رابعًا: الحضارة الإسلامية
وقد تم تدوين الفلسفة كأحد أقسام العلوم داخل الحضارة
الإسلامية ككل. فالحضارة الإسلامية هي وحدة التحليل الأولى،
والفلسفة علم من علومها. مثال ذلك «المقدمة» لابن خلدون
(٨٠٨ﻫ)، في الباب السادس «في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه».
١ يأتي العلم بعد ارتقاء المجتمعات وتطورها
وانتقالًا من البدو إلى الحضر ونشأة الدول والعمران والمجتمعات
المستقرة. فالعلم ظاهرة مدنية.
٢ ويتضمن خمسين فصلًا، أربعة وعشرون منها في أصناف
العلوم، وستة وعشرون حول العلوم وطرق تحصيلها.
ويهتم ابن خلدون قبل تقسيم العلوم بمناهج التعليم، وينقد
عقلية الشروح والملخصات والنقل، نقل الكتب من بعضها من أجل
الحث على الإبداع. فكثرة التأليف تعوق عن التحصيل خاصةً لو كان
التأليف نقلًا عن نقل، ولا يخرج من القلب، ولا يصنف جديدًا.
ويحمل ابن خلدون هموم قِصَر العمر الذي لا يكفي لكثرة التحصيل
وكثرة التأليف وكثرة النقل. فالعلم كيف وليس كمًّا، إضافة
الجديد وليس نقل القديم.
٣
ويبين ابن خلدون مناهج التعليم التي تؤدي من النقل إلى
الإبداع: التعلم تدريجي، وتقريب العلم للمتعلم على سبيل
الإجمال حتى تحصل له ملكة العلم ويترقى في المراتب فيتعلم
بنفسه، فالفطرة أساس التعليم، وعدم الانقطاع عن مجالس العلم
حتى لا يُنسى، وعدم خلط علمين في وقت واحد تمييزًا بين العلوم
وكأن ابن خلدون لا يدرك أهمية التخصصات البيئية، ونسق العلم
ووحدة المعرفة البشرية. كما يتجه المتعلم نحو الموضوع وينظِّره
تنظيرًا مباشرًا؛ إذ لا يكفي قراءته في كتاب، بل الحصول عليه
بالتجربة. فالعلم لا يُستنبط من النص بل يُستقرى من الواقع.
ليس العلم فقط هو المدوَّن المقروء، بل هو أيضًا الشفاهي
المسموع، ليس علاقة بين المتعلم والكتاب بل بين المريد والشيخ
كما هو الحال عند الصوفية وفي ثقافة سمعية وليست مرئية. ويتوزع
العلم على مراحل العمر. ويتجه العلم معًا نحو العمل. لذلك لا
يُستحسن التوسع في العلوم الإلهية، والتحول «من العقيدة إلى
الثورة»، وأن يحمل العلم «هموم الفكر والوطن». والعلوم الإلهية
هي علوم المقاصد في حين أن العلوم الدنيوية هي علوم الوسائل،
والتوسع في الدنيوية يحقق نفعًا لتحقيق المقاصد الكلية.
والعلوم الإلهية ليست فقط علوم الكتاب والسنة، بل هي علوم
المقاصد الكلية للشريعة وهي الضروريات الخمس، المحافظة على
الحياة والعقل والدين والعِرض والمال، وهي المصالح العامة التي
تُسَمَّى بلغة العصر حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، والتي فيها
تلتقي العلوم الإلهية والعلوم الإنسانية، علوم الغايات وعلوم
الوسائل. وينقد ابن خلدون الموقف الطبقي للعلماء الذي يبرر
عجزهم عن العلم أو رغبة الفقراء منهم للتكسب به أو الرد عليهم
بنفس المنطق ولنفس الغاية كما فعل ابن سينا.
٤
ويثير ابن خلدون قضيتين خلافيتين؛ الأولى ابتعاد العلماء عن
السياسة، والثانية أن حَمَلة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم.
