّن كهف الاسبلرجلز. غير أن التباين لم يكن صارخًا كذلك التباين الذي أرهقني حين بدأت في التعامل مع البشر مرة أخرى. الرشوة والفساد في التجارة، والحقد الحقير المنتشر في المجتمع، وانحدار البشرية، كل ذلك اتخذ لديَّ شكلًا جديدًا منفِّرًا؛ فأصبحت أشارك بيلزباب رثاءه وأسفه لفسادنا الأخلاقي.