٥ فالقضية الأولى تعارض توجُّه العلم نحو العمل،
وتحول النظر إلى ممارسة، والعياذ من علمٍ لا ينفع، وضد التزام
العالم بقضايا الوطن، وتحويله إلى مجرد حامل علم أو بائع له
لمن يشاء في الداخل أو الخارج. فالعلم والمال لا وطن لهما.
وعدم تسييس العلم تحويله إلى مهنة أو حرفة، وليس إلى رسالة أو
أمانة بدعوى لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة مثل عدم
تسييس الدين وتحوله إلى مجرد إيمان وعقائد وشعائر وطقوس بدعوى
لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وكما يُقال في عصرنا
الحاضر دفاعًا عن نظم التسلط والطغيان.
والقضية الثانية قد تكون كلمة حق يُراد بها باطل؛ فهو حكم
تقريري تعزِّزه الأحاديث النبوية «العلم في فارس»، «لو كان
العلم في الثريا لناله رجال من أهل فارس». ويؤيده الواقع،
فالفرس غالبية السكان والأكثر عددًا. وقد كانوا أهل حضارة أو
علم سابق على الإسلام وليسوا بدوًا. وربما لكونهم من المعارضة
السياسية والأقلية المضطهدة تجاه النظم السياسية والأغلبية
القاهرة. والأقليات المضطهدة عادةً ما تلجأ إلى العلم كأداة
للقوة مثل حال اليهود في العالم اليوم. ربما لأن العرب تفرغوا
للرياسة واستأثروا بها فتفرَّغ الفرس للعلم وأبدعوا فيه.
والعلم هو السلطة الفعلية الدائمة والسياسة هي السلطة الوقتية
الذاهبة. وقد يُراد بذلك الباطل إذا ما تم تأويله على نحو
شعوبي عنصري، وكأن الفرس أصحاب عبقرية خاصة بهم كما هو الحال
في النظريات العنصرية الغربية المعاصرة.
وفي نفس الوقت يقول ابن خلدون بدورات التاريخ، وبذهاب العلم
بذهاب الأمصار، وبانتقاله من العجم إلى مصر، نظرًا لتحول العجم
إلى البداوة، ومصر إلى الحضارة، فمصر أم الدنيا، وإيوان
الإسلام، وينبوع العلم والصنائع، مصر المحروسة. وبقي بعض
الحضارة إلى ما وراء النهر؛ أي إلى آسيا، وبالتالي تكون مصر
وآسيا وريح الشرق محور الحضارة القادم.
٦ كان لديه إحساس بوجود حضارة في الشمال، الإفرنجة
في شمال الأندلس أيام تغلب النصرانية وازدهار العلوم العقلية
عند الفرنجة، وكأن الحضارة قد تحولت من العجم إلى مصر، وحفظتها
مصر في عصر الموسوعات في نفس الوقت الذي تحولت فيه إلى الشمال،
إلى أوروبا المعاصرة.
٧ وانتقل الصراع من الشرق إلى الغرب إلى الشمال
والجنوب، وبالتالي تكون دراسة الغرب المعاصر جزءًا من تاريخ
الحضارة الإسلامية وانتقالها من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب
إلى الشمال. وقد تعود بعد ذلك، طبقًا للإرهاصات الحالية من
الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب.
٨
وبعد هذه المقدمة النظرية في العلم والتعليم يصنِّف ابن
خلدون العلوم تصنيفًا ثلاثيًّا: العلوم النقلية والعلوم
العقلية وعلوم اللسان العربي على قدْرٍ متساوٍ تقريبًا في الكم
أو مع زيادة ملحوظة في العلوم العقلية.
٩ وهي القسمة الشائعة في تصنيف العلوم لولا أن
ابن خلدون يستبدل بالعلوم النقلية العقلية علوم اللسان العربي.
وهي قسمة تبدو معاصرة تشبه قسمة مشروع «التراث والتجديد».
فالعلوم النقلية هي التراث القديم، والعلوم العقلية هي التراث
الغربي، وعلوم اللسان العربي هي الواقع المعاش. وتُسمَّى
العلوم النقلية العلوم الوضعية لأنها تقوم على الخبر؛ أي
التاريخ والشرعيات؛ أي الواقع العملي في سلوك الناس، وكما قال
الشاطبي قبله إن الشريعة الإسلامية شريعةٌ وضعية. ويُسَمِّي
العلوم العقلية الطبيعية لأنها تشمل العلوم الرياضية والطبيعية
نظرًا لوحدة الوحي والعقل والطبيعة.
١٠
وتشمل العلوم النقلية ثمانية علوم: القرآن والتفسير
والقراءات، الحديث، الفقه، الفرائض، أصول الفقه، الكلام،
التصوف، تعبير الرؤيا. ويُلاحَظ وضع علم التفسير في علوم
القرآن وهو علم مستقل، وقسمة علم الفقه إلى فقه وفرائض وهو نفس
العلم، وإدخال علم أصول الفقه والكلام والتصوف ضمن العلوم
النقلية وهي من العلوم النقلية العقلية مع الفلسفة، وإدخال علم
تعبير الرؤيا مع العلوم النقلية لتأليف ابن سيرين فيه، وهو أحد
أعلام الصحابة مع أنه لم يدخل مُسبقًا في تصنيف العلوم على نحو
مطرد. وهو أدخل في التصوف أو الفلسفة لارتباطه بالنفس وبالتالي
يكون أقرب إلى العلوم النقلية العقلية، واستبعاد علم السيرة
وهو تطوير لعلم الحديث، وتحول من القول إلى الشخص.
والعلوم العقلية سبعة: العدد والهندسة (مناظرة ومخروطات
وكروية) والهيئة (الأزياج)، والموسيقى، والمنطق، والطبيعات
(الطب والفلاحة)، والإلهيات. والعلوم الأربعة الرياضية الأولى
هي الرباعي المعروف في مقابل الثلاثي الذي وصفه ابن خلدون في
القسمة الثالثة، علوم اللسان العربي، ويستبدل به ثلاثي الحكمة
المنطق والطبيعات والإلهيات دون أن يسميها فلسفة. وهي أدخل في
العلوم النقلية العقلية. وقد يكون الدافع على جعلها علومًا
عقلية خالصة هو ضمها إلى الوافد، وبالتالي سهولة نقدها
واستبعادها قبل تحريمها بفتاوى ابن الصلاح بعد ذلك
بقرن.
ثم يضع مجموعتين من العلوم خارج إطار المنظومة لاستبعادها
ونقدها. الأولى السحر والطلسمات، والكيمياء، والثانية الفلسفة
والنجوم. وهما المجموعتان اللتان يأخذ فيهما ابن خلدون موقفًا
صريحًا بالإبطال في العنوان «في إبطال الفلاسفة وفساد منتحليها».
١١ وتظل علوم أخرى خارج المنظومة، مثل النبات
والحيوان والمعادن والصيدلة، وهي من العلوم الطبيعية. وعلوم
الجغرافيا والتاريخ، وهو مؤسس النظرية الجغرافية وفلسفة
التاريخ.
وبالنسبة للعلوم النقلية؛ أي الموروث، يبين دخول
الإسرائيليات في التفسير، كما يبين صلة الحديث بالفقه؛ فالفقه
إعادة تبويب للحديث. ويفيض في بيان أهمية أصول الفقه وهو
الأصولي؛ فهو من أعظم العلوم الشرعية وأجلِّها قدرًا وأكثرها
فائدةً، ويقارنه مع علوم القرآن. يذكر داود الظاهري ولا يذكر
ابن حزم وهو أندلسي مثله. ويذكر ابن رشد فقيهًا لا فيلسوفًا مع
أبي زيد وابن يونس وأبي عمرو بن الحاجب، ولا يذكر ابن حنبل ضمن
المدارس الفقهية الأربع.
١٢ ويدافع عن التصوف السني الأشعري ويعتبره من العلوم
الشرعية. ويرفض التصوف الشيعي الذي ينتهي إلى الحلول والاتحاد
والتصوف الإشراقي الفلسفي عند ابن سينا، وكأن التصوف السني لم
يقُل بالاتحاد والحلول والوحدة؛ وحدة الشهود عند ابن الفارض
ووحدة الوجود عند ابن عربي. وبيَّن الصلة بين التصوف والتشيع
كنوع من المقاومة الوجدانية القلبية؛ فمملكة الروح قادرة على
هزيمة مملكة الجسد، ومدينة الله أقوى من مدينة الأرض. وفي علم
تعبير الرؤيا يعتمد ابن خلدون على نظرية الأبخرة لتفسير الرؤية
الصالحة، وهي نظرية فلسفية تعتمد على تفسيرات الفلسفة للرؤيا
بنظرية الاتصال وهو يبطل الفلسفة ويبيِّن فساد منتحليها.
١٣
أمَّا بالنسبة إلى العلوم العقلية فيعتبر ابن خلدون الحساب
فرعًا لعلم العدد، وكذلك المعاملات مع أنها تطبيقات له
كالمحاسبة. ولا يتحدث عن الدوافع لنشأة هذا العلم، حاجة
الفرائض، الصلة والمواريث، إلى الحساب. كما يجعل الكريات
والمخطوطات من فروع الهندسة وكذلك المناظرة من خلال الرؤية
والنظر مثل ابن الهيثم؛ أي المنظور بلغة العصر. كما يجعل
الأزياج من فروع علم الهيئة.
١٤ وينقد التجربة في الفلك نظرًا لقِصَر العمر وهي
تستلزم التكرار. وفي الغالب لا ينقد ابن خلدون العلوم العقلية
خاصةً الرياضية لأنها علوم الوسائل لا علوم الغايات، يتفق
عليها الجميع ويقينية مضبوطة.
أمَّا المنطق والطبيعات والإلهيات فإنها علوم عقلية صرفة لا
شأن للعلوم النقلية بها؛ ومن ثمَّ لا يمكن لعلم الكلام، وهو من
العلوم النقلية، إصدار الأحكام عليها بالصواب والخطأ نظرًا
للتمييز بين العلمين في البداية. ولم ينشأ الخلط بينهما إلا
عند المتأخرين عندما تحول علم الكلام إلى علم فلسفي وتسربت
الفلسفة إلى علم الكلام بعد نقد الغزالي لها.
١٥ غرض الكلام هو الرد على الملحدين وغلاة الصوفية
وليس المنطق والطبيعات من هذا النوع. بل إن ابن سينا «كان
يخالف أرسطو في الكثير من مسائل «الطبيعيات» ويقول برأيه فيها».
١٦
أمَّا علوم اللسان العربي؛ النحو، واللغة، والبيان، والأدب،
فهي ضمن علوم الوسائل لا الغايات. العلوم اللسانية إذن لفظ
قديم وليس لفظًا حديثًا. وتأتي في النهاية بعد العلوم النقلية
والعلوم العقلية وليس في البداية كما هو الحال في الغرب الحديث.
١٧ والنحو ينظِّر الممارسة في الواقع باعتباره هو
العلم الذي يضع قواعد اللغة ومنطق الكلام. ويفصل ابن خلدون
اللهجات العربية، واللسان المضري، رادًّا اللسان إلى القبيلة،
عرب وبربر، ثم قسمة العرب إلى قبائل، مضر وغيرها. ويركز على
المَلَكة والذوق في اللغة، وأنها لا تحصل للمستعربين من العجم
لرسوخهم في العجمة البربرية. اللغة وجدان وليست اكتسابًا،
وطبيعة وليست صنعة، موهبة وليست تعليمًا، من ممارسة البدو
وليست من تقعُّر الحضر.
١٨ ويعتبر ابن خلدون علم البيان حادثًا في الملة ربما
من حيث القواعد وليس من حيث الممارسة التي صاغها الوحي في
القرآن من حيث إن صناعة النظم والنثر في الألفاظ لا في
المعاني، مع أنه يصعب التمييز بين اللفظ والمعنى. فتعريف
البلاغة هو «اقتضاء القول طبقًا لمقتضى الحال». وينقد ابن
خلدون المحفوظ في النثر ويقبله في الشعر لأنه يقوي الذاكرة
ويخصب الخيال. وينقد التكسب بالشعر حتى صار غرضه هو الكذب
والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين.
١٩ ويُكثِر في نهاية المقدمة من الشعر والأزجال
والموشحات الأندلسية مؤكدًا على الخصوصية الإقليمية الأندلسية،
وكما يفعل بعض المغاربة المعاصرين متوشحين بمفهوم القطيعة
المعرفة الوافد من الغرب الحديث وشاعرًا بأنه قد خرج عن القصد
من كتابة المقدمة.
٢٠
إنما القضية في العلمين اللذين يخرجهما ابن خلدون من تصنيف
العلوم، وهما الكيمياء وما يرتبط بها من سحر وطلسمات، والفلسفة
وما يرتبط بها من أحكام النجوم. فالكيمياء أبعد العلوم عن
الصنائع. ويؤثِر ابن خلدون بدلًا منها في وصف العمليات
الكيميائية التدبير على بركة الله واعتبارها «من جنس النفوس
الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعة، إمَّا من نوع الكرامة إن
كانت النفوس خيِّرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة».
ويعتبرها أقرب إلى صنعة البداوة، اصطنعها خالد بن يزيد بن
معاوية من الجيل العربي البدوي الأول، والعرب على أية حال أبعد
عن العلوم والصنائع.
٢١
كما يبطل ابن خلدون علم أحكام النجوم وتأثير الكواكب فيما
تحتها، فلا فاعل إلا الله؛ فهي صناعة باطلة من حيث الشرع
وضعيفة من حيث العقل، وضارة للعمران البشري لما تفرزه من عقائد
فاسدة على العوام.
٢٢ ويبطِل صناعة الكواكب ويجعل المعاش بالطرق
الطبيعية كالفلاحة والنجارة. وينقد علم السحر والطلسمات
والشعوذة لأنه موجه إلى غير الله والسجود له، والوجهة إلى غير
الله كفر. ويبيِّن، وهو المؤرخ، تاريخ السحر عند العبرانيين
والكلدانيين والمصريين والربانيين والبابليين والنبط والهنود
والسودان والترك وجابر بن حيان. وينقد المشتغلين بالأعمال
السحرية وإشراك الروحانيات والجن والكواكب في أفعال البشر
وظواهر الطبيعة. ولم تفرق الشريعة بين السحر والطلسمات، وحرمته
للسيطرة على الأفعال الناقصة في الدنيا. ومع ذلك يحاول تفسيره
على نحوٍ معنوي، استعداد النفوس البشرية للتأثير في عالم
العناصر من غير معين وهو السحر، وبمعين وهي الطلسمات كما هو
الحال في التنويم المغناطيسي في العصر الحديث، ولأثره في الروح
المعنوية. كما يعترف للمتصوفة ببعض الكرامات بالإمداد الإلهي
ومن آثار توابع النبوة. وقد سُحِر الرسول وفكَّت عائشة عقدته!
والعجيب أن ابن خلدون ينقد الفلاسفة ويبين فساد منتحليها بأكثر
مما يفعل مع بطلان السحر وفساد منتحليه!
٢٣
والقضية الثانية «في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها» مع صناعة
النجوم وثمرة الكيمياء في نهاية العلوم العقلية.
٢٤ والفلسفة هي الوحيدة التي لها فصل في إبطالها،
وبيان أن هذا الفصل مهم. ويبدأ ابن خلدون بعرض تاريخي لنشأة
الفلسفة وتطورها مع تقييمها. ويلخِّص الفلسفة والمنطق والأخلاق
بداية بالوافد ونهاية بالموروث دون تحديد لتواريخ مولد أو
وفاة، وهو المؤرخ الحصيف. ويتساءل عن أصلها من فارس وعراق
العجم جزء من فارس أو من الروم وتعني اليونان باعتبار أن الروم
ورثة اليونان، ونظرًا لأن حروب العرب كانت مع الروم.
٢٥ ويفسر نشأة المنطق، البداية بالحس والنهاية إلى
التجريد كما يفعل الأشاعرة. ويعارض الميتافيزيقا، وينقد نظرية
الفيض. ويعتبر الفارابي وابن سينا من الضالين.
٢٦
ولا يذكر ابن رشد إلا ملخصًا لأرسطو. ينقد البراهين الفلسفية
ونظرية المعرفة الفلسفية. ميزة الفلسفة الوحيدة شحن الذهن في
ترتيب الأدلة والحجج! والشريعة المحمدية فيها الكفاية.
٢٧
موقف ابن خلدون من الفلسفة موقف فقهي خالص يمهِّد لموقف ابن
الصلاح، ويستأنف حملة الغزالي عليها في «تهافت التهافت»
و«المنقذ من الضلال». ويوقف محاولة ابن رشد ردَّ الاعتبار
إليها والدفاع عنها في «تهافت التهافت». يدافع عن النقل ضد
العقل، وعن التفسير والفقه ضد الفلسفة والعلم. ويرى أن سعد بن
أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب بوجود كتب، فأمره بإغراقها في
الماء دون أن يتحقق من صدق الرواية، كما طالب هو بذلك في نقد
أغلاط المؤرخين في مقدمة «المقدمة». وينقد دخول الفلسفة إلى
الأندلس، ويتمنى أنها لم تدخل، وكأن التاريخ يتحرك طبقًا
لأمنيات المؤرخ حتى ولو كان ماديًّا جدليًّا على رأي المعاصرين.
٢٨ ويستشهد برأي أفلاطون على ظنية الإلهيات؛ فقد شهد
شاهد من أهلها.
٢٩ فما سبب هذا العداء للفلسفة؟ هل وقع ابن خلدون تحت
سيطرة فقهاء الأندلس الذين حرقوا كتب ابن رشد قبله بمائتي عام؟
هل لأنه ظاهري الاتجاه والظاهرية بنت الأندلس عند داود وابن
حزم؟ هل لأنه حسي النزعة مادي المنهج ينأى عن المجردات؟ هل هو
موقف مسبق وليس دراسة عملية موضوعية من مؤرخ علمي حصيف؟ هل
لأنه أشعري المذهب وعداء الأشاعرة للعقل معروف كما بيَّن ابن
رشد في «مناهج الأدلة»؟ هل هو موقف عصر ينبئ بفتاوى ابن الصلاح
في تحريم الفلسفة؟
وتتأكد أشعرية ابن خلدون بنقده المستمر للمعتزلة، نقد
«الكشاف» للزمخشري لأنه يأتي بالِحجاج على مذاهبهم الفاسدة.
وينصر أهل السنة ضد المعتزلة «على ما يراه أهل السنة لا على ما
يراه المعتزلة». صحيح أنه ينقد الشيعة أيضًا والقول بعصمة
الأئمة، بل وينقد بعض الصحابة، ولكنه مقلد للمدارس الفقهية الأربعة.
٣٠ كما يستعمل ابن خلدون الحجج النصية، الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية، كحجج ضد الخصوم ودفاعًا عن النفس
كما يفعل أهل السلف وبمنطق العلوم النقلية، وهي التي جعلها
العلوم الموروثة، فيهاجم الفلاسفة بالقرآن ويتوعدهم به، ويمنع
تعلم علوم أهل الكتاب، وينقد الكيمياء باعتبارها ضد العلم
الإلهي، وكذلك علم أحكام النجوم، فالقلم البشري عاجز عن
الإحاطة بما دونه.
٣١ ويستعمل القرآن لتأييد السحر، وهي آيات تدل أيضًا
على تحريم السحر، وأنه من صنع الشياطين والكفرة، وإثبات قوانين الطبيعة.
٣٢
ويتم إثبات العلم الإلهي والأفعال الإلهية، أفعال الهداية من
الله بالقرآن.
٣٣ العلم الإلهي يقين مطلق، في حين أن العلم البشري
معرض للخطأ. والعلم الحق من الله الذي أودعه الكتاب والآيات،
مع أنها أيضًا آيات متشابهات في حاجة إلى إحكام، وبالتالي إلى
إعمال العقل. والعلم تدريجي. ناله قوم من فارس.
٣٤ وبالرغم من إثبات العلم الإنساني إلا أنه يحذِّر
من الطب الإنساني، ويسميه الطب المزاجي، ويدافع عن الطب
النبوي! مع أن الطب النبوي عارضته التجربة بزيادة الإسهال بشرب
العسل، «صدق الله وكذب بطن أخيك!»
٣٥ وأخيرًا يدافع ابن خلدون عن القرآن والسنة والنسخ
والرؤية الصحيحة والتوحيد والإيمان والصلاة وتعدد الخلق
بالقرآن والسنة فيقع في الدور، وبالرغم من مقارنته القرآن
بالنثر والنظم.
٣٦
كما تتجلى الأشعرية في العبارات الإيمانية التي تتخلل
«المقدمة» من أولها إلى آخرها، في وسط الباب أو الفصل وليس
بالضرورة في أوله أو آخره حتى لقد تختلط بعض اللازمات مع
القرآن المستعمَل استعمالًا حرًّا دون تنصيص. وتعبِّر هذه
اللازمات عن أن الهداية والتوفيق والتأييد والعون من الله.
٣٧ وكل مشيئة فبمشيئة الله، له الحكم والخلق والتقدير.
٣٨ والله علام الغيوب، عليم بكل شيء. وهو أعلم
بالصواب وبحقائق الأمور.
٣٩
ربما أخذ ابن خلدون أكثر مما يستحق في عصرنا بسبب المغاربة
أنصار الخصوصية والقطيعة، والماركسيين المشارقة وقراءتهم
المادية الجدلية له، والمستشرقين الوضعيين الباحثين عن أصول
الوضعية الاجتماعية عنده. مع أنه أشعري حتى النخاع، فقيه من
الفقهاء ضد الفلسفة والعلم. ابن خلدون التاريخي ضد ابن خلدون
المعاصر. وابن خلدون نفسه يفتح الطريق لأجيال قادمة لإكماله
كما فعل ابن سينا في آخر كتاب الشعر من «الشفاء». يطالب بالغوص
في المسائل، وتعيين موضوع العلم، وإكمال المتأخرين للمتقدمين،
وكأنه يطالب بابن خلدون جديد يكمل المسار، ويأتي بعده بسبعة
قرون كما أتى هو بعد نشأة الحضارة الإسلامية بسبعة قرون. يؤرخ
للنهضة كما أرَّخ هو للانهيار. وإذا كان ابن خلدون القديم قد
كتب المقدمة في خمسة شهور، فإن ابن خلدون الجديد قد يعيد
كتابتها في العمر كله لو استطاع بسبب قِصَر العمر.
٤٠